قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم الفصل الرابع عشر

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم الفصل الرابع عشر

( الجزء الخامس من ذئاب لا تعرف الحب )

تقاربا مؤخرًا بشكلٍ غير مسبوق خلال ثرثرتهما العشوائية فوجدا أن بينهما قاسمًا مشتركًا، خصمًا لدودًا، قاسيًا، وعنيفًا يودان الفتك به والقضاء عليه، انخرط كلاهما في الحديث عنه وعرفا من بعضهما البعض الكثير مما يمكن أن يفيدهما، شكلا معًا حلفًا ظنا أنه قويًا وقادرًا على مجابهته، جلس "منسي" على طرف فراشه المتطرف مركزًا بصره على "فارس" الذي كان منهمكًا في تناول ثمرة الموز وجالسًا إلى جواره، تنحنح قائلاً له بصوته الخشن وابتسامة جانبية متهكمة تعلو ثغره:
-سبحان من جمعنا من غير ميعاد! حد كان يصدق إن أنا وإنت اللي جايبنا نفس البني آدم المفتري ده هنا.

ابتلع "فارس" آخر جزء في ثمرته بنهمٍ وهو يرد عليه بفمٍ ممتلئ:
-الدنيا صغيرة فعلاً.
مال عليه بعد أن تلفت حوله ليتأكد من عدم متابعة أحدهم لهما ليسأله بخفوتٍ:
-المهم إنت معايا في اللي هنعمله عشان ناخد بحقنا منه؟
أجابه دون ترددٍ وكأنه قد عقد العزم على التحالف مع الشيطان ليحقق مبتغاه منه:
-أنا معاك!

اتسعت ابتسامة "منسي" الماكرة، لكن ما لبثت أن خبت قليلاً وهو يتساءل في حيرة:
-وده هنوصله إزاي واحنا محبوسين هنا؟
أكد له "فارس" عن ثقة كاملة غامزًا له بطرف عينه اليسرى:
-أنا ليا لي معارفي.. كبارات زيه بردك، وهيقدروا عليه.
صفق "منسي" بكفي يده معًا كتعبير عن سعادته وهو يردد:
-ده كده فل أوي!

ظلا معزولان عن المحيطين بهما ولفترات متكررة يرسمان أحلامهما بالانتقام من "أوس" ويضعان المخططان وهما لا يدركان أنهما باتا محط أنظار أحدهم على وجه الخصوص. لاحظ همساتهما المستمرة، تقاربهما غير الطبيعي، ولكونه كان مكلفًا بمراقبة "فارس" خلال فترة احتجازه بتعليمات مباشرة من سيده بداخل السجن فأثار ذلك الود الغريب مع السمج "منسي" حفيظته وساورته الشكوك حولهما، لذا أبلغ على الفور معلمه من معتادي الإجرام ليقرر أمرهما بعد أن يخبره بالمستجدات، وها قد حسم الأمر، وأتت التعليمات الجديدة بمعاقبة الاثنين بغلظةٍ ودون إظهار أي رحمة.

أحس "فارس" بعتمة مفاجأة حلت فوق رأسه، فالتفت برأسه للجانب ليجد "شادوفة" يطالعه بنظراته الشرسة، شحب لون وجهه على الفور وهب واقفًا بصورة فجائية فاختل توازنه وخر واقعًا على ظهره ينظر له في رعبٍ، لم يختلف حال "منسي" عنه كثيرًا، انتابه القلق لمجرد رؤيته، صمت مشحون بالكثير من الارتباك والتوتر حل على الجميع، قطعه "شادوفة" متهكمًا بلهجته الساخرة:
-سمعت ياض المثل اللي بيقول اتلم تنتون على تنتن؟

علق عليه أحد أتباعه مؤيدًا:
-أيوه يا ريس.
أشار "شادوفة" بعينيه نحو كليهما وهو يكمل إهانته اللاذعة:
-أهوو قدامك واحد نتن والتاني أنتن!
ابتلع "فارس" ريقه الذي جف كليًا في حلقه محاولاً لملمة شتات نفسه المرتعدة، اعتدل في رقدته وزحف مبتعدًا عن أقدامه وهو يبرر بتلعثمٍ عله ينجو من بطشه:
-ريس "شادوفة"، أنا ...
فرك الأخير يديه الجافتين بتمهلٍ متعمد قبل أن يقاطعه بنبرة ذات مغزى مريب:
-ده الحلوين متوصي عليهم من فوق أوي.

جحظت عينا "فارس" بشكل مذعور، حتمًا قد وصل الأمر إلى مسامع "أوس الجندي"، فللأخير أعين منتشرة في كل مكان، ولن يصعب عليه أن يعرف خبايا ما يدور بداخل جدران السجون، وها قد حدث ما كان يخشاه، أن يبادر بالانتقام منه عن طريق أحد المجرمين قبل أن ينال هو غرضه، تكوم على نفسه أكثر واتخذ من زاوية الحائط الرطب مخبئًا له. في حين استجمع "منسي" جأشه ليقول بصوتٍ شبه مهتز:
-احنا اعدين جمب الحيط يا معلم، مالناش دعوة بحد.

وكأنه لم ينطق من الأساس، تجاهله "شادوفة" عن قصدٍ ليدير رأسه في اتجاه أتباعه وهو يأمرهم بغلظة:
-عاوزين نروقهم
هوى قلبه بين قدميه متذكرًا برعبٍ الاعتداء الحيواني عليه فور أن تصادم معه دون أن يجرؤ أحدهم على التدخل أو منعه من إيذائه، انحبست أنفاسه في صدره وهو يسمعه يكمل أوامره:
-هاتوهم على دورة المياه
صرخ كلاهما يستغيثان:
-لا يا ريس "شادوفة"، لالالالا...!

باستحياءٍ واضح على تعبيراتها الخجلة اضطرت أن تجلس بجواره في المقعد الأمامي تاركة مسافة جيدة بينهما، فبدت منكمشة عن كونها جالسة بأريحية، نظر لها "يامن" باندهاش وابتسامة لطيفة تعلو شفتيه، لم يسألها عما تفعل، فسعادته غامرة لوجودها معه وإحساسه بأنها تملك مشاعرًا تخصه، قاوم رغبته في اجتذاب أطراف الحديث معها قدر المستطاع إلى أن انهارت مقاومته فسألها بتنهيدة أظهرت مدى اهتمامه بها:
-إنتي مرتاحة وإنتي أعدة بالشكل ده
أجابته "هالة" بردٍ تم برمجته مسبقًا في عقلها:
-أيوه، أنا كده مبسوطة.

هز رأسه في عدم اقتناعٍ وتطلع إلى الطريق أمامه قبل أن يدفعه شغفه للنظر إلى وجهها المشبع بحمرته الخجلة، لم يلحظ نظراتها المتوترة التي كانت مثبتة على حركة السير، انتابها هاجسًا مرتاعًا حينما انتبهت لاختلاف اتجاه الطريق المؤدي إلى منزلها، هتفت بنزقٍ:
-على فكرة ده مش طريق البيت!
أجابها "يامن" بهدوءٍ ومرفقه مبسوطٍ على جانب نافذته:
-ما إحنا مش رايحين هناك.
سألته بنظرة هلع كانت بائنة عليها:
-أومال فين؟

فهم نظراتها فمازحها بابتسامة متسلية:
-إيه خايفة لأكون خاطفك؟
بلعت ريقها وردت بجمودٍ محاولة إخفاء ارتباكها الملموس:
-لأ طبعًا!
بدا غير مقتنعٍ بإجابتها المقتضبة، تقلصت أناملها وهي تضغط بقوة عليها لتضبط قلقها، ثم بررت:
-أنا ماحبش أروح مكان مش عارفاه
ابتسم لها بعذوبة وهو يحاول طمأنتها بما لا يدع مجالاً للشك في عقلها:
-"أوس" مكلفني نروح على دكتور التجميل
انزوى ما بين حاجبيها بقوة وهي تردد:
-دكتور تجميل؟!

تابع موضحًا بجديةٍ:
-أيوه، عشان نكمل مراحل العلاج معاه، وزي ما وعدتك كل حاجة هترجع زي الأول وأحسن.
صمت لتفكر بتعمقٍ في كلماته الأخيرة وقد كانت حائرة إلى حد ما، انخفضت نظراتها نحو تشوهاتها المخبأة خلف كم كنزتها، رددت بتخوفٍ لم تجاهد في إنكاره:
-بس أنا ...
رد مقاطعًا بنفس صوته الجاد:
-ده مافيش اعتراض فيه، ابن عمي قرر ومش هايقبل بالرفض.
هتفت محتجة وقد عبست ملامحها:
-المفروض ياخد رأيي الأول!

تمتم "يامن" مع نفسه بخفوت ساخرًا من تسلط "أوس" عليه وشدته معه:
-كان عملي اعتبار!
لم تسمع "هالة" جيدًا ما قاله فسألته:
-بتقول إيه؟
ابتسم لها قائلاً بلطافة:
-متاخديش في بالك، ممكن تفتحي التابلوه اللي قدامك
ظلت عابسة وهي تسأله مستفهمة:
-ليه؟
ألح عليها بابتسامته التي ازدادت عذوبة:
-افتحي بس بعد إذنك.

نفخت مطولاً قبل أن تستجيب له وتفتح التابلوه المواجه لها، اعتلى تعبيراتها صدمة مدهوشة وقد رأت ما وضعه بداخله، مدت يدها لتخرج لوحًا كبيرًا من الشيكولاته الفاخرة، حملقت فيه لثوانٍ بفاه مفتوح، تدارك نفسها ورفعت اللوح أمام أنظاره تسأله:
-إيه ده؟
أجابها ببساطةٍ ونظراته تشع إشراقًا ودودًا:
-البنات بيحبوا الحاجات دي.. صح ولا أنا غلطان؟

تجمدت الكلمات على طرف لسانها، كانت أول هدية تتلقاها من شاب، لا تذكر أنها حصلت على تذكار خاص بها منذ طفولتها، كان اختياره موفقا وفاتحا للشهية، ترددت في القبول به، وقرأ هو أفكارها، لذا فقال لها:
-ولو مش عايزاها خلاص براحتك، بس دي حاجة بسيطة يا "هالة".
لم تكن هديته بالشيء الخطير، فلو أتى أحدهم لزيارتها فلربما أهداها واحدًا مثله كنوع من المجاملة، كان من السخيف وغير اللبق أن ترفض هديته، حسمت الصراع الدائر في عقلها بالموافقة. عضت "هالة" على شفتها السفلى قائلة باستسلامٍ:
-شكرًا.

رد عليها بتنهيدة صغيرة:
-العفو.. ويا رب ذوقي يعجبك
لاحت ابتسامة صغيرة رقيقة على شفتيها، لم تنظر نحوه وركزت عينيها على لوح الشيكولاته مستشعرة تلاحق دقات قلبها بين ضلوعها. كان "يامن" متيمًا بها، نظراته تفضح حبه المتزايد، ودَّ فقط لو منحته الفرصة لينطلق ويعبر لها عن مشاعره، لكنه كان مجبرًا على الالتزام بما عاهد "أوس" عليه، ألا يضغط عليها إلى أن تسمح له بذلك.

مسحت بنظرة بطيئة وشاملة باحة القصر التي كانت تعج قديمًا بأصحابه، واليوم تحول المكان إلى دارٍ تأوي العجزة والمسنين، اقتحم عقلها مئات الذكريات وتداخلت بشكل متشابك لتمنحها شعورًا بالاضطراب والقلق. هنا نشأت، وهنا اكتشفت خيانة الأقرب إليها، وهنا علمت حقيقة نسبها، وهنا انهارت. قشعريرة باردة غلفت جسدها فضاعفت من ارتباكها الخائف، أحست "تهاني" بما يختلج صدر ابنتها وما تعانيه رغم صمتها، حاوطتها من كتفيها بذراعها لتضمها إليها لتشعرها بحضنها الأمومي المطمئن وغير المقيد بشروطٍ على جسدها المرتجف، همست لها برقة:

-متفكريش في اللي فات، كانت صفحة في حياتك واتقفلت، والمكان أهوو اتغير وبقى شيء مفيد لغيرنا
هزت "ليان" رأسها توافقها وقد ارتسمت على شفتيها المكتنزتين ابتسامة صغيرة قبل أن ترد:
-فعلاً
ربتت "تهاني" بحنوٍ على جانب ذراعها متابعة:
-تعالي نقعد مع الناس شوية ونسمع حكايتهم، ما هو كل بيت فيه اللي يهد جبال

كانت محقة في كلماتها الأخيرة، فخلف كل مسن عاجز حالفته الظروف وأتى للإقامة هنا ورائه حكايات لها العجب وتشيب لها الرؤوس، بدأت كلتاهما في السير نحو الدرج الرخامي، استوقفهما صوتًا معروفًا بعث الضيق على نفس "تهاني"، التفتت برأسها للجانب لتجد شقيقتها تسرع في خطواتها لتلحق بهما، عاتبتها بأنفاسٍ لاهثة وهي ترفع طرف عباءتها عن الأرضية الرخامية:
-مش تستنوني، أنا مش قادرة أجري وأحصلكم.
تمتمت "تهاني" بخفوت لائمة نفسها:
-أنا عارفة إيه بس اللي خلاني أوافق أجيبك معانا!

دارت "فردوس" بعينين منبهرتين -ومن خلف نظارتها القاتمة المصممة خصيصًا لحالتها- القصر وتصاميمه المعمارية من الخارج مرددة بصوتٍ مرتفع عكس إعجابها الشديد:
-إيه الحاجات الأُبهة دي؟!
ردت عليها شقيقتها توبخها:
-قولي ماشاءالله!
لوت ثغرها معقبة عليها:
-ما أنا قولت في سري، هي شغلانة!

هزت "تهاني" رأسها في يأسٍ مُحبط منها، فمهما بذلت معها من مجهودٍ لتعدل من طباعها الناقمة إلا أنها تجدها تعود سريعًا إلى ما كانت عليه، تجاهلتها مضطرة حتى لا تعكر مزاجها وتبقى صافية الذهن لتحتوي ابنتها التي بحاجة ماسة إليها، عادت ملامحها للعبوس بقوة حينما سألتها "فردوس" بسماجةٍ:
-مش تفرجيني كده على المكان الحلو ده؟ أنا أول مرة أشوفه، ولا يعني أنا مش أد المقام؟

كانت متأكدة كليًا أنها لن تسلم من عباراتها المحفزة لإثارة حنقها، لذا دون تفكيرٍ وكي تنتهي من إلحاحها المزعج:
-تعالي يا "فردوس" معايا
ثم أشارت لابنتها معتذرة:
-معلش يا "ليان" هاخد خالتك أوريها الدار عشان مش هانخلص النهاردة
ردت عليها ابنتها بابتسامتها الصغيرة:
-براحتك يا مامي، أنا هاتمشى هنا ..
قالت لها في امتنانٍ:
-ربنا يباركلي فيكي يا حبيبتي ويحفظك من كل سوء.

كانت "فردوس" غير عابئة بالثرثرة المملة بين "تهاني" وابنتها، فتركيزها بالكامل كان منصبًا على فخامة المكان الذي وطأته، عاد إلى ذاكرتها مشهدًا كانت هي بطلته المضطهدة، حينما أتت إلى أبوابه قبل أشهر باحثة عن وحيدتها فيه، ابتسمت لنفسها بتهكمٍ متذكرة كيف طُردت من عند أعتابه دون أن ترى داخله، وها هي اليوم بشحمها ولحمها تقف فيه وكأنها ملكته..

حانت منها نظرة حاقدة على شقيقتها، فبالرغم من كونها خالة صاحبه وبدلاً من إكرامها بعد سنوات شقائها وتعويضها عن حرمانها الدائم إلا أنه عاملها بجفاءٍ وقسوة ومنحه لأختها ببساطة، تلك التي لا يشكل معها الثراء –حاليًا- أي فارق، هيهات بين الماضي والحاضر، فقديمًا سعت للاغتراب لتقابل من ينتشلها من مستنقع الفقر، واليوم هي ترتضي بالقليل فقط لتحيا، أخرجت "فردوس" تنهيدة ثقيلة من صدرها معبأة بالكثير من الهموم، تقوست شفتها للجانب قليلاً مغمغمة بتبرمٍ:
-أرزاق ..!

انهالوا عليه بالضرب المبرح فخارت قواه وافترش الأرض المتسخة بجسده، كان عاجزًا عن صد ضرباتهم الموجعة، تكوم "فارس" على نفسه بجوار الحوض الصدئ وهو يئن بألم شديد إلى أن أسكته بلكمة قاسية أفقدته الوعي، لم يجرؤ أحدهم على التدخل ومنع ما يحدث، الكل اتخذ الموقف الهروبي كالعادة حينما يتم اصطياد أحدهم وتعذيبه بداخل دورة المِياه، والآن حان الدور على الضحية التالية؛ "منسي". ظل صوت الأخير المستغيث حبيس جوفه بسبب اليد الغليظة المكممة له، قاومهم قدر استطاعته فاقدًا جزءًا كبيرًا من طاقته، أشار "شادوفة" لأتباعه بوجهه الموصوم بعلامات الإجرام:
-سيبوه!

أرخى رجاله أياديهم عنه ليتحرر "منسي"، نهج صدره صعدوًا وهبوطًا وهو يكافح لالتقاط أنفاسه والحفاظ على شجاعته الزائفة في مواجهته، هدده "شادوفة" علنًا:
-إنت لعبت في عداد عمرك يوم ما فكرت تأذي حد تبع الباشا.
أدرك "منسي" أن اتخاذ موقف الضعيف المهزوم لن يجني عليه سوى بالمزيد من هدر كرامته وبعثرة رجولته على الأرضية، لذا إن كُتب عليه الموت فليواجهه باستبسالٍ، استقام في وقفته المحنية ورد عليه بتهورٍ نزقٍ غير مبالٍ لتبعات رعونته:
-أنا مش واد هفأ، أنا أعرف ناس عليوي أوي هيبهدلوا اللي جابوك.

شهقات استنكار مصحوبة بألفاظٍ نابية صدحت في المكان ذي الرائحة الكريهة، رفع "شادوفة" ذراعه عاليًا آمرًا أتباعه:
-بس! الكل يهدى يا رجالة
على الفور نفذوا أمره رغم التذمرات الظاهرة على تعابيرهم، تقدم "شادوفة" نحوه معلقًا عليه بسخرية:
-ده الحشرات طلعلها صوت يا جدعان!

رد عليه "منسي" بخشونة:
-أنا راجل مش حشرة
وكأنه عروقه امتصت محلول الشجاعة بأكمله توًا فتابع تحديه له بقوة أكبر ماسحًا بقايا لعابه الممتزجة بخيوط دمائه:
-ولو إنت راجل بجد واجهني، مش متحامي في الكام بغل بتوعك
همهمات غاضبة ملأت الأجواء من جديد أخرسها صوت "شادوفة" الجهوري:
-كده إنت غلطت فيا وفي رجالتي، اقرى الفاتحة على روحك.

بادر "منسي" بالهجوم مزمجرًا بما يشبه الزئير ليمنح نفسه فرصة التفوق عليه بخطوة، فأطبق بقبضتيه على عنقه قاصدًا خنقه، كان الأخير محترفًا في لَكم خصومه في مواضع بعينها تسبب لهم آلامًا مُضاعفة، لذا بدون مجهود يُذكر تحرر من يديه وركله أسفل معدته ليتأوه موجعًا، لف "شادوفة" عنقه أسفل ذراعه ليصبح أسيرًا له، ضغط بكل قسوة على فقراته ليشعره بألم لا يُحتمل. استخدم "منسي" ذراعيه في دفع جسده الضخم..،

لكن مع تعذر حصوله على القدر الكافي من الأوكسجين كانت قوته غير كافية. استمر التحامهما لدقائق نجح فيها "شادوفة" في إذلاله وكسر شوكته، وفي لحظة مباغتة سحبه نحو الجدار ليدك عنقه فيه، خر الأخير صريعًا وسط ذهول المتواجدين بالحمام، تفقد نبضه أحد أتباعه فوجده قد توقف، رفع رأسه متسائلاً بتوجسٍ:
-ده سَلِم نِمر، هانعمل إيه يا ريس؟
أجابه "شادوفة" ببرود واثق ويده تشير إلى "فارس":
-هتنادي على حد من العساكر، تقولهم شوفت الكلب ده بيتخانق مع الحلوف اللي هناك، ولما يسألوك إيه اللي حصل هاتقول متعرفش..

أومأ برأسه قائلاً:
-ماشي يا ريس.
تابع "شادوفة" أوامره الصارمة:
-والكل يطير من هنا.
في أقل من دقيقة كان المكان خاويًا إلا من ثلاثة؛ "فارس" الذي غاب عن الوعي ولا يدري أي مصيبة تنتظره حينما يفيق، وجثة "منسي" المسنودة بجوار الحائط، وأحد أتباع "شادوفة" ليضمن اكتمال باقي خطة (معلمه).

وكما يُقال دومًا بين عوام الناسِ بأن الخبر السيء كالغرابِ يصل سريعًا، فهذا ما حدث معه، وصلته المستجدات الدائرة بالسجن بعد مصرع "منسي" بدقائق، بدا "أوس" غير متأثرٍ بما سمعه، كان يتوقع نهاية دامية لأمثاله الحقراء، إن لم تكن بيده ستحدث بيد غيره، أبعد الهاتف عن أذنه مرددًا لنفسه:
-ارتحنا منهم!

نجحت خطته التي وضعها للانتقام من خصومه دون أن يتدخل شخصيًا، حيث كلف محاميه بالتواصل مع مُحبي تقديم الخدمات بداخل السجون، وأمثالهم كُثر ممن يستجدون رضاء علية القوم. وقع الاختيار على "شادوفة"، والذي تكفل بإنهاء كل شيء دون عناءٍ ليظهر الأمر كما لو كانت مشاجرة عادية بين المساجين انتهت بمقتل أحدهم وتغليظ العقوبة على الآخر. تفحص "أوس" ملامح وجهه التي عكست إرهاقًا واضحًا، لم يرتح خلال الفترة الماضية بسبب الأعباء الملاقاة على كاهله، فلم يكن ينتهي من مشكلة إلا وتبزغ أخرى في الأفق، انتهى من الاستحمام واستعد للخروج من الحمام بعد أن ارتدى ثيابه المنزلية، توقف عند أعتاب الباب وقد التقط أنفه رائحة غريبة بدت وكأنها عبقت الهواء بشكلٍ منفر، تساءل باستغرابٍ وقد تقلصت تعبيراته:
-إنتي شامة حاجة يا "تقى"؟

تقلبت على جانبها لتخفي ردة فعلها وهي تكذب نافية:
-لأ يا حبيبي، تلاقيك بس عشان لسه واخد دش فالجو اختلف من جوا لبرا
أصر على يقينه بوجود رائحة مزعجة قائلاً لها:
-لا، أنا متأكد، في حاجة زي ما تكون ريحتها مِعَتقة..

شرد باحثًا عن الوصف المناسب لتلك الرائحة المريبة، بينما تجمدت أطراف "تقى" خلال نومتها الزائفة تدعو الله في نفسها ألا يكتشف أمرها ويعلم أنها كانت تتناول المخللات وبشراهة مخالفة لتعليمات طبيبتها وأوامره، انخفضت نظراتها تلقائيًا نحو البرطمان الشهي المُخبأ بجوار الكومود الملاصق لها، ندمت لأنها لم تتخذ حذرها وتأتي بمعطر للجو أو شيء يغطي على رائحته النافذة، كانت مستسلمة لرغبتها الملحة بتناوله، أطبقت على جفنيها بقوة متصنعة استسلامها للنعاس..

بينما دار "أوس" برأسه في الغرفة باحثًا بغير جدوى عن تفسير منطقي للرائحة المزعجة. قرر أن يتغاضى عن تلك المسألة واستخدم زجاجة عطره في نثر رائحتها على ثيابه. اندس بعدها في الفراش إلى جوار زوجته يحاوطها بذراعه القوي، رفع رأسه للأعلى لينظر لها بفضولٍ، فقد بدت الرائحة قوية عن ذي قبل واخترقت أنفه على الفور، سألها تلك المرة بإلحاحٍ وهو يهزها برفقٍ:
-"تقى"، مش معقول مش شماها؟

حاولت أن تسحب الغطاء على رأسها لتختبئ منه وهي ترد بنفاذ صبرٍ:
-يا "أوس" كبر دماغك، وسيبني أنام، أنا تعبانة من الحمل!

فقط كلمتها الأخيرة أثارت في عقله شيء ما، كما ساورته الشكوك من أسلوبها غير المريح للتهرب منه، بدت كما لو كانت تراوغه، نهض من على الفراش متجهًا إلى جانبها، تأملها عن كثبٍ ولاحظ الحركة العصبية لجفنيها، كان يفهمها جيدًا، تحركت حدقتاه للأسفل لتمعن النظر في تقلص مفاصل أناملها على الغطاء لتؤكد له حدسه بأنها تخفي عنه شيء حتمًا سيغضبه، وأن للرائحة الغريبة علاقة بها. جثا على ركبته أمامها مخفضًا رأسه فزكم أنفه الرائحة، امتدت يده لتمسك بالبرطمان المخبأ ورفعه نصب عينيه متسائلاً بوجه محمومٍ من الضيق:
-ده بيعمل إيه هنا؟

فتحت "تقى" عينيها على الفور لتنظر له في توترٍ مُرتبك، لاحقها بنظراته المتفحصة لردة فعلها، اعتدلت في نومها وأجابته ناكرة:
-م.. معرفش!
لم يستطع "أوس" أن يخفي ضيقه من استخفافها بما يمكن أن يضر صحتها قبل صحة الجنين، استقام واقفًا يوبخها:
-برضوه يا "تقى" بتعملي اللي في دماغك ومش همك مصلحتك
دافعت عن اشتهائها لتناوله قائلة بوجهٍ متهجم:
-هاعمل إيه يعني؟ كان نفسي فيه أوي.

رد محتجًا بوجهٍ غاضب:
-وده غلط عليكي أكيد!
نظرت له بامتعاضٍ قبل أن تبرر خطئها:
-أهوو اللي حصل، مش هتعلقلي المشنقة
سحب "أوس" نفسًا عميقًا يخمد به جذوة الغضب التي اندلعت بداخله، لفظه ببطءٍ قائلاً لها بصوتٍ بدا متشنجًا:
-يا "تقى" أنا خايف عليكي، مش عاوز حاجة تأذيكي.

لم تعقب عليه بالرد المناسب، فقد كان محقًا، هو يفعل ما يفوق وسعه لتوفير سبل الراحة لها، وهي على النقيض تهمل في الالتزام بما فيه الأفضل لها، انتبهت كامل حواسها معه حينما أكمل مهددًا:
-وبعدين أنا مش قولت يتمنع المخلل خالص، أنا هاشوف مين اتجرأ وخالف تعليماتي وهحاسبه
توترت ملامح وجهها من لهجته الشديدة وتوسلته دون تفكيرٍ لتمنعه من ظلم أحد الخدم دون وجه حق:
-استنى يا "أوس"، أنا اللي اشتريته، محدش ليه دعوة.

احتدت نظراته نحوها، فعمدت إلى امتصاص ضيقه منها بتدللها عليه، لفت ذراعيها حول عنقه، وابتسمت له ممازحة:
-وبعدين كان نفسي فيه، خوفت يعني لابننا يطلعله وَحَمة في وشه ولا فخده
رد بصرامةٍ:
-إن شالله يطلعله جزرة في قورته، مش هتاكليه تاني!
أزاحت يديها عنه لتعاتبه بعبوسٍ:
-إنت صعب التفاهم معاك
قال موضحًا وبقسماتٍ جادة:
-في الغلط مابرحمش.

أدركت أنه لن يتغاضى عن إهمالها فاعتذرت على مضض:
-طيب خلاص، أنا أسفة مش هايحصل تاني
كانت نظراته القاسية تلومها رغم سكوته، أدارت جسدها لتبتعد عنه لكنها أحست بدوارٍ عنيف يعصف برأسها، ترنحت واستندت عفويًا على ذراعه، سألها "أوس" بقلقٍ:
-في إيه مالك؟

أجابته وهي تجاهد للحفاظ على اتزانها:
-مش عارفة كده حاسة إني...
عجزت عن إتمام باقي جملتها بسبب الظلام الذي غلف عقلها فجعل الكلمات تتجمد على طرف لسانها، تلقف جسدها ذراعيه، وأحست بقربه الشديد، ورغم صوته المتلهف المذعور المُنادي باسمها إلا أنها استسلمت للدوامة التي تجذب وعيها بقوة، فلم تدرِ ما الذي حدث لها بعد ذلك ...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة