قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية أسطورة أبيس للكاتبة تسنيم مصطفى الفصل التاسع والسبعون

رواية أسطورة أبيس للكاتبة تسنيم مصطفى الفصل التاسع والسبعون

رواية أسطورة أبيس للكاتبة تسنيم مصطفى الفصل التاسع والسبعون

ساءت الأوضاع بعد خبر القنابل بشدة بالكاد كنا نصمد امام تقدم العدو المستمر، ارسال حاملي الطفرات الى الخطوط الإولى ساعد إفيين على الصمود لأكثر من اربعة ايام تقريبا لكن هذا لم يكن كافيا لذا قام سيد شداد بإرسال جراد الى هناك مما اطال المدة الى اسبوع لكن ما وصلنا من اخبار لم يكن قط جيدا بل كان يزداد سوءا، يقال ان إفيين تحولت الى مجزرة دامية وان الدماء قد لونت الميناء بأكمله حتى ليقال ان الحدود الغربية رُسمت بالدم. كان يصلنا يوميا اعداد القتلى. حتى تلقينا خبر وفاة الجنرال إرسين. كان الخبر صادما لكن لم يكن هناك وقت لمثل تلك مشاعر. هذا جعل إفيين تقع على عاتق جراد وحده.

ما زلنا لا ندري شيئا عن البنارا ولسبب ما كل من نبعثه اليها يختفي اثره وينقطع اتصالنا به حتى اضطر سيد شداد الى إرسال فرقة خاصة بحماية القلعة وهم من اعلى الفرق في الكفاءة والتدريبات وكذلك يمكن القول انهم الحرس الخاص بقلعة العاصمة الى هناك لنعرف فقط ما الذي يحدث على الحدود الغربية ومقدار تعمق العدو هناك لتصلنا رسالة واحدة لم يعد هناك بلد تسمى البنارا بل اصبحت خراب تملئ الجثث ارضه. توقعنا شيئا كهذا لكن ما فاجأنا هو الحصار. لقد حاصروا البنارا ثم استعمروها متخذين منها مركزا لتحركاتهم على الحدود الشرقية لذلك انقطعت كل الإتصالات. من يدخل البنارا إذا استطاع دخولها لا يمكنه الخروج ابدا. حملت الرسالة ايضا اخبارا بأنه لايزال هناك الألاف من المدنين احياء هناك لكن حالتهم هي اسوء ما يكون من انعدام الغذاء والشراب وحتى الدواء وهو اشد ما يحتاجون فأكثرهم جرحى.

ثم جاءت الإخبار بالسقوط تتوالى. بلدان الحدود الشرقية تسقط الواحدة تلو الأخرى. والغزو مستمر من جميع الجهات، وبين كل هذا شعرت ان الزمن قد توقف وأن الوقت لا يمر وكأن هذه الحرب قد استمرت لأعوام. مع انه لم يمر على بدايتها اسبوعين. لكن الحياة اصبحت كالجحيم. حتى اني اصبحت اتمنى ان يستخدم سيد شداد القلوب لكنه يأبى وكأنه. وكأنه لا زال يأمل أن ننتصر بدونها. او ان تحدث معجزة ولا نضطر للجوء إليها لكني لا افهم. اليس لهذا جمعها؟ هذا جعلني اتذكر ما انتهى عليه حديثي مع مالك الساعة.

-لو لجئ شداد الى القلوب وهذا سيحدث إن عاجلا او اجلا فحينها لن يقع الدمار على ابيس وحدها بل على ستة دول اخرى وستعود الأرض الى الصفر. القلوب لا يمكن السيطرة عليها وبمجرد أن تُستخدم لن تتوقف. لا يمكن السيطرة على كم الخراب الذي ستحدثه. إن كانت هذه الحرب ستُفني ارضا فيكفي ان تكون ابيس
قالها مالك الساعة وهو ينحني على مجددا، لكن ما قاله افزعني بل جمد الدم في عروقي:
-نضحي ب. أبيس؟

هتف: -ابيس ام نصف الأرض يا كيسارا؟
حركت رأسي نحو موضع سيد شداد لكنه ظل صامتً فتلعثمت: -ن. نصف الأرض؟
-ان القلوب ما هي إلا ادوت للدمار. اينما كانت يتبعها الردى في كل بقعة من بقاع الأرض. لا يمكن اللجوء اليها للدفاع عن الحياة وقد. خُلقت للهلاك
شعرت بالمرارة في حلقي وفمي وانا اسأل في شيء من اليأس: -لماذا تخبرني بهذا؟ انا لا يمكنني فعل شيء والحرب قد بدأت بالفعل.

رفع يده الى وجهي وبعينين تترجاني، تتوسل إلى ان اقبل: -يمكنك ايقافه. يمكنك منعه من استخدام تلك القوة. انت تحملين الروزين. القلوب ستُصغي لك
نظرت اليه ثم الى سيد شداد الواقف خلفه عاقدا يديه على صدره في صمت منتظرا اجابتي، عدت ببصري الى فيليب وقد اصبحت فوضى من الدموع:.

-انت تعلم لِم انا هنا من الأساس. انا هنا لأجله ولأجله فقط. وتعلم اني لن اخونه وإن خانه الجميع ولن اترك جانبه وإن تركه الجميع. تعلم اني لا استطيع.
تحسست يده وجهي وهو يقول وفي عينيه إرتسم الأسى: -لقد أملت ألا يُعاد التاريخ
ثم انسدلت يده عن وجهي وهمس بجمود: -إذن. الموت للجميع.
الموت للجميع.

الموت للجميع يا كيسارا. فهل ستتحملين على عاتقك كل تلك الأرواح التي ستزهق؟ والدم الذي سيراق بقلوب هي اقسى من الحجر. افقت من افكاري وشرودي على الضوضاء المعتادة لغرفة المراقبة المركزية لكن ما جذب انتباهي هو علوها عن العادة. كنت خلف سيد شداد الذي قال:
-ماذا هنالك؟
اجابه احد التقنين الجالسين امام الشاشات والحواسيب: -هناك خطب ما في قناة الإرسال بيننا وبين إفيين
عقد شاهين حاجبيه وقال: -ماذا تعني؟

رد الشاب بتوتر: -الرسائل تصلنا غير واضحة. اعني هم يحاولون الإتصال بنا لكن هناك تشويش على الإرسال.
ثم ابتلع ريقه بصوت مسموع وقال: -هناك من يحاول منعنا من استقبال الإرسال. انهم يريدون قطع الإتصالات بيننا وبين إفيين
صاح سيد شداد: -اذن امنعوهم، لا يمكننا فقد الإتصال بإفيين
ثم اشار سيد شداد الى هيثم قائلا: -هيثم اريدك ان تتولى هذا شخصيا.

اومأ هيثم وذم شفتيه متجها نحو الحاسوب الذي يجلس الشاب امامه فقام التقني مفسحي المجال لهيثم الذي تقافزت اصابعه على لوحة المفاتيح كأن الشيطان يطاردها، قال سيد شداد دون ان ينظر الى شخص بعينه:
-شاهين، تولى القيادة
علي الفور اجاب شاهين: -اجل سيد شداد
بينما اسرع سيد شداد الخطى خارجا قبل ان يصفق الباب خلفه فعم الصمت المكان وهو امر لمم يحدث منذ وقت طويل لكن شاهين قاطعه قائلا:
-فليعد الجميع الى العمل.

اقتربت من شاهين وهمست: -ما الذي حدث للتو؟
بالطبع شاهين لا يملك الوقت لي لكنه قال وهو يضغط على اسنانه ويشير الى احد الجنود:
-ما يحدث ان إفيين قد تلحق البنارا قريبا وإن حدث هذا سنحتاج الى معجزة لأنهم سيكونون هنا في مركز ابيس. في العاصمة.

جراد. جراد هناك في إفيين. جراد والألاف من الأرواح. هل يمكن ان. لا. لا. ارتجفت للفكرة. تسارعت دقات قلبي في خوف وقلق. تملكني الإعياء فأحنيت رأسي قليلا لأرى يداي ترتعشان بقوة. حين شعرت فجأة بيد دافئة قوية تشد على كتفي وشاهين يقول بصوت منخفض:
-لا تقلقي جراد سيكون بخير. نحن في هذا معا وهو ليس وحيدا
اخذت نفسا عميقا ثم وضعت يدي على يده وابتسمت بوهن: -انت محق.
ثم التفت اليه وقلت: -انت لا تحتاج لي اليس كذلك؟

فهم على الفور ما اعني فتلاعبت على شفتيه شبح ابتسامة وقال: -يمكنك الذهاب
اتسعت ابتسامتي وربت على يده وهمست: -شكرا لك.

خرجت من الغرفة باحثة عن سيد شداد لأجده لم يبتعد كثير، رأيته يقف مستندا الى نافذة في ركن الممر الذي نحن فيه، توجهت اليه في خطوات سريعة متلهفة حتى توقفت خلف ظهره، لقد احس بوجودي بالتأكيد لكنه قرر تجاهله ولم يستدر. رمقت ظهره وانا اتذكر اخر حديث لنا. الى متى ستظل واقفا يا شداد؟ الى متى ستظل وحيدا تأبى ان يتدخل احد. لكم تمنيت ان اقف بجوارك. لا خلفك.

ودون وعي مني وجدت نفسي اسأل: -لماذا لم تستخدم القوى التي بيدك الى الأن؟
لم يلتفت إنما قال: -ليس الأن يا كيسارا
تجاهلت اعتراضه وتابعت في استنكار: -اهو ما قاله فيليب؟ اهذا ما غير قرارك بعد كل هذه السنين؟
لم يستدر إنما قال بصوت ثقيل مُحمل بالغضب: -قلت ليس الأن يا كيسارا
فصحت: -متى إذن؟ اخبرني!

ها انا اعيد التساؤل من جديد بلا يأس. متى اذن؟ عندها حدث الإنفجار. الإنفجار الذي توقعته وانتظرته منذ بدأت الحرب، لم يكن غضبا بل ما يتبعه. اليأس. يأس رجل قد بذل كل ملك. يأس رجل قد اجهد كل خيراته. رمقني بمقلتين شربتا من الإستسلام والقنوط ما لم اره في حياتي قط. ليس لرجل يحصل على ما يريد اغلب الوقت:
-هذا ليس ما خططت له، هذا ليس ما كان يجب ان تسير اليه الأمور لو اني استخدمتهم الأن. لو اني فعلت.

قاومت دموعي واقتربت منه اكثر، بالكاد يفصل بيننا خطوة ثم وضعت يدي برفق على معصمه وقلت بخفوت:
-لماذا؟
لم يرفض يدي انما استرخى للمستي وغمغم: -لقد علمت ان الحرب قادمة لكني. لكني لم انوي اخوضها. ليس هكذا على الأقل، إن استخدمت القلوب الأن فكما قال مالك الساعة. الهلاك هو المصير. الهلاك لجميع الأطراف
توقف للحظات طوال فلم اقل شيئا وتركت الصمت يعم المكان حتى عاد يقول:.

-ما اردته ان اجمع القلوب والفرسان لأشكل مجال حول ابيس بأكملها. مجال سيمنع اي شيء من اختراقها، سيحميها ويجنبنا حربا سنخسر فيها. لكن اريان كان اذكى، هو يعلم انه يكفي نقصان احد اركان الحلقة سيكون حلا رادعا لفكرة المجال ففي النهاية كيف تغلقين دائرة دون احد نقاطها. وقد فعل. لقد خانني كمال.

ضحك بمرارة واكمل: -خانني كلمة تبدو سخيفة الأن فهو لم يعمل لحسابي من الأساس. كان جاسوسا ولقد اخذنا وقتا طويلا لإكتشاف انه كذلك ثم وقتا إضافيا لتأكيد انه جاسوس. اوليس هذا مثيرا للسخرية؟ والأن ماذا؟ الأن انا مجبر على استخدام القلوب للهجوم بدلا من الدفاع.
كان يسأل ويجيب على نفسه كالمخمور. انها المرة الأولى التي اره فيها هكذا لكن اوليس الكل بشرا في النهاية، قلت وانا ابتسم:
-الأن إطمئن قلبي.

نظر لي بدهشة فقلت: -انا لم اشك لكني اردت ان اسمعها منك. السبب الفعلي من جمع القلوب
تنهد وقال: -انت لن تتغيري اليس كذلك؟
اتسعت ابتسامتي: -بل انا بالفعل تغيرت.
قاطعني صوت خطوات يقترب فسحبت يدي بعيدا عن معصم سيد شداد قبل ان يظهر امامنا جندي أدى التحية على عجل ثم قال:
-سيدي يحتاجونك في غرفة المراقبة، الحالة طارئة.

((ابتسم دومينو وهو يتلقى الخبر من وزير الدفاع وتحولت تلك الإبتسامة الى وحشية وهو يقف امام اريان ويملي عليه الخبر الذي اثلج صدره:
-لقد فعلناها يا سيدي. لقد نجحنا.

حدق اريان فيه ببرود ثم قال: -امسح تلك الإبتسامة الحمقاء من على فاهك فما انتهى انما هو الهين، وإنما القادم هو الأصعب. هو التحدي الحقيقي. هو بداية المعركة، وكيف سنخوضها هو ما سيحدد مصيرنا. شداد سيبدأ الحرب الحقيقة الأن ونحن سنكون على اتم الإستعداد)).

في تلك الليلة لم ننم. لم ينم احد. لم تنم القلعة بأكملها. لم يكن هناك نوبات يتبادلها احد. جميع اعضاء الفرقة والقلوب كانوا متواجدين في غرفة المراقبة. الكل كان يقظا ينتظر الخبر بترقب. الخبر الذي فشل ان يصلنا في موعده الصحيح بسبب الضوضاء على الإرسال لكننا توقعناه. الخبر الذي اتي مع اولى نسمات الفجر. والذي نطق به هيثم اخيرا:
-لقد سقطت إفيين. منذ إحدى عشرة ساعة.

صمت فرض نفسه على الغرفة وكأن الأرواح التي بداخلها قد قُبضت في لحظة واحدة ثم ليعود الصخب كما لم يكن من قبل. صخب ولده الرعب والخوف. إن بداية العاصمة وما خلف إفيين مباشرة هي القلعة إي ان الضربة التالية ستكون هنا.
شق صوت سيد شداد الصخب كالسيف وقال: -من سأسمع صوته بعد هذه الجملة في امر لا يخص وضعنا الحالي بشهقة او انفعال او فزع فسأقتله بنفسي
ثم وجهه حديثه الى هيثم: -هل ظهر اي شيء على الردارات؟

هز هيثم رأسه ان لا فقال سيد شداد: -اذن فهم لم يدخلوا مجالنا بعد، لابد ان بينهم حُمال للطفرات هل تشعر بهم؟
اغمض هيثم عينه وعقد حاجبيه بتركيز ثم هز رأسه مرة اخرى وقال بخفوت:
-لا
-هذا يعطينا الوقت الكافي للإستعداد.

أعطى سيد شداد اوامر سريعة لمن حوله بينما انشغلت انا براي الذي وقف قربي وقد اصابته حالة من التوتر العام فأكاد اشعر بتحفزه لأي حركة لذا وبتلقائية وضعت يدي على كتفه فنظر لي لأرى عينيه تشعان بلون الدم فعقدت حاجباي وقلت بتردد:
-قلب باراديس؟

ارتسمت على شفتيه ابتسامة ولم يجبني. هذا غير مطمئن انا لا اكاد ارى راي هذه الأيام والقلب متواجد طوال الوقت. تسرب إلى شعور بالخوف وسؤال لم اجد له اجابة لكنه ارعبني. هل يمكن ان يأتي يوم يختفي فيه وجود راي تماما؟، شعرت بضغطة على يدي فعدت ببصري الى راي الذي قال:
-لا تقلقي انا احميه، انا لن افقده.

اومأت برأسي واخذت نفسا عميقا حين جذب سيد شداد انتباهنا قائلا: -وصولهم الى هنا لم يترك لنا سوى الحل الأخير، لنريهم الحرب حقا، لا خضوع ولا استسلام وإن كان ما يريدونه هو الدم فالدم سنعطيهم، لن نهزهم هاهنا، لن نهزم ونحن لم نستنفذ جميع خيارتنا، سنقاوم حتى الرمق الأخير وحتى تتوقف اخر نبضة قلب في ابيس.

ثم نظر الينا وقال: -القلوب والفرسان، سيتم توزيعكم على حدود ابيس إذ سأرسل كل واحد منكم الى إحدى الجبهات وهناك لا اريدكم ان تسيطروا على قواكم هذه حرب بلا قواعد بلا حدود هم لن يرحموكم وانتم لن ترحموهم لقد دمروا الكثير الى الأن بالفعل ولابد من ايقافهم.

ثم اخذ يخبر كل منهم عن مكانه على الحدود فكانت القسمة كالأتي الأيزن تاتريال والأيزن جي سورتيه سيكونان على الحدود الشمالية عند نقط تمركز العدو هناك، راي وسفريا على الحدود الغربية، وهيثم سيلحق بجراد في إفيين اي الحدود الغربية سيحاولون الإلتفاف حول العدو ليحاصروه بينهم والقلعة واخيرا شاهين ومحاملا معه قلب الوكاردا الى البنارا على الحدود الشرقية اما مالك الساعة فرفض المشاركة لكنه قرر البقاء في القلعة مع سيد شداد ليرى النهاية ثم قال سيد شداد:.

-اما القلعة فسأتولى انا امر حمايتها وحماية العاصمة
لاحظت ما حدث للتو وحين فتحت فمي بالسؤال سبقني سيد شداد قائلا: -هم سيصلون الى هنا اليوم، يمكننا صدهم لفترة من الزمن لكن ليس للأبد سواء اردنا ام لم نرد فإنهيار القلعة وارد جدا. اريان لن يتوقف قبل ان يستولي على القلوب ليدمر اخر فرصة لنا في الحرب.

اخذ نفسا طويلا عميقا واكمل: -لذا لا يمكننا تسليمهم المفتاح لجمع القلوب، لا يمكننا السماح لهم بإستعماله حتى وإن وجدوه بين ايديهم. لا يمكنني السماح بهذا. ابدا.
عقدت حاجباي للحظة. ماذا يعن. اتسعت عيناي فجأة وقد ادركت ما يعني ثم تراجعت بحركة حادة للخلف مبتعدة عن الكرسي الذي يجلس عليه سيد شداد وانا اهتف:
-لا!
لكنه اعتدل واقفا وخطا خطوة نحوي فصرخت وانا اتراجع اكثر: -لا! انا سأبقى حتى النهاية. انا سأبقى.

الكل يحدق في المشهد بأعين جاحظة ولا احد يتحرك لمساعدتي وكأنهم قد تحولوا الى تماثيل بينما انا اشاهد في رعب اقترابه مني وقلبي يتمزق مع كل خطوة، تراجعت حتى التصقت بالحائط فشكلت مجالا حولي ليحميني وانا اعلم انه بلا فائدة وقد اغرورقت عيناي بالدموع التي انحدرت كالجمر على خداي وقلبي لا يكف عن التسارع وكأنه سيثب من صدري وصرخت:.

- لا لن اسمح لك. لا. هذه ذكرياتي. ذكرياتي انا يا شداد. لن اسمح لأحد بأن يمحيها. انها ملكي
لكنه تابع تقدمه دون ان يأبه لي وهو يقول بتصميم هز اركاني وزعزع كياني:
-انت هي الوحيدة التي لا يمكنني ان ادع اي احد يحصل عليكي. لا يمكنني تعريضك للموت هنا
إلتصقت بالجدار اكثر حين مد يده اى المجال يعبره وكأنه ليس بكائن حتى اصبح قاب قوسين او ادنى فأجهشت بالبكاء:
-انت لا تملك الحق لهذا. لا تملكه ابدا.

لكنه لم يبال بتوسلاتي ولا برجائي بل خطى فوق قلبي ومد يدان باردتان احاط بهما وجهي فتعالت شهقاتي:
-انا لا يمكنني رؤيتك تموتين.
وضعت يدي فوق يديه وهمست بصوت مبحوح والدموع تتساقط على يديه: -انها كل ما املك يا شداد. انها كل ما املك منك. لا يحق لك اخذ هذا مني. لقد حاربت لأجل هذه الذكريات. لا يمكنك.

رأيت حاجبيه يلتقيان وعينيه تلمعان بما لم احصل عليه منه قط قبل الأن ثم لامس جبهته بجبهتي واغلق عينيه كأنما يستنشق العبير حولي:
-انا لن انساكِ ما حييت
شهقت مرة اخرى واغلقت عيناي بقوة لكي لا اراه. لكي لا ارى ما سيحدث لكن حتى هذا لم يسمح لي به إذ قال بلهجة أمره:
-افتحي عينيك يا كيسارا. انظري لي.
ثم اتبع بخفوت يحمل من المشاعر ما ألامني: -ام انك ستحرمينني من هذا في اللقاء الأخير.

فتحتهما ليتجدد سيل الدموع المنهمر فقط ليزداد لرؤية ذلك الحنان والشوق في عينيه فقلت:
-ارجوك. ارجوك
ابتسم بعذوبة وكأنه لا يسمع توسلاتي ثم احنى رأسه قليلا ليطبع قبلة حانية على شفتاي على الفور وقد عادت جبهته تلامس جبهتي هامسا:
-انا احبك، لطالما احببتك، ولطالما سأفعل، أحببتك اكثر من اي شيء، احببت الطفلة واحببت الفتاة ثم اُغرمت بالمرأة.

اتسعت عيناي في صدمة غير مصدقة انه يفعل هذا بي والأن. الكلمات التي تمنيت ان اسمعها. بل عشت لأسمعها. الأن يخبرني إياها قبل ان يأخذ كل شيء. قبل ان يمسح كل شيء؟ تردد الهواء في حلقي وإختلق الدم في شرايني. وتوقف قلبي عن النبض كأنه لا يصدق. وكيف يصدق.
-الأن؟
اجاب بثبات وهو يبتسم اكثر: -الأن
لم اعد اعي ما اقول ولم اعد اعر الأمر اهتماما فقط كل ما سمعته كان المزيد من الرفض يجري على لساني دون ان اشعر:.

-لا. لا.
انحنى على شفتاي مرة اخرى ثم همس بألم خفي لم استشعره إلا الأن: -فقط نادني باسمي مرة اخيرة
ومن بين شفتين مرتجفتين وبصوت مبحوح قضى عليه البكاء: -لووج
ارجوك لا تفعل. ارجوك يا لووج. لكن العزم ارخى استاره، واعتلى التصميم لوائه ورغم العذاب والقهر في عينيه تحرك لسانه لترسم شفتيه اخر ما سأسمعه منه قبل ان يتلون كل شيئ بالأسود:
انا اسف. سامحيني
ألا ليت الحرب كانت دون راء. ألا ليت.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة