قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم الفصل الثالث

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم الفصل الثالث

( الجزء الخامس من ذئاب لا تعرف الحب )

للحظة توقف الزمن بها وبدا ما حولها يتحرك ببطءٍ شديدٍ للغاية، هي نجحت في تخبئة وجهها قبل أن تطاله تلك المادة الحارقة التي أصابت جلدها وألهبته، رغمًا عنها لم تتحمل مقدار الألم القاتل الذي أخرج من جوفها صرخة ارتجت لها الأركان وارتد صداها في الزقاق الضيق لتلفت الانتباه نحو وجود شيء خطير قد وقع هناك، فقدت "هالة" أعصابها وواصلت الصراخ بصورة هيسترية دون توقف، في حين طالعها "منسي" بنظرات متشفية مستمتعًا بما أحرزه من انتصار منتقم ضد شخصها.

تجمع حولها بعض الأشخاص، كما هبط بعض الجيران ممن يقطنون بالزقاق لمعرفة ما الذي أصابها، حاوط البعض منهم ب "منسي" الذي كان يقاوم إمساكهم له بدفعهم وسبهم بكلمات نابية، جثت "هالة" على ركبتيها رافضة إبعاد كفيها عن وجهها، امتزج صوتها الصارخ مع بكائها، سألها أحدهم بقلقٍ:
-حصلك إيه يا بنتي؟

ردت بتشنج وقد بح صوتها وبدا غير مفهوم:
-مش قادرة، بأموت، حد يلحقني
انتبه "منسي" لاستغاثتها فالتفت نحوها ليقول بشماتةٍ:
-محدش هينجدك، إنتي بقيتي ولا حاجة
هاج أكثر وأراد الاقتراب منها لكن حال دون وصوله إليها الرجال المقيدين لحركته، ازداد صوته ارتفاعًا وهو يكمل تشفيه بها:
-محدش هيبصلك تاني، بقيتي مُسخة، وأنا خدت بتاري منك يا ...

استفز كلامه الانتقامي الرجال من حوله فطرحه أحدهم أرضًا وهو يسأله بحنقٍ:
-إنت عملت فيها إيه؟
ورغم الإحساس القوي المتغلغل فيها بأنه صادق في حديثه وأنه بالفعل أحدث تشوهًا جسيمًا بها إلا أن عقلها رفض تصديق ذلك، ظلت "هالة" تصرخ وتصرخ وتصرخ بلا توقف حتى انهارت على الأرضية وتشنج جسدها، حاولت إحدى النساء ممن أتين لمساعدتها إبعاد يديها عن وجهها لكنها توترت مع رؤيتها للجلد المحترق في كفيها، امتعض وجهها من المنظر المؤلم للأعين، وتمتمت بإشفاقٍ:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، لطفك يا رب.

هدر "منسي" بجنونٍ:
-وريني هتعملي إيه وإنتي ملكيش ديه لا عندي ولا عند غيري!
ركله أحدهم في ساقه ممن يمتازون بالشهامة والمروءة ليطرحه أرضًا خاصة حينما أمعن في سبها بصورة قذرة استفزته، توعده الرجل قائلاً:
-وعزة جلال الله ما هنسيبك إلا في القسم، وكلنا شاهدين على اللي عملته معاها، صح يا رجالة؟
وافقه الجميع مرددًا:
-أيوه، مظبوط!
تكالب الرجال حوله لتقييد حركته وتثبيته بالأرضية، ومع هذا لم يتوقف "منسي" عن إظهار شماتته وفخره بما اجتره في حقها.

-بتقول إيه؟
هتفت "رغد" متسائلة بتلك الكلمات المقتضبة بعدم تصديق وقد أبلغها زوجها بوصوله إلى مطار القاهرة وإنهائه للإجراءات الخاصة بذلك، تفاجأت من حضوره غير المحسوب في مخططها الانتقامي ليربك حساباتها نوعًا ما، للحظة شردت تفكر فيما ستفعله وكيف ستتعامل معه، انتشلها من تفكيرها المتعمق صوته المتسائل بجدية بحتة:
-إنتي أعدة في أنهو فندق؟

عبست تعبيرات وجهها والتي لم تنم عن خير بأي حال من الأحوال وهي تجيبه بامتعاضٍ:
-هبعتلك اللوكيشن على الواتس
ثم زفرت متابعة بتوبيخٍ صريح:
-وبعدين كان المفروض تعرفني الأول!
علق عليها ببرود جاف:
-مش لما أعرف اتكلم معاكي من الأساس!
ردت بنرفزةٍ:
-أنا مش فاهمة لازمتها إيه تيجي من آخر الدنيا لحد هنا عندي و...

قاطعها "أكرم" بسماجةٍ:
-عشان أعرف مراتي بتعمل إيه طالما الفضايح اللي بتعملها مالية الأخبار ووجودي مش فارق معاها ولا حتى سمعتها أو سمعة ولادها
هدرت به بعصبية وقد اشتعلت نظراتها:
-قولتلك دي حاجة تخصني
هتف معترضًا بقوةٍ:
-لأ يا "رغد"، إنتي متجوزة راجل مش طرطور تكلميه وقت ما تحبي وتعبريه وقت ما تفتكري، أنا بني آدم وعندي كرامة وورايا مسئوليات ودور مهم، كون إنك مش مقدرة ده أو حتى مش حاسة بيه فدي مش مشكلتي.

احتجت مستخفة بالنزعة الذكورية التي ظهرت فجأة عليه:
-ده على أساس إني فارقة معاك أوي، بلاش نضحك على بعض يا "أكرم"
كان على وشك الدفاع عن نفسه لكنها واصلت هجومها عليه لتغلق عليه الدائرة وتحجم منه:
-إنت عارف كويس أوي إن جوازنا روتيني، مافيش فيه حب ولا مشاعر
رد بصوت شبه مختنق:
-هنتكلم في ده بعدين، ابعتي العنوان، باي!

انزعجت "رغد" من طريقته الفظة في التحاور معها أو حتى في إنهاء المكالمة، ضاقت عيناها بشكٍ مريب، فمجيئه الآن لن يخدم مصالحها، بل ربما سيعوقها بشكلٍ أو بآخر، وهي ليست بحاجة لتعطيل ما تسعى جاهدة إليه، ومع هذا حاولت بث الثقة إلى نفسها كي تستعيد ثباتها، عادت ملامحها للارتخاء سريعًا عندما أضاء عقلها بفكرة خبيثة ستبرر فيها للمتابعين والمهتمين بقضيتها سبب تواجده، ستستغله في إثبات دعمه لها ووقوفه إلى جوارها في مشكلتها الكبيرة، التوت شفتاها ببسمة مغترة وهي تشجع نفسها:

-دي أحسن حجة أقنع الناس والميديا فيها بوجودك هنا معايا، برافو عليكي يا "رغد"!
كتفت ذراعيها أمام صدرها وهي تطلق تنهيدة مطولة من صدرها قبل أن تضيف بتهكمٍ ساخر:
-مش خسارة مخي ده يكون مع حد تاني غيرك يا .. "أوس"؟!

فارق جفناه النوم رغم التعب والإرهاق الشديدين وبقي جالسًا بجوار فراشها لساعات منتظرًا بترقبٍ استعادتها لوعيها، لم ينشغل عنها بشيءٍ، حتى بعد فجيعته في خسارة جنينه اضطر أن يكتم مشاعره المتألمة بداخله وركز كل تفكيره معها، وما إن حركت رأسها قليلاً حتى انتفض من جلسته المتعبة ليدنو منها، مال "عدي" نحو زوجته ثم انحنى عليها ليقبلها أعلى رأسها بحنوٍ، التقط كفها براحته وضغط بأصابعه برفق عليها وهو يهمس لها:
-"ليان".

ورغم كون صوته مليئًا بالشجن والحزن إلا أنه جاهد ليخفي ما يشعر به، تلمس بيده الأخرى جبينها وواصل همسه باسمها لتفيق وتجيب عليه، ومن بين ضلالاتها استطاعت تمييز صوته، أصدرت أنينًا خافتًا ممزوجًا بألمٍ محسوس وهي تدير رأسها في اتجاهه، فتحت "ليان" جفنيها بتثاقلٍ ثم نظرت له بنصف عين لتتبين هويته وتتأكد أنها لم تتوهم وجوده، سألته بخفوت وإرهاقٍ بائن:
-أنا فين؟

أجابها "عدي" متصنعًا الابتسام:
-متقلقيش يا حبيبتي إنتي بخير دلوقتي
ألقت نظرة خاطفة على المكان من حولها لتتبين أين هي، استطاعت ببساطة أن تخمن وجودها في المشفى بالإضافة لشعورها بالوخزات في جسدها، تأوهت بألمٍ وقد بدت أنفاسها هادرة، سألته من جديد بصوتها المتعب:
-أنا إيه اللي جابني هنا؟

ابتلع "عدي" الغصة العالقة في جوفه فبدت كالعلقم المر في حلقه لتزيد من إحساسه بالضيق والحزن، حتى تعبيرات وجهه اشتدت وعكست حسرته، بدأ عقل "ليان" في استيعاب سيل الذكريات المتدفق إليه لتستعيد ما حدث معها مؤخرًا، وتلقائيًا تحركت يدها لتلامس بطنها وهي تتساءل بخوفٍ:
-ابننا! حصله حاجة؟!
شهقت متألمة من إحساس الوجع الذي أصابها، ركزت نظراتها المشوشة على وجه زوجها، سألته بنبرة أقرب للهاث:
-هو كويس، صح؟

اغرورقت عيناه بالدمعات سريعًا، فلم يستطع كبح حزنه، انخفض بجزعه عليها لتشعر بحرارة أنفاسه المختنقة أثناء تقبيله لأعلى جبينها ليقول لها بعدها بمرارةٍ وانكسار:
-للأسف احنا.. خسرناه
طالعته بعينين مصدومتين ترقرقت فيهما العبرات، حاول "عدي" أن يضفي القليل من الأمل ليخفف من وطأة الأمر ويهونه عليها لذا تابع بصوته الشجي:
-بس أكيد ربنا هيعوضنا.

بكت "ليان" في صمت ليرتفع تدريجيًا نحيبها وهي تتذكر كيف خسرته، مسد "عدي" على رأسها بحنوٍ عاجزًا عن إيجاد الكلمات المناسبة والمواسية لها، فهي مثلها يعاني من مرارة الفقد والخسارة، فقد كان تعلقه بوجود ذلك الجنين يفوقها بكثير، تصلب جسده فجأة مع الصوت الرجولي الغريب الذي اقتحم الغرفة ليقول ببرودٍ:
-مساء الخير، حمدلله على سلامة المدام.

اعتدل "عدي" في وقفته وحدجه بعينين منزعجتين، كذلك لمح ذلك التابع الآتي معه، سأله مهاجمًا بصوته المختنق والغاضب ونظراته تتفحص الاثنان بحنقٍ:
-إنتو مين؟ ومين سمحلكم تدخلوا هنا و..
وضع الرجل الأول كفيه في جيبي بنطاله، ورمقه بغرور قبل أن يقاطعه بلهجته الجافة:
-اهدى يا أستاذ، أنا الظابط المسئول عن التحقيق في قضية المدام، وجاي هنا عشان أخد أقوالها، وده ال ...

استفزه رد الضابط فهتف مقاطعًا باحتجاجٍ كبير:
-وحضراتكم شايفين إن ده وقته؟!
ألقى الضابط نظرة متفحصة على زوجته المسجاة على الفراش ثم تنحنح معقبًا بروتينية:
-احنا دورنا نعرف مين اللي عمل فيها كده ونحاسبه، وكلام المدام هيفيدنا نوصل ليهم في أسرع وقت
رد عليه "عدي" بضيقٍ:
-تمام، بس لما حالتها ووضعها الصحي يسمح بده الأول.

أومأ الضابط برأسه في تفهم، تصنع الابتسام وهو يقول بسخافةٍ:
-أكيد، ألف سلامة عليها، وعمومًا احنا أخدنا أقوال الآنسة "جايدا" اللي كانت معاها، وقبل ما نيجي سألنا الدكتور ومكانش عنده أي مانع نستجوبها
اعترض عليه بإصرار:
-مش دلوقتي، لما نفسيتها تبقى أحسن، وهي مش هتهرب منك.

وجد الضابط عنادًا رافضًا من زوجها للتعاون معه، وربما قد يتطور الأمر مع استمراره للضغط عليه لشيء غير مضمون، تبادل نظرة غامضة مع الضابط الآخر المرافق له ثم هز رأسه في إيماءة صغيرة وأردف قائلاً:
-أوكي، تمام أنا مقدر ظرفها الصحي وهنتكلم معاها في وقت تاني، ومرة تانية حمدلله على سلامة ال .. المدام
تقوس فمه مرددًا بامتعاضٍ:
-شكرًا.

راقبهما حتى انصرفا من الغرفة ليعاود التحديق إلى وجه زوجته التي استسلمت لتأثير المهدئ الموضوع في المحلول المثبت في رسغها، تنفس "عدي" بعمقٍ ليضبط انفعالاته التي تأرجحت بين الغضب والحزن، مرر يده بين خصلات شعره هامسًا لها بوعدٍ صادق وكأنه يعد نفسه قبلها:
-هنعدي ده كله يا "ليوو"، اطمني!

صدمة أخرى موجعة تلقاها شوشت ذهنه ووترت الأجواء أكثر من حوله، ناهيك عن قلقه الممتزج بخوفه عليها، انتقل "أوس" سريعًا إلى المشفى ومعه زوجته للاطمئنان على شقيقته الصغرى بعد أن عرف بذلك الحادث المأساوي الذي تعرضت له وكانت ضحية اعتداء وحشي لبعض الغرباء ممن تربصوا بها، كانت "ليان" غائبة عن الوعي بفعل المهدئات حينما جلست "تقى" بجوار فراشها، أمسكت الأخيرة بالمصحف الشريف لتقرأ بعض الآيات القرآنية لها، في حين بقي "أوس" بالخارج ليتحدث مع "عدي" الذي كان على حافة الانهيار، واساه صديقه قائلاً بلهجته الجادة:
-اطمن، هاتقوم منها وهاتبقى كويسة.

أخرج زفيرًا مهمومًا من صدره وهو يرد:
-أها.. مظبوط
حاول "أوس" التخفيف من صدمة خسارته فشد من أزره هاتفًا:
-والحمل سهل يحصل تاني، متقلقش، معظم البنات بيحصل معاهم كده في الأول، يعني مش أنا اللي هاقولك، إنت أكيد عارف ده
نكس "عدي" رأسه بيأسٍ قبل أن يرد مقتضبًا:
-أكيد
سأله من جديد مستفهمًا وقد ضاقت حدقتاه:
-ومقالتلكش مين عمل فيها كده؟

أجابه نافيًا:
-لأ
فرك "أوس" طرف ذقنه بحركة ثابتة وقد انشغل عقله بالتفكير مليًا فيما أصابها، تركزت نظراته على رفيقه متمتمًا وكأنه يفكر بصوتٍ مسموع:
-الموضوع مش راكب على بعضه، الحكاية فيها إن وحاسس إنها مقصودة!
أومأ "عدي" برأسه مؤيدًا:
-وأنا معاك في ده، مش مرتاح للي حصلها
-احنا لازم نشوف ...

قطع "أوس" حديثه المسترسل مع زوج أخته عندما رأى "جايدا" قادمة في اتجاههما، استدار "عدي" لينظر إليها بتفحصٍ، فقد كانت هي الأخرى بصحبة زوجته وتعرضت لبعض الإصابات الجسدية لكنها لم تكن في خطورة رفيقتها التي تأذت بشدة، سألها باهتمامٍ بعد أن اعتذر لها:
-سوري يا "جايدا"، اتلبخنا مع "ليان" ومسألتش عنك، إنتي أحسن دلوقتي؟
هزت رأسها بالإيجاب:
-أه تمام، المهم "ليوو"، هي عاملة إيه دلوقتي؟

أجابها بضيقٍ:
-الدكاترة طمنونا، بس إنتي شوفتي اتعمل فيها إيه
تابعت "جايدا" موضحة بنبرة شبه منفعلة:
-والله هما كانوا قاصدين ده، واحنا حاولنا نبعد عنهم، وفضلوا مصممين يكسروا علينا لحد ما ...
مع كلماتها المثيرة تلك أرغم "أوس" عينيه على التركيز معها ليسألها مقاطعًا وهو يشير بكف يده:
-ثواني كده، فهميني بالراحة وواحدة واحدة حصل إيه
التفتت نحوه لتجيبه:
-ما أنا حكيت كل حاجة للظابط.

صاح بها بلهجته الصارمة ووجهه يشع حنقًا بائنًا:
-لا معلش، أنا غيرهم وعاوز اسمع كل اللي حصل بالتفصيل
ارتبكت من صرامته الطاغية وردت محركة رأسها بتوترٍ:
-اوكي، هحاول افتكر.

عمد "عدي" إلى استمالة قلبها واسترقاقه نحو رفيقتها كي تتعاون معهما فأضاف بصوته الرخيم:
-"جايدا"، اللي راقدة جوا دي بين الحياة والموت صاحبتك الأنتيم، ده طبعًا غير إننا خسرنا ابننا اللي جاي، وده مش سهل علينا
ضغطت على شفتيها هامسة بأسفٍ:
-أنا مقدرة ده
عقب عليه "أوس" بلهجته الشديدة:
-يعني من الآخر لازم تفتكري كل حاجة حتى لو كانت صغيرة عشان تساعدينا نوصل للي عمل فيكو ده وناخد حقها وحقك منه، تمام
ردت عليه دون أن تفكر مرتين:
-حاضر

أبلغها الجيران ممن رأوا ابنتها بالمشفى المتواضع وعرفوا هويتها بوجودها هناك فهرعت مفزوعة لتعرف ما الذي أصابها، لحقت بها بكريتها لتتفاجأ هي الأخرى بالفاجعة التي حلت بها، لطمت "أم بطة" على صدرها ووجنتيها وهي تولول بحسرةٍ كبيرة، رجتها ابنتها بضيقٍ:
-كفاية يامه.

رفعت والدتها رأسها لتنظر لها بحدقتين تعكسين حنقًا عظيمًا:
-مش قولتلك ياختي؟ ده اللي كنت خايفة منه، وأهوو حصل، "منسي" مش واد أي كلام عشان يفوت حقه كده، أدي بنتي راحت في الرجلين
ردت عليها "بطة" بامتعاضٍ:
-اصبري بس أما الضاكتور يطلع ويقولنا مالها
مصمصت شفتيها معقبة:
-هايكون إيه غير نصيبة جديدة، استرها معانا يا رب، ده احنا ولايا ولوحدنا!

رفعت "بطة" عينيها إلى السماء لتهمس بتضرعٍ:
-عديها على خير يا رب
لم تجد والدتها مقعدًا شاغرًا لتجلس عليه فافترشت بجسدها إحدى الزوايا مراقبة حركة الأطباء والممرضين، ثم واصلت نواحها:
-يا حسرة قلبي على الغلب اللي بقينا فيه، لا بنلحق نفرح ولا نرتاح، كان مستخبيلنا ده فين؟
اغتاظت ابنتها من حنقها فوبختها بحذرٍ:
-إنتي هتقدري البلاء قبل وقوعه يامه.

زجرتها بعصبيةٍ:
-ماتسيبني أفك عن نفسي ولا عاوزاني أطق أموت بحسرتي؟
ضغطت على شفتيها لتقول بتبرمٍ:
-بس مش كده!
ضربت "أم بطة" على فخذيها بعد أن وضعت حافظة نقودها القديمة في حجرها لتضيف بولولة:
-وده مين اللي هايفكر بعد كده يدق بابنا يطلب إيد أختك، يا نصيبتي، سمعتنا راحت واللي كان كان.

ضجرت "بطة" من سخطها ونقمتها على ما صار بأختها الصغرى، بالإضافة إلى استنكارها لتفكيرها المحدود والمنحصر في تزويجها فقط، خرجت عن شعورها لترد مهاجمة بشراسةٍ:
-هو في إيه لكل ده؟ نصيبها هايجيلها لما ربنا يأذن، وبعدين هي كانت غلطت في إيه يعني؟ ده بدل ما نشوف هنعمل إيه مع البلطجي ابن الحرام اللي كان مستقصدها، أل وكان عاوز يتجوزها، بركة يا جامع إن ده محصلش، خليها تشوف مستقبلها وتكمل علامها و...

نظرت لها شزرًا قبل أن تنهرها:
-والله ما مودي البت دي في داهية ومالي دماغها بالكلام الفارغ ده ومشجعها على كده غيرك إنتي
ردت بعدم اكتراثٍ:
-مش كله في مصلحتها
علمت أمها أنها لن تصل معها إلى شيء فلكزتها بقسوة في جانبها صائحة بها بعصبية:
-قومي اسألي حد من الممرضات ولا الدكاترة هنا عنها بدل ما إنتي بتسممي بدني بكلامك ده
زمت شفتيها لترد بتأفف:
-ماشي يامه.

سارت ببطء متأملة أوجه الممرضات لتبحث بينهن عمن تتوسم فيها خيرًا لتساعدها، رأت إحداهن تقف بجوار باب الطوارئ فتحمست للذهاب إليها والحديث معها، هتفت صائحة وهي تلوح بذراعها:
-يا أبلة لو سمحتي
رمقتها الممرضة بنظرة مزعوجة من ذلك اللقب الذي منحته لها، ردت عليها على مضض بعد زفير مطول ومسموع أشار لنفاذ صبرها:
-خير.

تجاهلت "بطة" امتعاضها الظاهر على تعبيرات وجهها لتسألها:
-ولاد الحلال قالولنا إن أختي شافوها هنا وسألت برا قالولي إنها في الطوارئ، متعرفيش إن كانت طلعت ولا لأ؟
أجابتها بوجهٍ عابس:
-أنا جاية من هناك، مافيش حالات جوا، شوفيها في عنبر 3 اللي في الدور الأول، حالات الستات بنوديها فيه
حدجتها "بطة" بنظرة جافة معلقة عليها:
-تُشكري.

عادت إلى والدتها وهي تغمغم بكلمات متبرمة، سألتها الأخيرة مستفهمة وقد تركزت عيناها الغاضبتان عليها:
-ها عرفتي هي فين؟
ردت مشيرة بيدها للأعلى:
-الممرضة قالت أشوفها فوق
لوحت لها والدتها هاتفة بصيغة آمرة:
-طب اسنديني خليني أعرف أقوم.

أحنت "بطة" جسدها قليلاً عليها ممررة ذراعها إليه لتستند عليه فتتمكن من مساعدتها على النهوض، سارت كلتاهما في اتجاه الدرج، تجاوزتا زحام أهالي المرضى المتراصين في أركان المشفى لتصلا إلى الطابق العلوي، لم تعرفا إلى أين تتجها تحديدًا، جابت "بطة" بنظراتها اللافتات القديمة المعلقة بجوار الأبواب العريضة، ثم هتفت لأمها بارتياح بعد أن وقعت أنظارها على ضالتها:
-هناك يامه.

اقتربت الاثنتان من الباب المتسع، وقبل أن تلجا للداخل استوقفتها إحدى الممرضات متسائلة برسمية بحتة:
-إنتو جايين هنا لمين؟
أجابتها "بطة" بسلاسة:
-أختى "هالة" سألنا تحت عنها قالولنا إنها موجودة هنا
سألتها الممرضة ببرود رامقة إياها بنظرة جافة خالية من التعاطف:
-في كتير جوا، شكلها إيه ولا كانت لابسة إيه؟
هتفت موضحة:
-هي كانت راجعة من المدرسة الثانوي بتاعتها و...

أشارت بيدها مقاطعة ببساطة وكأن ما تلقيه على مسامعهما أمر هين:
-خلاص عرفتها، دي اللي جتلنا في حادثة مياه النار، هتلاقيها تاني سرير على إيدك الشمال
تبادلت "بطة" نظرات جمعت بين الصدمة والفزع مع والدتها التي صُعقت هي الأخرى من كلمات الممرضة، كتمت شهقتها المتحسرة قبل أن تنفلت منها، في حين لطمت أمها على صدغها وقد توقعت حدوث الأسوأ:
-يا لهوي، بتقولي إيه...؟!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة