قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم الفصل التاسع

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم الفصل التاسع

( الجزء الخامس من ذئاب لا تعرف الحب )

زحف بمرفقيه متراجعًا للخلف وكامل نظراته مركزة على وجهه الصارم الذي كلما اقترب أكثر منه قذف الرعب في قلبه، لم يكن يتخيل أنه سيلتقي بأشدهم شراسةً وقسوة وقد ظن أنه في معزلٍ آمن عن تلك العائلة، صرخ مفزوعًا حينما انتزعت قبضتان عنيفتان جسده من رقدته لتجبره على النهوض ومواجهته، هتف نافيًا عله بذلك ينجو ببدنه من شر مستطير:
-أنا ماليش دعوة، أنا كنت بأنفذ الأوامر، ومعملتش حاجة.

كلمات ظن أنها المُنجية لكنها فتحت عليه بابًا من الجحيم، تكفل فردين من أفراد الحراسة بتقييد حركة الرجل ليعجز عن الهروب، وما عليه إلا مواجهة مصيره المحتوم. تم سحبه نحو إحدى الزوايا شبه المعتمة، وإلصاق ظهره بعمود سميك يتوارى من يتواجد أمامه عن الأنظار وعدسات الكاميرات، وقف "أوس" قبالته ونظراته النارية مركزة عليه، فقط ينظر إليه بشكل ضاعف من حالة الهلع المسيطرة عليه. حاول "عدي" التقدم وتجاوز رفيقه إلا أن ذراعه كان كافيًا لإيقافه في مكانه، رغمًا عنه اضطر أن ينصاع لأمره غير المنطوق ليتمتم من بين أسنانه المضغوطة:
-ليا لي تار معاه، فسبيني عليه!

رد "أوس" بهدوءٍ مخيف:
-أنا هتعامل
هتف الرجل مجددًا يتوسله:
-أنا معملتش حاجة يا باشا، والله ما عملت!
بثباتٍ انفعاليٍ عجيب يناقض طبيعة الموقف التي تتطلب عدائية مبررة تحرك "أوس" خطوتين ليقلص المسافات مع عدوه، نظر في عينيه مباشرة وهو يتوعده:
-هتندم على اليوم اللي فكرت تقرب فيه من عيلة "الجندي".
بدا صوته أكثر قتامةً عندما أكمل:
-وخصوصًا من أختي!
ارتجف الرجل وشخصت أبصاره عقب جملته المروعة للأبدان، خرج صوته متلعثمًا وراجيًا:
-ارحمني يا باشا .. أنا .. آآآآه.

صرخة متألمة بترت رجائه غير المجدي حينما تلقى لكمة عنيفة فتكت بفكه السفلي وكادت تخلعه، تبعتها تأويهة موجوعة من تسديدة عنيفة أسفل معدته في موضع خطير ضاعف من إحساس الألم وشراسته، عجز الرجل حتى عن التكوم على نفسه، أحكمت القبضات القوية الإمساك به، فأصبح ككيس الملاكمة يتلقى الضربات التمهيدية قبل تعذيبه على طريقة "أوس الجندي". مرر الأخير نظراته المهددة على وجهي فردي الأمن يأمرهما:
-خدوه على المخزن!

صرخ الرجل بهيسترية مقاومًا سحبه:
-لا يا باشا، ارحمني أبوس إيديك، أنا مقربتش منها!
وكأنه يُحادث الفراغ، لم يجد لتوسلاته الشديدة أي صدى، تم جره قسرًا لسيارة أفراد الحراسة ودفعه لداخلها لتنطلق بعد دقيقة إلى الخارج. بقي "عدي" متسمرًا في مكانه يراقب المشهد بعينين مغلولتين، استدار نحو رفيقه يعنفه بأعصابٍ منفلتة:
-ماسبتنيش عليه ليه؟
أجابه ببرود:
-ليك دورك، بس مش هنا.

صاح محتجًا بصوته الغاضب:
-اللي زيه لازم يتعلقوا لحد ما يقول حقي برقبتي، وحق مراتي مش هاسيبه، هاعذبه لحد ما يعترف على الكلب اللي وراه
رد مؤكدًا بصوتٍ مخيف:
-هيحصل، إنت ناسي إن دي كانت طريقتنا؟!
ثم صمت للحظة ليستأنف بعدها قائلاً بمراوغة محسوسة:
-وبعدين واحدة زي "رغد" محتاجة نمشي معها في طريقين؛ واحد قانوني، والتاني.. إنت فاهم بقى!

عكست قسمات وجه "عدي" غضبه المحموم، واضطر مرغمًا أن يضبط انفعالاته. التفت "أوس" نحو فرد أمن آخر يُملي عليه أوامره:
-إنت! اسبقني على ال security room !
رد دون نقاشٍ:
-تمام يا فندم
سأله "عدي" باستغراب:
-وإنت عاوز تروح هناك ليه؟
أجابه بنبرةٍ ذات مغزى:
-عشان الكاميرات، إنت مش واخد بالك ولا إيه؟

تلفت "عدي" حوله بتوترٍ ليجد عدسات الكاميرات الالكترونية موضوعة في أكثر من زاوية لتلتقط ما يدور بالأسفل وتسجله، فهم ما يرمي إليه وادعى الهدوء. سار الاثنان بعدها بخطواتٍ شبه سريعة يتبعهم من تبقى من أفراد الأمن في اتجاه حجرة المراقبة الأمنية الموجودة بمركز التسوق الشهير ليفرغا شرائط المراقبة ويمسحا ما قد يدينهما بأي شكلٍ.

بيدٍ مرتعشة أمسكت بكوب الماء الذي أحضرته لها مدبرة المنزل، وضعته على فمها لترتشف منه القليل وبمساعدة حانية من "تقى" كي لا يسقط من بين أناملها، حاولت "ليان" السيطرة على الرجفة التي انتابت جسدها، لكن لا جدوى، فمنذ أن أبصرت ذاك الرجل وهي في حالة أقل ما يوصف عنها بأنها على وشك الانهيار، هدأت زوجة أخيها من روعها قائلة:
-متخافيش يا "ليان"، "أوس" هيعرف يتصرف معاه
ردت عليها متسائلة بصوتها المهزوز وسيل الذكريات المؤلم يتدفق إلى عقلها:
-اشمعنى أنا؟ ليه كان عاوز ينتقم مني؟ أنا أذيته في إيه؟!

أجابتها بنبرة عقلانية آملة بذلك أن تمتص انفعالاتها:
-كله هيبان، وزي ما قولتلك أخوكي هيعرف مين وراه وعمل كده ليه. اطمني!
انتصب كتفاها المتهدلان حينما لمحت "أوس" قادمًا من على بعدٍ وبمفرده، تركت الكوب على الطاولة وهبت واقفة لتهرول نحوه تسأله على عجلٍ:
-عرفت هو مين؟ رد عليا يا "أوس"! ليه كان عاوز يخلص مني و...
قاطعها محتضنًا وجهها براحتيه:
-اهدي شوية، كل حاجة هتعرفيها
سألته "تقى" بتلهفٍ وقد توترت أعصابها:
-هو إنت مسألتوش لسه؟

لم تحصل على رد منه، فقط صمتٌ مريب ليضاعف من إحساس الخوف بداخلها، رددت دون تفكيرٍ:
-أوعى يكون هرب منك أو ملحقتوش تمسكوه
التفت "أوس" نحوها ليرمقها بنظرة جادة وعميقة، ثم أردف معقبًا عليها بثقة كاملة:
-إنتي بتكلمي عن "أوس الجندي"، وأنا مش زي أي حد
تجمدت عينا "تقى" على وجهه المشدود، بينما أضاف بلهجةٍ يشوبها الضيق:
-ولو بفرض كنت سيبته ف "عدي" كان هينسفه، وبرضوه هيعترف!
تنهدت "تقى" معلقة عليه بارتياحٍ تخللها:
-الحمد لله.

واصل حديثه بعدها بجديةٍ:
-دلوقتي احنا هنرجع القاهرة تاني، ما عدا "عدي" هيفضل هنا معاكي يا "ليوو"
سألته "ليان" في استنكارٍ حائرٍ:
-ليه يعني؟ أنا عاوزة أعرف كل حاجة و...
قاطعها بهدوئه الجاد:
-متقلقيش، الموضوع بقى في إيدي وقريب هاجيب البلوى اللي ورا كل اللي بيحصلنا
ثم تقوس فمه ليظهر ابتسامة جانبية متهكمة وهو يتابع:
-مع إني متأكد منها!
لم يكن بحاجة لتفسير كلماته الأخيرة، حيث هتفت "ليان" دون تفكيرٍ وكأنها تعرف الجواب مسبقًا:
-"رغد"، صح؟

امتعض وجهه قائلاً:
-أيوه، هايكون مين غيرها!
ساد صمت ثقيل بين الجميع إلى أن قطعته "ليان" متسائلة بصوتٍ شبه مختنق ونظراتها الحائرة تتفرس وجه شقيقها:
-هي ليه بتكرهنا أوي كده؟ أنا طول عمري عادي معاها و...
لم يدعها تكمل جملتها ليقول بتريثٍ:
-"ليان" إنتي كنتي صغيرة يا حبيبتي، في حاجات متعرفيهاش عنها، دي من أسوأ الناس اللي ممكن تقابليها في حياتك
شعرت بقشعريرة باردة تتسرب إلى أوصالها فهمست:
-أنا خايفة.

ضمها "أوس" بذراعه من كتفيها ليحتويها بداخل صدره، أخفض رأسه عليها ليقول عن ثقة:
-عيب عليكي تقولي كده طول ما أنا موجود، وبعدين لو قصرت في حقك، فجوزك موجود هايقوم بالباقي، ده أنا حايشه بالعافية عنه
احتضنته بذراعيها رافعة عيناها في وجهه وهي تشكره:
-ربنا يخليك ليا
-إنتي ليكي مكانتك عندي يا "ليوو"، وفي غلاوة "تقى"!

قال جملته الأخيرة ونظراته مثبتة مع وجه زوجته النضر الذي تورد خجلاً من مدحه لها أمام الجميع ليؤكد دومًا عن عدم حيائه من الاعتراف بحبه المتيم بها. عادت نظراته تتركز مع "ليان" وهو يطلب منها بصيغةٍ شبه آمرة:
-حاجة تانية مهمة عاوز أعرفك بيها
انعقد حاجباها وهي تسأله:
-إيه هي؟

أجابها على مهلٍ:
-ابعدي الفترة دي عن السوشيال ميديا وأي أخبار ممكن تضايقك
زادت حيرتها وتعقدت ملامحها أكثر من جملته الغامضة، سألته من جديد دون أن يرف جفناها:
-قصدك إيه؟
رد على مضضٍ:
-احنا في معركة قذرة مع بني آدمة ممكن تعمل أي حاجة عشان تدمرنا، وماشية على كل واحد فينا بالدور، فهتلاقيها بتدور في اللي يخصنا حتى لو كان هيجرحنا ويمس سمعتنا وحياتنا الخاصة و...
توقف لثانية لتتحول قسماته للجدية الشديدة قبل أن يستأنف قائلاً:
-وماضينا!

كلمة توقفت عندها لبرهة لتفكر مليًا في المغزى من ورائها، عنت لها الكثير وكانت موحية بدرجة جعلت تعبيراتها تبهت، تلعثمت "ليان" وقد وصلها ما يرمي إليه دون حاجته للإفصاح عنه علنًا:
-إنت بتكلم عني .. صح؟ حقيقة نسبي و..
على الفور وضع إصبعه على فمها ليمنعها عن الكلام هاتفًا:
-إنتي أخت "أوس الجندي"، اوعي تنسي ده، ومحدش يقدر يمسك طول ما أنا عايش!

انسلت من أحضانه لتتراجع خطوة للخلف. اغرورقت عيناها بالعبرات الكثيفة التي شكلت سحابة ضبابية شوشرت من الرؤية لديها، كما غص صدرها بالبكاء وهي تفضفض بحرقةٍ:
-هي كده دمرتني وقضت عليا! أنا بقيت ولا حاجة في نظر الناس كلها!

انخرطت في بكاءٍ يدمي القلوب تأثرًا بما عايشته من قبل، أسوأ كوابيسها تُطاردها الآن وعلى مرأى ومسمع من الجميع، فضائح عائلتها تتداولها الألسن وها قد نالت منها هي الأخرى لتقضي على ما تبقى من روحها المنهكة، هزت رأسها للجانبين وقد دفنت وجهها بين راحتيها. اقترب "أوس" خطوة منها وقد استشعر ما تمر به من معاناة عظيمة، حاول تهدئتها قائلاً:
-ماتفكريش في حاجة يا "ليوو".

رفعت كفها أمام وجهه رافضة اقترابه منها وصوت نهنهاتها الباكية قد ارتفع في الأجواء، لم يتحرك قيد أنملة، ظل باقيًا في مكانه إذعانًا لرغبتها وكل عينيه مسلطة عليها، خبأت "ليان" وجهها من جديد بين كفيها وكأنها تهرب بذلك مما يؤذيها. استدار "أوس" برأسه نحو زوجته حينما سألته:
-إنت ناوي على إيه؟

لم يجبها مما ضاعف من خوفها الحائر، وضعت يدها المرتعشة قليلاً على رسغه ترجوه:
-عشان خاطري بلاش تتهور، إنت عندك عيلة وولاد و...
قاطعها بجمودٍ:
-أنا هاتصرف، خليكي إنتي بس معاها
اعترضت بتوترٍ:
-بس يا "أوس"...

إشارة واحدة من عينيه الصارمتين أجبرتها على بتر جملتها، ثم تابع بصيغة الآمر الناهي:
-هتفضلي جمب "ليان" لحد ما "عدي" يرجع، وأنا بلغت "عفاف" والحراسة هيرجعوا بيكي إنتي و"حياة" على القاهرة
كانت تعلم جيدًا أن قراره نهائي لا رجعة فيه، فقط سيطر على نظراتها القلق الممزوج بالخوف. صرخت "ليان" فجأة وقد امتزج صوتها مع شهقاتها المتقطعة:
-حرام عليها، أنا عملتها إيه؟!

على الفور هرولت نحوها "تقى" لتحتضنها وشددت من ضمها لها، تلوت الأخيرة بجسدها محاولة المناص منها، لم تتركها زوجة أخيها وظلت متمسكة بها لتشعرها بالأمان، مسحت على ظهرها برفق مواسية إياها بنعومةٍ:
-والله كله هيعدي، صدقيني يا حبيبتي، هتعدي إن شاءالله!
كان "أوس" مجبرًا على كظم غضبه المندلع بداخله وهو يراها تعذب هكذا كي لا يزيد من الأوضاع تأزمًا، عكست نظراته النارية وملامحه القاسية جزءًا ضئيلاً مما هو مستعرٌ فيه، ولكن الأكيد أنه سيحرق الأرض بمن عليها فقط من أجل أحبائه المرابطين في قلبه.

تقلبت على جانبها الأيمن وهي بالكاد تشعر بعودة وعيها إليها، فتحت عينيها الناعستين بثقلٍ حتى تعتاد على الإضاءة بالغرفة الغريبة المتواجدة بها، كان ملمس الفراش مختلفًا عن ذاك الذي اعتادت على النوم عليه مما دعم حدسها بأنها ليست في منزلها. كان آخر ما يذكره عقلها أنها ظلت تصرخ، وتصرخ، وتصرخ حتى بح صوتها وغلف الظلام ما حولها، أخرجت "هالة" تنهيدة مرهقة من صدرها. اعتدلت في نومتها لتستلقي على ظهرها، ثم أدارت رأسها للجانب الأيسر لتتفاجأ به جالسًا في هدوءٍ يراقبها بعينين متلهفتين وبسمة لطيفة أشرقت على شفتيه. انتفضت مذعورة وانكمشت على نفسها تلومه بنظراتها قبل أن تردد متسائلة بصوتها المرتجف:
-إنت.. بتعمل إيه هنا؟ وإزاي .. جيت؟

اكتفى بالابتسام الرقيق لها، ثنيت ركبتيها إلى صدرها ساحبة الغطاء عليها، تشبثت بأطرافه بأناملها المرتجفة، ثم قالت له بلهجة شبه آمره رغم الرجاء الذي يغلفها:
-رد.. لو سمحت!
حافظ "يامن" على ابتسامته الناعمة وتعبيراته الهادئة وهو يجيبها برزانةٍ اكتسبها مؤخرًا:
-متقلقيش، إنتي هنا في أمان، وأنا قاعد معاكي
بدا صوته أكثر راحة وهو يكمل:
-والكل هنا موجود تحت أمرك.

انفرجت شفتاها عن دهشة مصدومة، بينما تابع متسائلاً باهتمامٍ ظاهر عليه:
-إنتي حاسة بإيه دلوقتي؟
حدقت فيه بعينين مبهوتتين للحظات محاولة استيعاب حقيقة وجوده معها في نفس الغرفة، وانتقالها للمكوث في ذلك المشفى الغريب عنها، تلفتت حولها مرددة بخوفٍ:
-عاوزة أمشي من هنا، عاوزة أرجع بيتي و...

أجبرها على ابتلاع باقي عبارتها حينما صاح فجأة ليقاطعها:
-لأ مش هايحصل!
نظر له في رعبٍ بائن وجسدها ينتفض خوفًا. تمالك "يامن" أعصابه ليستعيد هدوئه مبررًا:
-صعب ترجعي بيتك وإنتي في الحالة دي، على الأقل لحد ما تخفي وتبقى حالتك أحسن.
أصرت على رأيها قائلة:
-لأ، أنا مش هاستنى هنا
هب واقفًا ليقترب منها قائلاً بروية:
-طب اهدي شوية
صرخت فيه تحذره:
-متقربش مني.

رد بهدوءٍ عله يمتص عصبيتها الواضحة:
-متخافيش، أنا مش هاعملك حاجة، أنا عاوز أطمن عليكي
ارتفعت نبرتها الصارخة وهي ترد بإصرار أعند:
-طلعني من هنا
رفع كفيه أمام وجهها متراجعًا بجسده للخلف ليرد بتريثٍ حتى لا تزداد انفعالاً:
-حاضر، بس الأول الدكتور يشوفك ويقول رأيه و..
قاطعته بأنفاسٍ متهدجة رافضة محاولاته لجعلها تعدل عن رأيها:
-لأ، دلوقتي!

هز رأسه قائلاً:
-طيب خلاص، اهدي بس، وأنا هاروح أشوف الدكتور
أطبقت على شفتيها تراقبه بعينيها المذعورتين حتى اتجه إلى الباب ومنه إلى خارج الغرفة، ارتخى جسدها قليلاً بعد اختفائه وبدأت تتنفس بعمق لتستعيد انتظام أنفاسها اللاهثة، أغمضت جفنيها لثوانٍ لتخفف من حدة التوتر المتمكن منها، عاودت فتحهما لتردد مع نفسها بخوفٍ مفهوم:
-أنا بأعمل إيه هنا معاه؟!

على الجانب الآخر، لم يكن ليتركها تنفذ ما تريد دون أن يتخذ تدابيره اللازمة لحمايتها من إيذاء نفسها، هو كان شبه متيقن من كون بقائها بالمشفى يخدمها بكافة الطرق، لذا لجأ إلى الطبيب المتابع لحالتها الصحية طالبًا منه إعطائها دواءً مهدئًا ليحجم من عصبيتها ويجبرها على الاستسلام لقواعد علاجها السليمة، بالطبع وافق الطبيب على طلبه دون مناقشة، فقد كان الخيار الأفضل لصالح المريضة العنيدة. تنحنح "يامن" متسائلاً في اهتمامٍ:
-طيب وبالنسبة للتشوهات اللي في رقبتها ودراعها؟ هل ليها علاج؟
أجابه بمنطقية:
-أكيد طبعًا.

ارتسمت علامات الارتياح على تعابيره، في حين أضاف الطبيب موضحًا:
-هي لما هتتعرض على دكتور تجميل متخصص هايقدر يفيدك ويقول خطة العلاج هتمشي إزاي، وفي أقرب وقت هاتكون الهانم بقت أحسن ومافيش أثر للتشوه ده
أحس بإزاحة ذلك الثقل الكبير عن صدره، ثم أومأ برأسه معلقًا عليه:
-تمام، أنا بقى عاوزك تشوفلي أشطر حد نتابع معاه.
رد الطبيب قائلاً بلباقةٍ:
-تحت أمرك يا فندم، حضرتك تتفضل تنتظرني في مكتبي وأنا هاديك الكارت الخاص بأحسن دكتور تجميل ومعاه كارت توصية مني و...

قاطعه بضيقٍ ظهر في تعبيراته:
-أنا مش محتاج توصية!
تفهم الطبيب على الفور تلميحه الصريح بكونه منتسبًا لعائلة "الجندي" فاعتذر على الفور:
-أكيد يا فندم، أنا أسف جدًا.
وبلطافة مصطنعة أكمل:
-هستأذنك هاروح أشوف الهانم، عن إذنك يا باشا.
قال له "يامن":
-اتفضل.
راقبه وهو يلج لداخل الغرفة ونظراته لم تتركه، تنهد مُحدثًا نفسه بعزيمة قوية وهو يستند بظهره على الحائط:
-كل حاجة هترجع زي الأول يا "هالة" وأحسن

كانت الضربات المؤلمة الموجعة تعرف الطريق جيدًا إلى مواضع الإصابة في جسده لتضاعف من إحساسه بالألم، صرخ مستنجدًا بمن ينقذه من بين أياديهم القاسية، ولكن لا حياة لمن تنادي، فهو في معزلٍ عن الجميع في ذلك المستودع المهجور مُكبلاً إلى أحد الأعمدة الخرسانية بعد أن تم اقتياده إليه، لكمة أخرى سُددت في وجهه المتورم لتضاعف من وجعه، زاد نزف الدماء من بين أسنانه المحطمة، توسله الرجل منتحبًا:
-ارحمني يا باشا.

أشار "أوس" بيده لفرد حراسته الأمني ليأمره بالتوقف عن الاعتداء عليه، اقترب من الرجل ليحدجه بنظرة نارية قاتلة تود الفتك به، كان يعلم في قرارة نفسه أن أسلوبه الشرس العنيف سيأتي بنتائجه في الأخير مع أمثاله من المجرمين وسيخضعه له. قست عيناه نحوه وهو يسأله:
-ها.. مين وراك؟
أجابه الرجل بتأويهة متألمة وجسده المقيد يتأرجح في إنهاك شديد:
-م.. معرفش
رد عليه بلهجة قاسية لا تبشر بأي خيرٍ:
-شكلك مش ناوي تجيبها لبر معايا، وأنا مش بأكرر سؤالي مرتين!

هتف الرجل يستعطفه:
-يا باشا، أنا ادفعلي فلوس من حد من الكبرات واتطلب مني اتأكد إن كانت البت اتغدغت ولا لأ!
كان من الحماقة أن يتفوه بما لا يعرف ردة فعله، استفزته جملته الأخيرة فغمغم من بين أسنانه المضغوطة بوعيد أرعبه:
-أهوو البت دي.. تبقى أختي!
صرخ الرجل مدافعًا عن زلته الجسيمة يتوسله:
-مكونتش أعرف يا باشا، حقك عليا.

لم يشعر إلا بلكمة أخرى عصفت بفكه وحطمت سنته الأمامية لتقابل أختها التي سبقتها واستقرت بجوار قدمه، صرخ مستغيثًا بما تبقى من صوته المبحوح:
-هاموت، حد يلحقني، أنا معملتش حاجة!
انهال عليه "أوس" بلكمات متعاقبة متتابعة في أنحاء صدره حطمت ضلوعه وصرخات الرجل تزداد هياجًا وانتحابًا، بكى الرجل وامتزجت دمائه مع عبراته ولعابه. صرخ يرجوه بعد أن توقف عن ضربه:
-أسف يا باشا، ارحمني أبوس رجليك.

تراجع "أوس" للخلف ماسحًا دمائه العالقة بين أصابعه بالمشنقة التي أحضرها له أحد أفراد حراسته، ثم تابع أمرًا بنبرة لا تعرف للشفقة معنًا:
-خلصوا عليه وارموه للكلاب اللي برا
جزع الرجل على الأخير وتيقن أنها نهايته الحتمية، بهيسترية مرعوبة صرخ مهللاً لينجو ببدنه خاصة حينما أولاه "أوس" ظهره:
-لألألأ، خلاص هاقول اللي أعرفه
توقف عن السير ليستدير نحوه وهو يطالعه بنظراته القاسية، هتف الرجل بنبرة متلهفة لينقذ نفسه من براثنه المميتة:
-هي واحدة هانم كلمتني، وكيشتني بالفلوس، وكان ده كل دوري.

سأله مباشرة:
-حلو.. مين الهانم دي؟
أجابه بصوته المهتز:
-بالله ما أعرفها
رد عليه بتهكمٍ:
-مالهاش اسم؟ بتشتغل كده عمياني؟!
أجابه بترددٍ وأنفاسٍ شبه مقطوعة:
-كان.. باين اسمها.. "رغدة"!
التوى فمه بابتسامة جانبية متهكمة بعد أن تأكددت شكوكه التي تكهن بها منذ بداية الأحداث، تمتم معلقًا عليه:
-إنت كده جيت دوغري معايا
سأله الرجل وكأنه استشعر في كلماته طوق النجاة:
-يعني هتسامحني يا باشا؟

أجابه بعد تفكير استنزف أعصابه وقد اتسعت بسمته المخيفة:
-طبعًا، بس لما أخد حقي الأول
وقع قلب الرجل في قدميه هلعًا وقد شخصت نظراته على الأخير، بل وتضاعف إحساسه المذعور أضعافًا مضاعفة حينما نطق من بين شفتيه يأمر رجاله:
-اتعاملوا
-لأ، ارحمني يا باشا، أنا قولت كل اللي أعرفه.

كانت تلك آخر كلمات صرخ بها الرجل يرجوه أن يمنحه العفو قبل أن يتحرك تاركًا إياه يتلقى عقوبته نتيجة جريمته التي اقترفها في حق من يخصه، اشتعلت عينا "أوس" بوهجٍ مرعب وتوحشت نظراته قائلاً عن نبرة لا تعرف للمغفرة مفهومًا:
-كده إنتي كتبتي نهايتك بإيدك يا "رغد"...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة