قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم الفصل الثاني

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم الفصل الثاني

( الجزء الخامس من ذئاب لا تعرف الحب )

سعل بحشرجة واضحة وهو ينفث دخان ناريجيلته في الهواء مُكملاً تفريغ تلك الشحنة المتأججة في صدره من خلال إقباله الشره مؤخرًا على التدخين وتعاطي المخدرات حتى ينسى الإذلال الذي تعرض له أمام أهالي منطقته الشعبية قبل أن يُطرد منها، لكزه الجالس على يمينه في ساقه المثنية أسفل منه ليحذره من التمادي في شرب الحشيش قائلاً له:
-ما كفاية كده يا عمنا.

نظر له "منسي" شزرًا من طرف عينه الملتهبة قبل أن يرد رافضًا بعنادٍ:
-ملكش فيه، أنا حر، إن شاءالله أولع في جتتي حتى
علق مبررًا خوفه عليه:
-يا سيدي أنا عاوز مصلحتك
زفر هاتفًا بحنقٍ ليكف عن إبداء نصائحه له:
-يووه، إنت هتخوت دماغي على الفاضي، قولتلك أنا حر
غمز له رفيقه متابعًا بنبرة ثقيلة:
-يا عم بدل ما تتشيع وتروح مننا، إنت لسه في عزك
علق عليه "منسي" ساخرًا:
-عُمر الشقي بقي.

ثم عاد ليشرد في تفكيره المنتقم ممن أذله وكسر شوكته أمام العامة، ورغم الهلوسة المسيطرة على عقله إلا أن مشاهد الإهانة كانت لا تزال حية في مخيلته، ووسط الضلالات التي يعيش فيها كان يبوح بما يخنقه لرفقاء السوء لربما أرشده أحدهم لوسيلة يستطيع بها إخماد النيران المستعرة بداخله، تجرع "منسي" ما تبقى في زجاجة مشروبه المسكر ليتجشأ بعدها ماسحًا بظهر كفه ما علق في ذقنه النابتة، كز على أسنانه مغمغمًا بحنقٍ مغتاظ:
-آخ، يا مين ينولني رقبتك يا ابن الأكابر وأنا أشقك نصين، آه لو كنت لوحدك.

اقترح عليه الجالس إلى يساره:
-ما تسلط عليه حد من العتاولة
لم ينظر نحوه فقد بدا حديثه لهوًا فارغًا بالنسبة له، سحب نفسًا أشد عمقًا من ناريجيلته ليضيف بعدها وهو ينفث الدخان:
-ولا البت كمان فلتت مني، كنت خلاص هاتجوزها واعمل ما بدالي، بسهولة كله يروح كده
علق عليه مازحًا:
-طالما مش ليك ضيعها
استدار نحوه ليسأله بفضولٍ وقد ارتفع حاجبه للأعلى:
-قصدك إيه؟

أجابه بخبثٍ:
-يعني اللي ماتجوزلكش تبقى ماتجوزش لغيرك
كانت كلماته غامضة فلم يستطع أن يفسرها بوضوح، اعتدل في جلسته وتركزت نظراته عليه متسائلاً بنفاذ صبر:
-ما تقول ياض قصدك إيه، خشلي دوغري
شعر رفيقه بالحكة تصيب صدره ففركه بأصابعه قبل أن يجيبه بمكرٍ:
-خليها ماتسواش مليم في سوق الحريم، ارمي عليها مياه نار، وساعتها مش هاتنفع لأي راجل حتى لو كان مين.

أغراه حديثه الشيطاني وتغلغل في عقله، انفرجت شفتاه عن دهشة إعجاب وارتسمت علامات الارتياح على ملامحه، بدا "منسي" كمن أُلقي عليه دلو ماء مثلج ليفيق من غيبوبته، لمعت حدقتاه بذلك الوهج المخيف ومع كلمات رفيقه المسمومة اشتعلت الفكرة أكثر في رأسه وتشعبت خيوطها ليشرع بعدها في رسم ملامح خطته المبدأية للانتقام من "هالة" أولاً، فربما في فعل ذلك يجد سلواه، جلس بأريحية وطرقع فقرات عنقه بعد أن حركه للجانبين، تشكل شبح ابتسامة لئيمة على محياه وهو يردد معقبًا على ما قيل وما فكر فيه:
-تستاهلها، وأهوو بكده ناري تبرد شوية!

تجمدت نظراته القاتمة التي عكست ظلامًا مخيفًا وغموضًا مرعبًا على شخصها الثائر، فقد لعبت دورها جيدًا وصرخت باكية بهيسترية أثناء إجراء التحقيق معها ملقية عليه التهم الأخلاقية ليظن من يستمع إليها أنها ضحية ذئب لعوب يُجيد اصطياد النساء والإيقاع بهن في حبائله الدنيئة، ورغم صلة القرابة الوطيدة بينهما إلا أنه استغلها وأراد هتك عرضها، حافظ "أوس" على هدوئه وهو يستمع إلى ما يُقال عنه، كان ثابتًا في جلسته، قسماته رغم شدتها إلا أنه لم يهتز له شعرة، أخرج زفيرًا بطيئًا من جوفه قبل أن ينكر ببساطةٍ وكأن ما اتهم به شيئًا عاديًا:
-محصلش.

ردت "رغد" بصراخٍ منفعل:
-إنت إيه؟ مفكر نفسك فوق البشر؟
أشار لها الضابط بيده محذرًا:
-من فضلك إهدي شوية يا مدام
لم تلقِ بالاً لرجائه المتواصل، وظلت أنظارها موجهة نحو "أوس" ثم لوحت بسبابتها مهددة:
-أنا مش هاسيب حقي ومش هتنازل عنه.

توقعت "رغد" أن يتوتر، أن تظهر عليه تعابير القلق أو القليل من الارتباك والخوف، لكنه صدمها بأن ثغره التوى نوعًا ما ليظهر بسمة جانبية مستمتعة، عادت لتوزع نظراتها الحانقة بينه وبين الضابط قبل أن تستأنف تهديدها الجاد:
-ولو البوليس هنا معرفش يجيبلي حقي فأنا هلجأ للسفارة
بدا التلميح صريحًا باستخدام جنسيتها الأجنبية في تصعيد الأمور ليجد الضابط نفسه في موقف حرج للغاية، توترت نظراته والتفت نحو "أوس" ليقول له بدبلوماسيةٍ:
-احنا عاوزين نحل الوضع قبل ما يتطور ويروح النيابة، حضراتكم قرايب و...

قاطعه "أوس" ببرود غير مبالٍ وهو يضع ساقه فوق الأخرى:
-امشي في اجراءاتك يا حضرت الظابط للآخر، وخلي كل واحد ياخد حقه
ثبت نظراته جيدًا على "رغد" لتشعر برجفة تجتاحها وهو يكمل:
-ولو أنا غلطان أتحاسب، ولو لأ ..
اتسعت ابتسامته فجأة قبل أن يواصل بثقة تامة:
-يبقى محدش يزعل من اللي هيحصل!

أحست "رغد" بقشعريرة تصيبها وجاهدت لتخفيها لتبدو كالصخر أمام خصمها القوي، أغاظها شجاعته وثباته فهتفت صارخة:
-أنا هاخلي الناس كلها تعرف حقيقتك
لم يكترث بتهديداتها الصارخة، نهضض بتمهلٍ من مقعده ليبدو في مواجهتها، التقت النظرات وقرأت تحديًا واضحًا في عينيه، أومأ برأسه معلقًا ببرودٍ:
-وأنا معاكي للآخر!
ثم أولاها ظهره ليسأل الضابط برسميةٍ:
-في حاجة تانية مطلوبة مني؟
أجابه الأخير بجديةٍ:
-وقع هنا، والورق كله هيتحول للنيابة عشان تستكمل التحقيقات.

اقترب منه ليوقع حيث أشار الضابط ثم رفع رأسه ليطالع "رغد" بنظرة أخيرة نارية أرعبتها، اتجه بعدها نحو الباب وتبعه محاميه الخاص الذي حدثه بإيجاز عن تبعات الاستمرار في تلك القضية التي تمس السمعة والشرف، تفاجأ "أوس" فور خروجه من غرفة الضابط بوجود العشرات من الصحفيين المرابطين في الطرقات ليحصلوا منه على أي تصريح رسمي يستخدموه في تغطية أخبارهم الحصرية، تهافتوا عليه حينما أبصروه قادمًا وحاولوا محاصرته بأسئلتهم قبل أجسادهم، تدخل سريعًا أفراد الحراسة الخاصة لمنعهم من الاقتراب منه وأفسحوا له المجال ليمر من بينهم، تلاحقت ومضات عدسات الكاميرات الفوتوغرافية مع أسئلتهم المستفزة لتزيد من غضبه وحنقه.

حرص "أوس" على إبقاء وجهه غير مقروء التعبيرات رغم السؤال المستفز الذي وصل إلى مسامعه بوضوح:
-"أوس" بيه، سؤال من فضلك، إيه رأي سيادتك في اتهامات بنت عمك بإنك اعتديت عليها؟ وهل ده راجع للخلافات اللي كانت بينك وبين عمك؟
رمقه بنظرة حادة ولم يجب عليه فاستفزه بسؤال آخر أكثر جراءة:
-إيه موقف زوجتك من اللي حاصل وهل هي متقبلة لده وبتدعمك؟

توحشت نظرات "أوس" لمجرد تطرق ذلك الصحفي لاسم زوجته، كان لجوئه لتلك الحيلة مُجديًا، فاعتقدت أنه حصل على غايته وسيجيبه، لكن تبددت آماله سدى مع تجاهله له وإكماله لسيره نحو الخارج، خرجت "رغد" هي الأخرى من غرفة التحقيقات فالتف حولها الصحفيون، بالطبع لم تضيع الفرصة لتزيد من اشتعال الموقف وتأزمه بإلقاء المزيد من التهم الباطلة من أجل إثارة البلبلة واستفزاز الجميع بالحديث عن سوء نوايا ابن عمها ومجونه قاصدة بذلك تشويه صورته وشحن أغلب الرأي العام ضده لتحول موضوعها الشخصي إلى قضية رأي عام.

كانت خطواته أقرب إلى الركض وهو يتبع السرير النقال المتجه نحو غرف المرضى بالطابق العلوي، انتظر "عدي" خروج الممرضات من غرفتها الخاصة بعد تعليق المحاليل الطبية لها ليسحب المقعد الملاصق للحائط ويجلس بجوار فراشها، مد يده ليمسك براحتها المسنودة بجوار جسدها الساكن، تحرك بصره لينظر بتأمل إلى وجهها الذابل المليء بالكدمات والخدوش بعد أن كانت بشرتها انعكاسًا للحيوية والجمال.

شعر بغصة مريرة في حلقه، ورغم أن الوقت كفيل بمداواة الجروح إلا أن ذلك ليس مبررًا كافيًا للاتكال عليه، لم يعرف ما الذي اقترفته زوجته من أخطاء لتتعرض لذلك الهجوم الوحشي، أشفق على حالها وامتزج حزنه مع غضبه، انخفض برأسه للأسفل ليقبل كفها ودمعاته تبلل جلدها، رغمًا عنه لم ينسَ خسارته للجنين الذي انتظره بشغفٍ، تضاع بكائه، وألصق كفها بصدغه، همس لها بأنينٍ موجوعٍ:
-ابننا راح يا "ليو".

انقطع صوته وانحبست أنفاسه لثوانٍ قبل أن يكمل بصعوبةٍ:
-أنا عارف إنه كان غصب عنك، ومش بإيدك اللي حصل
حاول أن يتجاوز الألم المعنوي الذي يشعر به ليضيف بتفاؤلٍ:
-هنعدي الفترة دي إن شاءالله ونحاول تاني، أنا هافضل جمبك يا حبيبتي
شدد من إمساكه بقبضتها ليشعرها بوجوده معها، مسح بيده الأخرى عبراته قائلاً لها:
-متخافيش يا "ليو"، كله بيتنسى!

لم يكن مقتنعًا كليًا بكلامه الأخير لكنه حاول أن يدعي ذلك ليكون صلبًا متماسكًا أمامها، فهي في أمس الحاجة إلى دعمه في الفترة القادمة، تراجع "عدي" بظهره للخلف، تذكر أنه في غمرة ما حدث تناسى إخبار "أوس" بحادثة شقيقته الصغرى، أخرج هاتفه المحمول من جيبه، ثم بحذرٍ شديد ترك يد زوجته وسار نحو الخارج ليهاتفه، وجد صعوبة في الوصول إليه فهاتفه كان مغلقًا، عاد للغرفة مرة أخرى ليجالس حبيبته، استعاد القليل من ثباته ليوعدها بصدق نية:
-أنا معاكي يا "ليو"، وهاشوف مين اللي عمل فيكي كده وانتقملك منه

-الحمدلله
قالتها "تقى" بفتورٍ يتناقض مع حماسها وتلهفها لإجراء والدتها للعملية الهامة مما استرعى قلق خالتها التي استشعرت ذلك التغيير الواضح في نبرتها، لذا سألتها باهتمامٍ جاد:
-مالك يا بنتي؟ إنتي مش فرحانة ولا إيه؟
أجابتها نافية بارتباكٍ شبه ملحوظ:
-لأ يا خالتي، والله مبسوطة عشانها
ثم أخذت نفسًا عميقًا لتضمن ضبط هدوء نبرة صوتها وهي تكمل:
-بالعكس أنا كان نفسي أكون معاكو وإنتي عارفة ده كويس
سألتها "تهاني" من جديد:
-حاسة إن فيكي حاجة، يا بنتي قوليلي لو في مشكلة أو ...

قاطعتها مدعية كذبًا:
-اطمني يا خالتي، كلنا كويسين والحمدلله
ردت عليها بحنوها المعتاد:
-ربنا يديم عليكم فضله
-يا رب
عادت "تهاني" لتقول:
-إن شاءالله لما أمك تفوق هخليها تكلمك وتطمنك بنفسها
بدا وجه "تقى" حزينًا رغم صوتها الممتن وهي تشكرها:
-كتر خيرك يا خالتي، دايمًا تعبينك معانا
علقت عليها:
-أنا معنديش أعز منكم يا حبايبي، ربنا يخليكو ليا
-ويباركلنا في عمرك
-ماشي يا "تقى"، أسيبك في رعاية الله
-مع السلامة.

ثم أنهت معها المكالمة لتتنهد بعدها بعمقٍ، كانت تشعر بالضيق والضجر مما يحدث مع زوجها مؤخرًا، حاولت دعمه قدر استطاعتها ليواجه تلك الكوارث التي تعصف بحياتهم الأسرية، قررت أن تتصفح مواقع التواصل لتعرف آخر المستجدات، ولم تتوقع المفاجأة الصادمة التي تنتظرها، اتسعت حدقتاها الزرقاوتان في ذهول في ذهول مرتعد وهي تقرأ ما كُتب عن زوجها وما أشير إليه عنها من أخبار مغلوطة ذكرتها بما انتشر في الإعلام قبل أشهر على يد الطبيب الشهير "مهاب الجندي"، حالة من الرعب والخوف سيطرت عليها، تسابقت دقات قلبها واضطربت أنفاسها، ارتعشت يدها الممسكة بالهاتف فسقط من بين أصابعها ليرتطم بالأرضية وهي تكاد لا تصدق أن جحيم الماضي عاد ليطفو على السطح من جديد.

توقع أن تصلها الأخبار وأن تدور في رأسها الظنون، وربما يعبث الشيطان بأفكارها فيوهمها أنه بالفعل كان يخونها، لهذا حرص أن تكون على إطلاع دائم بكل ما يجري معه لتكتمل الصورة عندها، عاد "أوس" من الخارج ليجد زوجته جالسة في الحديقة، بدت وكأنها لم تره، حتى صغيرتهما "حياة" لم تكن منتبهة لها، استطاع أن يرى الدمعات العالقة في طرفيها، أن يلاحظ بقوة الحزن المرسوم على تقسيماتها، اقترب بثباتٍ مشيرًا بنظراته الآمرة للخادمة لتصحب الصغيرة للداخل، ثم بتمهلٍ وروية جلس إلى جوار زوجته لتنتفض قليلاً مع حضوره المفاجئ، لف ذراعه حول كتفيها ومال نحوها ليقبلها من أعلى رأسها، ابتسمت له ابتسامة مبتورة عكست ما تشعر به بداخلها، ربت على ذراعها برفق مستهلاً حديثه:
-أكيد قريتي الكلام الجديد اللي اتكتب عني، ما أنا بقيت حكايتهم اليومين دول.

حدقت فيه بنظرات مطولة منكسرة لم يفهمها في البداية، تابع معلقًا بتهكمٍ ساخط:
-بس وقت ما الحقيقة تبان مش هنلاقي حد يعبرنا بخبر
ردت عليه بفتورٍ:
-هاقوم أحضرلك العشاء
وقبل أن تهم بالنهوض أوقفها "أوس" بالإمساك برسغها، أطرقت رأسها لتنظر إلى أصابعه القابضة على معصمها، زفر متسائلاً بجدية:
-"تقى" اوعي تكوني مصدقة اللي بيتقال؟ قسمًا بالله أنا معملتش حاجة
حاولت تحرير يدها منه، لكنه كان محكمًا لقبضته عليها، اختنق صوتها وهي ترجوه:
-من فضلك سيب إيدي.

تعجب من حالة النفور البادية عليها فسألها بعصبيةٍ طفيفة:
-إنتي مصدقاهم؟ ردي عليا!
أجابته بمرارة متهكمة كانت واثقة أنه سيستشعرها مع كلماتها:
-لأ، إنت عمرك ما تغلط
نجحت في إيصال إحساسها إليه ببساطة، فبدت جملتها الأخيرة كالخنجر المسموم الذي طعنه في ظهره، حدق فيها بعتابٍ فتحاشت نظراته نحوها، وطأطأت رأسها للأسفل مقاومة إمساكه لها، رفض تحريرها ليشدد من قبضته عليها، نظر مباشرة في عينيها وهو يأمرها:
-بصيلي يا "تقى"

رفضت الإصغاء له فوضع يده أسفل ذقنها ليجبرها على التطلع إليه، هتف بها متوسلاً:
-اقسملك بحبنا إن "رغد" كدابة، عمر ما كان بيني وبينها أي حاجة حتى من قبل ما أعرفك
رغمًا عنها لم تستطع التحكم في عبراتها التي تجمعت بكثافة، انفجرت باكية وهي ترد:
-أنا عارفة ومتأكدة، بس آ...
سألها بتلهفٍ:
-بس إيه؟ كملي يا "تقى"
تنفست بعمق لتضبط نوبة البكاء التي أصابتها، ثم أجابته بصوتها المنتحب:
-قريت اللي اتكتب عني واللي باباك كان قاله زمان، وإن جوازنا كان ...

قاطعها بتشنجٍ وقد بدا إلى حد ما غير مدركٍ لما أُثير في المواقع الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي:
-إنتي بتكلمي عن إيه؟
عجزت عن التوضيح بشكلٍ مفهوم، فأعطته هاتفها ليجد شاشته شبه محطمة، عبث بأزراه باحثًا عن مقصدها فقرأ بصدمةٍ الأخبار التي نهشت من سمعتها والتلميح المسيء الذي مسها تحديدًا، قست نظراته وتوحشت، ألقى الهاتف بعصبية خلفه قاصدًا تحطيمه ثم هدر مهددًا:
-مش هاسيبهم، قسمًا بالله لأمحيهم.

كانت واثقة أنه قادر على فعل ذلك، نظرت إليه بعينيها المتورمتين وكأنها تستنجد به، فهم نظراتها على الفور، رفع يديه إلى وجهها ليحتضنه، شعرت بحرارة راحتيه على بشرتها، مسح "أوس" بإبهاميه دمعاتها المنسابة، تأملته وهو يعدها قائلاً:
-مرات "أوس الجندي" خط أحمر، خليكي فاكرة ده كويس
هزت رأسها دون معنى، بينما تابع هو مؤكدًا بلهجته المعروفة بشدتها:
-عمر ما حد هيقربلك وهاسيبه يمشي على رجليه، إنتي تخصيني أنا وبس.

قديمًا كانت كلماته الأخيرة بالذات تثير امتعاضها ونفورها منه، لكنها باتت الآن طوقها للشعور بالأمان والطمأنينة، أرخى "أوس" يديه ليجذبها إلى أحضانه فبكت على كتفه، ضمها إليه فشعرت بذراعيه تطوقان ظهرها وتضغطان على جسدها لتحتويها أكثر، أحست بدقات قلبه الثائرة من أجلها، تراجعت "تقى" قليلاً لتنظر إليه وهي تقول:
-احميني منهم يا "أوس"، إنت دلوقتي سندي وضهري وكل حاجة في حياتي.

رد عليها دون تفكيرٍ:
-أنا موجود عشانك وبس، متخافيش
عاد يضمها إلى صدره وهو يزيد من ضمه لجسدها لتشعر أكثر بالاحتواء وبقوته في نفس الوقت، مسح بتمهلٍ على ظهرها وهو يذكرها:
-ماتنسيش ميعادك مع الدكتور النفسي، النهاردة جلستك
ردت عليه بخفوتٍ:
-أيوه، أنا فاكرة
تابع بجديةٍ:
-الحراسة هاتكون معاكي، ووقت ما تخلصي هيرجعوكي، تمام؟
-ماشي.

قالتها بهدوء وهي مستكينة في أحضانه التي امتصت خوفها وهدأت من روعها، لكن على عكسها كان "أوس" كالموقد يغلي من داخله، فإن صمت عن الإساءة إليه بأي شكل، فهو لن يرضى مُطلقًا بالمساس بشعرة واحدة من زوجته أو أي فرد من عائلته دون محاسبة المتسببين في إيذائهم.

وقفت خلفه تتابعه بنظرات مهتمة وهو يجمع متعلقاته الضرورية في حقيبة سفره الصغيرة، أغلق "أكرم" الدرج العلوي للكومود بعد أن سحب جواز سفره وأوراقه الضرورية، استدار ليواجه والدته الواقفة على مقربة منه والتي سألته بجدية تامة:
-خلاص هتروح عندها
أجابها بعد نفس طويل لفظه ببطءٍ:
-مضطر أعمل كده، "رغد" ماسبتش أي حل تاني قصادي.

وافقته الرأي دون تعليق فتابع بضيقٍ:
-طول ما هي لوحدها هتورط نفسها في مشاكل أكتر، وأنا مش هاستنى لما ألاقي جناية حصلت هناك، ابن عمها مش سهل ومش هايسكت عن غبائها ده
ردت موافقة إياه في الرأي:
-معاك حق، هي زودتها الصراحة
عبست تعابيره مكملاً:
-لأ مش سائلة فيا ولا حتى في ولادنا وهما محتاجينها أكتر مني، كل اللي همها نفسها وبس!

حثته والدته على المضي قدمًا فيما يريد فقالت بهدوءٍ على الرغم من جدية نبرتها:
-اعمل اللي إنت شايفه صح ومناسب، المهم مصلحة أولادك
تصنع الابتسام وهو يشكرها بامتنانٍ:
-هتعبك معايا الفترة الجاية يا ماما، يعني مدارس الأولاد ومذاكرتهم والمتابعة و...
قاطعته بعتابٍ:
-متقولش كده، إنت عارف هما غاليين عندي إزاي، سافر يا ابني واطمن، هما في أمان معايا، المهم تطمني عليك أول بأول
شعر بالارتياح لوجودها لمراعاة أبنائه الصغار خاصة في الفترة القادمة التي ستتطلب غيابه والتي لا يعرف كم ستطول ومتى ستنتهي.

دعس بقدمه سيجارته –رخيصة الثمن- رغم إشعاله لها توًا حينما أبصرها تسير من على بعد في الاتجاه المعاكس، غامت عيناه بغضبه الانتقامي وتجمدت عليها، تلفت "منسي" حوله عابرًا الطريق في اتجاهها ليصل إليها، لم تنتبه "هالة" له، كان تفكيرها منصبًا على مراجعة ما ستقوم به اليوم فور عودتها إلى المنزل، بدت مرهقة من كثرة الاستذكار والمواظبة على أعمال المنزل التي لا تنتهي مع والدتها دائمة الشكوى والتذمر من كل ما حولها، كانت تجتهد لتشعرها بأنها ليست عبئًا عليها، لكنها لم تكن تعلم أي نهاية تنتظرها اليوم، دس "منسي" يده في جيب بنطاله الخلفي ليخرج منه الزجاجة الصغيرة التي احتفظ بها فيه.

تأكد من رفع الوشاح الذي ارتداه حوله عنقه ليخفي به أغلب ملامح وجهه متوهمًا عدم تعرف أحدهم عليه إن رأه يفعل ما عقد العزم عليه، اقترب منها بتمهلٍ حذر حتى بات خلفها تقريبًا، انتزع الغطاء ببطءٍ وألقاه على الأرضية، عاد لينظر حوله قبل أن يشرع في خطته الإجرامية، وعند بقعة كانت شبه خاوية من المارة وحينما اتجهت نحو الزقاق الضيق المعتم نسبيًا قرر تنفيذ ما انتواه، صاح "منسي" مناديًا بنبرة وصلت إلى مسامعها:
-"هالة"!

ارتجفت أوصالها مع سماعها لذلك الصوت المقيت الذي تبغضه، توقفت عن السير وتيبست قدماها في مكانها، استدارت ببطءٍ لتتأكد مما سمعته، اتسعت حدقتاها رعبًا وقد أبصرت "منسي" على بعد بضعة خطواتٍ منها ونظراته تنذر بكل سوءٍ، ارتعدت أكثر وتلاحقت دقات قلبها حتى شعرت به يكاد يقتلع من بين ضلوعها، تضاعف هلعها واضطربت أنفاسها ونهج صدرها علوًا وهبوطًا، كانت كمن رأى شبحًا مخيفًا، عجزت عن السيطرة على جسدها وتحريك قدميها للفرار منه، شلت المفاجأة المفزعة تفكيرها مؤقتًا، ظلت "هالة" واقفة في مكانها وهي تراه يقترب أكثر منها، غمغم "منسي" غاضبًا من بين أسنانه المضغوطة:
-أنا مش بأسيب حقي!

قرأت "هالة" ذلك الغل الدفين ظاهرًا في عينيه بوضوح، هربت الدماء من وجهها وقد انخفضت نظراتها نحو الزجاجة التي رفعها نصب عينيها، ارتفع حاجباها للأعلى في هلع أكبر وهو يقول لها بشراسةٍ شيطانية:
-وطالما مش ليا، مش هاتكوني لغيري!

شلت أطرافها من فظاعة ما يهددها به، تلفتت حولها كالملسوعة باحثة عمن ينجدها منه، بدا المكان خاليًا من الحياة، تصلب جسدها وازداد رعبها، حاولت إجبار جسدها على الهرب، لكنه أبى أن يصغي لها، انفلتت منها شهقة مذعورة وقد ألقى نحوها ذلك السائل الغريب، كان بمقدورها فقط تخبئة وجهها بكفيها كي تتفاداه، شعرت "هالة" بحرقة مضاعفة تلهب جلدها، حرقة لم تتحمل قسوتها ولهيبها، لذا انطلق من جوفها صرخة مخيفة كانت كفيلة بجذب أنظار القريبين منهما...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة