قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية أسطورة أبيس للكاتبة تسنيم مصطفى الفصل الخامس والتسعون

رواية أسطورة أبيس للكاتبة تسنيم مصطفى الفصل الخامس والتسعون

رواية أسطورة أبيس للكاتبة تسنيم مصطفى الفصل الخامس والتسعون

انطلقنا نعدوا دون توقف مقتربين شيئا فشيئا من ارض المعركة. في كل خطوة تتعالى الصرخات وطلقات البنادق وصليل السيوف في معزوفة مرعبة لا تهدأ او تتوقف. تملئ القلوب بالرعب والوجل منذرتًا بالوعيد ومحذرة القادمين بالرحيل لكن هذا لم يُبطء من خطواتنا بل زادنا عزما حتى امكننا رؤية اسوار القلعة وقد التفت النيران حولها من كل جانب مُعلنتًا اقتراب النهاية.

لم تمض ثوان حتى وجدنا انفسنا نشق طريقنا وسط الجنود والضباب. لم يتم اعتراضنا وكأننا لا نُرى. وكيف نُلاحظ وسط هذه الفوضى.

الجنود يحتمون خلف كثبان رمالية صناعية وهم يطلقون الرصاص في كل اتجاة وبين لحظة والثانية يُمكنك سماعهم يصرخون بلغة لا افهمها. تقدمنا في حذر اكثر حوفا من الطلقات لكنها لم تكن موجهة لنا. حتى وصلنا الى حيث يتلاحم الجيشيين فعلا. هناك من يبارز بالسيوف وهناك من يصد بالأسلحة النارية. جنود يعدون في كل اتجاة بل هناك الهاربين منهم الى حيث المعسكرات.

نظر لي ليام رافعا احد حاجبيه فاستللت سيفي وقلت: -يجب ان نصل الى الصفوف الأمامية
تعمقنا اكثر متخلصين من كل من يعترضنا على الصعيدين الرودوسي والأبيسي، إذ كيف تقنع احدهم انك في صفه وسط هذه الغوغاء.

مع كل خطوة اتقدمها ادرك اكثر ان هناك خطب ما. امر ما ليس على ما يرام. رغم الصرخات والانين والجثث المتناثرة في كل صوب يخطو فوقها الجنود دون مبالاة. رغم ان كل هذا متوقع في المعارك إلا اننا كلما تقدمنا اكثر. كلما قل عدد الجنود وكثُر الهاربين من الجانبين وصرخات مفزعة تنطلق من حلوقهم. ماذا يحدث بالضبط؟

عدوت بينهم ومن خلفي ليام محاولا تفاديهم لكن دون جدوى إذ صدمني احدهم وكدت اسقط لولا ان اسندني ليام قائلا:
-هذا ليس طبيعي!
اومأت برأسي فنحن نكاد نكون في الصفوف الأمامية وقلت: -كان على الأقل الأن ان تصيبنا الرصاصات لكن الجنود من الطرفين يطلقون ذخيرتهم كالمجانين دون تصويب
لم اكد انتهي من مقولتي حتى سمعت ليام يشهق فاستدرت لأرى ما يرى لتتسع عيني في ذهول وانا اهتف:
-ما هذا؟

فأمامنا افترشت الجثث الأرض. جثث ممزقة وقد كست الأرض الدماء والجنود يفرون هاربين صارخين الى الجانب المخالف للقلعة. الى معسكرات الأعداء. تاركين الصفوف الأمامية تكاد تكون خالية. هل يعني ذلك ان مؤخرة الجيشين لا تدري ما يحدث في المقدمة؟

سرت في بدني رجفة حين شعرت بذلك الثقل في الهواء. التنفس اصبح صعبا. وكأن هناك من يجثم على صدورنا. هذا الشعور مألوف انا متأكدة من هذا. تقدمت خطوة حين احسست بيد ليام على معصمي تمنعني فقلت:
-لن اتوقف الأن.
وبعد لحظة من التردد ترك يدي لنكمل عدونا والجنود يقلون والمتبقي منهم يعدو في كل إتجاه وهما يصوبون اسلحتهم كالعميان وبين كل هذا رأيتهم.

لم افهم في البداية ما رأيت لكن عندما انقشع الدخان استطعت رؤية الرجلين. وحين ميزت ذلك الشعر الأحمر الثائر علمت على الفور اي اثنين. كانا يتبارزان بل يقتتلان كما لو انهما في عالم اخر وكأن الأرض من حولهما لا تحترق وكأن الطلقات لا تنهمر كالمطر والدماء تروي الأرض. وكأن كل هذا سراب وهذا افزعني بل هالني الى اقصى حد. لم اكن بالقرب الكافي لأرى وجهيهما بعد. لكن عندما وقع بصري على ذلك المشهد. شعرت بأنه النذير. بأن الفناء هو المصير. حينها توقن العزائم الهشة ان كل شيء قد انتهى. خفق قلبي في عنف ودون وعي مني وجدت نفسي اصرخ وانا اهرول اليهما:.

-ارايان!
لا ادري لما صحت بإسمه لكن كلا الرجلين توقفا عن القتال فجأة وفي اللحظة التي التفت فيها ارايان اليّ كاشفا عن وجه خصمه. لتصطدم عيناي بعينين قرمزيتين كالعقيق الأحمر.
عندها توقف انا. توقف فؤادي عن النبض بل توقف كل شيء من حولي. ففي تلك اللحظة التي اصطدمت فيها عيناي بعينه انتهى كل شيء. ليبدأ من جديد.

رفعت يدا الى قلبي محاولتا تخفيف الألم. محاولتا منع الشهقات او إيقاف الدموع التي سالت دون سبب او معنى لكن فؤادي يأبى. يأبى ان يهمد. يأبى ان يُطيع. يأبى ان ينسى. وكيف له ان ينسى؟
ارتعد جسدي في عنف وكأن سكرات الموت قد واتته. بالكاد اقف. بالكاد ارى. ثم تحركت تلك الشفتين لتنطق بما لا يجب. بما لم يكن ان يجب:
-كيسارا!
لا. لا. صحت والعبرات تُشوش رؤيتي: -لا!

ما كان يجب ان انسى. ما كان يجب ان ارى الجانب الأخر. ما كان يجب ان اعلم الحقيقة ابدا.
ليست الحقيقة مبتغاكِ
لكان كُل شيء اسهل. لكان كل شيء اسهل يا كيسارا وهو ما لم يكن قط. لم يُكتب ليكن.
ارتجفت شفتاي بعنف وانا انطق بالإسم. وانا انطق الكذبة: -ش. شداد
عندها عاد كل شيء. عاد كل ركن الى حيث كان. اخيرا انهار الحاجز. اخيرا كُسر الختم. الأن اتذكر.

((توقفت لحظة التقط فيها انفاسي واستندت بيدي الى احد الجدران. لكن لم تنقضي ثوانٍ حتى سمعت اصوات الجنود يهرعون الى حيث انا. اتسعت عيناي في ذعر ورغم الإجهاد الذي اشعر به إلا اني دفعت قدمي للأمام. يجب ان اهرب من هذا المكان. لا يمكنني المكوث هنا اكثر من هذا.

انطلقت اعدو بكل ما اُتيت من قوة وضربات قلبي تتسارع كلما اقتربت اقدام الجنود. لا ادري ما سيفعلونه بي إن امسكوني ولا اريد ان ادري. ما كان يجب ان ارى ما رأيت. رغم اني حقا لا اعلم ما رأيت. لقد تم استدعائي والباب لم يكن مُغلقا. ماذا كان عساي ان افعل؟ لم اقصد ان اسمع ما قيل او حتى ان ارى ما حدث. لكن من يأبه لهذا؟ من يأبه لي.

هبطت السلالم التي تقود الى الساحة بعجل وانا اقفز اغلبها. يجب ان اختبئ فمهما كانت سرعتي سيلحقون بي وانا اضعف من اقاوم. اضعف من ان اُحاول. اخيرا وصلت الى الساحة الأمامية للقلعة وتلك الأخيرة تحوي مسطحات خضراء كبيرة ستكون كفيلة لإخفائي لبعض الوقت. انا متأكدة من هذا ففي النهاية الى هنا اهرب عندما تصبح التدريبات لا تطاق ويشتد كل شيء عندما يثقل الحمل حتى اشعر اني اختنق. عندما أيأس.

يوجد في طرف الحديقة اشجار ضخمة كثيفة بجوارها مقعد في زاوية تجعل من المستحيل رؤية ما خلفه. هناك اختبئ وبمجرد ان لمحته انطلقت اليه ثم تكورت على نفسي خلفه والرعب يقتلني.

لماذا يحدث هذا لي؟ بالكاد هربت من مختبر اوراكل. بالكاد. ثم يُلقى بي في هذه البلاد ليتم تجندي! ماذا يريدون مني؟ لقد اكتفيت. اكتفيت من هذه الحياة. من هذا العذاب المستمر. عذاب لن ينتهي سوى بالموت. لكني. لكني لا اريد ان اموت. اعتصر الألم قلبي لهذا التفكير. ماذا فعلت انا لأستحق هذا؟

تناهى الى مسامعي صوت اقدام تقترب حتى توقفت امام المقعد تماما فارتجف جسدي في هلع ووضعت يدا على فمي كاتمة شهقاتي داعية ألا يراني. داعية ان يُخفيني ظلام الليل. تلك هي اللحظات التي اتمنى فيها ان. ياليتني لم اُلد. لكن الأقدام لم تبتعد بل تحركت في ثقة دون تردد لتلتف حول المقعد كأن صاحبها يعلم اني هنا. وضعت يدي على رأسي احتمي خلفها واغلقت عيني في ذعر والدموع تفر منها رغما عني. لأسمع صوتا عميقا باردا كالجليد:.

-اذن فأنتِ هنا.
فتحت عيناي في هلع ورفعت رأسي في وجل الى صاحب الصوت. انه الشاب الذي اسرني. السبب في وجودي هنا. فشهقت في خوف وتكومت على نفسي اكثر فعقد الشاب حاجبيه في ضيق وهو يُبعد بصره عني ليحدق في الجنود الذين جذبتهم شهقتي وبعينين متسعتين شاهدت ما حدث وقلبي يوشك ان يتخلى عني في اي لحظة.
تقدم احد الجنود قائلا: -سيادة الكولونيل. هذه الفتاة.

قاطعه الشاب بإشارة من يده قائلا بذات البرود: -كانت معي طوال الساعة الماضية
احتج الجندي في عدم تصديق: -لكن.!
لكن الشاب ضيق عينيه في تحذير وبلهجة تُجمد الدم في العروق: -هل تُعارضني؟
ارتجف صوت الرجل بوضوح مغمغما: -ل. لا يا سيادة الكولوينل لكن سيادة القائدة يُريدها في.
قاطعه الشاب مرة اخرى قائلا في صرامة وبلهجة قاطعة: -اخبره ان الفتاة كانت معي هي لم تخطو داخل الجناح الغربي خطوة اليوم، هل كلامي واضح.

اعتدل الرجل ورغم الخوف البادي عليه استطاع ان يجيب: -سينفذ يا سيادة الكولونيل
ثم ادى التحية العسكرية وفي سرعة ابتعد هو وفريقه. في حين شاهدت انا كل هذا في ذهول ودهشة متناسية خوفي للحظات لكن عندما عاد اهتمام الرجل لي انتفض فؤادي في فزع وحين رفع يده وضعت يدي على رأسي في خوف لكنه قال:
-اعتدلي يا فتاة
وعلى الرغم من كل ما يعتريني حركت يدي ببطء بعيدا عن وجهي ونظرت اليه في حيرة ممتزجة بالخوف وهمست:.

-لماذا فعلت هذا؟
فأعاد بصرامة هذه المرة: -قلت اعتدلي
لقد اخذ الأمر وقتا فبعد برهة استندت على يدي لأعتدل واقفة لكن قدماي كانت ترتجفان بشدة من الأرهاق والذعر فأشار الى المقعد قائلا:
-اجلسي.

ففعلت على الفور فلو انتظرت لحظة اخرى لكنت سقطت ارضا وحينها حدث ما لم اتوقعه. كان ما حدث في ذلك اليوم اثر على حياتي مُكونة من انا الأن. إذ جثى الشاب امامي على احدى ركبتيه حتى اصبح في مستواي لتلتقي عيناي بزوج من العيون القرمزية. عينان حمراوتان كالدم. خاليتان من اي مشاعر ومن حولهما التمعت الخصلات الفضية وكأنها تتلألأ في هذا الظلام.
رمقته بعينين جاحظتين في صمت حتى قال: -توقفي عن البكاء.

عندها لاحظت ان دموعي لم تتوقف لحظة. وبإرتباك حاولت مسح دموعي ومنع المزيد من الهبوط. حتى قال:
-اتظنين أنَ ما انتِ فيه معاناة؟ اتعتقدين انك تعلمين معنى الألم؟
لم اتفوه بحرف وانا ارمقه في رعب فقال: -اجيبني يا فتاة.
لكني لم انطق بحرف. لم استطع. مهما حاولت او حثثت نفسي على ان افعل فتابع:.

-اتتسائلين ما فعلت لأستحق هذا؟ انه لم يكن ابدا لما فعلت بل لمن انت. لا احد يأبه ان كنت تستحقين او لا. لا احد يأبه لألمك. لا احد يكترث. ما فعلتيه منذ قليل كان غباءً. غباءً كاد يودي بحياتك لن يهتم احد بسنك هنا. هنا يجب ان تتعلمي كيف تنجين. كيف تحتفظين بحياتك لتري شمس اليوم التالي.
بصوت مرتجف همست: -انا لا استطيع. لا استطيع تحمل كل هذا. انا فقط.

قاطعت نفسي وانا احني رأسي محاولتا منع دموعي لكن اصبعا اسفل ذقني رفع رأسي لتواجهه مجددا:
-ما تظنينه الما الأن هو لا شيء.
ثم انحنى اكثر قائلا بهدوء: -انت لا تعلمين معنى الألم.
ثم وضع كلتا يديه ليضع ابهاميه على طرفي جبهتي فشهقت في ذهول مما ارتسم امامي. ما ارانيه في ذلك اليوم لم يعلمه احد بعدي.

فأمامي كما لو انني كنت هناك حقا، رأيت صبي بالكاد انهى العقد الأول من عمره يُعتصر بين يدي والده محاولا منع الفتى من الحركة، محاولا حمايته في حين وقفت والدته بجواره ترتجف وقد احتضنت رضيعها في خوف والدموع تفر من عينيها كالسيل بينما التف عدد من الرجال المسلحين حولهم محاصرينهم الى احد الجدران ومحيلين الحجرة الفخمة الى ركام من الأثاث المحطم والفتى يُحاول بكل ما يستطيع التملص من بين ذراع والده لكن ذلك الأخير احكم قبضته على الفتى وكأن حياته تتوقف على ذلك.

ثم شاهدت رجلا يتقدم بين الرجال. رجلا اعلمه جيدا. رأيته يتقدم حتى توقف امام العائلة وعلى شفتيه ارتسمت ابتسامة متشفية شامتة كمن انتظر هذه اللحظة طوال عمره قائلا شيئا لكني لم اسمع فقد شاهدت كيف اتسعت عينا المرأة جاذبة الرضيع اليها وهي تشهق ثم تنهار ارضا جاثية. فاتسعت ابتسامة الرجل وفي توحش ومجون رمق الرجل القابض على ابنه هاتفا شيئا فرد الرجل عليه في هدوء من يدرك ما يحدث متقبلا النهاية وهو يضغط على ابنه محاولا منعه من رؤية ما يحدث او سماعه. فقط ندمه الوحيد هو ابنه بين يديه. والى اي مصير قد ينتهي اليه الفتى. مدركا ان الموت الأن ارحم للفتى من العيش.

رمق الصبي والدته كيف بكت في حرقة وهي تميل الى والده طالبًا لحماية لا يمكنه ان يمدها بها الأن. كيف احس بيدا ابيه ترتجف حوله. كيف احس بالعجز يغزو فؤاده الصغير. كيف سقط كل شيء وانهار لكي ينتهي الى هذا؟ لكن قلبه لم يستطع الإستسلام. لم يستطع تقبل النهاية. فإنتفض الفتى من بين يدي والده ليصد بجسده الفجوة بين الجنود وعائلته صارخا بقلب يملئه الأسى ان لن يرضى بتلك نهاية. رافعا يده نحو الجنود ليتطاير شعره الأدهم كظلام الليل وفي اللحظة التالية انهالت صعقات كالبرق على الجنود فأردتهم صرعى وكأن لم يكونوا احياء قط. لكن هذا كان اقصى ما يستطيع جسده الضئيل تقديمه امام تلك الأعداد الهائلة وانهار جسده الواهن ارضا فأسرع جنديان يحدان حركته. تعالت ضحكات الرجل ماجنة ترن في اركان الحجرة امرا الجنود بتكبيل والديه.

ابصرتهم يكبلون والدي الفتى منتزعين الرضيع من المرأة وهي تحتج بعنف وتقاتل الجنود في استمامتة محاولتًا استعادة الرضيع لكن هيهات. هتف والد الفتى بإهانة للرجل الذي اصبح يحمل الأن الرضيع بين يديه ووالد الصبي يُحاول التملص من الجنود دون جدوى. فكان جواب الرجل ان افلت الرضيع ليسقط ارضا فدوت الصرخات من الرضيع الذي بالكاد نجى ومن امه التي قاومت بشدة بين يد الجنود وهي تصرخ في لوعة وحسرة حتى صفعها احد الجنود لتصمت بينما هتف والده بشيء ما فرفع الرجل قدم مغلفتا بحذاء عسكري ليهبط بها على الرضيع لتتعالى الصرخات متبوعتا بصوت تهشم الأضلع الرقيقة ثم العظام لتهمد الصرخات تماما للحظة قبل ان تنهار الأم ارضا فاقدة الوعي ثم ليعود الصراخ مرة اخرى لكن من اب الصبي هذه المرة والدموع تهبط من عينيه كالجمرات في حين التمعت عينا الرجل في تلذذ والفتى يرمق المشهد بعينين متسعتين وقد الجمت الصدمة لسانه وعقله وهو يحدق فاغرا فاهه كالمجنون في الرجل وفي شقيقه الذي قد اُزهقت روحه بمنتهى البساطة وكأنها لا تزن شيئا. وهو يقف كالمشاهد لا يستطيع فعل شيء. لا يستطيع ايقاف ما يحدث ولا يملك حتى ان يُقاوم.

-اما الفتى فأبقوه فأريده. تلك الطفرة ستنفعنا.
ثم انحنى على الفتى وبإبتسامة مريضة قال: -ثم لابد لأحد افراد العائلة ان يرى النهاية.

انتقل المشهد لأرى جسدين مصلوبين في ساحة اعرفها جيدا. اعرف كل ركن فيها. كل جانب وكل حجر. في ساحة القلعة اعتلى الجسدين السماء. هكذا رأى الفتى والديه للمرة الأخيرة ورغم بكاءه. ورغم انينه. ورغم توسلاته. ارتفعت النيران لتلتهم الجسدين وصرخات تمزق نياط القلب تنطلق من الجانبين عندها ادرك الفتى. ادرك ما تعنيه الحياة حقا. ما خُلق الإنسان فيها.

كل ذلك كان لأجلها. لأجل ابيس. لأجل الهاوية والتي فيها يعيشون. في تلك اللحظة توقف كل شيء بالنسبة للفتى. توقفت الحياة. توقفت السنون. واقسم على شيئين. اولهما كان الإنتقام مهما كلفه ذلك وثانيهما كان الحصول على ابيس ايا كانت التضحيات. وقد ضحى. فاصلب قلبه حتى اصبح اقسى من الصخر. حتى نسي قلبه كيف كان يخفق لأي شيئ غير الإنتقام والحصول على ما يريد.

علي ذلك اعتزم الفتى وعلى ذلك سيعيش. سيعيش ليرى الدائرة تدور من جديد.
ابصرت الفتى. يُساق بين العبيد كأنه منهم وهو سيدهم. رأيت الصبي يُجلد. يُكوى بالنار. يُمنع عنه الطعام والشراب لأيام.

شاهدت وشاهدت العشرات من الصور والذكريات. شاهدت من الوان العذاب ما لا تصفه الأقلام وتعجز عنه الألباب. شاهدت الشعر الأسود يتحول شيئا فشيا الى الفضي من شدة التعذيب. لكن عزمه لم يقل. لم يهن ولن يهن. هو سيجد وسيلة الى السلطة من جديد. مهما كان الثمن.

ثم رأيت الفتى يجثو على ركبتيه بين قدمي الرجل مُعلنا الولاء. مقسما على الإخلاص. ولا يوقر في فؤاده شيء. فكانت تلك هي الوسيلة التي اختارها. وقد دفع في سبيلها اغلى ما امتلك. قد دفع اسمه ثمنا لولائه الزائف. كان لابد ان يخسر الإسم هكذا اشترط الرجل. وليُمحى اسم عائلته من التاريخ للأبد. ليعيش بإسم منحه له الرجل. ليعيش بإسم يكرهه ولا يمكنه الخلاص منه وصمة عار على جبينه للأبد. مذكرا اياه باليوم الذي ركع فيه امام الرجل للأبد. لكنها كانت الطريقة الوحيدة وهو قد اعتزم ان يدفع الثمن.

هو قد دفع الثمن من قبل وسيدفع الثمن الأن وسيدفع الثمن جديد حين تُعاد الدورة هكذا اخبره مالك الساعة فيما بعد.
واسمه كان ثمن الأن.
ثم رأيت الفتى يصبح شابا ليُخلف بما وعد. وليحنث بما اقسم.
واخيرا تنتهي الرؤيا بمالك الساعة يركع بين يداي الفتى قاسما بالولاء على العقد. بالوفاء حتى الميعاد الذي يُكسر فيها العقد.
الرجل كان القائد الأعلى.
والفتى كان لووج را اراكان. الرجل الذي يدعىالأن شداد.

ازاح الشاب يده عن صدغي ورمقني منتظرا. لكن الدموع ابت ان تتوقف إذ كيف تتوقف بعد ما رأيت. بعد ما شاهدت. هذه الذكريات. هذا الرعب. كل هذا الألم في قلب واحد. عندها ادركت انه ربما. ربما انا من تم انقاذي. اخيرا قال:
-لقد سألتني لم ساعدتك، الأن اجيبك. انا بحاجة اليكي كما انت بحاجة لي.
نظرت اليه في حيرة فتابع: -انا سأنجيكي من كل هذا. انا سأنقذ حياتك يا كيسارا.

فأجهشت بالبكاء ودون وعي مني امتدت يدي تتخلل شعره الذي اشيب مما رأى وقلت:
-هذه ليست بحياة. انت لم تحظى بحياة. فكيف ستعطيني واحدة؟
لكنه فعل. بل فعل ما هو اكثر حتى وانا لم اكن هدفه بل القلب. وانا على امل اني قد اعطيته شيئا من تلك الحياة. ))
ما كان يجب ان اتذكر. لكن الزمن لا يتوقف لأحد.

لووج را اراكان رجل له الحق في حكم ابيس منذ اليوم الذي ولد فيه فهي كانت ملك عائلته من قبل وبسمهم سُميت العاصمة. اوليس مثيرا للسخرية ان اراكان تعني الحياة وهو حامل الموت؟

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة