قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم الفصل الأول

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم

رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم الفصل الأول

( الجزء الخامس من ذئاب لا تعرف الحب )

قبل عودتها المزعومة للفندق بعدة ساعات للقيام بالجزء الهام من خطتها الجهنمية، كانت في طريقها لملاقاة أحدهم في ذلك المكان الكئيب المطبق على الأنفاس والقاضي على الحريات حيث يتواجد هو ليشهد بنفسه على صدق ما وعدته به، وبحركة عاجزة ثقيلة أظهرت معاناة واضحة وجسدت آلامًا ملموسة ومقروءة على تعابير وجهه تحرك "فارس" بتأنٍ حذر في اتجاه المقعد المخصص له متكئًا على عكازٍ خشبيٍ ليقابل تلك الحسناء التي تنتظره في محبسه.

كانت المرة الأولى التي يراها فيها، لكن من مظهرها الثري ورائحة عطرها الثمين خمن أن تكون من ذوات الشأن، في البداية تعجب من رغبة إحداهن بالالتقاء به، لكن بعد معرفته لهويتها اختفى التعجب وحل الفضول بديلاً عنه، أسند عكازه الخشبي إلى جواره ثم طالعها بنظرات متفحصة لكل جزء فيها –وخاصة جسدها الرشيق- ممتعًا عيناه بما حُرم منه وموهمًا نفسه بأنه لا زال قادرًا على الشعور بالمشاعر الذكورية التي تتأثر برؤية أي أنثى فاتنة، انتشلته "رغد" من تحديقه الجريء بها بقول:
-سمعت بنفسك، كل اللي إنت عاوزه حصل، وهي اقرى عليها الفاتحة ده لو حابب.

مزجت كلماتها الأخيرة المتهكمة ببسمة شامتة، ورغم ابتسامته الفاترة إلا أنه رد بحماسٍ دون أن يبعد نظراته عنها:
-وفيتي بوعدك يا هانم
استقامت "رغد" أكثر في جلستها لترد عن ثقةٍ:
-ولسه، طول ما إنت بتساعديني أنا هاعوضك عن اللي حصلك
وكأنها قد لامست بكلماتها وترًا حساسًا فتجهمت تعابيره وأظلمت نظراته أكثر، أخرج زفيرًا مخنوقًا من صدره قبل أن يعلق بحنقٍ شديد:
-اللي راح مابيرجعش يا ست الكل.

هنا شرد "فارس" للحظات مستعيدًا في ذاكرته ما حدث له على يد من تجرأ عليه قبل أشهر لينتزع منه بقسوة لا تضاهيها أي قساوة ما يميزه كرجلٍ في عالم الرجال كنوعٍ من الانتقام لخداعه لأخته وانتهاك شرفها عن طريق إيقاعه إياها في فخ الحب والزواج الزائف مستغلاً سذاجتها وظروفها النفسية السيئة، ضاقت حدقتاه على الأخير وهو يكمل بنبرة عكست كرهًا مضاعفًا:
-الحاجة الوحيدة اللي هاتشفي غليلي إني أشوف "أوس الجندي" مكسور زيي!

استشعرت "رغد" حالة الغضب الحانق المسيطرة عليه وأيقنت أنها نجحت في استغلال دوافعه الانتقامية وتسخيرها لصالحها وبما يخدمها هي أولاً، فلم يكن من الهين العثور على أعداء "أوس"، لذا اضطرت أن تنفق ببذخ لتحصل على أي معلومة تفيد في خطتها، وها قد وصلت لمرادها بمساعدة أرباب البارات والملاهي الليلية ممن على معرفة سابقة بصاحب المهابة والسُلطة فانتقت هدفها بعنايةٍ وحرص، ردت عليه مؤكدة:
-صدقني هايحصل، طول ما إيدينا في إيد بعض
ودعته بلباقة لتنصرف بعدها عاقدة العزم على إتمام الجزء الثاني من خطتها للإيقاع بابن عمها بالتزامن مع ذلك الحادث المدبر الذي كانت ضحيته .. "ليان".

قضى يومه الروتيني بين الملفات والأوراق محاولاً الانتهاء مما كُلف به من أعمال هامة بصفته الإدارية والتنفيذية حتى انصرف أغلب الموظفين وبقي قلة محدودة، تأخر الوقت ولكنه لم يكترث، رن هاتفه المحمول برقم غريب فلم يجب على الاتصال في البداية، فعادةً يتجاهل تلك النوعية من الاتصالات المزعجة التي لا تتوقف، لكن أنبئه حدسه بوجود خطب ما حينما أصر المتصل على مهاتفته، شعر بانقباضة قوية في صدره وبشيء غير مريح يحثه على الإجابة، ترك "عدي" ما في يده ليجيب على الهاتف قائلاً:
-أيوه.

تركزت حواسه مع الصوت الأنثوي المردد بارتباك محسوس:
-"عدي"
تأكد من معرفة المتصلة لهويته فتساءل باهتمامٍ:
-مين معايا؟
أجابته ببكاءٍ:
-أنا "جايدا"، صاحبة "ليان" مراتك
هنا هب واقفًا من مقعده الجلدي ليبدو أكثر قلقًا وجدية عن ذي قبل، ألقى نظرة خاطفة على ساعة يده ليتأكد من التوقيت، بالفعل تجاوز موعد عودته للفيلا بساعات، ارتسمت علامات التوتر على ملامحه وهو يسألها عفويًا:
-"ليان"! هو في حاجة حصلتلها؟

أحس بنبضات قلبه تتسارع، بخوفٍ عجيب يتسرب تحت جلده ليزيد من تلك الحالة الغريبة التي تجتاحه دون تأخير حينما أجابته رفيقتها:
-احنا في المستشفى، عملنا حادثة و.. ويا ريت تيجي تلحقها
بصعوبة بالغة ومجهود زائد حاول ضبط أعصابه وانفعالاته كي يتقصى المعلومات منها عما أصاب زوجته خاصة أن حديثها كان مبتورًا مخيفًا وملبكًا للأبدان، وما إن انتهى حتى جمع متعلقاته وهرول ركضًا إلى خارج مكتبه، اندفع كالمغيب نحو المصعد غير عابئ بمن يرتطم به في طريقه، تعجب "يامن" الذي التقاه في الرواق من حالته العجيبة فسأله بفضولٍ:
-"عدي" هو...

قاطعه ملوحًا بذراعه ودون أن ينظر إليه:
-بعدين نتكلم، أنا مش فاضي دلوقتي
توقف "يامن" عن السير لينظر له بغرابةٍ حتى اختفى بداخل المصعد، هز كتفيه وهو يردد لنفسه:
-هو ماله؟
مط فمه في عدم اكتراث ثم أكمل سيره نحو بتؤدةٍ نحو المصعد الآخر ليعود إلى منزله وهو متطلع شوقًا لرؤية من احتلت تفكيره مؤخرًا صبيحة الغد، حتى وإن فعل ذلك خلسة دون أن تراه، فقط ليشبع رغبته المتحمسة تلك.

طالعها بنظراته الشغوفة المليئة بالعشق المتيم وهو يمسح بيده على خصلات شعرها المنسابة على الوسادة، ابتسمت له "تقى" بدلال بات هوسه بعد أن تذوقت معنى الحب معه وعرفت كيف تختبر المشاعر الوجدانية بصورة حسية وأكثر عمقًا وتأثيرًا، رأت في حدقتيه الداكنتين انعكاس وجهها، أغمضت عينيها لتظل ملامحه المرتخية ونظراته الهائمة محفورة في ذاكرتها، عاودت فتح جفنيها لتهمس له بأنفاس شعر بحرارتها:
-بأحبك
أخفض "أوس" رأسه ليتلمس شفتيها ثم رد هامسًا بتنهيدة عذبة:
-مش أكتر مني!

رفعت "تقى" ذراعيها للأعلى قليلاً لتتعلق بعنقه وثبتت أنظارها على عينيه اللاتين التهمتا نظراتها الوالهة على الفور، ضمها إلى صدره وشعرت بقوته وهي بين أحضانه، تلك القوة التي تلين كليًا فقط من أجلها، تراجعت قليلاً عنه لتنظر من جديد إلى ملامحه الجادة وإيماءاته، ثم مدت يدها لتتلمس بأناملها وجهه وذقنه وكل تفصيلة فيه، حرك "أوس" رأسه للجانب قليلاً ليتمكن من تقبيل يدها، انطلقت منها ضحكة متغنجة خافتة مع حركته تلك، وقبل أن يشرعا في تعميق أحاسيسهما انتبها للدقات الثابتة على باب الغرفة، ارتبكت "تقى" وتوقفت عن بث مشاعرها لزوجها.

في حين تجهمت تعبيرات وجهه واشتدت غلظة وقست نظراته من ذلك الفظ المزعج الذي انتقى ذلك الوقت تحديدًا ليفصلهما عن لحظتهما الخاصة، تراجع "أوس" عن الفراش ليتجه نحو الباب وهو ينتوي شرًا للطارق، وضع يده على المقبض هاتفًا بخشونة:
-في إيه؟

وارب الباب ليمنح بعض الخصوصية لزوجته التي توارت خلف الغطاء لتخفي جسدها فيما عدا حواسها التي تركزت مع أوس، تجمدت نظرات الأخير على مدبرته "عفاف" التي وقفت مطرقة الرأس ومتحرجة للغاية من مجيئها، لكن ما باليد حيلة، فقد كانت مضطرة لفعل ذلك، ازدردت ريقها قبل أن تقول بارتباكٍ وهي تعتذر منه:
-أسفة يا باشا على إزعاجك، بس ..آ..
ضغطت على شفتيها بقوةٍ محاولة إتمام جملتها للنهاية، نفذ صبره من مماطلتها فهدر بها:
-ما تكملي كلامك، في إيه يا "عفاف"؟

أجابته بترددٍ:
-البوليس موجود تحت و..
توقفت لثانية لتلتقط أنفاسها ثم تابعت بنبرة مرتجفة وهي ترمش بعينيها:
-وعاوز سيادتك
ازدادت ملامحه تعقيدًا وانزوى ما بين حاجبيه باندهاش مستنكر، قست نظراته مرددًا باقتضابٍ عابس:
-عاوزني!
نظرت له بحيرة وفي نفس الوقت متوجسة خيفة من ردة فعله، رمقها "أوس" بنظراته الجادة قبل أن يأمرها:
-اسبقيني على تحت!

أومأت برأسها في خنوعٍ قبل أن تتحرك نحو الدرج تلبية لأوامره، اعتلى "تقى" حالة من القلق والخوف لمجرد سماعها ما قيل، نهضت عن الفراش ساحبة روبها ثم ارتدته وهي تسأله بنبرة متوترة:
-البوليس عاوزك ليه؟
التفت "أوس" ناحيتها ليرد بجفاءٍ:
-معرفش
وقبل أن تنطق بالمزيد لوح بذراعه قائلاً:
-استنيني هنا، أنا هانزل أشوف في إيه
اعترضت عليه بإصرارٍ:
-بس
هتف بها بصرامةٍ:
-خلاص يا "تقى".

ثم اتجه نحو خزانة ثيابه ليحضر ثيابه الرسمية مرتديًا إياهم على عجالة، ظلت "تقى" تتابعه في صمت وهي تفرك أصابع يديها في توترٍ، خرج "أوس" من غرفته سائرًا نحو الدرج ليهبط منه إلى بهو فيلته حيث ينتظر أفراد الشرطة، تقدم أحدهم منه –وكان يرتدي زيًا مدنيًا- فرمقه بنظرة متفحصة دون أن يغفل عن إلقاء نظرة شاملة على من يقفون خلفه، تساءل بلهجته الجادة وهو يعاود التحديق فيمن اعتقد أنه قائدهم:
-خير في إيه؟

أجابه الضابط بنبرة رسمية:
-معانا أمر استدعاء ليك في القسم
قطب جبينه مرددًا باستنكار:
-استدعاء؟ وليا أنا ؟!
أوضح الضابط بهدوئه:
-أيوه، مش سيادتك "أوس الجندي" برضوه؟
وكأن في سؤاله الأخير نبرة تهكمية مستترة، لذا اكتفى بالنظر إليه دون التعليق فتابع الضابط مشيرًا بيده:
-يا ريت حضرتك تتفضل معانا من غير شوشرة
عند تلك الكلمة هتفت "تقى" متسائلة وفي نفس الوقت رافضة لما يحدث:
-يروح معاكو ليه؟

استدار "أوس" كليًا نحو صوتها الأتي من خلفه ليجدها لم تنفذ أوامره وتبعته إلى الأسفل بعد أن ارتدت ثيابها ووضعت حجاب رأسها، أضافت متسائلة بتوترٍ وقد رانت نظراتها نحو زوجها:
-فهمني يا "أوس" في إيه بالظبط؟
حدجها الأخير بحنق وهو يسعى للتحكم في هدوئه أمامها، رفع سبابته أمام وجهها يأمرها:
-اطلعي فوق يا "تقى"
رفضت الانصياع له ووقفت في مواجهته مرددة بعنادٍ:
-لأ، أنا لازم أفهم عاوزينك ليه
قست تعابيره أكثر فصاح بها بلهجة لا تسمح بالجدال أو المراجعة:
-مش لما أعرف أنا الأول، اطلعي فوق مش هاعيد كلامي تاني
ثم التفت برأسه نحو مدبرته يأمرها:
-خديها يا "عفاف"
اقتربت "عفاف" من زوجته تلف ذراعها حول كتفيها وتتوسلها بنظراتها وبرجاءٍ شديد:
-تعالي معايا يا بنتي!

زاغت نظرات "تقى" ورمقت "أوس" بلومٍ وعتاب، فخوفها النابع من قلبها كان حقيقيًا، لكنه منعها من إظهار ذلك وفرض عليها حصاره الصارم ليواجه كالمعتاد مشاكله بنفسه، اضطرت "عفاف" أن تجذبها بقوة طفيفة نحو الدرج، ومع ذلك بقيت أنظارها معلقة بزوجها الذي انصرف مع أفراد الشرطة، جزع قلبها مع ذهابه وشعرت بعدم الارتياح وبوجود كارثة ما وراء ذلك، هكذا أنبئها حدسها الأنثوي، حاولت أن تلتهي مؤقتًا عن التفكير فيما يمكن أن يحدث بالجلوس مع صغيرتها، لكن ظل بالها مشغولاً عليه، رفعت عينيها إلى السماء متضرعة في نفسها:
-استر يا رب من اللي جاي!

-ده اسمه كلام فارغ وجنان!
صرخ بتلك العبارة وهو يضرب بقبضة يده المتكورة على السطح الزجاجي لمكتب الضابط المسئول عن استدعائه لأخذ أقواله بشأن البلاغ المقدم ضده، نظر له المحقق ببرودٍ غير مكترثٍ بحالته الانفعالية المتشنجة، ثم أشار له بيده وهو يقول:
-من فضلك اقعد وخليني أكمل كلامي
صاح "أوس" متسائلاً باستنكارٍ:
-هو لسه في كلام هيتقال؟

أمسك الضابط بطرفي قلمه الحبري بيديه ليطالعه بنظرات جامدة، تنحنح معقبًا بروتينية:
-في شهود بيأكدوا اللي حصل، ودوري هنا أحقق في البلاغ، ويا ريت تهدى عشان أعرف أشوف شغلي
لوح "أوس" بيده رافضًا التعاون معه وهو يقول:
-التخاريف دي تقولها لحد تاني إلا "أوس الجندي"
نظر له الضابط بامتعاض قبل أن يرد عليه بحدةٍ قاصدًا الإقلال من شأنه:
-محدش هنا فوق القانون، حتى لو كان رئيس الجمهورية! أظنك فاهمني يا .. باشا.

كان تلميحه واضحًا دون الحاجة لتفسير ذلك، لذا تمالك "أوس" أعصابه وتنفس بعمقٍ ليسيطر على انفعالاته قبل أن تنفلت، عاد ليجلس على المقعد، ثم أردف قائلاً:
-تمام، وأنا هامشيها قانوني
وضع "أوس" ساقه فوق الأخرى ونظر له بثباتٍ، رفع حاجبه للأعلى قليلاً وهو يقول بهدوء الواثق من براءته وكأنه لم ينفعل مطلقًا:
-المحامي بتاعي واقف برا، خليه يطلع على البلاغ ويشوف في إيه.

هز الضابط رأسه قائلاً:
-حقك
ثم ضغط على الزر الجانبي المثبت على الجانب الأيمن لمكتبه الخشبي ليستدعي العسكري المسئول عن تلبية أوامره، أدى الفرد الأمني التحية العسكرية فأمره الضابط:
-نادي على محامي الأستاذ
-تمام يا باشا

في أقل من نصف ساعة كان المركز الشرطي مكتظًا بعشرات الصحفيين والمراسلين المهتمين بتتبع أخبار مشاهير المجتمع خاصة رجال الأعمال، ويعد هو واحدًا من أشهر رواد صناعة الصلب، تفاجأ "أوس" فور انتهائه من الإدلاء بأقواله بالحشد المرابط بالخارج، اندفع الفضوليون نحوه قاصدين محاصرته بالأسئلة والحصول على الأجوبة الوافية، اقترب منه أحدهم متسائلاً بوقاحةٍ:
-"أوس" باشا، ايه تعليق حضرتك على الاتهامات الموجهة ليك؟ وهل ده ممكن يؤثر فيما بعد على استثمارات مجموعة شركاتك وعلاقاتها بالعملاء داخل وخارج مصر؟

تجاهل الرد عليه وأكمل سيره بخطاه الثابتة في الممر معتمدًا على أفراد حراسته الخاصة في إبعاد المتطفلين والمزعجين عن طريقه، حاول الصحفي استفزازه بعد أن عجز عن الحصول على مراده فسأله عن عمدٍ:
-طب هل زوجة حضرتك على علم باللي حصل؟ ويا ترى حضرتك هتبررها ده إزاي؟

توقف "أوس" عن السير ليحدجه بنظرات قاتلة من عينيه الشرستين، بدت تعبيرات وجهه عدائية ومنذرة بقسوة مهلكة، شعر الصحفي بالانتشاء لكونه قد حقق مطلبه واستطاع أن يثيره بأسلوبه الاستفزازي وظن أنه سيحصل منه على رد ما إن لم تكن فضيحة سيستغلها لصالحه، أدرك "أوس" ما يسعى إليه، وعلى قدر المستطاع أحكم ضبط ردود فعله التلقائية، فليس من الحكمة التفوه بما يمكن أن يدين في مواقف حساسة كتلك، خابت آمال الصحفي سريعًا حينما تجاهله رجل المجتمع المهيب ليتابع سيره نحو سيارته المصطفة بالخارج، وبالطبع حال أفراد الحراسة دون وصول أحدهم إليه مشكلين بأجسادهم مانعًا قويًا حتى ابتعد عن المكان، ومع ذلك لم يوقف هذا المتلصصين وأصحاب الضمائر الفاسدة من استغلال أحداث الماضي في إحداث البلبلة وتشويه الحقائق وخصوصًا ما نشر من قبل عن زوجته "تقى" لتحقيق متابعات وهمية ومبيعات خيالية على حساب الآخرين.

تحسست الكدمات الزرقاء البائنة في وجهها وعنقها بابتسامة عريضة وعينين متوهجتين ببريقٍ شيطاني، هي أتقنت الدور جيدًا وأقنعت الجميع بأنها الضحية، المجني عليها، من قبل ذلك الدنيء المتعطش للعلاقات غير السوية والمختبئ خلف سلطته وسطوته المادية، شعرت "رغد" بالانتشاء والغرور، أخرجت زفيرًا عميقًا من صدرها وهي تنفض خصلات شعرها خلف ظهرها، رددت لنفسها بتباهٍ:
-وريني هاتحلها إزاي بعد ما الكل عرف إنك...

بترت عبارتها عن قصد لتضحك عاليًا، ارتخت تعابير وجهها وزاد ذلك الوهج في نظراتها مع تذكرها لما فعلته بالزاوية المظلمة خارج الفندق، حيث طلبت من أحدهم ممن قامت باستئجارهم بالاعتداء بالضرب عليها وتمزيق ثوبها لتبدو كمن تعرضت لمحاولة اغتصاب، ولكن ما لبثت أن تحولت قسماتها للجدية مع رنين هاتفها وتطلعها لاسم المتصل على شاشته، وبوجهٍ ممتعض أجابت قائلة:
-أيوه يا "أكرم"
صرخ بها زوجها غاضبًا:
-إنتي إزاي كده؟ في واحدة عاقلة تعمل الفضايح دي؟ ممكن تفهميني عملتي ده ليه وعشان خاطر مين؟

نفخت بصوتٍ مسموع لتشعره بعدم تقبلها لسيل الاتهامات التي يليقها على آذانها ثم عقبت ببرودٍ:
-يووه يا "أكرم"، مش كل شوية هتستجوبني، أنا عارفة كويس أنا بأعمل إيه
صاح بها مهاجمًا إياها:
-إنتي مش هترتاحي إلا لما تقضي على نفسك
ردت عليه بنفاذ صبرٍ:
-خلاص بقى
حذرها "أكرم" بلهجة قوية:
-اسمعيني يا "رغد"، أنا لسه مخلصتش كلامي و..
قاطعته بنبرة جليدية غير مبالية:
-بأقولك إيه، أنا مش فاضية دلوقتي، ورايا حاجات كتير، نتكلم بعدين، باي
-يا "رغ..."

أغلقت الخط دون سماع كلماته الأخيرة لتردد بتأفف مزعوج:
-أوف، دايمًا بتفصلني كده
ألقت هاتفها بإهمالٍ على طرف الفراش لتحدق بعدها في الفراغ بنظرات حادة، تمتمت مع نفسها بحنقٍ:
-نفسي أشوف وش البيئة اللي اتجوزتها عامل إيه دلوقتي لما تعرف بمغامراتك معايا
وضعت يدها على منتصف خصرها متابعة حديثها بغرورٍ:
-تلاقيها on fire (والعة) وهيجرالها حاجة، ماهو مش بالساهل لما واحدة تعرف إن جوزها عايش حياته زي ما كان مع واحدة تانية أحلى منها مليون مرة!
أقنعت نفسها بذلك اللهو الفارغ لتضحك بهيسترية بعدها وكأن ما يحدث مسليًا لها.

ذرع أروقة المشفى جيئة وذهابًا وهو يحاول البحث عمن يمكن أن يفيده فيما يخص وضعها الصحي، فمنذ تلقيه لذلك الاتصال المشؤوم وكل شيء أظلم في عينيه، عجز "عدي" عن التفكير بذهنٍ صافٍ فلم يأتِ بباله مهاتفة "أوس" ليخبره بالحادث الذي تعرضت له شقيقته الصغرى، تناسى التصرف بعقلانية وبات كالمهووس وهو يترقب خروج من يطمئنه عليها، انتفض ركضًا نحو الممرضة التي خرجت من غرفة العمليات ليسألها بتلهفٍ:
-أخبار "ليان" إيه؟

وعفويًا امتدت يده لتمسك بذراعها كما لو كان غريقًا يبحث عن تلك القشة التي ستنجيه وهو يرجوها:
-لو سمحتي طمنيني!
نظرت له الممرضة بتعجبٍ وبهدوءٍ استلت ذراعها من بين أصابعه لتجيبه بحذرٍ:
-الدكتور هيطلع دلوقتي ويبلغ حضرتك
-يعني إنتي مش عارفة إن كانت كويسة ولا لأ؟ وابني حصله حاجة ولا ...
نكست رأسها في توترٍ محاولة التهرب منه:
-إن شاء الله خير، عن إذنك!
انفلتت أعصابه منه فاعترض طريقها صائحًا بهياج:
-إنتي مش كنتي معاهم جوا، قوليلي في إيه.

ردت عليه بتلعثمٍ محذرة إياه من التمادي في تصرفاته المنفعلة:
-يا أستاذ ماينفعش اللي بتعمله، قولتلك الدكتور طالع وهيعرفك كل حاجة
رد مبررًا:
-ماهو مافيش حد هنا عاوز يريحني
-اطمن، كله خير
وبحنكة احترافية تمكنت الممرضة من التملص منه لتتركه في حالة أكثر قلقًا وخوفًا عن ذي قبل، ضرب "عدي" بكفه على الحائط في استياءٍ واضح عليه، ارتفعت أنظاره نحو الطبيب الذي خرج لتوه فاندفع نحوه ليسأله بأنفاسٍ شبه متقطعة:
-دكتور، رد عليا، مراتي عاملة إيه و.. وابننا؟ هما كويسين صح؟

بدا الطبيب حذرًا للغاية وهو يجيبه:
-الحمدلله احنا قدرنا نلحق المدام ونوقف النزيف، بس للأسف الجنين نزل
ثم ربت على كتفه كنوعٍ من المواساة وهو يتابع:
-ربنا يعوض عليكم.

هبطت تلك الأخبار السيئة على رأسه كالصاعقة فتسمر في مكانه لثوانٍ ليستوعب ما قيل له، وما إن أدرك "عدي" حجم الخسارة الفادحة التي أصابت عائلته الصغيرة حتى بدأت العبرات بالتجمع بكثافةٍ في طرفيه، اغرورقت عيناه بالدموع وانسابت على صدغيه بغزارة، لم يكن ليتصور ضياع ذلك الجنين الذي تمناه لسنوات بعد معاناة قاسية ورتب لاستقباله هكذا فجأة دون أي مقدمات، تصلب جسده رغم الرجفة العنيفة التي أصابت خلاياه، شعر بعجز قدميه عن حمله فألقى بثقله على أقرب حائط، ثم وضع يده على فمه ليكتم شهقاته الموجوعة فلم يصدر منه إلا نحيبًا مكتومًا عكس حزنًا كبيرًا وحسرة لا توصف...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة