قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم الفصل العاشر

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم الفصل العاشر

( الجزء الخامس من ذئاب لا تعرف الحب )

كانت مرغمة على وضع النظارة القاتمة على عينيها بعد أن نجحت جراحتها الخطيرة وأتم الله شفائها على خير، عادت إلى أرض الوطن بصحبة زوجها وأختها وذلك الرجل الغريب الذي لازمهم كظلهم طوال مدة إقامتهم بالخارج. ترجل ثلاثتهم من السيارة التي أتت خصيصًا لإيصالهم لمنزلهم من المطار لتلقي "فردوس" نظرة مطولة متأنية على كل شبر وزاوية في منطقتها الشعبية، ورغم علامات الامتعاض والتأفف الظاهرة على تعبيراتها إلا أن سعادتها باستعادتها لبصرها كانت تفوق أي إحساسٍ آخر راودها في حياتها، بالطبع انعكس تأثير المشاهد المتحضرة والأماكن الراقية التي رأتها عليها..،

ودَّت لو عاشت ما تبقى من عمرها في نفس الأجواء الثرية التي تتناقض كليًا مع واقعها البائس والمرير، عادت من أحلامها الوردية لأرض الواقع ملتفتة لأختها تشتكي لها بتذمرٍ ساخط الأوضاع من حولها، تجاهلتها "تهاني" وسارت بتؤدة نحو مدخل البناية، صاحت "فردوس" من خلفها بنبرة متبرمة:
-البت "تقى" دي معندهاش دم، مش كانت تيجي تشوف أمها، ولا خلاص هي خدت على عيشة العز وأكل الوز!

توقفت أختها عن السير لتستدير نحوها، رفعت حاجبها للأعلى في استنكارٍ كبير لتنمر أختها الذي لا ينتهي وعدم تقديرها لمواقف الآخرين الشهمة معها بالرغم من أخطاء الماضي الجسيمة، نفخت قائلة لها بحدةٍ طفيفة:
-يا شيخة حرام عليكي، بعد كل اللي عملتيه عشانك بتقولي كده عليها؟!
قالت "فردوس" ببرودٍ غير مكترثة لحنق أختها البادي على قسماتها:
-ما هو كان المفروض تكون في استقبالنا هي والمحروس ابنك.

علقت توبخها بغلظةٍ علها تتوقف عن التفوه بسخافاتها المستفزة:
-احمدي ربنا إن ابني اتحمل تكاليف علاجك، وأديكي شوفتي بنفسك الألوف اللي اتدفعت.
مصمصت شفتيها مرددة بسخطٍ:
-الله! مش حقنا، ولا هيستخسر يصرف قرشين زكاة عن نفسه؟
ثم التفتت إلى زوجها لتسأله:
-ما تقول حاجة يا "عوض"؟ ولا إنت عاجبك اللي حاصل ده؟!
أخرج زفيرًا يائسًا من صدره ليرد عليها بصوته الخشن:
-ربنا يهديكي يا "فردوس"!

اغتاظت من سلبيته التي دومًا تستثير دمائها فهتفت قائلة:
-هو أنا قولت حاجة غلط؟ ما هي دي الحقيقة، ولا عشاني صريحة مش عاجبكم؟!
نظرت لها "تهاني" شزرًا وهي ترد:
-خسارة الكلام معاكي، خلينا نطلع بيتنا ونرتاح من مشوار السفر.
تابعتها "فردوس" بنظراتٍ حادة من خلف نظارتها القاتمة لتضيف بأسلوبها المستفز المنفر:
-والله المفروض يخلي في عينه حصوة ملح ويشوفلنا حتة تانية نضيفة غير الهم اللي هانعيش ونموت فيه ده، ولا أنا أقل منها؟

رد عليها "عوض" وقد فاض به الكيل من تذمراتها التي لا تنتهي:
-هتفضلي زي ما إنتي مهما حصلك، عمرك ما هتتعظي يا "فردوس"!
صاحت فيه بنبرتها المتهكمة:
-هو حرام نقب على وش الدنيا يا "عوض"؟ ولا إنت عاجبك الفقر اللي هرى جتتنا؟ ده حتى بيقولك الأقربون أولى بالمعروف!

رد باستياءٍ وهو يضرب كفًا بالآخر قبل أن يتركها ويسير بخطواته البطيئة في اتجاه المسجد القريب:
-لله الأمر من قبل ومن بعد
تمتمت مع نفسها بتذمرٍ:
-وش فقر!
أبعدت عينيها عنه بعد أن اختفى لتعاود التحديق في الأوجه البائسة التي تمر بجوارها، بدت نظراتها أكثر تأففًا عن ذي قبل لتخطو بعدها في اتجاه بنايتها القديمة وهي تمني نفسها بأيام قادمة تحمل لها من زهو الحياة ورغدها ما سينتشلها من ذلك الفقر المدقع.

-عملتي إيه في "هالة"؟ ردي عليا!
صرخت "بطة" بتلك الكلمات الغاضبة في وجه والدتها الهادئ على الرغم من جدية الموقف وتأزمه بعد أن علمت بما صار بأختها. طالعتها الأخيرة بنظراتٍ عادية فاترة وخالية من العواطف لا تنم عن اهتمامٍ أموميٍ بها، أشاحت بوجهها بعيدًا عنها لتقول بعد تنهيدة مطولة وكأنها تستدعي الكلام على لسانها:
-ولا حاجة يا عين أمك.

صاحت متسائلة في انفعالٍ:
-أومال هي فين؟ والكلام اللي داير بين الخلق؟!
أجابتها على مضض وعبوس واضح يكسو ملامحها:
-هي اللي عملت كده في نفسها، وجابتلنا الجُرس والفضايح
ثم تركتها لتتجه إلى المطبخ غير مبالية بالحالة العصبية المسيطرة على بكريتها، اندفعت "بطة" في اتجاهها لتعترض طريقها، سدت عليها المدخل توبخها في حنقٍ:
-إنتي مش هترتاحي يامه غير لما تقضي علينا واحدة ورا التانية، ومابتتعلميش أبدًا من اللي بيحصلك.

قست تعابير أمها لترد مدافعة عن نفسها:
-وأنا كان بإيدي إيه يعني؟
ثم أخفضت نبرتها لتتصنع الحزن الممتزج بلؤمها الخبيث عل خدعة اهتمامها بفلذة كبدها تنطلي عليها:
-كنت هاقف لوحدي قصاد العالم القادرة دي؟ ده احنا حيالله ناس غلابة لا لينا في التور ولا الطحين، الرك على أختك، ده بدل ما تاخدي بخاطري وتقولي اجمدي يامه!

تمالكت ابنتها أعصابها المستفزة كي لا تنفجر فيها، فمن يتعامل مع امرأة قاسية مثلها عليه أن يكون صلدًا، متبلدًا في مشاعرخ، وقادرًا على التحكم في انفعالاته وردود أفعاله. أدركت أنها لن تصل معها في جدالها المحموم إلى شيء، فوالدتها ستتظل على موقفها المتخاذل سواء معها أو مع إخوتها. تنفست بعمقٍ لتستدعي هدوئها حتى لو كان زائفًا، ثم سألتها بصوتٍ بدا أكثر تشنجًا:
-وهي راحت فين على كده؟

أجابتها بوجهٍ ممتقع التعبيرات:
-الله أعلم
هنا انفلتت أعصابها فهدرت صارخة:
-يعني إيه الكلام ده؟ أختي فين يامه؟ رد عليا وريحيني!
أجابتها بنفاذ صبرٍ مستخدمة يدها في التلويح:
-أهي راحت مع واحد تبع الباشا جوز المحروسة بنت "فردوس".
سألتها بإلحاح محاولة الضغط عليها لتبوح لها بكلِ ما تعرفه:
-مين ده؟

ردت بزفيرٍ مستاءٍ:
-واحد من اللي كانوا بيجوا مع الباشا، حد شوفناه كذا مرة، بس أنا معرفش هو مين!
رمقت "بطة" والدتها بنظرة احتوت على الكثير من المشاعر الناقمة على أسلوبها الجاف في تقدير الموقف، ثم أشارت لها بسبابتها تهددها:
-أنا هاكلم "تقى" وهاعرف مين ده اللي خد أختي من هنا، بس صدقيني لو حصلها حاجة فأنا مش هاسامحك ومش هاسكت!
ردت بتبرمٍ:
-اعملي ياختي اللي عايزاه، هو أنا هاحوشك!

ضاقت عيناها بنظراتٍ مغلولة تحمل من العتاب واللوم ما قد يفتت الصخور الصلبة، لن تتغاضى عن سلبيتها تجاه أختها، ستسعى جاهدةً للوصول إليها واستعادتها من جديد، وستقف لها الند بالند إلى أن تأتي بحقها المسلوب وتحميها من طمعها. ابتعدت عن طريق والدتها لتعود إلى حقيبتها الملقاة على الطاولة القديمة، فتحتها لتفتش بين محتوياتها عن هاتفها المحمول، وما إن وجدته حتى هاتفت "تقى" وسألتها على الفور بعد ترحيبٍ موجزٍ بها عما تعرفه عن أختها، بدت الأخيرة مشغولة بهمومها ولم يصل إلى مسامعها ما يتعلق ب "هالة"، ومع ذلك وعدتها بالوصول إليها، شكرتها "بطة" راجية إياها بنبرة مستعطفة:
-أمانة عليكي تطمنيني عليها لو عرفتي أي حاجة، إنتي عارفة هي غالية عندي إزاي، واعتبريها زي أختك، وأنا مش هنسالك المعروف ده أبدًا.

ردت عليها "تقى" برقةٍ:
-حاضر، أنا هاكلم "أوس" وأفهم منه كل حاجة وأطمنك، وماتقلقيش طالما حد تبعه يبقى هي في أمان
-ربنا يباركلك يا رب، معلش يا حبيبتي دايمًا لبخاكي بمشاكلي أنا وإخواتي.
كانت صوتها ناعمًا حينما عقبت عليها:
-ماتقوليش كده، احنا عيلة واحدة.

-نردهالك في الفرح دايمًا، تسلميلي يا رب.
قالتها "بطة" وهي تنهي معها المكالمة بعد أن شكرتها بامتنانٍ مُضاعفٍ واعتذرت لها عن إزعاجها المتكرر وتوريطها في مشاكل لا تخصها. كانت "تقى" متفهمة لخوفها الطبيعي والغريزي على أختها، بل وأكثر دراية بما تتكبده لحمايتها من جشع والدتها المستمر الذي لا يهدأ أبدًا، لذا كانت أكثر حرصًا على تقديم يد العون لها دون كلل أو ملل.

صفعة قاسية -كانت جارحة لكرامته ومستهينة بمشاعره- تحملها مرغمًا أثناء توبيخ ابن عمه العنيف له بعد أن عرف بما فعله مؤخرًا بتلك المراهقة أثناء انشغاله بالمستجدات التي تخص عائلته. اغتاظ "أوس" من تجاهله لتعليماته وتصرفه من تلقاء نفسه دون الرجوع إليه واستشارته أولاً فعامله بقسوة منقطعة النظير، وما زاد الطين بلة مكالمة "تقى" له. وبالرغم من الإهانات اللاذعة التي تعرض لها إلا أن "يامن" ظل صلبًا، شامخًا، رافعًا لرأسه في ثباتٍ عجيب، ولو أعيد به الزمن لكرر نفس الفعلة لإنقاذها من شفير الموت، اخشوشنت نبرة ابن عمه وهو يتوعده:
-مش هاعديلك اللي عملته ده يا "يامن"!

استجمع جأشه ليرد غير مبالٍ:
-وأنا مش فارق معايا لأني مكونتش هاسيبها هناك لحد ما تعمل في نفسها حاجة
علق عليه بغلظةٍ:
-فكرك أنا مش عارف باللي يخصها؟
لم يرد عليه وظلت نظراته مسلطة على وجه ابن عمه الحانق، بينما تابع "أوس" مرددًا بخشونةٍ:
-عيوني عليها وعليك في كل مكان، ودبة النملة بتوصلني حتى لو كنت فين!
ثم توحشت نظراته حينما أضاف:
-وأنا عارف إزاي أجيبلها حقها.

خرج "يامن" عن صمته ليعاتبه قائلاً بحدية متعصبة:
-ولما إنت عارف كل حاجة كده مجبتش حقها ليه من الكلب اللي أذاها أو حتى منعته يقرب منها؟!
هدر به صائحًا بصوته الجهوري الذي أخرسه:
-"يامن"!

أطبق الأخير على شفتيه كاظمًا حنقه مؤقتًا كي لا يستفز الوحش الكاسر الكائن بداخل ابن عمه فيثور عليه، عكست تعبيراته المشدودة ما يدور بداخله من ثورة مستعرة تزداد تأججًا مع مرور الوقت، راقبه "أوس" ببرودٍ تام، ثم سحب نفسًا مطولاً حبسه للحظة في صدره قبل أن يحرره دفعة واحدة. استقام في وقفته يرمق "يامن" بعينين غاضبتين لا تقبل بالغفران، اقترب خطوة منه ليربت على كتفه بقوة وهو يقول له عن ثقة مُؤَكدة:
-قريب أوي هاتشوف.

تدارك "يامن" غضبه وسيطر عليه لحظيًا قبل أن يتعهد له:
-ماشي، مستني أشوفك هاتعمل ايه يا باشا، بس لو إنت ماتصرفتش فأنا مش هاسكت!
كان "أوس" على وشك التهور عليه لاستخفافه بقدراته اللا محدودة، واشتدت بالفعل قبضته على كتفه، لكنه ما لبث أن تخلى عن اندفاعه ليسأله مباشرةً وقد غامت عيناه:
-ومش هاتسكت ليه؟ هي تخصك في حاجة؟
أجابه دون تفكيرٍ:
-أيوه..

بات إلى حد ما متأكدًا من التكهنات التي تساوره بشأن وجود علاقة تربطه بها، تركز بصره عليه يسأله مراوغًا:
-ليه يعني؟ ما هي واحدة زي أي واحدة بتعطف عليها و..
نجح ببساطة في استفزازه بكلماته الموحية وإخراجه عن سكوته الزائف ليعترف بما يخبئه عنه فهتف "يامن" مقاطعًا إياه بترددٍ ندم عليه لاحقًا:
-لأنها.. تهمني!

أبعد "أوس" يده عن كتفه ليدس قبضتيه في جيبي بنطاله، انتصب في وقفته أكثر وطالعه بنظرة متفحصة وهو يعقب عليه:
-إنت مش واخد بالك إنك مهتم بيها زيادة عن اللزوم؟ وأنا حذرتك قبل كده، ملكش دعوة بيها، ولا تتدخل في حياتها!
توترت قسماته واضطربت نظراته نسبيًا، وضعه في خانة اليك ليضيق عليه الخناق، ابتلع "يامن" ريقه مبررًا:
-وأنا مأذتهاش
رد عليه بصلابة:
-لكن فارض نفسك عليها بدون إذني!

هتف مختلقًا الأعذار:
-بس أنا بأحميها.
علق عليه محذرًا بجمودٍ ليحثه على الاعتراف بما يخفيه:
-وهي مش محتاجة حمايتك، أنا كفيل بيها، فأحسنلك تبعد عنها
هنا استجمع "يامن" شجاعته ليبوح بمكنونات قلبه التي طالما احتفظ بها لنفسه، نظر مباشرة في عينيه وقال بثباتٍ ليؤكد على صدق مشاعره نحوها:
-بس أنا بأحبها!
ردد "أوس" مستنكرًا اعترافه وقد تقلص وجهه:
-بتحبها؟

ابتلع ريقه ليضيف معللاً:
-أيوه، أنا اتعلقت بيها ومش هاسمح لحاجة تأذيها أو حد يتعرضلها من غير ما أدافع عنها وأحميها
هدده قائلاً:
-بلاش هبل، وإياك تتسلى بيها، لأني مش هارحمك!
رد عليه رافضًا اتهامه وصوته المتشنج قد ارتفع في مواجهته:
-وأنا مابكدبش، أنا فعلاً بأحبها ومستعد أعمل أي حاجة عشانها، ليه مش عاوز تصدقني؟

ذكره إصراره العنيد بالذود عن تلك المراهقة بما فعله سابقًا حينما جابه والده الراحل وحارب الجميع بضراوةٍ من أجل الفوز بقلب حبيبته واستعادة ثقتها المفقودة به، أفاق من شروده السريع رامقًا إياه بنظرة غريبة دارسة له، كان يخشى من احتمالية انسياق "يامن" وراء رغباته مستغلاً ظروف "هالة" البائسة، لذا سأله قاصدًا الكشف عن نواياه وتعرية الحقيقة الغائبة عن ذهنه أمامه:
-لو افترضنا إن اللي بتقوله ده حقيقي، فكرك الهانم أختك هتوافق على علاقتك بيها؟

هتف غير مبالٍ:
-مايهمنيش رأيها، أنا مسئول عن قرارتي، وهي مالهاش الحق تتدخل في اللي أنا بأعمله في حياتي!
التوى فمه معلقًا ببسمة متهكمة:
-لأ راجل!
اغتاظ "يامن" من أسلوبه المقلل من شأنه والمحقر من قدرته على إدارة الأزمات فصاح متسائلاً بتذمرٍ:
-إنت ليه بتعاملني كده؟ ليه مفكرني عيل ومش أد كلامي وقادر اتحمل المسئولية؟!
أجابه بنبرة جليدية خالية من التعاطف:
-عشان عارفك كويس.
-لأ إنت غلطان يا "أوس"، أنا اتغيرت.

للحظة صمت "أوس" متذكرًا كيف خاض ذلك الحوار المُعاند بحذافيره من قبل، وكأن الزمن قد عاد للوراء ليجسد له المشهد مرة أخرى مع فارق تبادله للأدوار مع ابن عمه، أخفى ابتسامة ساخرة تلوح على شفتيه ليحتفظ بجدية تعبيراته، مط فمه ليقول بعدها متهكمًا:
-بالبساطة دي؟ فجأة كده صحيت لاقيت نفسك واحد تاني! إنت بتضحك على مين؟ عليا ولا على نفسك؟!
أصر على إثبات حسن نواياه قائلاً:
-أيوه، أنا حقيقي اتغيرت، واديني بس الفرصة اثبتلك ده.

كان يسعى بكل الطرق للضغط عليه ليختبر مصداقية حبه لها، أخرج "أوس" يده من جيبه ليطبق على عنقه، ضغط على عروقه متعمدًا إيلامه وهو يقول له بشراسةٍ:
-ولعب العيال ده أنا مش هاسمح بيه!
قاوم الألم الذي عصف به منتزعًا أصابعه القوية من على عنقه، تراجع خطوة للخلف ليهدر بأنفاسٍ لاهثة وقد نهج صدره صعودًا وهبوطًا:
-وأنا مش بألعب يا ابن عمي، أنا جاد في كلامي، ولو هي وافقت عليا أنا هتجوزها
علق عليه بازدراءٍ:
-يعني بتعترف إنك بتغصبها عليك!

صحح له مقصده بدفاع مستميت:
-مش مظبوط، أنا عمري ما هجبرها على حاجة هي مش عاوزاها.
رد عليه "أوس" متحديًا بشكلٍ سافرٍ كورقة ضغطٍ أخيرة:
-وأنا هامنعك تقرب منها، حتى لو كان فيها أذيتك!
هنا فقد "يامن" قدرته على ضبط انفعالاته، فهاج صارخًا وغير عابئ بتبعات ردة فعله:
-ولو موتني حتى، أنا مش هابعد عنها!
-للدرجادي؟
-وأكتر بكتير يا ابن عمي!

احتدمت المناقشة بينهما وزادت من توتر الأعصاب واستثارتها لدى ابن عمه الصغير، كان "أوس" متملكًا لأقصى الحدود، صارمًا في موقفه معه، غير متهاونٍ فيما هو متعلق بها، تهدل كتفا "يامن" في يئسٍ معتقدًا في نفسه أنه فشل في إثبات حبه الصادق ل "هالة"، رجاه متوسلاً عَلَّ رأسه المتيبس يلين:
-افهمني يا أوس! أنا مش بألعب ولا عاوز أضحك عليها، أنا فعلا بأحبها، ومتسألنيش ده حصل إزاي وامتى، بس أقل حاجة تضايقها بتخليني عاوز أولع في الدنيا بحالها عشانها.

راقبه دون إبداء أي رأي مما شجعه على الاسترسال أكثر، فأضاف بتمهلٍ شديد الحذر:
-وافتكر إني مكونتش كده، عمري ما ارتبط بحد، ولا اهتميت غير بنفسي وبس، وأنا نفسي أطلعها من اللي هي فيه
استهزأ به قائلاً بأسلوبه الجاف ومتعمدًا إعادة المناقشة لنقطة البداية:
-قول إنك بتشفق عليها!
صاح محتجًا وقد فاض به الكيل من محاولاته لإقناعه بكل الطرق العقلانية والانفعالية:
-دي مش شفقة، بأقولك أنا بأحبها، ليه مش عاوز تصدقني؟

سأله في هدوءٍ:
-وهي بتحبك؟ ولا ...
تردد قبل أن يجيبه:
-مش متأكد لسه.
قست ملامح وجه "أوس" قائلاً بلهجته غير القابلة للتفاوض:
-ولحد ما تتأكد من ده هتبعد عنها، مفهوم!
اعترض عليه بعندٍ:
-بس كده حرام و...
قاطعه مشيرًا بسبابته:
-من غير بسبسة، كلامي هيتنفذ بالحرف، ده لو إنت عاوزني أصدقك فعلاً!

رمقه "يامن" بنظراتٍ مشحونة بالكثير من المشاعر الغاضبة والرافضة لقانونه المجحف الذي يمنع عنه حق الاختيار وتقرير المصير، ما أوقف جدالهما هو استئذان السكرتيرة بالدخول لتقول في ارتباكٍ:
-"أوس" باشا، في واحد مُصر إنه يقابل سيادتك دلوقتي.
زوى ما بين حاجبيه معلقًا عليها بخشونة:
-مش أنا مانع أي مقابلات؟ كلامي مش مفهوم؟!

ردت بتوترٍ وهي تضغط على شفتيها:
-أنا بلغته يا فندم بده، بس هو مصمم، بيقول إن الموضوع ضروري ويخص مراته مدام "رغد"!
نطق "أوس" باسمه مدهوشًا:
-"أكرم"!
لم يكن قد التقاه إلا مرات معدودة في زيارات عائلية رسمية أثناء تقدمه لخطبة "رغد" وزواجه منها، لذا مجيئه اليوم كان غامضًا ومُربكًا إلى حد كبير. كذلك حلت الدهشة على وجه "يامن"، تبادل مع ابن عمه نظراتٍ حائرة وفضولية، فعلى الأغلب مجيء زوج أخته اليوم يحمل في طياته أمرًا خطيرًا، استدار برأسه فجأة نحو "أوس" الذي عامله بروتينية بحتة:
-اتفضل شوف شغلك، ولينا كلام تاني.

اكتفى بالإيماء الصامت برأسه ثم خرج عائدًا من حيث أتى، التقى في طريقه ب "أكرم" الذي مد يده ليصافحه قائلاً باستغرابٍ وكأنه لم يتوقع رؤيته:
-"يامن"، مكونتش فاكر إنك موجود هنا؟
رد عليه بفتورٍ:
-أنا بأشتغل هنا، هي "رغد" مقالتلكش ولا إيه؟
امتعض وجهه أكثر وهو يقعب:
-لأ.. تقريبًا أنا آخر من يعلم باللي يخصها!

ظهرت ابتسامة متهكمة على جانبي ثغره قبل أن يؤديه:
-ومين سمعك، كلنا زي بعض!
ثم أخرج تنهيدة ثقيلة وسريعة من جوفه ليكمل بعدها محذرًا:
-أسيبك مع ابن عمي، بس خد بالك في الكلام معاه، محدش ضامن هيعمل إيه لو سمع حاجة ضايقته!
هز رأسه قائلاً:
-تمام، أنا عامل حسابي.

ربت "يامن" على جانب ذراعه كنوعٍ من توديعه ليلج "أكرم" بعدها لداخل غرفة مكتب "أوس الجندي" حيث انتظره الأخير على رأس مكتبه مشبكًا لأصابع كفيه معًا ومستندًا بمرفقيه على سطح مكتبه الفخيم، استهل الأول حديثه مستطردًا بلباقةٍ:
-مساء الخير، أسف إن كنت جيت من غير ميعاد وهاعطلك عن شغلك شوية، بس فعلاً الموضوع مايستناش أكتر من كده!

كانت كلماته متحفظة للغاية ومثيرة للقلق، أشار له "أوس" بالجلوس دون أن ينبس بكلمةٍ، فقد كانت السمة السائدة على تعابيره هي الجمود. استقر "أكرم" على المقعد الملاصق لمكتبه ليبدو في مواجهته، نظر له بإمعانٍ محاولاً سبر أغوار عقله، ورغم صعوبة الأمر عليه إلا أنه جازف بكل شيء وخاطر بعلاقته مع زوجته ليقابله سرًا. تنحنح مُضيفًا بنفس النبرة الهادئة الرزينة:
-أنا عارف إن "رغد" خدت الأمور بشكل شخصي زيادة عن اللزوم واتورطت في حاجات كتير غلط عشان...

قاطعه "أوس" بجدية غليظة:
-مش محتاج تبررلي المدام عملت إيه، خش في الموضوع على طول!
اعتدل في جلسته ليخفي توتره من أسلوبه الجاف في التعامل ليكمل بعدها بحذرٍ:
-دلوقتي "رغد" معاها ورق جابته من المحامي مش في صالح أختك "ليان".
رد عليه "أوس" موضحًا دون أن تتبدل تعابيره القاسية:
-قصدك قضية النسب والكلام اللي داير في الميديا؟

هز رأسه بالإيجاب وهو يرد:
-بالظبط.
-طب ما أنا عارف، إيه الجديد؟
-"رغد" مش هترجع عن عِنادها إلا لما تبوظ الدنيا وتأذي كل اللي حواليها
ابتسم في تهكمٍ قائلاً له بعدم اكتراث:
-أعلى ما خيلها تركبه، أنا قادر عليها!
عقب عليه "أكرم" بجدية مغايرة لطبيعة الموقف الخطير:
-وأنا معاك، ونفسي تبطل جنانها وتفوق لولادها ولبيتها، بس للأسف ده مش هايحصل! "رغد" بتضيع حياتها ومش فارق معاها حد!

تعجب "أوس" من ردة فعله المناقضة للمنطق فأردف متسائلاً بوجهٍ عابسٍ ونظراتٍ قاسية:
-دي لعبة جديدة من ألاعيبها؟ والمرادي إنت طرف فيها و...
قاطعه مبررًا على الفور سبب إصراره على مساعدته:
-لأ يا "أوس" باشا، أنا مش محتاج أكون جزء من مخططها الانتقامي ده، كل اللي يهمني ولادي في النهاية، وهي بتأذيهم بعمايلها.
سأله مباشرة دون مراوغة:
-عاوز تقنعني إن ضميرك صحى فجأة وجاي تقف في صفي؟

أجابه في هدوءٍ عقلاني يناسب طبيعة الموقف:
-أنا مكونتش راضي من الأول على اللي في دماغها.
ارتخى "أوس" في جلسته على مقعده الوثير، ظلت تعابيره الجامدة كما هي دون أدنى تغيير، ثم تساءل في فضولٍ حائر:
-مش غريبة إنك تيجي بنفسك هنا؟
أجابه بلا تفكيرٍ:
-توقع مني أعمل أي حاجة عشان أخليها تقف عند حدها وأحمي ولادي.

أتت إليه الفرصة على طبقٍ من ذهبٍ ليستغلها ويطوع الأمور وفق رغباته، بالطبع لم يكن ليضيعها سُدى. ضاقت نظراته متسائلاً في لؤمٍ:
-حتى لو كان هيخسركم حياتكم مع بعض؟
أجابه بعد تنهيدة بطيئة عكست فتور وسلبية الأوضاع بينهما:
-تقريبًا الحياة منتهية بيني وبينها، وأنا عاوز أبعد بولادي عن مشاكلها معاك، اعمل اللي إنت عاوزه وطلعنا من حساباتك
فكر "أوس" مليًا فيما عرضه عليه ثم سأله من جديد:
-وإيه اللي مخليك مفكر إني هاتعرضلك؟

أجابه محركًا كتفيه:
-مافيش حاجة مضمونة، بس أنا مستعد لأي حاجة تطلبها مني عشان تضمن صدق كلامي وولائي ليك
لم يكن ثمة علامة يستدل بها "أكرم" على موافقته من رفضه، لكن صمته المريب حفزه إلى حد ما لترجيح كفة قبوله بعرضه المغري، فاحتمالية دوام زيجته من "رغد" باتت أمرًا مستحيلاً ...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة