قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم الفصل الخامس عشر

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم الفصل الخامس عشر

( الجزء الخامس من ذئاب لا تعرف الحب )

تلاحق بؤبؤاها بشكل متوتر وهي تحدق في سقف غرفة الكشف مترقبة دخول الطبيب لفحص ندوبها، خطوة هامة هي ستقدم عليها من أجل اكتمال شفائها الداخلي والخارجي، رفعت "هالة" رأسها للأعلى قليلاً لتنظر لصاحب الصوت الذكوري الذي ولج للغرفة مُرحبًا بها، كان الطبيب يبتسم لها ومن خلفه تحرك "يامن" ليصبح على مقربة من فراشها الطبي، انزعجت من حضوره المتطفل..

لم تحبذ أن يرى تشوهاتها، ومع هذا لم تنطق بكلمة تشير إلى اعتراضها، فليس من اللباقة أن تعامله بأسلوبٍ فظ بعد ذوقه الشديد معها مؤخرًا. عادت لتحملق في السقف من جديد وهي تسحب شهيقًا عميقًا لتثبط به توترها المتزايد، استطرد الطبيب قائلاً بهدوئه المكتسب من خبرته في التعامل مع مرضاه:
-اطمني يا آنسة، شكلك هيرجع زي الأول.

هزت رأسها بتفهمٍ وهي تزدري ريقها، في حين أكمل موضحًا وهو ينزع كمها ليتفحص تشوهات ذراعها:
-كل ده هيتعالج بأحدث التقنيات الطبية.
كان جسدها متصلبًا من تلك التجربة المؤلمة نفسيًا بالنسبة لها خاصة في حضور "يامن"، انتفضت قليلاً مع ضغط الطبيب على مواضع معينة في جلد ذراعها لتنعش ذاكرتها بوحشية المقيت "منسي" معها، لم يكن ذنبها سوى أنه مارست حقها في رفض عرضه للزواج، لكنه استكبر ذلك وحرمها من التنعم بحياة هانئة مستقرة ليترك لها ذكرى محفورة في عقلها لن تندمل بسهولة، ضغطت على شفتيها بقوةٍ لتمنع أنينها من الخروج..

أدارت رأسها للجانب لتجد وجهًا مشرقًا يبعث على الاطمئنان يرمقها بسعادة وبابتسامة لها معنى خاص، حدقت فيه وتناست معه أوجاعها مؤقتًا، توردت بشرتها حرجًا من طريقة تطلعه إليها، وتضاعفت حمرتها حينما أحنى "يامن" رأسه عليها ليهمس لها:
-متخافيش أنا جمبك.

تناست "هالة" مع شرودها في تأمل عينيه آلامها الحاضرة، وكأن في نظراته مسكنًا للأوجاع، وتدريجيًا تلاشت ذكرياتها المزعجة لتحتل صورته مخيلتها وكأنها تعيش في حلم يقظة وردي لا ترغب في الاستيقاظ منه أبدًا، اخترق صوته الناعم أذنيها لينتشلها من تحديقها الأبله به وهو يطمئنها بعذوبةٍ:
-اهدي وماتتوتريش، كله تمام لحد دلوقت.

ابتسمت له عفويًا مستشعرة خفقان قلبها القوي والذي كان يدق بعنف مثلما يُقرع على الطبول أثناء المعركة حتى ظنت أنه سيسمعه، لم تشعر بالطبيب الذي أنهى فحصه وأدلى برأيه المهني في حالتها، التفتت نحوه تطالعه بنظرات حائرة، وتولى "يامن" مهمة الاتفاق معه على تفاصيل عملياتها. أنزلت "هالة" قدميها عن الفراش لتستعد للنهوض، التفت نحوها "يامن" قائلاً بتفاؤلٍ:
-الدكتور طمني على وضعك، هيظبط بس مواعيد العمليات بتاعتك مع مواعيده التانية وهيبلغنا.

اكتفت بالإيماء الصامت برأسها ونظراتها تعكس امتنانًا عظيمًا لمجهوده معها، سألها مهتمًا من جديد:
-في حاجة حابة تعرفيها منه؟ أنا ممكن أناديله و..
قاطعته نافية وقد استقامت واقفة:
-لأ شكرًا.
أشار لها بيده متابعًا:
-تمام، نقدر نمشي، اتفضلي!
أخفضت نظراتها عن عينيه المراقبتين لها، وأسرعت في خطاها لتخرج من الغرفة وهي بالكاد تحاول كبح مشاعرها التي نبضت بالحياة وتقاتل للظهور علنًا.

لم ينتظر قدوم الطبيب ليطمئنه على وضعها الصحي، بل ألبسها عباءة خارجية على ثيابها ولف شعرها بحجابٍ بسيط لينطلق هابطًا على الدرج وحاملاً إياها دون أن يأبه بتبديل ثيابه متجهًا نحو سيارته التي صفها فرد الحراسة أمام باب الفيلا، أجلسها بحذرٍ تام على المقعد الأمامي وأحكم ربط حزام الأمان عليها، ثم التف حول مقدمة السيارة ليتخذ مقعده بها، ضغط "أوس" على البوق بشكل متعاقب ليجبر أفراد الحراسة المرابطين أمام البوابة الرئيسية على فتحها..

انطلق بالسيارة في اتجاه مشفاه الخاص، وما إن وصل إلى هناك حتى تسابق الأطباء والممرضين في نقلها على الحامل الطبي ليذهبوا بها لغرفة الطوارئ. بقي بالخارج يذرع الرواق جيئة وذهابًا منتظرًا خروج أحدهم لطمأنته، احترقت أعصابه من كثرة التفكير والخوف، ليس على زوجته فقط وإنما على جنينه الذي ينمو في أحشائها. ظلت أنظاره بالكامل مركزة على الباب وما إن فُتح حتى هرول ركضًا نحو الطبيب "مؤنس" يسأله بأنفاسٍ متهدجة:
-"تقى" عاملة إيه دلوقت؟ فاقت ولا في حاجة خطيرة؟ وابني ...

قاطعه الأخير بتمهلٍ ووجهه يعكس بسمة هادئة:
-متخافيش يا باشا، الهانم بخير
سأله بحدةٍ وقد اصطبغت بشرته بحمرة منفعلة:
-أومال اللي حصلها ده من إيه؟
أجابه موضحًا وهو يسحبه معه بعيدًا عن الرواق:
-ضغطها كان مرتفع، وأكيد حضرتك عارف السبب، أكلت مخلل كتير وده مش كويس عشانها
لم يجد ما يعقب به على جملته الأخيرة سوى التوبيخ بحنقٍ:
-غلبت أفهمها إن ده غلط، وهي مبتسألش وبتعمل اللي دماغها.

أراد "مؤنس" أن يمتص غصبته الوشيكة فمازحه بحذرٍ:
-إنت عارف الحوامل يا باشا في الفترة دي، أي حاجة نفسهم فيها بياكلوها، وغصب عنك مش هاتقدر تسيطر عليهم.
وكأن الأخير لم يصغِ لكلمة واحدة مما قاله، كان تفكيره منصبًا على حالتها وضيقه من تصرفها الأرعن. أجبره "مؤنس" على السير معه نحو المصعد متابعًا حديثه:
-اتفضل يا باشا معايا، الهانم هتحصلنا على فوق.

تبعه في صمتٍ مشحون بانزعاجه الشديد من تبعات تصرفها الخاطئ، لم يرغب أن تراه "تقى" في تلك الحالة وإلا لزاد الطين بلة بتوبيخها بقسوة لأنها خالفت تعليمات الأطباء وانساقت وراء رغبات معدتها. بعد برهةٍ، كانت هي ممددة على الفراش تبكي بندمٍ، اعتقدت أن "أوس" تركها بالمشفى وغادر بعد أن أوصلها إليه، فإلى الآن لم يأتِ لرؤيتها أو حتى الاطمئنان عليها، فقد اعتادت على رؤيته بجوارها فور أن تفتح عينيها..

ترسخ ذلك الوهم في رأسها، وانهارت تبكي بحرقة من جديد. ظنت الطبيبة المرافقة لها أنها تبكي لتعبها، فدومًا الحوامل يتأثرن سريعًا بالأمور الانفعالية نتيجة تأثير الهرمونات عليهن، لذا هدأتها بلطفٍ وهي تقول لها:
-اطمني يا مدام "تقى"، حالتك مستقرة، والضغط هيتظبط مع البرشام بتاعه، ومتقلقيش منه ده بتاع الحوامل، بس أهم حاجة تلتزمي بمواعيد الدواء.
مسحت "تقى" عبراتها بأطراف أناملها وهي تسألها بصوتها المنتحب:
-وابني؟

ابتسمت وهي تجيبها:
-بخير الحمدلله.
ثم مالت نحوها لتحذرها بجدية ولكن بصوت خفيض:
-بس يا ريت موضوع الحوادق ده مايتكررش تاني، كتره مش حلو لا عليكي وعلى الجنين!
أومأت برأسها في تفهم:
-حاضر، مش هاعمل كده تاني.
-وبعدين الباشا هيموت من القلق عليكم، بجد لو شوفتي شكله دلوقتي هتتخضي
وكأن الحياة قد عادت لتبتسم لها من جديد بمجرد معرفتها بوجوده، تساءلت على الفور بتلهفٍ:
-هو لسه موجود؟

أجابتها الطبيبة مؤكدة:
-أيوه .. واقف برا مع الدكتور "مؤنس"
تلاشت أحزانها وكفكفت عبراتها ساحبة نفسًا عميقًا تثلج به صدرها، أحست "تقى" بالارتياح وأشرقت نظراتها مرة أخرى، فمهما عاندت وارتكبت من أخطاء لا يتخلى عنها أبدًا، بل يؤكد لها دومًا أنها وطنه الوحيد، أمانها ببقائها فيه. لحظات ودق قلبها بحماسٍ حينما رأته يلج للغرفة، استأذنت الطبيبة بالانصراف لتمنحهما قدرًا من الخصوصية، وقبل أن ينطق بشيء بادرت معتذرة:
-أنا أسفة، مش هاعمل كده تاني، سامحني يا حبيبي، كنت غبية.

رد عليها متسائلاً بنبرة غامضة:
-في حاجة تانية حابة تقوليها؟
ظنت أنه مستمتع بتعنيفها لنفسها فأكملت بوجه اكتسى بتعبيرات عابسة:
-ومش بأفهم، وهبلة و..
انزعجت من إهانتها لنفسها بذلك الشكل المحرج فقاطعها بلهجة صارمة دون أن تتبدل تعابيره للارتخاء:
-خلاص يا "تقى"، مالوش لازمة الكلام البايخ ده
سألته بضيقٍ:
-إنت زعلان مني؟
رد متسائلاً بنفس التجهم:
-تفتكري إيه؟

نكست رأسها في خزيٍ مدركة فداحة ما فعلته، بدا صوتها مستاءً منكسرًا وهي تتعهد له:
-مش هايتكرر تاني!
قال لها في لهجة أشد بأسًا:
-وأنا مش هستناه يحصل، والمرادي أظنها كانت إنذار كويس ليكي.
لم تتجرأ على التطلع إليه حينما نطقت:
-ايوه
أضاف "أوس" قائلاً:
-إنتي هتفضلي هنا لبكرة
رفعت رأسها لتنظر إليه في صدمةٍ قبل أن تسأله باندهاشٍ لم تخفه:
-إيه ده؟ أنا هبات هنا لوحدي؟

أوضح لها بنبرة جافة لم تظهر تعاطفه معها:
-دي رغبة الدكتور عشان يطمن أكتر، وأهوو يكون درس ليكي تفكري قبل ما تاكلي حاجة تضرك
ردت بأسفٍ:
-معاك حق.
تابع محذرًا بشدة:
-إنتي جواكي روح بتتكون، حافظي عليها.
أدمعت عيناها من كلماته تلك، ولكن ما لبث أن حل الخوف على قسماتها حينما أبصرته يتجه نحو باب الغرفة، سألته بقلبٍ يقفز بين ضلوعها قلقًا:
-إنت رايح فين؟ هتسيبني وتمشي؟

التفت نحوها برأسه بعد أن وضع يده على قفل الباب قائلاً لها بنصف ابتسامة:
-أكيد.. لأ
نظرت له في عدم فهمٍ فأكمل بصوته الرخيم:
-أنا باقفل الباب بس عشان ترتاحي.

ارتسمت علامات البلاهة على تعبيراتها، حملقت فيه بنظرات جمعت بين الحيرة والغرابة، فمن أين له أن يكون غاضبًا وفي نفس الوقت يعاملها بحنوه الذي يحسده عليه الجميع؟ جلس "أوس" إلى جوارها على الفراش وحاوط كتفيها بذراعه، نظر مباشرة في عينيها قائلاً لها بنبرة عميقة:
-وقت العتاب خلص، جسمك محتاج يرتاح، وبلاش انفعال!

دون ترددٍ طوقت عنقه بذراعيها وتعلقت به، ضمها إليه ومسح برفقٍ على ظهرها، همست له بمحبةٍ صريحة:
-بأحبك أوي، ماتبعدش عني يا حبيبي!
اعتلى ثغرة ابتسامة ناعمة، أخرج تنهيدة بطيئة من صدره وهو يعدُها مُؤكدًا:
-وأنا عمري ما هاسيبك!

كانت تعض على شفتها السفلى كثيرًا بسبب ترددها في تبادل الحديث الودي معه رغم كل ذلك الضجيج الذي يضرب برأسها لإقناعها بفعل هذا، اضطرت أن تستسلم لما يمليه القلب وتتحدث معه، خرج صوتها متوترًا يعكس خجلها الممتزج بارتباكها حينما همست له:
-تعبتك معايا.

أخفض "يامن" صوت مشغل الأسطوانات بعد أن يأس تقريبًا من احتمالية تجاوبها معه، لم يصدق أذنيه وهو بالكاد يسمع همسها، التفت برأسه نحوها ووجهه يعلوه ابتسامة سعيدة، علق عليها بحماسٍ:
-هو أنا عملت حاجة أصلاً؟

تنحنحت متسائلة في ارتباكٍ وهي تفرك أصابع كفيها معًا لتخفف من خجلها الشديد الذي اعتراها بشكلٍ مكثف:
-بس كده "أوس" باشا يضايق عشان عطلتك عن الشغل.
رد عليها دون تفكيرٍ وكأنه يمهد لها الطريق لتبوح بما لا تريد الإفصاح عنه:
-ما هو أنا مش ورايا إلا إنتي وبس!

قطع حديثهما رنين هاتفه، اعتذر منها ليجيب على المكالمة الواردة إليه، راقبت تعبيراته وكلماته الغاضبة خلسة من طرف عينها. كان "يامن" وسيمًا بشكلٍ ما، اعترفت "هالة" لنفسها بذلك، به كل المقومات ليكون فتى أحلام الكثيرات، ومع هذا فضلها عليهن وبذل الكثير من الجهد ليتقرب منها، استمرت في تحديقها به دون أن تعي أنه أمسك بها تطالعه بنظراتٍ دقيقة مهتمة، أخفضت عيناها في حرجٍ كبير، وضغطت على أناملها حتى تقلصت مفاصلها، تنحنح قائلاً بوجهٍ جاد التعبيرات:
-"هالة" في حاجة حصلت ولازم تعرفيها!

انقبض قلبها بتوجسٍ من طريقته تلك، عادت لتنظر إليه متسائلة:
-خير، في إيه؟
أجابها بنفس الجدية:
-"منسي"!
تقلص وجهها بخوفٍ من تلفظه لاسمه، ولاحظ هو تبدل تعبيراتها، لم يترك لعقلها الفرصة ليضع التكهنات فأوضح لها:
-مات في خناقة في السجن.

حلت الصدمة عليها للحظات مستوعبة ما أبلغها به، ارتخت تعبيراتها المشدودة رويدًا رويدًا وهي ترد بألم ملموسٍ في نبرتها:
-ربنا انتقم منه ورحم ناس كتير من شره، كفاية أوي اللي أذاهم في حياته ودمر مستقبلهم!
أدرك "يامن" أنها تقصد نفسها بذلك الحديث، حاول أن يغير مجرى الحديق فسألها مبتسمًا:
-احنا رايحين على الفيلا، ناقصك حاجة أجيبهالك؟
ردت متسائلة:
-هو أنا مش هارجع الحارة؟
أجابها بهدوءٍ:
-معنديش فكرة، كل اللي عرفته من ابن عمي إنه قالي بعد ما نخلص ترجعي على هنا.
ابتلعت ريقها وهي ترد:
-ماشي.

ظلت "هالة" طوال المسافة المتبقية من الطريق تنظر أمامها رغم إحساسها بنظراته التي تتأملها، لم تنكر أن قلبها كان يرقص طربًا بشكل مثير ومتحمس، كذلك أحست بالارتياح الشديد لتلقيها خبر موت جلادها الشرير، حتمًا ستنتهي كوابيسها، شعرت أن مفهومها للحياة الكئيبة قد تضاءل وبات هناك معنًا آخرًا لها مليئًا بالأمل والتفاؤل، أعاد "يامن" تشغيل مشغل الأسطوانات ببعض الألحان الرومانسية، تعمد أن يفعل ذلك ليحفز مشاعرها التي تخفيها، فعسى أن تتخلى عن جمودها وتمنحه تلك السعادة التي ينتظرها، تورد وجهها بحمرته الخجلة، وانتابها إحساسًا غريبًا بأن تلك الأغاني تنطق بما لا تستطيع الاعتراف به. احتفظا كلاهما بحالة الصمت المترقبة إلى أن وصلا إلى أعتاب الفيلا.

ترجلت "هالة" من السيارة دون انتظار فتح البوابة الرئيسية، لكنها تراجعت على الفور صارخة في فزعٍ حينما لمحت كلابًا تنبح بقوة أرعبتها، كانت على وشك الركض للهروب من أنيابها التي تبرز بشراسةٍ لكن أوقفها "يامن" بالإمساك بها من ذراعها، مال عليها يحذرها:
-دول كلاب حراسة، ماتجريش عشان مايعضوكيش!
ردت عليه بارتعادٍ:
-أنا مرعوبة منهم، دول.. ممكن يقطعوا الحبل ويهاجمونا
مط فمه مبتسمًا قبل أن يجاريها في خوفها:
-احتمال!

أرخى قبضته عنها فتراجعت بخطواتها تلقائيًا لتقف خلفه ونظراتها المرتاعة مسلطة على الكلاب، ظن "يامن" أنها فرصة مناسبة للظهور بمظهر الشاب الشجاع القادر على قهر الوحوش الضارية، وأتته الفرصة على طبقٍ من ذهب، غمز بطرف عينه للحارس محركًا شفتيه وكأنه يُملي عليه شيء ما كي يرخي رباط أحدهم فتهاب الموقف أكثر، ففعل الحارس ذلك دون أن يفلته كليًا، شهقت "هالة" صارخة وقد اعتقدت أنه سيهاجمها، واختبأت تحتمي بجسده وقبضتها متشبثة بذراعه، سعادة غامرة تملكته لنجاح خطته البسيطة، ادعى الجدية واستدار برأسه نحوها ليتأملها عن كثبٍ، وكأن جمال الدنيا وسحرها تركز في عينيها اللامعتين، سيطر على العاصفة الهوجاء التي ضربت عواطفه قائلاً لها:
-متخافيش، أنا معاكي، خليكي بس هادية وامشي ورايا.

لم تجادله بالطبع، أومأت برأسها في انصياعٍ تامٍ له، كان جسده كالدرع الواقي يُشكل الحماية المثلى بالنسبة لها، واتخذ كفها موضعه في راحته لتتلاحم الأيدي معًا، سار سويًا بتمهلٍ حذرٍ إلى أن تخطى كلاهما البوابة الأمامية. رفض "يامن" ترك يدها حينما لاحظ أنه تحاول سحبها متعللاً:
-جايز تجري ورانا!

تخلت عن فكرتها تلك رغم عدم اقتناعها به، بدا وكأنه يتخلق الأعذار ليظل بقربها، فتركت لقلبها فرصة التمتع بتلك اللحظات الجميلة، كانت كمن يحلق في السماء وطيور الحب تغرد من حوله، نظر لها "يامن" بعينين هائمتين، فتلك هي المرة الأولى التي يراها هكذا، أحس بوجود معنًا خاصًا للحياة بقربها، ل "هالة" هالةٌ من الجمال تفوق مثيلاتها من الفتيات، استمتع معها بسيرهما الهادئ حتى وصلا إلى باب الفيلا، ابتسمت له تشكره وهي تنظر له في خجلٍ:
-مش عارفة أقولك إيه، أنا شغلتك وعطلتك طول اليوم.

كان لا يزال محتفظًا بابتسامته الودودة وهو يرد:
-متقوليش كده!
تمنى لو طال به الوقت ليقضي معها كل ثانية، لكن لحظه التعس هو مجبرٌ على الرحيل. أسبلت "هالة" نظراتها نحوه، فأخرج "يامن" تنهيدة محبطة وهو يوصيها:
-خدي بالك من نفسك!
ردت بنعومةٍ رقيقة:
-حاضر.

رمقها بنظرة أخيرة مليئة بالكثير من المشاعر التي تود أن تفيض بشغفها، فهمت نظراته الواضحة وأحست بلهيب الحب يزداد اشتعالاً في قلبها، لوحت له بيدها تودعه قبل أن تستدير وتقرع جرس الباب. أراد "يامن" أن يمنحها هدية وداع بسيطة، جال بخاطره أن يقطف إحدى الوردات البيضاء التي تزين مدخل الفيلا ويعطيها لها، وبسرعة البرق اقتطفها مناديًا باسمها:
-"هالة"
استدارت لتواجهه بتلهفٍ وكأنها تنتظر على أحر من الجمر ذلك النداء منه:
-أيوه
مد يده بالوردة نحوها قائلاً لها:
-اتفضلي.
اتسعت ابتسامتها الرقيقة، نظرت له في إعجاب مصدوم مرددة:
-وردة؟

ولكي يضمن احتفاظها بها مازحها بهمسٍ وهو يدعي التلفت حوله:
-خديها وخبيها بسرعة قبل ما "أوس" يشوفني ويعلقني، ده أنا أخدها من بؤ الأسد!
كتمت ضحكة كادت تجلجل في الأجواء وامتزجت مع إشراقة نظراتها الخجلة، وقبل أن ترحل عن أنظاره المتيمة به، هتف بنزقٍ:
-بأحبك!

دق قلبها بعنفٍ من تلك الكلمة البسيطة التي عنت الكثير، ذابت عشقًا وأوشكت على الانهيار، تابع يرجوها على أمل أن تبوح بمكنونات الفؤاد:
-ونفسي أسمعها منك
كانت متخبطة، متوترة، في حالة لا تحسد عليها، لكنها متأكدة من صدق مشاعره نحوها، يأس من ردها عليه فأولاها ظهره وهمَّ بالسير. وقفت "هالة" عند أعتاب الباب مستجمعة شجاعتها لتقول له بجراءةٍ:
-وأنا كمان
استوقفته كلماتها فأحس بتلك الخفقة القوية تضرب صدره، استدار عائدًا إليها يسألها:
-بتقولي إيه؟

التهبت بشرتها وتشعبت بحمرةٍ لا تعرف من أين تتدفق لتتلعثم وتتجنب النظر إليه. هلل "يامن" بحماسٍ:
-أخيرًا أبو الهول نطق!
حذرته بارتباكٍ:
-ششش.. هيسمعك!
سأله وقد انعقد ما بين حاجبيه:
-مين ده؟
ابتسمت برقة قبل أن ترد:
-الباشا!
غمز لها بطرف عينه وهو يداعبها بكلماته:
-هو أنا تاعبني معاه إلا هو!
وكأن حاجز خوفها قد انهار كليًا فتابعت:
-"يامن" .. شكرًا على كل حاجة.

لم يصدق أذنيه، إنها المرة الأولى التي تناديه فيها على الإطلاق باسمه مجردًا، وقبل أن يحاصرها بأسئلته المشتاقة لسماع المزيد منها فتحت الخادمة الباب فأسرعت "هالة" بالهروب من أمام أنظاره، اختفت بالداخل لكنه بقي كالصنم متجمدًا في مكانه ومُعيدًا تلك اللحظة العظيمة في عقله لعشرات المرات، لقد تجاوبت معه أخيرًا، تغلغلت في أعماقه حماسة رهيبة نتيجة للتطور العظيم في علاقتهما معًا، وآمِل أن تتوطد أكثر مع مرور الأيام.

استوعبت بالكاد أنه ينتظرها في بهو الفندق، فالذئب خرج من وكره ليواجهها على أرض معركتها، وربما سيعلن استسلامه بعد حروبهما الشرسة، فلو حدث مثلما تتخيل لتغيرت مخططاتها بالكامل، شعرت بالانتشاء لمجرد التفكير في ذلك، تأنقت وارتدت أغلى ثيابها الكاشفة عن مفاتنها الأنثوية، أرادت أن تبدو مثيرة وقوية في نفس الآن، اختارت اللون الأحمر الناري لثوبها العاري الذي يغطي قدرًا محدودًا من جسدها، تركت كتفيها بلا وشاحٍ، ورفعت شعرها في عقدة مربوطة بإحكامٍ، أفرطت في استخدام عطرها ومساحيق التجميل، حتى إن تركته ظل أثرها عالقًا بثيابه، وبالتالي تُفسد ليلته مع زوجته البائسة حينما تَشتمُ رائحتها لتدرك أنها خصمٌ لا يُستهان به، وهو مثلها بل يكاد يفوقها قوة وهيبة، ومجيئه إليها خطوة تُحسب في صالحها.

سارت "رغد" بخيلاءٍ على الأرضية الرخامية اللامعة إلى أن وصلت للاستقبال، سألت عنه فأرشده أحدهم إلى مكانه، تعمدت التغنج والتمايل في خطواتها فقد تعودت على أن تدير أعناق الرجال نحوها، باتت في مواجهته ونظرت له بترفعٍ، وقف "أوس" في تهذيبٍ مُهيب لاستقبالها أثار دهشتها، مد يده لمصافحتها في تصرفٍ غير متوقع منه، تعجبت من لباقته معها، تصرفه معها كان على النقيض من طبيعته، ابتسمت في سخرية ولم تخفِ تهكمها من فعلته، وما إن وضعت يدها في راحته حتى أطبق عليها بأصابعه القوية وجذبها منه إليه..

شهقت مباغتة انفلت من بين شفتيها تأثرًا بحركته المليئة بالقوة والخشونة، تلك القوة الذكورية المثيرة التي تستفزها وتجعلها ترغب باستماتة في التمتع بها لوحدها. نظر "أوس" مباشرة في عينيها وهو يرفع كفها إلى فمه، أراد سبر أغوار عقلها، والسيطرة عليها بأسلوبه المتملك، طبع قبلة مطولة على أناملها ونظراتها المصدومة مثبتة على حدقتيه العميقتين. توترت واندفع الأدرينالين يغزو دمائها المتدفقة في شرايينها، أرخى أصابعه عنها لتتحرر من حصاره المهلك لأعصابها. تغاضت عن تلك اللفتة المهذبة منه لتجلس واضعة ساقها فوق الأخرى ترمقه بنظراتِ استعلاءٍ، لن تبدو صيدًا رخيصًا سهل المنال، استطردت حديثها قائلة بعنجهية ومع ذلك لم تخفِ إعجابها به:
-بصراحة ماصدقتش لما بلغوني إنك طالب تقابلني، خطوة جريئة منك!

كانت كامل نظراتها مسلطة على قسماته تدرس أدنى تغيير فيها، فحضوره في ذلك التوقيت الحرج مُريب، وتصرفاته مثيرة للشكوك، اتخذت حذرها معه وراقبته باهتمامٍ مضاعف، وعلى عكسها كان "أوس" مسيطرًا على زمام الأمور، بدا وجهه غير مقروءٍ بالنسبة لها ليثير فضولها، تحركت شفتاه لتنطق باقتضابٍ موحي:
-فعلاً، بس تستاهل!

أثارت كلمته الأخيرة -والمصحوبة بنظرة غامضة- حفيظتها، كان يعبث معها بالألفاظ، وهي تحبذ تلك النوعية من الألعاب اللئيمة، أنزلت ساقها لتنحني نحوه مقلصة المسافات بينهما، تعمدت أن يبدو جسدها في مرمى أنظاره، كانت كمن يغريه لتوقعه في شباكها الماكرة، فسلاحها الفتاك يكمن فيما تملكه من مقومات تطير عقول الرجال وتسيل لعابهم بشراهة، وهو مثلهم، مهما قاوم رغباته الذكورية سينهار أمام سحرها المغري..

هكذا كان تفكيرها بشأنه، فَطِن على الفور لتصرفاتها الرخيصة في استثارة مشاعره وتحفيز حواسه، ومن غيره قادرٌ على تفسير إيماءاتها المستهلكة ببساطة؟ وعلى عكس ما كانت تتوقعه تفاجأت به يُجاريها فيما تفعل، مال نحوها هو الآخر ليقول لها بهدوءٍ وبأنفاسٍ بطيئة لامست بشرة عنقها وأصابت جسدها بالقشعريرة:
-وإنتي غير أي واحدة!

أحست بتصدعٍ يصيب حصونها الأنثوية بل ويدُكها، فهو الحب المستحيل بالنسبة لها! تماسكت قدر المستطاع لتسأله بجديةٍ مقاومة ما يعتريها من اضطراب في خلايا جسدها:
-قصدك إيه؟
أجابها بابتسامةٍ خطيرة:
-هدنة!
انزوى ما بين حاجبيها وانعقدا بشدة وهي تردد:
-هدنة؟!

تراجع بجسده للخلف ليجلس باسترخاءٍ على الأريكة، رفع رأسه في كبرياء موضحًا لها:
-بسبب المشاكل اللي بينا، أنا شغلي اتأثر وابتديت أخسر كتير من العملاء، واحنا مهما كان قرايب.. وجايز نبقى أكتر من كده!
حملت كلماته تلك غموضًا مُحيرًا، ومع هذا أرادت أن تشعره بانتصارها عليه، لذا ردت بغطرسةٍ:
-قولتلك من الأول، أنا مش أي حد!
وافقها الرأي قائلاً بابتسامة ذات مغزى وهو يومئ لها بحاجبه مبديًا إعجابه:
-مظبوط.

لاحظت "رغد" للمرة الثانية نظراته نحوها وهي تنخفض بتمهلٍ متعمد على تفاصيلها الأنثوية وكأنه يتفحصها ويعلن صراحةً عن رغبته فيها، لم تتحرج من جراءته، بل بدت أكثر إحساسًا بالانتشاءِ والغرور.. والرغبة، فجسدها كان تواقًا إليه، ازدادت ثقة في سلاحها الأنثوي المميت مؤكدة لنفسها أنها نجحت أخيرًا في استمالته للتفكير فيها حتى ولو بعد مشقةٍ ومعارك طاحنة خسرت فيها الكثير، نجحت أخيرًا في تشتيت ذهنه فحاد عن التمسك بقيم الإخلاص في الحب ضد منافستها الوضيعة، واحتلت هي بأنوثتها الطاغية خيالاته، اضطرت أن تضبط هدوئها ببذل المزيد من الجهد حتى لا يظهر تأثير نظراته عليها، احتفظت بوجهها الواثق وهي تسأله في فضولٍ وعيناها تتطلعان إليه:
-وإنت جاي ليه؟
أجابها بكلمة واحدة عصفت بكيانها:
-عاوزك...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة