قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم الفصل السادس عشر والأخير

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم الفصل السادس عشر والأخير

( الجزء الخامس من ذئاب لا تعرف الحب )

نطق بكلمة واحدة عنت العديد من المعاني زلزلت إحساسها كأنثى، ناهيك عن إرباكه لكافة حساباتها إن لم يكن قد أفسدها، بثباتِ صيادٍ محترف يجيد الإيقاع بفريسته جلس "أوس" بثقةٍ وغرور يراقب تعبيرات غريمته التي تحولت للاندهاش المصدوم. تمالكت "رغد" نفسها وبصعوبة واضحة عليها سيطرت على الاهتزازة البائنة في نبرتها وهي تسأله:
-مش فهماك؟ تقصد إيه؟

لم يجبها عن عمدٍ ليزيد من احتراق أعصابها التواقة لسماع إجابته التي ترضي غرورها الأنثوي، رفع يده في الهواء ليفرقع بأصابعه مناديًا ذاك الشخص الواقف خلفه على مسافة معقولة، اقترب منه مكنس الرأس ليسأله بتهذيبٍ وامتثال:
-أوامر معاليك؟
رد عليه بوجهٍ جليدي زاد من هيبته وشموخه:
-فورًا مدير الفندق ده يكون عندي
تضاعف الفضول بداخلها من حديث الغامض، نظرت له في حيرة قبل أن تسأله بتهكمٍ ساخر:
-وده كمان عاوزه؟
تلك المرة أراحها قائلاً باستمتاع:
-هتعرفي دلوقت!

لن تنكر أن الفضول كاد يقتلها لتفهم طبيعة تصرفاته المريبة، انتابها إحساسًا غريبًا مشبعًا بالقلق، تابعت الحركة المتأهبة لطاقم العمل بالفندق وكأن هناك مسئولٍ هام على وشك الوصول. أدارت رأسها في اتجاه ذي الثياب الرسمية الذي أحنى رأسه أمام "أوس"، ضم طرفي سترته معًا كنوعٍ من إظهار الوقار له، تنحنح متسائلاً بجدية ودون ان يتجرأ على رفع عينيه في مواجهته:
-تحت أمرك يا باشا.

تركزت عينا "أوس" كليًا على وجه "رغد" ليتأمل بهدوءٍ ردة فعلها وهو يملي عليه أمره دون أن يمنحه حق التفاوض:
-الهانم تتنقل فورًا لل (Royal Suite)، عاوز خدمة سبع نجوم تليق بيها!
تدلى فكها السفلي في ذهولٍ أكبر، وقبل أن تستفيق من صدمتها كان يتابع مهددًا:
-وأي تقصير معاها مش هايكون كويس
رد مدير الفندق بخنوعٍ كامل:
-اعتبره حصل يا فندم، الهانم بس هنستأذنها توقع على ورق ال ...

ابتلع باقي عبارته في جوفه وفرائصه ترتعد من تلك النظرة المخيفة التي رمقه بها، خرج صوته مهزوزًا وهو يعتذر بشدة:
-أسف يا فندم، أنا بنفسي هاشرف على كل حاجة
واستأذن بعدها بالانصراف وهو يكاد لا يصدق أنه نجا من غضبة صاحب الهيبة والقوة. أبدت "رغد" إعجابها بقدرته على تسخير غيره لتلبية أوامره بذلك الشكل التسلطي، تغنجت بكتفيها مادحة إياه:
-"أوس" باشا "الجندي" بصحيح، مافيش حد غيرك يقدر يعمل كده!

اكتفى بالابتسام قليلاً من زاوية فمه، عادت "رغد" لتضع ساقها فوق الأخرى، وبدأت في هزها بحركة رقيقة ثابتة متسائلة باهتمامٍ:
-ليه بقى التغيير الفظيع ده؟ ده إنت مكونتش طايقني، وبلاش تفتكرني ساذجة عشان أصدق إنك عاوزني!
علق عليها بثقةٍ منقطعة النظير دون أن تتغير لمحة واحدة من تعابير وجهه المغترة:
-اللي عاوزه.. بأخده!

انتعشت من جملته الواثقة وأحست بدمائها الدافئة تندفع في كافة خلايا جسدها لتحفز مشاعرها نحوه، ادعت الثبات معاودة سؤاله:
-برضوه مردتش عليا، عاوزني في إيه؟
أومأ بحاجبه ليثير ويستفز تلك النزعة الأنثوية الشرسة بداخلها وهو يرد مصححًا:
-عاوزك ليا!
خفقة قوية أصابت قلبها وكادت أن تطيح ببقايا عقلها فتخرج عن طور عقلانيتها وتنساق بلا ندمٍ وراء دعوته المفتوحة لمنحها ما تريد، بدا تأثيره الطاغي ملحوظًا عليها، قاومته باستنكارٍ رافض:
-معدتش ينفع، الحرب بدأت بينا خلاص، وقربت تنتهي ..

هنا أنزلت ساقها لتميل نحوه بجسدها المغري مؤكدة:
-ولصالحي!
تحرك بغتة في اتجاهها لتقع في حصار عينيه اللاتين تفضحان رغباتها، أحست بأصابعه تلامس ذراعها فأصابتها رجفة خفيفة، عمق من نظراته نحوها هامسا بأنفاس أحرقت صمودها الأخير:
-مش فارق معايا، أنا مابخسرش أبدًا!
لم تستطع أن تفسر كلماته الغامضة، كان مُحيرًا، يشعرها بأنه ينصب لها فخًا وسيوقعها حتمًا فيه، وقبل أن تتراجع بجسدها للخلف قبض على ذراعها متابعًا حديثه بصوته الخفيض:
-أنا مخلصتش كلامي..

تلك القبضة التي اعتصرت رسغها ضاعفت من رغبتها في تذوق ألوان الحب معه، وحده فقط كان قادرًا على إشعال مشاعرها واستثارة عواطفها بشكل لا تتحمله فيجعلها تفعل المستحيل لتبقى أسيرته للأبد، لم تتجاوب مشاعرها الأنثوية بذلك الشكل السافر سوى معه، حتى زوجها وجد صعوبة في نيل رضائها، أدنى محاولة من "أوس" تقودها للجنون، تأويهة ماجنة كتمتها حينما لامست أصابعه عنقها لتضغط عليه بيدِ المحترف الخبير، أغمضت عينيها مقاومة سحره المُهلك على كيانها الذي بات في أضعف حالاته، شعرت بملمس شيء صلب يلتف حول عنقها، فتحت جفنيها لتنظر إلى العقد الماسي الذي يطوقها. كان براقًا، ثمينًا، مميزًا، وخاطفًا للأنفاس. بلعت "رغد" ريقها وهي تسأله:
-إيه ده؟

وضع سبابته على شفتيها ليمنعها من الكلام هامسًا لها:
-ششش!
كانت قاب قوسين أو أدنى من الانهيار التام، أقل ما يوصف أنها في حالة صدمة، تعيش بكامل جوارحها حاليًا واقعًا تمنت أن تعايش ولو جزءًا صغيرًا منه. هب "أوس" واقفًا ساحبًا إياها من يدها ليجبرها على النهوض، جذبها مرة واحدة إليه محاوطًا خصرها بذراعه، فشهقت وهي تستند بكفها الآخر على صدره القوي، كانت مستسلمة كليًا لما يفعله بها، رفَّت على شفتيه بسمة صغيرة خطيرة للغاية وهو يدعوها:
-أنا عازمك على العشا.

وقبل أن تتفوه بكلمة حذرها بخشونة طفيفة أحست بها أيضًا على جسدها:
-مش هاقبل بالرفض!
كانت مأسورة به، واقعة تحت سحره الآخاذ، يكاد من يتطلع إلى هيئتها يُجزم أنها عشيقته وليست عدوته اللدودة، شرع بالتحرك بها نحو المصعد، حافظ على جمال ابتسامته المثيرة قائلاً لها:
-مش هانروح بعيد، أنا مجهز كل حاجة هنا!

فقدت الكلمات أهميتها مع ما تعيشه الآن، اكتفت بالإيماء برأسها وهي تسير برفقته، استشعرت قوة أصابعه عليها فأحست بالانتشاء، كان ولا يزال هوسها الوحيد، هي تعشقه حد الجنون، لا يهم الآن أي شيء سوى أن تظل في أحضانه تستمتع بكل ما يخصه، كانت على استعداد تام لتقديم أي تنازلات لتحصل على فرصة للتودد إليه، وها هي قد ظفرت به بعد أن خسرت الجميع لأجله، فلن تضيع لحظتها تلك هباءً.

منعها من التودد إليه بجرأةٍ لتجاريه في عبثه المتهور وجود بعض الأشخاص بالمصعد، عبرت نظراتها عن شهوة مشتعلة، ودعم نظراتها بابتسامة الماهر في لعب اصطياد العابثات، لحظاتٍ وتوقف المصعد عند الطابق المتواجد به المطعم، وطأ بها إلى داخله حيث تم تجهيزه بالكامل ليستقبل الاثنان دون غيرهما، شدد "أوس" على أن تكون الأجواء بها قدرًا كبيرًا من الخصوصية والفخامة، كما حرص على أن يسلب لُبها بكل ما تراه فتبقى بلا عقلٍ لتفكر، انبهرت "رغد" بما رأته عيناها، حملقت بعينين ترمشان بغير تصديق في الطاولة التي احتلت الزاوية وتزينت بالشموع الحمراء التي وضع من أسفلها مفرشًا من اللون النبيذي المحبب لها، تحركت حدقتاها لتتأمل الكأسين اللامعين والموضوعين في عناية ثم نظرت إليه تسأله في إعجابٍ تام:
-عملت ده كله امتى؟

رد بعنجهيةٍ لا تليق إلا به:
-أنا "أوس الجندي"، مش أي حد!
انفلتت منها تأويهة مليئة بالرغبة وقد أدار جسدها بخشونةٍ ليصبح بين ذراعيه، نظر في بؤبؤيها قائلاً لها:
-تسمحيلي بالرقصة دي؟
ردت مبتسمة:
-وهو أنا أقدر أرفض؟!
صدحت موسيقى ناعمة في الأجواء دفعت كلاهما للتمايل في رقة تفاعلاً معها، ضغط "أوس" بقبضته على ظهرها ليلصقها أكثر به وهو يسألها مباشرة:
-بتحبيني صح؟
ردت دون مراوغة:
-تفتكر أنا عملت ده كله ليه؟ مش عشان تكون معايا؟

أجبر جسدها على التمايل مع الموسيقى التي اشتعلت أكثر، ثم رفع ذراعها للأعلى لتدور حول نفسها عدة مرات فرقصت باحترافية ومشاعرها تنطق عنها، عاد ليحاوطها بذراعيه مرددًا بكلماتٍ لم تعرف إن كانت تغزلاً بها أم اعترافًا بقدراتها الماكرة:
-محدش تاعبني زيك!
ردت في تفاخرٍ:
-طبعًا!
توقفت الموسيقى عن العزف ليرتخي أحد ذراعيه عنها دون أن يفلتها، مدحها بابتسامةٍ أهلكت الباقي من أعصابها:
-طول عمرك محترفة في الرقص، محدش يعرف يغلبك فيه، وده بيعجبني!

تعمد "أوس" ألا يمنحها الفرصة للرد فتابع مشيرًا بيده:
-تعالي..
تحركت بانسيابية مع خطواته التي كانت تقودها، حررها من حصار صدره القوي ليدفع المقعد للخلف قليلاً حتى تتمكن من الجلوس، ثم جلس في مواجهتها يطالعها بنظراتٍ شكت أنها حالمة، لم تره ينظر إليها بتلك الطريقة من قبل، بالفعل كان كل شيء مثاليًا. اقترب النادل ليتولى مهمة فتح زجاجة المشروب الفاخر الذي طلبه "أوس" مسبقًا، ثم قال في هدوءٍ:
-شمبانيا من أجود الأنواع، أو بمعنى أدق، ده النوع اللي بتحبيه!

التفتت لتنظر للزجاجة فتأكدت من صدق قوله، لقد اهتم جيدًا بالأنواع التي تستهوي تناولها، وكانت تلك بادرة أخرى ناجحة منه. أفرغ النادل المشروب في الكأسين، وتراجع للخلف ينتظر استدعائه من جديد بعد أن ينتهي الضيفان من الحديث الخصوصي. تذوقت "رغد" المشروب بشفتيها، أطبقت على جفنيها مستمتعة بمذاقه اللاذع الذي أجج من رغباتها المستثارة مسبقًا، تنهيدة بطيئة تسللت من ثغرها قبل أن تحدق به متسائلة:
-بتعمل ده كل ليه؟ واشمعنى دلوقتي؟
أجابها ببساطةٍ:
-لأني عاوزك!

ارتجفت أوصالها بقوة من صراحته التي تستهلك القدر الضئيل المتبقي من مقاومتها، تجرعت المزيد من المشروب دفعة واحدة لتبلل جوفها الذي جف من فرط انفعالها المتحمس، راقبها عن كثب دون أن يقرب كأسه، أصابعه فقط تدور في حلقة دائرية متكررة على حافته. فرقع "أوس" بإصبعيه فحضر النادل في الحال ليملأ كأسها من جديد. وضعت "رغد" مرفقها على الطاولة، تنفست بعمق وهي تنتصب بكتفيها لتسأله بنبرةٍ عكست حنقها ونظراتها المزعوجة مُسلطة عليه:
-و"تقى" مراتك؟

خفقة أشد عنفًا اعتصرت قلبها حينما وجدت قبضته تمسك بيدها وتضغط عليها بقوة طفيفة، تركزت أنظارها على أصابعه المتشبثة بها للحظات قبل أن ترفع وجهها وتنظر إليه، قال لها بنعومة مُغرية:
-دلوقتي أنا معاكي وبس!

عادت لتتجرع مشروبها المُسكر بشراهة جرعة تلو الأخرى، فما تشهده الآن يحتاج لثباتٍ انفعاليٍ يفوق ما تستطيع الظهور به أمام قوته. داعب "أوس" بإبهامه ظهر كفها فاقشعر كامل بدنها، كاد الكأس أن ينفلت من بين أصابعها ويسقط لكنه أمسك برسغها وحال دون حدوث ذلك، أسنده على الطاولة ثم نهض من مكانه ليقترب منها، ظلت عيناها واقعة تحت سطوة نظراته الغامضة، سحبها برفق لتنهض من مقعدها، لف ذراعه حول خصرها يحذرها:
-كفاية كده، إنتي شربتي كتير.

اعترضت عليه بعدم مبالاة:
-هيفرق معاك؟
لم يجبها بل انحنى ليحملها بين ذراعيه، شهقة عفوية خرجت من بين شفتيها من تصرفه غير المتوقع معها، تلمست وجهه بأناملٍ مرتعشة، أحست بخشونة ذقنه على يدها الناعمة، سألته بصوتٍ شبه متثاقلٍ:
-إنت بتعمل معايا كده؟

رد بغموض أربكها أكثر:
-مش ده اللي نفسك فيه؟
حملقت فيه بعينين تائهتين، لا تدري إن كانت نواياه حسنة أم لئيمة، فقد لعب الخمر في رأسها وساهم في زيادة ضلالاتها الحالمة، لكنها لم تكترث لذلك، فقد باتت فعليًا مستعدة للتضحية بكل ما تملك لتحظى به وحدها فقط.

شعرت برأسها تدور بقوة، أيعقل أن يفعل بها ذلك بضعة كؤوس من الخمر؟ أم أن للوقوع في بئر الحب المستحيل تأثير المخدر؟ هي عشقته بعقلها، وقلبها، وكيانها، وبكل جوارحها فبات هوسها بمرور الليالي والأيام. كانت أحضانه جنتها المفقودة، ونعيمها الأزلي، استندت "رغد" برأسها على كتفه وتعلقت بذراعيها بعنقه، زكمت أنفها برائحة عطره القوية فأرهقت أعصابها المستنزفة، همست له وقد بدت في حالة بين الوعي واللا وعي:
-ماحبتش راجل في حياتي غيرك! مايهمنيش إن خسرت الدنيا كلها عشان أكون معاك، إنت تستاهل واحدة زيي عارفة قيمتك كويس!

لم يشعر بالشفقة أو التعاطف نحوها، فقط مشاعر حانقة وكارهة لروحها الخائنة ونفسها البغيضة، تابعت همسها التائه:
-إنت مش متخيل أنا اتحالفت مع الشيطان وعملت إيه عشان أكون في حضنك، مافيش حد يرضيني غيرك!
سألها معاتبًا:
-وذنب "ليان" إيه؟
أجابته من بين ضلالاتها:
-كانت كارت محروق حبيت أضغط بيه عليك، جايز تجيب نتيجة معاك!
كظم غضبه رغمًا عنه لينتزع منها المزيد من الاعترافات وهي في حالتها تلك. زادت من الطين بلة بقول:
-حتى البتاعة اللي اتجوزتها متستاهلكش، إنت اتخلقت عشاني أنا وبس!

إهانتها لزوجته الغالية لم تكن مقبولة بالمرة، بل لا تغتفر، كان عليه أن يتحمل هراءاتها التي تجعله ينفجر حتى تكتمل خطته الموضوعة بإحكامٍ ويكون الدرس قاسيًا يليق بمثيلاتها. وصل بها إلى الجناح الملكي حيث أصبح مكان إقامتها الحالي، بلغ واقعها المحسوس مقياس الكمال في عقلها بتواجدها فيه مع من عشقته حتى النخاع، أنزلها "أوس" على قدميها دون أن يفلتها حينما ولج بها لغرفة النوم الملحقة به

كانت غير متزنة في خطواتها وشبه واعية، التفتت "رغد" لتنظر إليه في عدم تصديق، وبادلها نظراتٍ مطولة ظنت من خلالهم أنها دعوة متوارية لإظهار مشاعر أعمق، لم تتردد في المبادرة والقيام بالخطوة الجريئة، مالت بتؤدة نحوه قاصدة الاقتراب من شفتيه، أغمضت عينيها وكانت على وشك تقبيله لكن لامست شفتيها المتعطشتين لحبه العنيف راحة يده، فتحتهما لتنظر إليه في استغرابٍ حائر، كانت مصدومة قليلاً من تمنعه عنها وهي التي أصبحت مستعدة كليًا للتنازل وتسليم جسدها إليه. رمقها بنظرة اختلفت عما كانت تظنه، نظرة عكست كرهه ونفوره، نظرة بغيضة انتزع معها العقد الماسي من حول عنقها بقساوة جرحت جلدها وأوجعتها.

ظنت "رغد" أنه عاد لأسلوبه القديم في التعبير عن مشاعره الذكورية وفرض سطوته بعنفٍ وشراسة، شهقت ضاغطة على شفتيها لتمنع أنينها المستمتع من الانفلات من جوفها وهو يضع قبضتيه على كتفيها، أدار جسدها للجهة الأخرى وهو يأمرها بخشونة:
-شوفي نفسك!
لم تفقه في البداية مقصده، كانت مطبقة لجفنيها وتتمايل بانتشاء مع قساوة أصابعه، هزها بعنف صارخًا بها:
-فتحي عينيكي وبصي لنفسك كويس!

انصاعت لأمره وحملقت في انعكاس صورتها بالمرآة العريضة التي تواجهها، لم تتأمل انعكاسها سوى للحظاتٍ حيث تحركت أنظارها نحو "أوس" الواقف خلفها، أحست بالقوة الممزوجة بالجبروت المُهلك وهي ملتصقة به، ازدادت زهوًا وشموخًا في وقفتها، فشخصية مثله لا تصلح لتقف بجواره إلا امرأة مثلها، تحطمت أحلامها الوردية على صخرة الحياة الواقعية حينما انتشلها من أوهامها الخدَّاعة ليسألها بجفاءٍ:
-شايفة إيه غير واحدة رخيصة، مقرفة، قذرة، ماتملاش عيني للحظة، ولا عمرها تنول شرف إنها تبقى مراتي أبدًا؟!

أفاقت من تأثير الخمر وتأثير العشق على قسوة إهاناته، في حين تابع "أوس" باشمئزاز أراد أن تشعر فيه بالمعنى الحرفي لكل كلمة يتفوه بها:
-واللي زيك مكانهم الزبالة، ومحدش بيقرب منهم أو حتى يبصلهم، ولو بفرض ده حصل فبيكون عاوز يرمم!
دفعها بعيدًا عنه وكأنها سلعة مستهلكة دعستها الأقدام وباتت لا تصلح للاستخدام الآدمي، كانت عباراته كالخنجر المسموم فطعنتها في مقتل، حاولت أن تستجمع بقايا كبريائها الذي قضى عليه محفزة نفسها لتثور صارخةً في وجهه تهدده بوقاحةٍ:
-هدفعك تمن كدبك ده غالي!
رد بتهكمٍ:
-أنا لَعبتك بنفس أسلوبك القذر!

وقبل أن تصرخ قاطعها رافعًا سبابته في وجهها:
-إنتي اختارتي نهايتك، وأنا ساعدتك تكتبي الفصل الأخير في معركتك معايا!
تجهمت كامل تعبيراتها واشتعلت بحنقها الغاضب، لأول مرة تراه يبتسم على أشلاء أنوثتها التي أحرقها قبل أن يتابع مستمتعًا بلذة المنتصر:
-عاوزة تعرفي الكل باعك إزاي؟

سرد لها ببساطة كيف جمع خيوط مؤامرتها الدنيئة لتدميره، ولكن كانت المساعدة الحقيقية من زوجها "أكرم" الذي أعطاه فيديوهات مُسجلة لها أظهرت اتفاقاتها القذرة مع بعض الأشخاص الغامضين، وببحث مكثفٍ وعلاقات وطيدة مع مسئولين رفيعي المستوى توصل إلى أحدهم، العقل الماكر الذي يحرك كل شيء من أسفل الطاولة وبعيدًا عن أنظار الجميع؛ محامي والده المسمى "نصيف"، وبقليل من أسلوبه المعروف في التعامل مع تلك النوعية من الأزمات الحرجة استخلص منه المعلومات المطلوبة وبالبراهين، بالإضافة إلى اعترافات جادة انتزعها من زوجة أبيه "ناريمان" لتنجو من عقابه المدمر، ناهيك عن الرجل الذي أوقع به في المصيف واحتجزه في مستودعه.

كانت الخاتمة مع ذلك الشريط المسجل لأحد محال الثياب الشهيرة، والذي يقع على مسافة قريبة من الفندق، حيث التقطت إحدى عدسات الفيديو ما كانت تفعله مع أحد أتباعها لتبدو كضحية اعتدائه الحقير، لم يعلم أي أحد بوجود كاميرا في تلك البقعة تحديدًا، وحينما وسَّعت المباحث تحرياتها واهتمت بالتقصي عما حدث من خلال تفتيش كاميرات المنطقة وُجد دليل براءته. وتم الاتفاق مع "أوس" على تأجيل كشف الحقائق ريثما يتم الإيقاع بها في فخٍ مُحكم يدينها، وتولى هو مهمة ترتيب كل شيء ليستدرجها بالقول والفعل لتوقع نفسها في شر أعمالها، وها قد نجح ببراعة في ذلك.

وقفت "رغد" مشدوهة مصدومة لا تصدق ما حدث لها، ابتسم لها قائلاً بتباهٍ:
-يعني كنت عاوزك عشان أعلم عليكي!
أصابها ضربًا من الجنون والهوس، شرعت في تحطيم كل ما تطاله يديها. دس "أوس" يده في جيب بنطاله ينظر لها بازدراءٍ محتقر، تراجع عدة خطوات للخلف ليقترب من أحد الأبواب المغلقة، أمسك بمقبضه ليديره قائلاً لها ببسمة المغتر:
-وبالمناسبة مراتي "تقى" عارفة بكل حاجة، وموجودة هنا معانا!

صدمة أخرى أشد قسوة وإيلامًا حلت على رأسها، كانت كمن تلقى دلوًا من الماء المثلج على جسدها فتخشبت في مكانها مذهولة مصعوقة. أطلت "تقى" من الفُرجة المواربة في الباب ليسحبها "أوس" إلى أحضانه ويقبلها معتذرًا:
-أنا أسف يا حبيبتي إن كنت اضطريت ألمس واحدة غيرك!
ردت برقةٍ:
-أنا واثقة فيك!

ثم أدارت رأسها في اتجاه "رغد" لتنظر لها بنظراتٍ متأففة قبل أن تقول لها:
-زمان كنت بأغير من واحدة زيك، وأسأل نفسي يا ترى هتقدري تخطفي جوزي مني؟ بس دلوقتي أنا بأشفق عليكي، مافيش مجال للمقارنة معاكي أصلاً!
انتزعت فتيل قنبلة غضبها، فاندفعت بجنون متهور نحوها قاصدة إيذائها وربما إجهاض جنينها وهي تصرخ بلا وعيٍ:
-أنا هاقتلك!

على الفور اعترض "أوس" طريقها وأبعد زوجته عن مرمى غضبها المستعر ليمسك ب "رغد" من رسغيها بقبضتيه، دفعها بكل عنف نحو الفراش لتسقط عليه، ثم هدر مهددًا:
-هموتك قبل ما تلمسيها!
ردت عليه بشراسةٍ عدائية من بين أسنانها المضغوطة مستخدمة مرفقيها في النهوض:
-مش هاسيبكم، هاقتلكم!

وهنا تدخل أفراد الأمن المتواجدين خارج الجناح الملكي للإمساك بها وتقييد حركتها بعد أن هرعت "تقى" لاستدعائهم، اقتادوها للخارج وهي تسب وتلعن بهياجٍ منفعل، كانت كالثور الهائج، تقاوم أياديهم القابضة عليها، بينما شكَّل "أوس" بجسده مانعًا يحول دون اقترابها من زوجته في لحظة غدرٍ، وما إن خرجت من الغرفة حتى تنفست "تقى" الصعداء، وضعت يدها عفويًا على بطنها المنتفخ تتحسسه في حنوٍ ورفق، أحنى زوجها رأسه عليه ليقبل الكائن الصغير القابع بالداخل، استقام في وقفته ويداه تحاوطان إياها، طالعته برومانسية قائلة له بتنهيدة ارتياح:
-الحمدلله، ربنا نجانا من شرها.

لاحت ابتسامة ناعمة على ثغره معلقًا عليها:
-طب إيه رأيك بعد ما مشاكلنا خلصت نقضي يومين سوا نريح فيهم أعصابنا؟
ردت مُشددة بوجهٍ جادٍ في تعبيراته وحاجبين معقودين:
-أنا موافقة، بس مش في الفندق ده!
-تمام.
قالها "أوس" مبتسمًا وهو يسير مع زوجته بتمهلٍ إلى خارج الجناح بعد أن سطر النهاية لمشكلة عويصة كانت تؤرق مضطجعه لفترة طويلة.

أجبرتها على الانخراط معها في العمل التطوعي علها بذلك تهذب من نفسها الأمارة بالسوء، فنقمها في مقارنة دائمة مع ظروف غيرها، ونجحت إلى حد ما في تحجيم سخطها بعد أشهر من العمل الدؤوب، وبات حقدها أقل عن ذي قبل بدرجة مقبولة. أغلقت "فردوس" العلبة الكرتونية بالشريط اللاصق بعد أن تأكدت من اكتمال محتوياتها من الأطعمة الغذائية المغلفة، رفعتها لتضعها فوق المجموعة الجانبية لتستدير قائلة لأختها:
-أنا كده قفلت كل الكراتين اللي معايا، معدتش في حاجة تانية.

ردت عليها "تهاني" بامتنانٍ:
-تسلمي يا "فردوس"، ارتاحي إنتي شوية، تعبناكي معانا شوية!
ردت بتبرمٍ ولكن بصوتٍ يكاد يكون مسموعًا:
-ده إنتو هديتوا حيلي!

على الفور ألقت بثقل جسدها على الأريكة الوثيرة التي تحتل جانبًا من الصالة لتريح عضلاتها المتألمة من المجهود الشاق الذي تبذله يوميًا للإيفاء بمتطلبات الجمعية الخيرية التي تترأسها شقيقتها والتابعة لدار رعاية المسنين. قررت "تهاني" أن تحول المنزل الذي أهداه إليها ابنها إلى مقر لتلك الجمعية حديثة الإنشاء، وفيه قسمت العمل بين بعض جاراتها ممن بحاجة ماسة للنقود ليقمن بجمع وتجهيز الأطعمة المعبأة لتوزيعها على الفقراء، في حين تولت "ليان" الشق المالي والحسابات البنكية لتبدو كل الأمور سليمة ودون أي عراقيل، وقد بدت متحمسة لدورها فيه عن عملها الروتيني بمؤسسة "الجندي"، خاصة في وجود والدتها التي تقاربت معها كثيرًا وشكلت دعمًا قويًا لها.

أصرت "تقى" على تقديم المساعدة قدر استطاعتها رغم تقدم حملها واقتراب موعد ولادتها، لكنها حرصت على المشاركة ونيل الأجر والثواب، أحست بألم طفيف يضرب أسفل معدتها، تجاهلته في البداية وأكملت إحصاء عدد أكياس المعكرونة الموضوعة على الطاولة، التفتت نحو "ليان" لتخبرها:
-دول يا "ليوو" 100 كيس كبير، سجليهم عندكم
ردت عليها وهي تومئ برأسها:
-أوكي.

ولكن ما لبث أن تحول وجهها للذعر حينما رأت المياه تنساب من بين ساقي زوجة أخيها، صرخت بخوفٍ وهي تشير بيدها:
-"تقى"، إيه المياه دي؟!
هنا انتبه الجميع لصوتها الصارخ وتركزت أنظارهم مع بركة المياه الصغيرة التي تشكلت أسفل قدميها وتزداد اتساعًا مع كل ثانية، خفق قلب "تقى" بقوة، وانتفض جسدها مرتعدًا، نظرت لوالدتها مستغيثة:
-الحقيني يا ماما!

هرولت "فردوس" نحو ابنتها لتتأمل عن كثب تلك البقعة وهي تصيح مهللة:
-ده باين القرن طش، البت بتولد يا ناس!
على الفور أسرعت "ليان" ركضًا إلى خارج المنزل لتهبط على الدرج وتستدعي أفراد الحراسة المتواجدين بالأسفل لتنقلها إلى مشفى "الجندي" في الحال، وخلال فعلها لذلك هاتفت أخيها لتبلغه بالتطور الطارئ في حالة زوجته التي ستضع مولوده بين لحظة وأخرى.

احتضن بيده قبضته الأخرى المتكورة وهو يدور حول نفسه في الرواق مترقبًا بتوترٍ وشغف ولادة ابنه الذي أصر على المجيء مبكرًا وقبل الميعاد الذي حددته الطبيبة "بارسينيا"، مر الوقت بطيئًا عليه، وكأن عقارب الساعة لا تسير، الكل اجتمع لمشاطرته تلك اللحظة المميزة، وبقي عقله كان شاردًا مع زوجته المتواجدة بالداخل ومنفصلاً عمن حوله. لاحظ "عوض" خوفه وقلقه المتزايد، وبالطبع لم يختلف حاله عنه، لكنه يعرف دومًا العلاج الأمثل لمثل تلك الظروف، اقترب منه واضعًا يده على ظهره ليلفت انتباهه إليه، دعاه بلطفٍ وبوقارٍ شديد:
-ما تيجي يا ابني ننزل نصلي ركعتين تحت لله وندعيله بإخلاص عشان ربك ينجيها ويجيبلك ابنك بالسلامة، وصدقني الوقت هيعدي بسرعة، وجايز تجيلنا البشارة واحنا ساجدين!

نظر له "أوس" بعينين مترددتين للحظة، ضاقت نظراته بقلقٍ حائر، لم يكن راغبًا في تركها بمفردها، ومع هذا أحس برغبة ملحة تنبع من داخله تدعوه للموافقة، فربما في اقتراحه الجيد هذا المهدئ لأعصابه المتعبة من كثرة التفكير، هز رأسه بالإيجاب وهمَّ بالسير في اتجاه المصعد، ابتسم "عوض" لاستجابته واستبشر خيرًا من تقربهما إلى المولي –عزوجل- في تلك اللحظات الحرجة. تبعه إلى المصعد واستقلاه سويًا إلى أن وصل كلاهما للطابق الأرضي، ومنه تحركا نحو الخارج حيث المسجد القريب من المشفى.

خلع "أوس" حذائه وولج إلى الداخل باحثًا عن مكان الوضوء، وما إن انتهى حتى اتخذ مكانه في بقعة خاوية من المصلين ليصلي للمولى تضرعًا وخشوعًا عله يستجيب لدعائه. فرغ من صلاته وجلس القرفصاء ومستندًا بظهره إلى العمود الرخامي، التفت ينظر إلى يساره حيث جلس "عوض" وكان بيده كوبًا بلاستيكيًا مملوءًا بالماء، استطرد الأخير موضحًا من تلقاء نفسه وبابتسامة راضية:
-متأخذنيش يا ابني، أصلي بأكسر صيامي لأني متعود أصوم كل اتنين وخميس
هز رأسه في استحسان معلقًا عليه:
-ربنا يتقبل.

رد عليه بنظرات متطلعة وتنهيدة مليئة بالرغبة النقية:
-يا رب أمين، نفسي أوي ربنا يجازيني خير بصيامي وادخل الجنة من باب ال "ريَّان"!
ردد "أوس" باستغرابٍ مهتم لذلك الاسم:
-ريان؟!
تابع مفسرًا ببساطةٍ:
-ما هي الجنة ليها أبواب كتير الناس هتدخل منها، باب الريَّان ده واحد منه، معمول للناس اللي بتحافظ على فريضة الصيام وبتأديها، وأنا طمعان في كرم ربنا إنه يراضيني في الآخر بده.

تشكلت ابتسامة هادئة على ثغر "أوس" الذي ربت برفق على كتف حماه قائلاً له:
-ربنا يكرمك بكل اللي نفسك فيه يا راجل يا طيب.
انتبه كلاهما لصوت المؤذن الداخلي الذي نادى بآذان الإقامة فنهض الاثنان من جلستهما ليصطفا مع المتواجدين بالمسجد خلف الإمام ليبدأوا صلاتهم في خشوعٍ وتضرع.

أتت البشارة فور عودته إلى المشفى، حيث تعالت الزغاريد من "فردوس" لتعلن بذلك عن ميلاد الصغير، قفز قلب "أوس" في صدره فرحًا، وأسرع في خطواته الراكضة نحو إحدى الغرف الجانبية حيث ترقد زوجته وإلى جوارها في فراشٍ صغير ينام مولوده. لحظة تكررت اقشعر لها بدنه، خفقات متتالية سريعة أصابت قلبه جعلته في حالة سرور غير محدودة، مرق بين المتواجدين ليقترب من "تقى"، تأمل وجهها المرهق من عناء الولادة بنظراتٍ مطولة، مسح على جبينها وقبله هامسًا لها:
-حمدلله على سلامتك.

ردت بوهنٍ رافعة عينيها إليه:
-الله يسلمك، شوفت ابنك
صاحت "فردوس" من الخلف عاليًا:
-سمي بالله كده وشيل ابنك يا باشا
لكزتها "تهاني" بخفة في جانب ذراعها تنهرها عن مقاطعتها لتلك اللحظات الجميلة، عبست تعابيرها وردت عليها بصوتٍ خفيض:
-هو أنا قولت حاجة!
همست لها تحذرها:
-مش عاوزين قلق يا "فردوس"، لمي الدور الله يكرمك!
-طيب.

قالتها على مضضٍ حتى لا تفسد تلك الأجواء العائلية الدافئة. التفت "أوس" بعينين هائمتين إلى الجانب وقلبه يكاد يخترق ضلوعه من فرط حماسته، حملق في مولوده بعينين حبستا الدموع فيهما، لا يعرف ما الذي أصابه لتلمع حدقتاه بعبرات تعبر عن فرحته الشديدة، انحنى نحوه بتمهلٍ ومرر كفيه أسفل جسده الضئيل ليحمله، ارتجف ذراعاه وهما ترفعان إياه للأعلى، ضمه إلى صدره بحنو أبوي ليستشعر الرضيع نبضات والده المتلاحقة، استدار نحو زوجته قائلاً لها بنبرة امتزجت فيها سعادته مع خوفه:
-ده صغير أوي.

علقت عليه "فردوس":
-ما هو حتة لحمة حمرة
رمقها "أوس" بنظرة صارمة جعلتها تتراجع للخلف وتتوارى عن أنظاره مؤقتًا كي لا يلقي بها من نافذة الغرفة لإزعاجها المستمر له. سألته "تقى" بصوتها الضعيف:
-فكرت تسميه إيه يا حبيبي؟
أجابها مبتسمًا عن ثقة:
-أيوه.
ثم ركز بصره على ذلك الكهل الذي جلس في مكانه يبتهل للمولى ويحمده على عطاياه ليقول بعدها بنفس الابتسامة المتفاخرة:
-"ريان"!

رفع "عوض" رأسه فور أن سمع الاسم وقلبه يرقص طربًا، لم يكن يتصور أبدًا أن حديثًا عفويًا نابعًا من قلبه الطيب سيحفز ذهن "أوس" ليختار ذلك الاسم تحديدًا ليطلقه على ابنه، وكأن فيه نوعًا من الترضية المُبشرة له، انسابت دمعاته تأثرًا من تصرفه الكريم، وأومأ له برأسه في امتنانٍ صامت. رددت "تهاني" بفرحٍ وهي تحني رأسها لتقبل كتف ابنها:
-ربنا يباركلك فيه، "ريان أوس الجندي"!

في تجمع عائلي خاصٍ ومحدود، احتفل "أوس" مع المقربين له ب (سبوع) الرضيع "ريان"، كانت الأجواء لطيفة وهادئة، الكل سعيد بانضمام فرد جديد للعائلة، اقترب "يامن" من ابن عمه ليبلغه بآخر المستجدات في قضية شقيقته التي تم إيداعها بالمشفى الخاص بالأمراض العقلية والنفسية بعد أن ساءت حالتها كثيرًا وأقدمت على الانتحار أكثر من مرة، أشفق عليها "أوس" فقال له مؤكدًا:
-متقلقش أنا هاقف جمبها، مهما كانت هي من العيلة!
رد بوجه خالٍ من التعبيرات:
-مافيش داعي، أنا متابع وضعها وبأزورها، كده أحسنلها بدل ما كانت تخرب الدنيا وتضيعنا كلنا!

أوضح له من جديد:
-أختك اللي اختارت تعمل كده في نفسها
عقب عليه بتفهمٍ:
-أنا عارف يا "أوس"
لمحها وهي تلج للشرفة، فتحمس كثيرًا للالتقاء بها بعد أن تعذر عليه الانفراد بها في أي مكان ليبوح لها كما اعتاد بمشاعره نحوها ويستمتع بتعبيرها المتواري والخجل عن حبها له، فمنذ تقدمه لخطبتها و"أوس" يضيق عليه الخناق ليعذبه أكثر، تنحنح مستأذنًا وقد ظهرت أمارات التوتر عليه:
-هاروح أعمل مكالمة وارجعلك تاني يا باشا.

ربت "أوس" بيده بقوةٍ على كتفه قائلاً له بتحذيرٍ وببسمة ساخرة وقد فَطِن لما يحاول فعله:
-ماشي، بس ماتطولش برا، عشان الهوا مش حِلو عليك!
تنحنح "يامن" مجددًا قبل أن يرد بارتباك وبابتسامة بلهاء:
-حاضر يا ابن عمي.
أسرع في خطاه ليلحق بزوجته المستقبلية التي تنتظره في المكان الذي التقيا فيه مصادفةً لأول مرة، ناداها هامسًا:
-"هالة".

التفتت على الفور نحوه ووجهها يشرق بابتسامةٍ رقيقة، وقف "يامن" قبالتها يتأملها بنظراته الشغوفة، تنهد في رومانسية قائلاً لها:
-وحشتيني.
خجلت من تلك الكلمة وتوردت بشرتها سريعًا، ردت عليه بهمسٍ وقد أخفضت رأسها لتتحاشى التقاء عينيهما:
-وإنت كمان!
رجاها بعبوسٍ مصطنع:
-لأ بصيلي، أنا وقتي محدود!
عادت لتحدق في عينيه بنظراتٍ مفعمة بوهج الحب، همس له بتلهفٍ:
-هاتي إيدك، عاوز أديكي حاجة
قطبت جبينها متسائلة:
-إيه ده؟

سحب رسغها للأعلى ليلبسها سورًا رقيقًا من الذهب قد اشتراه لها، رمشت بعينيها في إعجاب صريح بذوقه الراقي في انتقاء هداياه، ظلت يده محتضنة لكفها الناعم وفي تهورٍ جريء منه أحنى شفتيه عليه ليقبله، ارتعشت من قبلته وحذرته بعينين خائفتين:
-ماينفعش كده، "أوس" باشا ه...
قاطعها بإلحاحٍ:
-اديني فرصة يا "هالة"!
وقبل أن يتمادى في تصرفاته سحبت يدها على الفور وتراجعت منكمشة على نفسها ونظراتها مسلطة على أحدهم في رعبٍ، ابتلع "يامن" ريقه هامسًا حينما لاحظ تعبيراتها المرتاعة:
-هو واقف ورايا، مظبوط؟

هزت رأسها لعدة مرات مؤكدة على صحة تخمينه، في حين أطبق "أوس" على عنقه يشده منه إلى الخارج وهو يوبخه:
-مش عاوز تلم نفسك!
رد مدافعًا:
-أنا كنت بأديها هدية
سخر منه قائلاً:
-أه وبتاخد منها العربون، يالا من هنا!
-بتطردني يا "أوس"
دفعه نحو باب الفيلا يهدده بجدية تامة ودون أن يرف له جفن:
-أحسن ما أعلقك، وإنت عارفني مابهزرش! وبعدين أنا قايلك مافيش جواز قبل ما "هالة" تخلص كليتها!
رد بتذمرٍ:
-بس كده كتير، أنا هاخلل وأنا مستنيها!

لوح له بيده قائلاً له ببرود قبل أن يصفق الباب في وجهه:
-يكون أحسن، مع السلامة!
اغتاظ "يامن" من شدته معه، ومع ذلك وجد نفسه يبتسم تلقائيًا، فأحب ما عليه أن يرى حبيبته تنهي دراستها الجامعية بتفوق فيفتخر بها في كل مكان، دار في الحديقة باحثًا عن نظرة أخيرة منها، فهي حتمًا ستبذل ما في وسها لتودعه، وحدث ما توقعه، وجدها تنتظره بالشرفة، منحته "هالة" نظراتٍ مليئة بالحب العفيف وهي تشير له بيدها، وأرسل لها قبلات في الهواء قبل أن تبهت ملامحه المضيئة ليركض بعدها فزعًا وقد أبصر ابن عمه يراقبه من النافذة الأخرى داعيًا الله في نفسه ألا يلحق به ويعنفه بشدة.. ولكن على طريقته القاسية.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة