قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم الفصل الثاني عشر

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم الفصل الثاني عشر

( الجزء الخامس من ذئاب لا تعرف الحب )

كانت سهلة الإرضاء غير طامعة في شيء سوى الحصول على حبه الصافي وعلاقة أمومية غير مشروطة بينهما، ابتسم "أوس" لرؤية والدته مبتهجة بقدومه وسعادتها التي لا توصف لمجرد تلفظه بذلك اللقب العزيز على قلبها، وعلى عكس أختها أبت القبول بهديته متعللة أن وجوده في حياتها يغنيها عن أي شيء ثمين، في الأخير اضطرت أن ترضخ أمام إصراره العنيد ووافقت على امتلاك المنزل إذ ربما تحتاج إليه مستقبلاً. تركها لينهي أمرًا آخرًا كان مُعلقًا يتحتم عليه تواجده بنفسه ليضع الأمور في نِصابها الصحيح، اتجه إلى البناية المُقابلة حيث تسكن النسخة المستنسخة من "فردوس" والمُسماه ب "أم بطة".

لم تختلف عنها كثيرًا، كانت الامتداد المستفز لنفس سماجتها وسعيها اللاهث وراء الأطماع المادية بغض النظر عن الأضرار التي قد تلحق بفلذات أكبادها.
صعد إلى منزلها بالطابق العلوي، دق الباب بدقاتٍ ثابتة، وانتظرها تفتح له، وما إن رأته الأخيرة حتى شهقت مذعورة، وارتدت متراجعة للخلف وقسماتها تعكس فزعًا مقروءًا. وطأ "أوس" بخطواتٍ ثابتة للداخل دون أن يحيد ببصره عنها، رمقها بنظرة مطولة مليئة بالحنق والكراهية، ثم استطرد متسائلاً بخشونةٍ ضاعفت من حالتها المرتعدة:
-مش أنا حذرتك قبل كده ما تجيش جمب "هالة"؟

ردت نافية ومدافعة عن نفسها فورًا:
-والله يا باشا ما عملتلها حاجة، دي هي اللي انطست في نافوخها وكانت عاوزة تنتحر.
هدر بها بصوته الجهوري الذي جعلها تقفز من مكانها لترتد خطوة أخرى للخلف:
-ومين خلاها تعمل كده؟
أجابته بتلعثمٍ مرتبك وهي توضح كذلك بكفها:
-مش أنا.. ده المخفي على عينه "منسي" وأهوو غار في داهية والبوليس مسكه و...

بدت مبرراتها كالعادة إلقاء اللوم والذنب على الآخرين لتنفي التهم عن نفسها، مُتناسية عن قصدٍ أن ما مرت به ابنتها كانت هي سببًا أساسيًا فيه، استفزه ادعائها للبراءة لذا قاطعها متابعًا بلهجته القاسية ومهددًا بسبابته:
-قعاد بنتك معاكي هيضيعها، وأنا مش هاستنى أما ده يحصل، وإلا هدفعك التمن غالي
ارتعدت فرائصها من تهديده الصريح، شحب لون وجهها وهي تسترق قلبه:
-يا باشا إنت ظالمني، ده أنا أمها، محدش هيخاف عليها زيي
نظر لها شزرًا وهو يعقب ساخطًا:
-لأ واضح خوفك عليها، بديل كانت هتنتحر.

ردت عليه دون تفكيرٍ لتظهر على حقيقتها:
-هي اللي عملت ده من نفسها، عشان تفضحنا بزيادة، أل يعني كنا ناقصين!
احتدت عيناه نحوها فأحست بخطئتها المميت، حاولت تداركه فأردفت بحزنٍ مفتعل:
-ده أنا فرشالها الأرض رمل، وقايدة صوابعي العشرة شمع عشانها، وفوق ده كله وباستمنلها الرضا ترضى.

اشتعلت نظراته أكثر، ومع صمته المتعمد ليدفعها دون أن تشعر للاسترسال والبوح لتزداد أخطائها، مصمصت "أم بطة" شفتيها لتضيف باستنكارٍ:
-ده مافيش أم زيي، والمفروض يعني هي اللي تراضيني وتجري عليا، ده بيقولوا الجنة تحت رجلي و...
فاض به الكيل من ترهاتها المثيرة للأعصاب فصاح هادرًا ليجبرها على السكوت:
-ولا كلمة زيادة!

وضعت يدها على فمها مانعة نفسها من الحديث، بينما تابع "أوس" بازدراءٍ مُحتقر:
-المفروض إنتي واللي زيك تتمحوا من على وش الأرض!
تلبكت من تهديده القوي، ثم ردت بتوجسٍ وتلك الرعشة الطفيفة مسيطرة عليها:
-يا باشا!
أكمل تعنيفه القاسي يُهاجمها:
-عمالة تلفي وتدوري وإنتي الغلط نفسه، ده بُعد بنتك عنك رحمة ليها
ردت عليه بخنوعٍ مُجبر:
-اللي إنت شايفة صح اعمله يا باشا، هو حد يقدر يعارضك؟

وقبل أن يوبخها بالمزيد من الكلام المُوجع، اقتحمت "بطة" المنزل صارخة باسمه ليلتفت نحوها:
-"أوس" باشا!
وقفت قبالته تستجديه بتلهفٍ:
-الله يكرمك طمني على أختي.
تجمدت نظراتها المتمعنة في وجهها قائلاً لها:
-هي بخير
سألته بعاطفة صادقة وتلهفٍ حقيقي:
-عاوزة أشوف "هالة"، هي فين؟
رد باقتضابٍ وهو يشيح بوجهه للجانب:
-في أمان.

استعطفته بإلحاحٍ وهي تدور حوله لتقف قبالته:
-طب بالله عليك تخليني أشوفها، من ساعها ما الإسعاف خدها من هنا، وهي ولا حس ولا خبر، وأنا هاتهبل عليها.
تأمل لهفتها الواضحة بنظراتٍ دقيقة متفرسة فيها، بدت بالفعل تهتم لأمر أختها، وليست كوالدتها تدعي ذلك، لذا بعد تفكيرٍ متأنٍ رد عليها:
-هابعتلك السواق يوديكي عندها ويرجعك
أثلجت جملته الأخيرة قلبها، وأحست بالارتياح يتخلل صدرها الملتاع شوقًا لشقيقتها، شكرته بامتنانٍ مضاعف:
-الله يكرمك يا باشا ويباركلك في "تقى" وبنتك.

ظنت أن الفرصة مواتية لتستغل موافقته مدعية اهتمامها بابنتها، اختبأت "أم بطة" خلف بكريتها ترجوه بعينين منكسرتين وصوتٍ مهزوم:
-وأنا عاوزة أجي معاها، ينوبك ثواب يا باشا ماتحرمني من ضنايا، ده غيابها مقطع في قلبي.
حدجها "أوس" بنظرة مميتة جعلتها تنتفض في وقفتها، ادعت الضعف قائلة بصوتٍ مختنق:
-دي بنتي يا سعادت الباشا ووحشتني أوي، ده حتى البيت مالوش حس من غيرها!

وقبل أن يفكر في رفض رجائها الزائف، تدخلت "بطة" لتقنعه مؤكدة:
-اطمن يا باشا، أنا رجلي على رجلها ومش هاسيبها تستفرض بيها، ولو مش مصدقني ابعت معانا اللي يخليك تطمن إننا مش هنأذيها، دي "هالة" أختي وهي بردك أمها
نظر لها بغموضٍ فاستشعرت بدرجة كبيرة احتمالية رفضه لتوسلاتها، لكنه خيب ظنونها الواهية قائلاً بلهجة جادة للغاية ومحذرة في نفس الآن:
-على مسئوليتك.

أومأت برأسها مؤكدة:
-برقبتي يا باشا
أشار بكفه مكملاً بصيغته الآمرة:
-جهزوا نفسكم والعربية هتجيلكم كمان شوية
-شكرًا يا باشا
تركهما في منزلهما واستدار منصرفًا من حيث جاء، تنفست "بطة" الصعداء وحمدت الله كثيرًا لكونه كان مرنًا متفهمًا وليس كسابق عهده متشددًا قاسيًا، وإلا لما رأوا منه إلا وجهه الشرير.

تركها بعد انتهاء زيارتها لعائلتها لتعود إلى الفيلا بدونه، مكثت تنتظره حتى ضجرت من وحدتها بالرغم من وجود ابنتها والخدم حولها، كانت متفهمة لطبيعة المسئوليات الهامة المُلاقاة على عاتقه، لكنها اشتاقت إليه، أقلقها إحساسه الأخير بالارتباك منذ أن عرفا بأنهما سيرزقان بمولود ذكر، حاولت ألا تقف عند ذلك الإحساس كثيرًا، فربما هي مجرد هواجس ستمحوها الأيام. غفت "تقى" في غرفتها، لم تدرِ كم مر عليها من الوقت، أنزلت قدميها عن الفراش واتجهت إلى الشرفة لتنظر إلى الحديقة، لم تستطع أن تتبين إن كان قد عاد من الخارج أم لا، وضعت روبها على جسدها وسارت بتمهلٍ نحو الرواق..،

تحسست بطنها بحنوٍ مدندنة بصوتٍ خفيض لجنينها، هبطت على الدرجات قاصدة الذهاب إلى المطبخ لتعد لنفسها شيئًا صغيرًا، فقد تملكها إحساس الجوع وبدأت تتقلص معدتها بقوةٍ. ولجت إلى المطبخ غير منتبهة للظل الذي يجلس عند حافة الطاولة الرخامية التي تنتصفه، ضغطت على زر الإنارة، واتجهت لدولاب الأكواب لتسحب واحدًا زجاجيًا، ملأته بالمياه والتفتت كليًا نحو الطاولة، انفلتت منها شهقة فزعة وقد رأت أحدهم به..،

لم يأتِ ببالها أن يكون "أوس" متواجدًا به وبمفرده في تلك العتمة، سقط الكوب من بين أصابعها ليتهشم على الفور مُحدثًا دويًا قويًا، وقبل أن تهرب صارخة بمن ينجدها كانت يده موضوعة على فمها تكممه، وذراعه الآخر يحاوط جسدها، تلوت هاربة منه لكنها كان مُحكمًا لسيطرته عليها، سحبها بعيدًا عن قطع الزجاج الحادة المتناثرة رافعًا إياها من خصرها حتى لا تخطو عليها فتنجرح، قاومت قبضتيه قدر استطاعتها إلى أن خبت تدريجيًا حينما اخترق صوته المطمئن أذنها وهو يهمس لها:
-اهدي يا حبيبتي، ده أنا! متخافيش!

ارتخت أصابعه عن شفتيها فخرجت أنفاسها لاهثة ومتلاحقة، أدارها ببطءٍ نحوه لتنظر إليه فيتلاشى خوفها الطبيعي، رمقته بعتابٍ قبل أن توبخه برقةٍ:
-ينفع كده؟ أنا كان هيجرالي حاجة لما لاقيت حد غريب قاعد هنا وكمان المكان كان ضلمة و..
رد مبتسمًا في هدوء:
-محصلش حاجة، المهم إنتي كويسة؟
أومأت برأسها قائلة بعد زفيرٍ طويل:
-أيوه.

للحظة دار في خلدها ذكرى مشهد مماثل لذاك الحادث نُصب عينيها، حينما انفرد بها "أوس" بمطبخ قصر عائلته ليهددها بقساوة توقف القلوب، تغير المكان واختلفت الطباع، وبات المستحيل ممكنًا ووقع الذئب في حب الحمل، أخفت ابتسامة ساخرة على تلك الذكرى الموجعة كانت تلوح على ثغرها، أفاقت من خضتها المؤقتة، وتجمدت عيناها على وجهه الجاد، ثم سألته وقد انعقد ما بين حاجبيها باستغرابٍ قوي:
-إنت كنت بتعمل هنا إيه؟

رد ببساطةٍ:
-كنت محتاج أشرب قهوة.
ضاقت عيناها متابعة أسئلتها المهتمة:
-طب وماندهتش ليه حد يعملهالك أو حتى قولتلي؟!
تنهد بتعبٍ قبل أن يجيبها:
-عادي.

وضعت "تقى" يدها الرقيقة على كتفه، مررتها بحنوٍ ناعم عليه إلى أن وصلت إلى فقرات عنقه، فركتهم برقةٍ للحظات لتعاود سؤاله بحذرٍ فلا يمل منها:
-مالك يا حبيبي؟ في إيه مضايقك؟
رد بإجابة غير مقنعة وهو يبتعد عنها:
-مافيش حاجة، شوية مشاغل!

رفضت تركه، بل إنها سحبته من كف يده نحو الطاولة وبعيدًا عن الفوضى القابعة على الأرضية ليجلسا سويًا، طالعتها بنظراتها القلقة المهتمة قبل أن تقول له وهي تداعب طرف ذقنه بأناملها:
-حبيبي، أنا حاسة بيك، وعارفة أد إيه إنت مضغوط، وشايل كل هموم الدنيا فوق راسك، بس بلاش تحمل نفسك اللي متقدرش عليه
أمسك بأصابعها قائلاً بجديةٍ:
-"تقى"، خليكي إنتي مرتاحة ومتفكريش، أنا عارف أتصرف كويس
ردت عليه ببسمة رقيقة:
-أنا مش بأقلل من قدرتك..

تأملت ردة فعله بقليل من الحذر ثم تابعت وهي تحتفظ بنفس الابتسامة الناعمة:
-بس حقيقي إنت صعبان عليا، أنا مابقتش بأشوفك زي الأول، بقيت مشغول عني، وحتى الوقت اللي كنا فيه سوا ولوحدنا وبعيد عن المشاكل لاقينها بتجري ورانا
نفخ بصوتٍ مسموع ليعقب بعدها بوجهه الممتعض:
-ما هو ده مش بإيدي
وقبل أن تحرك شفتيها لتتكلم مجددًا بادر مضيفًا بشراسة لمستها في نبرته:
-وماينفعش أسكت أو ماردش!

مدت "تقى" يدها لتلتقط كفه، احتضنته بين راحتيها الناعمتين، أسبلت عينيها نحوه تقول له:
-أنا خايفة عليك
تصنع "أوس" الابتسام معلقًا عليها:
-عارف ده، وبأطمنك
ثم قام بتغيير حوارهما لأمر آخر فسألها بابتسامة صغيرة:
-ها بتعرفي تعملي قهوة ولا أنادي "عفاف"؟
تصنعت العبوس قبل أن ترد بزهوٍ متفاخر:
-عيب عليك، ده أنا شاطرة ولهلوبة في الطبيخ وعمايل القهوة
فرك جبينه قائلاً بتحدٍ:
-وريني.

نهضت من جواره لتتجه نحو الموقد، أشعلته بعد أن أحضرت (الكنكة) التي وضعت بها الماء، راقبها "أوس" وهي منهمكة في إعداد قهوته مركزًا كامل عينيه عليها، ثم أضاف قائلاً ببسمة بلهاء:
-تصدقي.. مجاتش فرصة أدوق الأكل من إيديكي.
استدارت برأسها نصف استدارة لترمقه بنظراتٍ مشرقة ووجهٍ بشوش وهي ترد:
-طب من هنا ورايح أنا اللي هاطبخلك
تحمس لاقتراحها قائلاً:
-وأنا موافق تجربي فيا
-مش هتندم، أنا طباخة بريمو.

قالتها بغرورٍ وهي تدير رأسها لتتابع تقليب البن الذي وضعته، اندمجت فيما تفعله فلم تشعر بحركته الخفيفة وهو يتجه نحوها، أحست بذراعيه تطوقانها من الخلف فارتبكت قليلاً، وزاد توترها حينما أسند رأسه على كتفها، حاولت التملص منه متصنعة الجدية:
-على فكرة كده ماينفعش، القهوة هتفور!
رد غير مبالٍ ودقات قلبه تخفق بقوةٍ:
-مش مهم، هنعمل غيرها.

تحركت شفتاه على جانب عنقها متلمسة بشرتها، شعرت بأنفاسه الحارة عليها فزادت من تحفيز مشاعرها ورجفتها، ومع تعميقه لقبلاته الخبيرة توترت أكثر، تلوت بكتفيها لتبتعد عن حصاره المهلك هامسة له بخجلٍ:
-"أوس"، احنا في المطبخ، وممكن حد يشوفنا و...
قاطعها بصوتٍ يكاد يكون مسموعًا ويحمل التهديد القاسي في طياته:
-حد بس يفكر يقاطعنا وهايشوف أنا هاعمل فيه إيه
عاتبته بغنجٍ مثير:
-آخ منك.

أغلق الموقد وأدارها نحوه لتستقر ذراعيها حول عنقه، نظرت له برومانسية حالمة، وبادلها نظرات أكثر شغفًا، سألته بدلالٍ محبب إليه:
-ها فكرت تسمي ابننا اللي جاي إيه؟
أجابها بزفيرٍ بطيء:
-لسه.. سايبها لوقتها.
علقت عليه بتفاؤلٍ:
-على رأي بابا العيل بينزل واسمه مكتوب عند اللي خلقه
مسح على جانب عنقها براحته فشعر بتلك القشعريرة المغرية التي داعبتها، ثم رد ونظراته الشقية تجوب ملامحها المُشوقة:
-ربنا يقومك بالسلامة الأول.
عضت على شفتها السفلى مرددة:
-يا رب.

أغرته حركتها العفوية تلك فأحنى رأسه على شفتيها ليتذوق رحيق الحب من عليهما، اندمجت معه "تقى" وبادلته مشاعرها الحسية، لحظات حالمة اختطفاها من وسط المشاكل ليستمتعا بها، تراجع "أوس" عنها لسنتيمترات معدودة هامسًا لها:
-بتحبيني؟
أجابته بصوتٍ خفيضٍ للغاية وبأنفاسٍ شبه متقطعة:
-أنا معرفتش الحب ولا دوقته إلا معاك.
عاد ليقبلها بشغف أكبر مزيدًا من بث أحاسيسه لها، همس لها بحرارةٍ تلهب الأبدان:
-تعالي هنرجع أوضتنا!

ردت بوجه مشتعل من الحمرة:
-طب والقهوة؟
طوقها من خصرها لتصبح أسيرة أحضانه، ثم غمز لها قائلاً بعبثية:
-وقت تاني، احنا ورانا كلام مهم جدًا.

فهمت مقصده الموحي فأخفضت صوت ضحكاتها الناعمة حتى لا ينفضح أمرهما وهما يمران بجوار غرف الخدم النائمين ليدركوا أن رب عملهم وزوجته يتلاطفان خلسةً، اتجهت إلى الدرج وقبل أن تمسك بالدرابزون تلاشت الأرض من أسفل قدميها، فقد حملها "أوس" بين ذراعيه وهو يتأملها بعينين متلهفتين، صعد بها إلى غرفتهما حيث تنتظرها أمسية شاعرية مليئة بما يؤجج الوجدان ويحفز الحواس.

كانت زيارة عائلتها لها في المشفى تحمل نوعًا من الراحة النفسية، فبالرغم مما عانته إلا أن أحضان والدتها وتلهف شقيقتها عليها كانا كفيلين بتخفيف إحساسها بالوحدة والغربة. هي لا تنكر أنها تتلقى كامل أنواع الرعاية والاهتمام هنا، بل أكثر مما كانت قد تحلم به في حياتها، لكن لا يغني ذلك عن سعادتها بوجود عائلتها إلى جوارها، الغريب في تلك الزيارة أن والدتها لم تتطرق أبدًا لموضوع القميء "منسي" وتُلقي اللوم عليها، كانت على عكس طبيعتها أكثر لطافة، وأكثر حنوًا عليها. ابتسمت "هالة" في تلقائية مستعيدة ذلك الإحساس الجميل الذي افتقدته كثيرًا بحنان الأم وعاطفتها الجياشة. سمعت دقات خفيفة على باب غرفتها فهتفت عاليًا:
-اتفضل!

اعتقدت في نفسها أن القادم هي الممرضة لتناولها الدواء وتتفقد أحوالها، لذا لم تستدر نحوها وظلت جالسة في مكانها بالشرفة تتطلع إلى الحديقة الغناء بورودها وخضرتها المبهجة، حانت منها التفاتة صغيرة جانبية لتتفاجأ به واقفًا على أعتاب الشرفة، ومستندًا بظهره على الحائل الخشبي وفي يده باقة من الزهور البيضاء. هبت واقفة والدهشة المصدومة تعلو ملامحها، ابتلعت ريقها مرددة:
-إنت تاني؟

رد عليها "يامن" بابتسامة صغيرة عذبة:
-أيوه
تصنعت العبوس لتبدو أكثر جدية معه وهي تقول له:
-مش شايف إن اللي بتعمله ده بقى بايخ أوي، المفروض...
قاطعها مبتسمًا في نعومة:
-شكلك حلو النهاردة.

توردت بشرتها على الفور وكأنه قد ضغط على زر إشعال الدموية بها، ارتبكت من غزله العفيف وكتفت ساعديها أمام صدرها مدعية تجاهلها لمقولته الأخيرة، لكنها لم تفلح، ظهر التأثر جليًا عليها، اضطرت أن تشيح بوجهها بعيدًا عن نظراته التي تراقب إيماءاتها المرتبكة لتبدو أكثر جدية، قصدت الاتجاه نحو باب الشرفة وهي توبخه:
-ماينفعش اللي بتعمله ده، احنا هنا في مستشفى، والمفروض أنا أخدة راحتي هنا.

تقدمت خطوتين للأمام لكن ما لبثت أن ارتدت للخلف وقد انتفض كامل جسدها حينما اعترض "يامن" طريقها ليبقيها محتجزة معه في الشرفة، طالعها بنظراتٍ رومانسية للغاية قائلاً لها:
-بأحبك!
تدلى فكها للأسفل وخفق قلبها بقوة حتى كاد صوت دقاته يصم أذنيها من فرط قوته، تلعثمت وارتبكت وهي تردد في غير تصديقٍ:
-إنت .. إنت بتقول إيه؟

بدا أكثر ارتياحًا عنها وهو يسترسل بتلقائية:
-مش عارف إزاي ده حصل، بس أنا بأحبك وخلاص!
تضاعف ارتباكها المُحير، وعجزت عن الرد عليه في ظل حصاره الموتر لها، نهرته بصوت كان شبه مهزوزٍ:
-مايصحش الكلام ده!

تحفزت لتتحرك من جديد وتتجاوزه، لكنه فرد ذراعه أمامها ليثبط محاولتها الفاشلة للمرور، أجبرها على البقاء حبيسة الشرفة ليقول لها بعتاب المحبين:
-على فكرة أنا مقولتش حاجة غلط، أنا بأحبك ودي حقيقة حتى لو مش عاوزة تسمعيني
ارتفع الضجيج بداخل صدرها من قوة مشاعرها التي تحفزت مع اعترافاته الجريئة، بدا جمودها زائفًا، توسلته بعينين تتحاشان النظر نحوه:
-من فضلك امشي.

استمتع للغاية برؤيتها مرتبكة خجلة بشرتها تشع بدموية مفعمة بالحياة، تركزت نظراته على ملامحها وكأنه يحفظها جيدًا لتبقى محفورة في ذاكرته، زادت جديتها فصاحت بارتباكٍ يشوب كلماتها:
-لو سمحت، ماينفعش كده، أنا.. بأكلمك بالذوق
أومأ برأسه قائلاً لها وقد أبعد ذراعه:
-حاضر..

ثم اتسعت ابتسامته اللطيفة وهو يوصيها:
-خدي بالك من نفسك، وأكيد هاجي أشوفك تاني
ردت بجفاءٍ متجاهلة كم المشاعر الهائجة بداخل كيانها البشري:
-هاكون نايمة.. ده إن مامشيتش من هنا ورجعت بيتي.

خرجت منها شهقة عفوية حينما مال نحوها برأسه ليقلص المسافات فجأة بينهما فزادت لبختها والتصق ظهرها بحائط الشرفة، أحست بدفء أنفاسه يداعب بشرتها وهو يقول لها مؤكدًا:
-وأنا مش هابعد عنك.
انخفضت نظراتها، بل تكاد تكون قد أغمضت جفنيها لتتجنب عيناه الفاحصتان لها، رجفة جفيفة انتابتها وهو يكمل بنفس العزم والإصرار:
-لأني معنتش خايف من حاجة!

ابتلعت ريقها في حلقها الجاف، وحاولت أن تضبط إيقاع تنفسها الذي خالف انتظامه وأصبح كالمكوك ينتفض علوًا وهبوطًا، استند "يامن" بيده على الحائط ليصبح قريبًا من رأسها، تابع همسه الواثق:
-بس قبل ما أمشي عاوز أقولك حاجة مهمة..
حاولت الإفلات من حصاره لكن اتخذت يده الأخرى موضعها على الجانب المقابل لرأسها لتصبح فعليًا أسيرة ذراعيه، حملقت في حدقتيه المثبتتين على وجهها المتورد بربكةٍ وارتعاش، شهقة أخرى خانتها وخرجت من جوفها عندما قال لها بثقةٍ:
-أنا حكيت لابن عمي على كل حاجة!

كانت جملته غامضة محيرة مثيرة للفضول، فعصف برأسها عشرات التكهنات التي تؤدي كلها إلى نتيجة واحدة حاولت إنكارها بشدة، ومع ذلك سألته بصوتٍ يكاد يكون مسموعًا عله ينفي ما خمنته:
-مش فهماك؟!
ظهرت ابتسامة نضرة على محياه وهو يجيبها بتفاخرٍ:
-يعني هو عارف إني بأحبك.

هوى قلبها في قدميها وانفرجات شفتاها عن دهشة أعجب، لم تتخيل أن يكون "يامن" بمثل تلك الجراءة ليفاتح صاحب الهيبة والسلطة في أمرهما المستحيل ببساطة وكأنه يفرض عليه الواقع، أنكرت تصرفه المتهور قائلة في عدم تصديق وكل ذرة فيها تنتفض كما لو كانت قد أصيبت بصاعقة:
-إيه.. بتقول إيه؟ مش معقول! إنت قولتله الكلام ده؟ طب هايقول عني إيه؟ أكيد أنا لفيت عليك و...

لمعت عيناه بوميض أحبه كثيرًا لمجرد رؤيتها مرتبكة ومقاومة لبذرة الحب التي وجدت مكانها في قلبها دون أن تدري أنها اعترفت ضمنيًا بمشاعرها نحوه، تركها تهذي وتخربط في حديثها حتى انتهت لتجده محدقًا بها بطريقة غريبة، طمأنها عن غرور لا يليق إلا به وابتسامة نصر تعلو ثغره:
-متخافيش.. هو كان مرحب على الآخر
حدقت فيه ببلاهة وهي بالكاد تكافح للسيطرة على نفسها، أرخى "يامن" ذراعيه وانتصب في وقفته ليودعها بكلمات مؤكدة:
-هاجيلك تاني يا "هالة"، إنتي مش هاتغيبي عن عينيا لحظة!

وكأن جسدها التصق بالغراء في الحائط، لم تتحرك قيد أنملة وتبعته نظراتها المصدومة وهو يسير مبتعدًا إلى خارج الغرفة كليًا، وضعت يديها على وجنتيها تتحسسان السخونية المتفجرة بهما، هزت رأسها محدثة نفسها بأنفاسٍ أقرب للهاث:
-ده أكيد جنان.. مش معقول يكون قال للباشا كده!

تقلص صغير ضرب أسفل معدتها فأوقظها من غفلتها، نهضت "تقى" عن الفراش لتتجه إلى الحمام، حيث أفرغت ما في جوفها، كان ما تمر به طبيعيًا في تلك المرحلة من حملها، حدقت في انعكاس وجهها المنتفخ قليلاً في المرآة، ابتسمت بتهكمٍ للتغير الذي طرأ على ملامحها. انتهت من غسل وجهها لتعود إلى الغرفة وهي ترتجف قليلاً، فركت جانبي ذراعيها بكفيها الباردين لتبعث الدفء على نفسها، همست واصطكاك أسنانها يكاد يكون مسموعًا:
-أنا سقعانة أوي!

ضاعف من إحساسها بالبرودة جهاز المكيف الذي كان مضبوطًا على درجة أقل ليساعد "أوس" على النوم سريعًا، حاولت ضبطت رجفتها لكنها لم تستطع، اتجهت إلى الحجرة الجانبية التي كانت معدة لتكون خزانة للملابس لتبحث فيها عما يمكن أن ترتديه ليمد جسدها بالحرارة المفقودة، كانت أغلب ثيابها المنزلية خفيفة وملائمة للأجواء الحميمية فيما عدا بعض القطع التي ضاقت عليها بسبب اكتسابها للوزن، التفتت أنظارها نحو الجزء الخاص بزوجها، وعفويًا تشكل على ثغرها بسمة عريضة، أطلت برأسها للخارج لتتأكد من نومه...

ثم عادت لتحدق في مجموعته المميزة من الماركات المختلفة. وقفت "تقى" أمام ثيابه تنتقي ما يلائمها، تملكها إحساسًا عظيمًا بالرضا بعد أن ارتدت سرواله الرياضي وتشيرتًا بدا فضفاضًا عليها من اللون الزيتي الداكن، تأملت نفسها في المرآة المثبتة في الجانب كاتمة ضحكة لاهية تشكلت على وجهها، أسرعت بالسير لتتدثر أسفل الغطاء، وما هي إلا لحظات وتغلغل الدفء في جميع خلاياها لتنعم بنومٍ هانئ.

تململ "أوس" بجوارها ونظر لها بنصف عين، أطبقت "تقى" على شفتيها بقوة كي لا ينكشف أمرها، تيقن أنها تدعي النوم لكونها تبتسم، اعتدل في رقدته ونظر لها متسائلاً في فضولٍ وهو يفرك رأسه:
-إنتي صاحية، صح؟
أولته ظهرها ساحبة الغطاء عليها وهي ترد بصوتٍ ثقيل:
-لأ
ضاقت عيناه باهتمامٍ أكبر وقد لاحظ ما ترتديه، انحنى برأسه نحوها ليسألها بصوتٍ خفيض:
-إنتي لابسة هدومي يا "تقى".

ردت عليه بنبرة ناعسة:
-سبني أنام يا "أوس" شوية، دماغي مصدعة و...
انفلتت منها شهقة حرجة حينما أزاح الغطاء كاملاً ليكشف عن جسدها، سألها بصوتٍ رخيم:
-إيه ده؟
استدارت نحوه ترمقه بنظرة حادة وحاجباها معقودان، كان وجهه جامد التعبيرات، ونظراته إلى حد ما غير مريحة، هتفت قائلة له في عصبية وملامحها عابسة:
-أه لابسة هدومك، فيها حاجة يعني؟ ما أنا كنت سعقانة ومافيش حاجة جاية على مقاسي، هاعمل إيه؟ ملاقتش إلا دول ألبسهم!
أخفى شبح تلك الابتسامة العابثة التي تكافح للظهور على وجهه، ارتدى قناع الجدية ليقول لها:
-استأذنتيني طيب؟

انفرجت شفتاها عن دهشة مصدومة من سؤاله الغريب، زادت تعبيراتها تعقيدًا وهي ترد عليه:
-إنت بتكلم جد؟
قال لها بجدية أكبر دون أدنى تغيير في نظراته نحوها:
-وده شكل حد بيهزر
ناداته باسمه ومازالت علامات الصدمة تعتليها:
-"أوس"!
أشار بعينيه يأمرها في جمودٍ:
-"تقى" من فضلك اقلعي هدومي، أنا مابحبش حد يلبسها
اغتاظت من أنانيته في التعامل وردت بغيظٍ وهي تضغط على أسنانها:
-بقى كده.
هز رأسه قائلاً:
-أيوه، اقلعي!

رفعت "تقى" طرفي التيشرت الخاص به عن جسدها لتنزعه وبقيت أكمامه على ذراعيها متمتمة بضيقٍ كبير:
-طب اتفضل، ودي آخر مرة هاخد حاجة منك و...
مسح بعينين ماكرتين مفاتنها المغرية التي حفزته على الفور، قيد معصميها بقبضتيه القويتين قائلاً لها:
-اهدي!

نظرت له بعينين غاضبتين وهي تنفخ بزفيرٍ مزعوج، خرجت ضحكات "أوس" الساخرة مجلجلة في الغرفة، أدركت أنه كان يمازحها على طريقته العابثة فاستشاطت غيظًا منه، حاولت التحرر من قيده الإجباري صائحةً بنبرة منفعلة:
-ابعد عني!

ببساطة ويسر أحكم توثيق رسغيها بتشيرته فعجزت عن الإفلات منه، وتولى ذراعه مهمة رفعها لتصبح جليسة أحضانه، انتفضت وتلوت بجسدها مقاومة حصاره مما جعله يستمتع أكثر بقربها المثير، امتدت يده لصفحة وجهها لتداعب وجنتها وأرنبة أنفها، رمقته بنظرة مغتاظة، فبادلها بنظرة مليئة بالشغف، تنهد هامسًا لها بحرارةٍ:
-لو سقعانة تعالي في حضني أدفيكي
هزت كتفيها رافضة عرضه المغري:
-لأ أنا زعلانة منك.

ضمها إليه وغازلها بنظراته وكلماته الناعمة:
-حبيبتي، مقدرش على زعلك
أشاحت بوجهها عنه لتقول بعبوسٍ تام:
-بأكرهك، مش طايقاك..
وضع إصبعيه أسفل ذقنها ليدير وجهها إليه، نظر لها بعمقٍ وهو يعقب على لغوها الفارغ متسائلاً بنبرة أقرب للهمس:
-الكلام ده من ورا قلبك.
ارتجفت من طريقته في استدراجها لمسامحته، ادعت الجمود وصاحت بصلابة:
-أوعى، أنا عاوزة أقوم.
-إنتي وقعتي تحت إيدي، ومش بالساهل أسيبك!

قالها "أوس" قبل أن تنحني شفتاه على شفتيها ليجبرها على الانصياع لما يمليه القلب قبل العقل لتنهار حصونها ودفاعاتها الواهية، لحظات وغرقت في أنهر العواطف الجياشة التي ينهال عليها بها فرفعت رايات العفو والغفران، نظرت إليه متسائلة بدلالٍ وهي تسحب قبضته إلى بطنها المنتفخ:
-لسه برضوه خايف؟
ضم شفتيه للحظات وهو يتأمل بطنها في شرودٍ، ناداته برقة:
-"أوس"!

رفع عينيه إليها فبدا وجهها مشرقًا وهي تكمل بتفاؤلٍ:
-أنا متأكدة إنك هاتكون أحسن أب ليه
صمت ولم يعقب فأضافت بحماسٍ وعيناها تشعان مرحًا:
-عارف ليه؟ عشان إنت بقيت واحد تاني خالص الكل بيحسدني عليه، وبعدين إنت بتعامل "حياة" كملكة ومن وهي لسه في اللفة!

نشط حديثها خلايا عقله فشرد لوهلةٍ متذكرًا زيارته الأخيرة لطبيبه النفسي والذي شكى له مخاوفه من المولود القادم وتلك الهواجس التي تطارده ليل نهار بأن يكون نسخة أخرى عنه في صغره فيهمله ويقاسي في الكبر، رنَّت كلمات الطبيب في أذنيه والتي قال فيها له ليعزز من ثقته في نفسه:
-شوف إنت دلوقتي بقيت بتقول بابا، بعد ما كان على لسانك الدكتور "مهاب" وبس، وده معناه إنك عرفت تتجاوز اللي عمله معاك ويحصل نوع من السلام الداخلي جواك، فصدقني إنت هتقدر تتخطى الخوف ده، لأنه مالوش أساس من الصحة.

أفاق من سرحانه على صوتها المنادي له:
-يا "أوس"! إنت مش معايا خالص!
ابتسم لها قائلاً في هدوء:
-معاكي يا حبيبتي
عضت على شفتها السفلى قبل أن تسأله بحذرٍ وترقبٍ:
-يعني إنت هاتحبه ..؟
اتسعت ابتسامته أكثر وهو يجيبها عن اقتناعٍ ترسخ فيه:
-طبعًا.. مش حتة مني ومنك
ارتمت في أحضانه لتقول له عن عشقٍ كبير:
-بأحبك أوي
حاوطتها بذراعيه ومنحها قبلة أعلى رأسها وهو يبتسم لها، فوسط دوامة همومه تكون هي السُكنى والبلسم الشافي لكل شيء.

اتسخت ثيابه بعرقه وتلوثت بقطرات الدماء التي نزفها من أنفه وفكه، ورغم سنه الكبير والإعياء الذي أصاب جسده وأنهكه لم يشفق عليه أحد، فالأوامر كانت واضحة للغاية، الضغط عليه بقسوة لدفعه للإفشاء عما يخفيه من أسرار مُهلكة، لم يعبأ أحدهم بكونه المحامي المرموق ذو الصلات والمعارف الواسعة، كان نكرة في أعينهم، مقيدًا في أحد المقاعد المعدنية القديمة. صال وجال وصرخ واستغاث، ولكن لا حياة لمن تنادي، الكل اتخذ موقف المشاهد إن لم يكن الجلاد، هددهم "نصيف" تارة وأغراهم بالمال تارة أخرى، ولكنه لم يحرك فيهم ساكنًا مما استفزه أكثر وجعل أعصابه شبه المتماسكة تنهار، وعند اللحظة المناسبة أتى إليه من يخشى غضبته.

سحب "أوس" أحد المقاعد ليضعها في مواجهته، ثم استند بقدمه عليه لتكون قبالة وجهه ليشعره بالاحتقار والازدراء، طالعه "نصيف" بعينين مشتعلتين قبل أن يهدر بما تبقى فيه من قوة:
-مايصحش اللي بتعمله معايا ده يا باشا!
رمقه "أوس" بنظرة باردة خالية من أي نوع من التعاطف أو الشفقة، في حين أكمل "نصيف" صراخه:
-أنا محامي وليا لي اسمي وسمعتي في السوق، مش معنى إنك ابن موكلي الله يرحمه تبهدلني بالشكل ده.

تركزت عيناه على وجهه ليقول له مهددًا بقساوةٍ:
-تيجي معايا دوغري هترتاح، هتلف وتدور وتحور عليا، مش هاتِتعِب إلا نفسك!
خارت قوى "نصيف" من المجهود المبذول الذي استنزفه على الأخير، سأله بأنفاسٍ واهنة:
-يا باشا إنت عايز مني إيه؟
أجابه بكلمة واحدة دون أن يهتز له جفن:
-"ليان"!

ارتفعت نبرته قليلاً ليدافع عن نفسه نافيًا أي اتهام عنه:
-وأنا قولت لسيادتك مليون مرة ماليش دعوة بيها ولا ...
هدر "أوس" مقاطعًا بخشونة وبنبرة ترعب الأبدان:
-تاني هتتعبني معاك، الورق ده بالذات مكانش موجود إلا مع الدكتور "مهاب"، وسره كله كان معاك!
أنكر بإصرارٍ:
-وأنا عمري ما خونت الأمانة
رد عليه بتهكمٍ وقد ركل المقعد بقدمه بعصبية شديدة:
-قالولك إني داقق عصافير في قفايا.

ارتعد بدن "نصيف" من هيئته المرعبة ونظراته المخيفة التي أوحت له بأنه لن يتركه إلا جثة هامدة، قبض "أوس" على فكه ضاغطًا بكل قوته على عظامه ليؤلمه، خرجت آناته المتوجعة ترجوه أن يكف، لكنه عمد إلى الفتك به، خرج صوته مهددًا بنبرة محتقنة:
-من الآخر كده وعشان نرتاح إنت مش هاتخرج من هنا إلا لو حكيت عن كل حاجة، وأنا متأكد إنك قبضت التمن يا سعادت المحامي
انحشرت أنفاسه وهو يرد عليه متسائلاً:
-تمن إيه؟

لكزه بعنف أسفل ذقنه ليوجعه وهو يرد بتشنجٍ:
-هتسوق الغباوة عليا؟
سعل "نصيف" بشدة وهو يحاول جمع شتات ما تبقى من قوته، توسله باستعطافٍ إذ ربما يرفق به:
-يا باشا.. ده أنا زي والدك
رمقه بنظرة دونية محتقرة له قبل أن يرد من بين شفتيه المضغوطتين:
-أبويا مات وادفن، وشكلك هتحصله!

شخصت أبصاره بعد كلماته المثيرة للارتعاد ودق قلبه رعبًا، انتفض متسائلاً وقد تضاعف خوفه:
-إنت هتعمل إيه؟
أشهر "أوس" مسدسه في وجهه قائلاً له بثباتٍ أفزعه على الأخير:
-هاخلص عليك طالما وجودك زي عدمه، ومتقلقش هاعملك دفنة محترمة وسط الكلاب
هنا انهارت أعصابه ولم يعد قادرًا على الاحتمال فصاح يتوسله بنواحٍ:
-لالالا، خلاص هاقول على كل حاجة
هز رأسه غير مبالٍ وهو يرد:
-وأنا مش عاوز أعرف!

توسله "نصيف" برجاءٍ أشد، فحياته باتت على المحك إن لم تكن على وشك انتهائها:
-يا باشا.. اديني فرصة، أيوه أنا واقفت أساعد "رغد" هانم عشان عمك "سامي" طلب مني ده، وكنت بساعد المحامي بتاعه وأسهلهم كل حاجة يعوزها مني
كانت نظرات "أوس" جامدة غير مبشرة بالخير، في حين استرسل "نصيف" موضحًا أكثر:
-يعني كنت شغال من تحت الترابيذة، بحيث أبقى بعيد عن العينين وخصوصًا عن ...

توقف عن الكلام ليبتلع ذلك العلقم الذي امتزج مع لعابه، ثم أكمل بصعوبة وقد أصبح قاب قوسين أو أدنى من الموت:
-عن .. سيادتك ...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة