قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم الفصل الحادي عشر

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم الفصل الحادي عشر

( الجزء الخامس من ذئاب لا تعرف الحب )

كان مُقصرًا فيما يخصها لسببٍ وجيه؛ حيث انشغل عنها بعائلته والمشاكل الجمة التي حاصرتها فلم يهتم جديًا بحادثها المأساوي بالرغم من إبلاغ رجله المراقب لها بآخر التطورات معها، شعر بتأنيب الضمير لغفلته عنها وتراخيه في الإتيان بحقها، ومع ذلك كان راضيًا في قرارة نفسه عن تصرف ابن عمه المسئول معها. فقد أثبت له أنه تغير بالفعل، ولم يعد الشاب المستهتر غير العابئ بهموم الآخرين، وعلى الرغم من ضغطه المتعمد له مؤخرًا ودفعه لحافة الجنون لإثناءه عن حبه العفيف لها، إلا أنه نجح ببراعة في اختباره وعاد ليثبت من جديد شدة تمسكه بها نافيًا عنه تهمة العبثية. حضر "أوس" لزيارة مريضته المراهقة دون ترتيبٍ مسبق في المشفى الخاص الماكثة به، كانت غافلة ومستسلمة لإغراء النوم الدافئ، فتحت "هالة" عينيها بثقلٍ لتتفاجأ بوجوده على رأس فراشها يتطلع إليها في صمتٍ جاد، اتسعت حدقتاها مرددة بصدمةٍ متوترة:
-إنت!

ثم تداركت نفسها معتذرة على الفور عن قلة ذوقها في مناداته دون إبداء أي احترامٍ لشخصه المهيب:
-أنا أسفة!
تغاضى "أوس" عن زلتها المصدومة ليستقيم في وقفته الشامخة قائلاً لها:
-عاملة إيه يا "هالة"؟
ابتلعت ريقها في حلقها الجاف وهي ترد بارتباكٍ:
-الحمدلله.. أحسن شوية
تنحنح متابعًا بلهجته الجادة:
-اعذريني.. كنت مشغول عنك الفترة اللي فاتت.
همست بحرجٍ:
-م.. مافيش مشكلة.
أشار لها بكف يده متعهدًا:
-مش عاوزك تقلقي من حاجة، أنا بنفسي هاجيبلك حقك من الكلب ال ... "منسي".

تقلص وجهها في غير رضا لمجرد ذكره لاسم ذلك الخسيس النجس، لاحظ التبدل العابس في ملامحها وارتخاء نظراتها، لذا أضاف عن قوةٍ ليبث لها إحساس الاطمئنان:
-مش معنى إنه اتسجن بقى خلاص بعيد عن عيوني!
أشعرتها طريقته الجادة في الحديث بقليلٍ من الخوف، ليس منه ولكن مما سيحدث لاحقًا، سيطرت على رهبتها التي باتت ملموسة أكثر في نظراتها إليه وفي عدم انتظام أنفاسها وهو يوعدها:
-قريب هترتاحي منه نهائي!

هزت رأسها في استسلامٍ كامل وكأنها تعلن بذلك عن رضائها التام لما ينتوي فعله مستقبلاً، شحب وجهها فجأة حينما باغتها بسؤاله المباشر:
-"يامن" بيضايقك؟
بههت ولم تعرف بماذا تجيبه في البداية، تخشبت في مكانها وحدقت فيه بعينين متسعتين في ذهولٍ حَرِج لسؤاله الخالي من التمهيدات، شعرت بخفقة قوية تضرب قلبها مع حصاره لها بنظراته المتفرسة وكأنها أصبحت أسيرة لجهاز كشف الكذب، اعتراها ارتباك مضاعف فتلعثمت وهي تسعى لاختلاق ردٍ مقنع:
-لأ.. هو .. أقصد يعني.. كان بيطمن عليا و..
رفع كفه مشيرًا لها لتكف عن الكلام قبل أن يعلق عليها:
-خلاص فهمت.

أطبقت على شفتيها بقوة لتخفي ربكتها المحرجة منه، أحست بسخونية تنبعث من بشرتها لتزيد من إحراجها أمامه، تحاشت النظر نحوه، وأطرقت رأسها للأسفل لتركز بصرها على أناملها التي تفركها معًا. كان "أوس" من الفطنة ليدرك ذلك التوتر الخجل الذي أصابها، بدا ابن عمه محقًا في وجود بذرة لمشاعر نقية بينهما حتى وإن أنكرت هي ذلك وادعت العكس، لكن لا ينفي ذلك ميلها إليه، أولاها ظهره يأمرها بلطافةٍ:
-عاوزك تاخدي بالك من نفسك، تمام؟
ردت بصوتٍ أقرب إلى الهمس:
-حاضر.

أضاف أخيرًا قبل أن يتجه إلى باب غرفتها:
-أنا هتابع مع الدكتور حالتك، ومتقلقيش .. كل اللي حصل ده عندي وهصلحه بطريقتي!
تعقدت تعبيراتها غير مستوعبة ما يرمي إليه، ومع ذلك لم تجرؤ على سؤاله، اكتفت بنظراتٍ حذرة نحوه، ودعها بجمودٍ معتادٍ منه:
-سلام يا "هالة".
ردت عليه بنبرتها الخفيضة:
-مع السلامة يا باشا.

انصرف بعدها ليتركها في حيرتها وتوترها، وضعت "هالة" كفيها على وجنتيها لتتلمس بشرتها الدافئة، سحبت نفسًا عميقًا لتستعيد به انتظام خفقات قلبها، لم تتخيل أنها سترتبك هكذا في حضرته لمجرد سؤالٍ عابر، تساءلت مع نفسها في قلقٍ وكأنها تستنكر احتمالية تعلقها بذلك الشاب:
-هو أنا إيه اللي بيحصلي بس؟

قادته أطراف الخيط التي جمعها مؤخرًا من زياراتٍ شبه منتظمة لزوجة أبيه في السجن، ولقاءات غريبة مع ذلك السجين الذي حمل لقب نصف رجل إلى شخصٍ بعينه، هو من تولى مهمة تصريف المسائل القانونية وفقًا لأهواء تلك الحقود ومن أجل منافع شخصية. ومع زيارة "أكرم" المفاجئة له أصبحت ظنونه حقيقة ملموسة غير قابلة للتشكيك. اقتحم "أوس" مكتبه للمحاماة وبصحبته عدد لا بأس به من أفراد حراسته الخاصة ليتحول المكان إلى محبسٍ شديد الحراسة. هب "نصيف" واقفًا فور أن رأه بهيبته الخاطفة للأنفاس، ادعى الثبات مرحبًا به بودٍ زائد ليخفي خوفه منه:
-باشا، مش كنت تقول إن سيادتك جاي، كنت ...
قاطعه مشيرًا بنظراته القاسية:
-ابلع لسانك، بلاش نفاق!

تجمد في مكانه مجبرًا قدميه على الوقوف، ثم ازدرد ريقه ونظر له في رعبٍ مُسبب، فرقع "أوس" بأصابعه لأفراد حراسته لينصرفوا من مكتبه، ومع انسحاب آخر فرد قام بغلق الباب خلفه. زاد توتر "نصيف" وشعر باضطراب أنفاسه، تنفس بعمقٍ وتصنع الابتسام ليقول ببسمته اللزجة كمحاولة يائسة لاتقاء شره:
-شرف عظيم إن معاليك تنور مكتبي.

نظر له شزرًا قبل أن يسأله بلهجة جافة لا تحمل ودًا وليُوقف محاولاته المهترئة لإدعاء صداقة وألفة لا توجد من الأساس:
-ليك يد في موضوع "ليان" أختي؟
باغته بسؤاله الصريح فتخشب جسده وتوترت عروقه النابضة، صاح به "أوس" من جديد بقوة أكبر لترتجف أطرافه:
-رد عليا، إنت ليك يد في اللي بيحصل مع "ليان"؟
وقبل أن ينطق حذره بشراسةٍ:
-خد بالك لو هتكدب عليا مش هارحمك!
رد على الفور ومدعيًا بالكذب:
-يا باشا، ده خير المرحوم د. "مهاب" عليا، تفتكر أنا ممكن أعمل حاجة تضر ولاده؟

غامت نظرات "أوس" في عدم اقتناعٍ، تابع مراوغته بازدراء مُحتقر، ظن "نصيف" أن صمته المفاجئ دليل شبه مُطمئن على احتمالية تصديقه، لذا استجمع شجاعته الزائف ليكمل برويةٍ:
-وبعدين سعادتك أنا بعيد كل البُعد عن أي حاجة تمس عيلتك، ولو سيادتك تسمح أنا ممكن أتدخل في الشق القانوني وأجيب حق "ليان" هانم وأخرسلك كل الألسنة اللي اتكلمت عنها و..
عاد ليصيح به مقاطعًا إياه في غلظة:
-بلاش ألاعيب الحاوي دي معايا، الوحيد اللي كان عارف بالورق إياه هو إنت، وبابا مكانش بيثق في حد أد ما كان بيثق فيك!

تنحنح قائلاً بنبرة شبه مرتبكة:
-وأنا.. استحالة أخون الثقة دي.
سأله "أوس" مباشرة بعينين ناريتين:
-"رغد" عرفت منين إن "ليان" مش بنته؟
اهتز صوته قائلاً:
-م.. معرفش!
رمقه بنظرة تحمل شرًا مُضاعفًا وهو يرد عليه بكلماتٍ مُوحية بالتهديد:
-الظاهر إنك محتاج تفكر كويس قبل ما تجاوبني!

ثم تركه في مكانه متسمرًا في حالة ذهول ممتزجة بالقلق والخوف ليتجه نحو باب الغرفة، وقف عند الأعتاب وأشار بيده لحراسته ليلجوا إلى الداخل وهم يجرون أحدهم مطأطأ الرأس وفي حالة يُرثى لها، أُلقي الرجل عند قدمي المحامي "نصيف" ليطالعه في فزعٍ مرتعد، تساءل بصوت دب فيه الخوف:
-مين ده؟

أجابه "أوس" بابتسامةٍ شريرة كان قد تناساها منذ برهة:
-ده واحد من اللي أذوا أختي، اتروق عليه، وإنت هتحصله قريب.
ارتعش رهبةً منه، وارتد خطوة للوراء لينأى بنفسه من بطشه، هتف بصوته المرتجف وهو يتصبب عرقًا غزيرًا باردًا:
-يا باشا.. أنا ..

قفز قلبه في قدميه رعبًا وقد صاح به "أوس":
-إنت محتاج تفكر كويس، وأنا عندي المكان المناسب ليك.
وقبل أن يستوعب عقله ما ينتوي فعله به، قبض رجلان من أفراد حراسته عليه ليقيدا حركته، توسله بفزعٍ وهو يقاومهما:
-يا "أوس" باشا، ده أنا راجلكم من زمان، مايصحش اللي بتعمله فيا، حتى اعمل خاطر للمرحوم والدك الدكتور "مهاب"!
تجاهل استجدائه السخيف، وقف قبالته يحدجه بنظرة مُرعبة، مال نحوه ليهمس له بصوت مخيف:
-وأنا غير أبويا.. مابرحمش!
ثم انتصب في وقفته آمرًا رجاله:
-خدوه من هنا!

صرخ "نصيف" مستغيثًا ومُهددًا في نفس الآن:
-أنا ماينفعش يتعمل معايا كده، أنا محامي ليا لي وضعي، مش هاسكت عن المهزلة دي!
اقتاده فردي الحراسة إلى الخارج وكأنه مسجون حكم عليه بالإعدام ليتبعه آخران يجران الرجل المسجي على وجه، تبعتهما نظرات "أوس" القاتمة دون إظهار أي تعاطفٍ معهما، لم يأبه بصراخ "نصيف" المحتج الذي قد يثير الشبهات ويلفت الأنظار إليه، فجلَّ اهتمامه هو معاقبة من تسببوا في أذية أخته الصغرى، حتى لو كلفه الأمر الكثير.

ظنت أنه سيتخَلف عن الذهاب معها خلال متابعتها الدورية لفترة حملها خاصة حينما لم يعد إلى فيلته ولم يجب على اتصالاتها المتكررة له، هو أعطاها هاتفًا جديدًا لكنه من طراز قديم لتهانفه منه وليضمن عدم انزعاجها من كم الأخبار المغلوطة والشائعات التي قد تجرحها نفسيًا وتثبط من معنوياتها في ظروفها الحَرجة تاك، كانت مرته الأولى التي لم يحضر فيها معها، شعرت بحزنٍ قليل يجتاحها، تغاضت "تقى" عن إحساسها بخيبة الأمل لتستقل السيارة وبصبحتها أفراد الحراسة الذين باتوا جزءًا من روتينها اليومي أثناء تنقلاتها، اتجهت إلى العيادة النسائية حسب الموعد المتفق عليه، رحبت بها الممرضة واصطحبتها لغرفة الكشف ليتم تجهيزها، وقبل أن تدخل الطبيبة "بارسينيا" تفاجأت به يطل برأسه من الباب وعلى وجهه ابتسامة ناعمة، اعتدلت في نومتها لترمش بعينيها غير مصدقة، هتفت وقلبها يدق بعنفٍ:
-"أوس"! إنت هنا، كنت فكراك ...

قاطعها قبل أن تتم عبارتها قائلاً:
-حبيبتي، ماينفعش أفوت حاجة زي دي..
جلس على طرف الفراش ماسحًا برقة على وجنتها وهو يكمل:
-حتى لو كنت بأموت، مش هاسيبك لوحدك.
ردت بتلهفٍ خائف ونظراتها الناعسة تجوب على ملامح وجهه:
-بعد الشر عنك.

نطقت الأعين بالكثير من المشاعر العميقة، قطع خلوتهما المفعمة بالحب دخول الطبيبة "بارسينيا" التي ابتسمت لكليهما قبل أن تقول مرحبة:
-أهلاً بيك "أوس" باشا، إزيك يا هانم؟
تنحى عن الفراش ليستقيم واقفًا وهو يرد عليها:
-أهلاً يا دكتورة، طمنينا على "تقى" والجنين
-حاضر
جلست الطبيبة في مقعدها المجاور للفراش، وقامت بوضع السونار الطبي على بطن مريضتها بعد أن كشفت ثيابها الممرضة لتؤدي عملها بدقةٍ وتأني، لحظات شبه صامتة كانت الأعصاب فيها مشدودة، تساءلت "تقى" بتوجسٍ:
-إيه الأخبار؟

ابتسمت لها الطبيبة قبل أن تجيبها بتريثٍ وكامل نظراتها مركزة على الشاشة الطبية:
-كله تمام يا هانم، متقلقيش
تساءل "أوس" من خلفها:
-والجنين وضعه إيه؟
التفتت نحوه لتجيبه ببسمتها المهذبة:
-اطمن يا باشا، نموه طبيعي، ومافيش مشاكل في العمود الفقري الحمدلله.
تنهد معقبًا عليها:
-الحمدلله.

ثم أضافت بهدوءٍ روتيني وكأن ما تُلقيه على مسامعهما أمرًا عاديًا:
-كمان العضو الذكري واضح أهوو!
حلت الدهشة على كِلا الزوجين، فتبادلا نظرات حائرة مصدومة. أفاقت "تقى" من صدمتها لتتساءل على الفور:
-هو ولد؟
أجابتها "بارسينيا" مؤكدة:
-أيوه.
خفق قلبها بقوة وغمرتها فرحة عامرة ظهرت في وميض عينيها، ردد "أوس" مذهولاً وقد بدا إلى حد ما غير قادر على استيعاب ما قالته:
-مش معقول، طب اتأكدي لو سمحتي.
ردت الطبيبة عليه بصوتها الهادئ:
-باين يا فندم، ده غير معدل النبضات بيأكد ده كمان، مبروك.

ثم استأذنت بالانصراف لتترك الاثنان في حالتهما المدهوشة، طالع "أوس" زوجته بنظراتٍ حائرة. توهمت "تقى" أنه غير راضٍ عن تلك المفاجأة التي كانت سارة بالنسبة لها، كانت خلجات وجهه كانت غير مقروءة، وعيناه تائهتان نسبيًا. غطت بطنها بثيابها سريعًا وسحبت الغطاء عليها وهي تسأله بحذرٍ:
-هو إنت مش مبسوط؟

حملق فيها بشرودٍ طفيف، كان واجمًا على عكس فرحته بوليدته البكرية "حياة" والتي كان ينتظرها بشغفٍ كبير، أطبق على شفتيه ليحتفظ بصمته المريب وكأن عقله تخلى عنه لينتقل إلى عالم آخر، لم يجد ما يوصف به مشاعره حاليًا، نعم سيولد له طفلاً ذكرًا سيحمل اسمه ويكون امتدادًا لنسله، شرد يفكر في مستقبله الغامض، أحس بالخوف والرهبة في نفس الوقت، خَشي ألا يُحسن تربيته فيفسده مثلما فعل أبيه الراحل معه، تجهم بائن كسا ملامحه، تعجبت "تقى" من سكوته الذي طال وبات هاجسها يقينًا محسوسًا، ابتلعت ريقها لتقول:
-أنا كنت فكراك هتفرح لما تعرف إني حامل في ولد!

انتشلته من تفكيره الشارد لينظر لها بحنانٍ قبل أن يرد بفتورٍ:
-كله خير يا حبيبتي.
عبست تعبيراتها متسائلة بحزنٍ مسَّ قلبه:
-إنت زعلان، صح؟
أمسك "أوس" بكفها وفركه بين راحتيه، سحب شهيقًا عميقًا لفظه ببطءٍ ليبرر لها سبب توتره:
-مش الفكرة يا "تقى"، بس.. أنا خايف
سألته بحيرةٍ:
-من إيه؟
أجابها بعد تفكير ونظراته القلقة ظاهرة لها:
-معرفش أربيه، تطلع أخلاقه زيي زمان.

مدت يدها لتمسح على صدغه مستشعرة خوفه من المجهول، ابتسمت له ابتسامة رقيقة تذيب الجليد وتزيح الهموم، رمقته بنظرتها الحنون قائلة له:
-"أوس" .. حبيبي، أنا واثقة إنك هتربيه كويس وهيطلع أحسن مني ومنك، خليك واثق في كلامي.
ثم مازحته بغنجٍ:
-وبعدين شكلك بتحب البنات أكتر، قول! اعترف!
اتسعت ابتسامته قليلاً وهو يرد بتنهيدة بطيئة:
-البركة فيكي يا حب عمري!

مالت "تقى" نحوه لتحتضنه فضمها إليه بذراعيه، أغمضت عينيها لتشعر بالأمان في أحضانه ولتستمع إلى دقات قلبه النابضة لأجلها، أحست بدفء جسده وقوة صدره الذي بات حصنها المنيع. أسندت رأسها على كتفه هامسة له:
-ربنا يخليك ليا يا حبيبي.

ظل يضمها إليه وهو يقاوم شعور التوتر الذي زاد بداخله، خوفه كان غريزًا نابعًا من أحاسيس مختلطة عاشها من قبل وهو طفل صغير بلا رقيبٍ ولا حسيب؛ أحاسيس جمعت بين الضعف والخوف والوحدة والرهبة، ارتعد من احتمالية خوض وليده الذكر ما مر به لينشأ مثله قاسيًا، جاحدًا، وناقمًا على أبويه. نفض مؤقتًا تلك الأفكار السوداوية التي اجتاحت عقله، كان عليه أن يبذل مجهودًا كبيرًا ليخفي ذلك فلا ينتقص من فرحة حبيبته شيء.

تلهفت شوقًا واشتياقًا لرؤية والدتها بعد عودتها سالمة إلى أرض الوطن ونجاح جراحتها، اضطرت مرغمة أن تؤجل زيارتها لها ريثما يسمح لها زوجها بذلك وفق ترتيبه الصارم خشية من تعرضها للإيذاء على يد المتلصصين من الصحفيين ومتتبعي الأخبار، رقص قلبها طربًا لمجرد ولوج السيارة التي تقلها إلى منطقتها الشعبية، كانت تنتظر تلك اللحظة بفارغ الصبر، وما إن وطأت بقدميها باب بنايتها حتى أسرعت في خطاها على الدرج، حذرها "أوس" من خلفها:
-بالراحة يا "تقى".

استدارت نحوه ترد بأنفاسٍ شبه لاهثة:
-حاضر.
أبطأت في خطواتها الصاعدة للأعلى، وقفت أمام باب منزلها تدقه بكفها، وانتظرت على أحر من الجمر أن تراها تفتحه لها كما كانت تفعل قديمًا، أشرقت عيناها ولمع وجهها حينما تحققت أمنيتها وأبصرتها أمامها، هتفت بسعادةٍ:
-ماما.

ثم ارتمت في أحضانها تُقبلها بحبٍ كبير، بادلتها والدتها القبلات الودودة قبل أن تعاتبها بوجهٍ ممتعض:
-بقى كده يا "تقى"؟ هونت عليكي متسأليش فيا كل الفترة دي؟ خلاص بقيتي قاسية عليا؟ إيش حال ما كنت في غربة والله أعلم إن كنت هافوق من العملية ولا لأ!
-سامحيني يا ماما، بس الظروف عندي كانت آ...
قاطعتها بتذمرٍ ونظراتٍ مزعوجة على الأخير:
-خلاص مالوش لازمة العتاب!
ردت عليها ابنتها بضيقٍ محاولة تبرير عزوفها عن استقبالها في المطار:
-والله غصب عني، أنا متأخرش عنك أبدًا.

وما إن أبصرت "أوس" يصعد على الدرج ونظراته القاسية ترتكز على وجهها حتى تراجعت عن حدتها لتقول برقةٍ:
-أنا مش زعلانة منك، ده إنتي ضنايا الغالية
ضمتها مرة أخرى وربتت على ظهرها بحنوٍ مُبالغ فيه. أبعدتها عنها لتسألها باهتمامٍ:
-ها قوليلي عاملة إيه دلوقتي؟
أجابتها مبتسمة:
-الحمدلله في نعمة.
-واللي في بطنك؟
-بخير يا ماما، أومال بابا فين؟ وخالتي "تهاني"
أجابتها متصطنعة الابتسام:
-جوا يا حبيبتي، خشي سلمي عليهم.

ولجت إلى الداخل والحماس يملأ صدرها للالتقاء بوالدها الذي اشتاقت إليه وافتقدت أحاديثه المهدئة للروح والباعثة على الأمل والتفاؤل. ظلت "فردوس" باقية في مكانها تراقب ابن أختها بعينين قلقتين، فلن تنطلي عليه بسهولة أكذوبة الأم المهتمة بابنتها، توقف قبالتها يرمقها بنظرة قوية اخترقتها وفضحت خدعتها أمامه، ارتجفت من هيبته التي تُلبك بدنها، ارتعشت بقوةٍ حينما حرك شفتيه لينطق محذرًا وهو يشير بسبابته:
-إياكي تفكري تضايقيها!

ادعت الانكسار وهي ترد مدافعة عن نفسها:
-أنا معملتش حاجة يا ابن أختي.
صاح بخشونة جعلتها تجفل كليًا:
-اسمي "أوس" باشا، ماتنسيش نفسك معايا.
ابتلعت ريقها في حلقها الجاف قبل أن تعاتبه برفقٍ شديد الحرص:
-بقى دي صلة الرحم يا باشا؟

لم يحب أبدًا أسلوبها الدوني في استجداء عطفه أو حتى الحصول على شفقته، لم ينسَ ليومٍ ما اقترفته في حق زوجته، طغت ذكرياته معها على السطح فقست نظراته وتوحشت ملامحه، ثم رد عليها بصوته المتصلب والذي أرعبها كثيرًا:
-قبل ما تكلمي عن صلة الرحم، افتكري اللي عملتيه في "تقى" زمان، وإزاي كنتي هتخسريني بنتي كمان، فاحمدي ربنا إنها سامحتك، لأنها لو مكانتش عملت كده مكونتش هاسيبك تتنفسي لحد دلوقتي، وبدل ما كنتي خسرتي عينك، كنت هتخسري روحك.

أحست بالرعب يجتاحها، ارتجفت شفتاها قائلة بانهزامٍ زائف:
-أنا توبت ورجعت لربنا، وأديك شايف بأعاملها إزاي
رد عليها بقساوةٍ ووجه جاف للغاية:
-شغل الأونطجية دي مايخلش عليا
حركت فمها لتقول:
-أنا...
قاطعها بغلظةٍ جعلها تنتفض في وقفتها:
-ولا كلمة زيادة!

أومأت برأسها في خنوعٍ وتحركت مبتعدة عنه لتنجو ببدنها من شره المتراقص في عينيه، ورغم هذا فكرت في استمالته نحو أطماعها، إذ ربما يوافق على طلبها إن أقنعته بحجة قوية، ترددت قبل مفاتحته، لكنها حسمت أمرها بالمحاولة، فإن وافق كانت هي الفائزة، وإن اعترض فلن تخسر شيئًا، استجمعت جأشها لتقول بصوتٍ شبه مُرتبك:
-طب أنا كنت عايزاك في موضوع كده.

نظر لها بازدراءٍ محتقر، كان على يقين تام أن نواياها خبيثة، وأن شخصها الكريه لن يتغير أبدًا، استأنفت قائلة بابتسامته جمعت بين الانكسار والرجاء:
-يعني إنت ماشاءالله ربنا فاتحها عليك من وسع، ومعاك شيء وشويات، ربنا يزيدك، بس يرضيك جدة عيالك تعيش هنا في المكان الموبوء ده؟
رد ببرودٍ قاسٍ ونظراته المتأففة نحوها تعلو وجهه:
-أه، عندك اعتراض؟

أشعرتها لهجته الخشنة بأنه على وشك الهجوم عليها وسفك دمائها دون إبداء ذرة ندم واحدة، تخلت على الفور عن أطماعها لترد بتهكمٍ ساخط:
-لأ خلاص، طالما إنت راضي بكده، هاتكلم أقول إيه، أديني هاحط الجزمة في بؤي وأسكت
علق عليها بعدم اكتراثٍ:
-يكون أحسن.

استشاطت غيظًا من ازدرائه العلني لها، تركته واقفًا في مكانه لتجلس على الأريكة وهي تغلي كمدًا وحنقًا، كتفت ساعديها أمام صدرها ووجهها المشتعل يكاد ينفجر، تجاهلها عن عمدٍ وتحرك حولها يجوب الصالة بنظراتٍ فاترة، استدار برأسه للخلف حينما سمع صوت والدته تناديه بتلهفٍ:
-"أوس" ابني!
لوحت "فردوس" بذراعها في الهواء ساخرة:
-اجري سلمي يا "تهاني" على ابنك..

نظرة واحدة نارية منه كانت كفيلة بإخراسها، تنحنحت مصححة بابتسامةٍ سمجة وكأنها تعتذر له:
-قصدي سعادت الباشا ابنك!
اقتربت "تهاني" من ابنها تحتضنه باشتياقٍ، مسدت على ظهره وقبلته من أعلى كتفيه ملاحقة إياه بتساؤلاتها:
-تعالى يا حبيبي في حضني، وحشتني يا غالي، طمني عليك، أخبارك إيه؟ و"ليان" إزيها؟ هي فين؟
رد بهدوءٍ لطيف يُناقض أسلوبه الجاف والحاد مع من تسمى خالته:
-تعالي يا ماما هنتكلم فوق.

انتبهت "فردوس" لجملته الأخيرة وتحفزت في جلستها لتتلصص عليه محاولة تفسير مقصده، بينما عقدت "تهاني" ما بين حاجبيها في استغرابٍ وهي تسأله:
-فوق فين؟
أجابها مبتسمًا ونظراته المتسلية بإغاظة "فردوس" مركزة عليها:
-في الشقة اللي فوق، ما هو أنا نقلت ملكيتها باسمك عشان لو تحبي تقعدي براحتك من غير ما حد يضايقك
نجح "أوس" في استفزازها وجعلها تعض أناملها غيظًا، تركها في مكانها تحترق واتجه مع والدته للطابق العلوي. تمتمت "فردوس" مع نفسها بتبرمٍ وهي تلطم على فخذها بيدها:
-حظوظ! ناس ليها شقق، وناس ليها "عوض" ...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة