قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية أربعة شكلوا حياتها (سنابل الحب ج2) للكاتبة منال سالم الفصل الثامن

رواية أربعة شكلوا حياتها (سنابل الحب ج2) للكاتبة منال سالم الفصل الثامن

رواية أربعة شكلوا حياتها (سنابل الحب ج2) للكاتبة منال سالم الفصل الثامن

بعد تفكير متأني، قررت لمار أن تترك العمل في مكتب التصوير، فهي أرادت أن تمحو من ذاكرتها كل ذكرى آليمة ربطتها بهذا الشخص الكريه الذي وصم قلبها بالحقد والكره...
فرضت هي على نفسها عزلة إجبارية لكي تنسى ما مرت به حتى تتخطى تلك الأزمة بسلام نفسي. ولكن للأسف كان عقلها يجبرها على التذكر دافعا إياها للجنون. نعم هو يعاتبها على إنسياقها وراء مشاعرها البريئة دون تفكير لعواقب تهورها.

لقد قضت ليال طويلة وهي تبكي وحدها سذاجتها التي دفعها للوقوع في حب وهمي. حب أرهق قلبها وأتعبه من جديد.
رفيقتها الوحيدة كانت الوسادة التي لم تجف للحظة من عبراتها الحارقة والآسفة عن وقت أضاعته مع من لا يستحق، عن قلب أرهقته مع ثعبان تلون ليدفعها لطريق المعصية.
لقد تجرعت بكل قسوة مرارة الفراق من جديد، وتذوقت معنى الخيانة ولكن بجرعة أشد.

لامت نفسها كثيرا لأنها إستهانت بقدسية الحب وأسلمت قلبها لمن لا يعرفه، وإستعاضت عن الحب الحقيقي بحب إفتراضي أذلها، وكاد أن يوقعها في المحظور.

إنتاب والدتها القلق على حالها، فقد إعتزلت كل شيء، وتجنبت حتى الحديث اليومي المعتاد معها، وما أثار إنزعاجها حقا هو إخبارها بأنها إستقالت من عملها. ورفضها لتناول الطعام. فهي كانت تقتات على القليل مما جعل جسدها ينحل، وكذلك تلاشت نضارة وجهها وحل محلها تعبيرات، وإزداد إحمرار عينيها مما أثار ريبتها.

دلفت سمية إلى غرفة إبنتها وهي تحمل صينية الطعام بيديها لتجدها ممددة – كعادتها في الآونة الأخيرة – على الفراش تدعي النوم، فتنهدت في حيرة، ثم سارت بخطوات متمهلة نحوها بعد أن أسندت الصينية على طاولة مكتبها.
جلست هي على طرف الفراش، ثم مدت يدها ومسحت على ذراعها، وأمسكت بكفها، وربتت عليه براحة يدها قائلة بنبرة حانية:
-حبيبتي، هيا إنهضي لتتناولي معي الطعام.

تصنعت لمار الإبتسام، ونظرت لها بحزن عميق يبدو واضحا من إحتقان عينيها الدائم، ثم قالت بخفوت:
-لا أريد أمي، لست جائعة
تجهم وجه سمية، ونظرت لها بجدية، ثم هتفت بإنزعاج وهي تشير بيدها: -أنظري إلى حالك، لقد نحل جسدك، وأصبحت نحيفة للغاية
تنهدت لمار في إحباط، ثم أجابتها بفتور: -هذا طبيعي، فأنا أتبع حمية جديدة.

إبتسمت لمار لنفسها بسخرية، فأي حمية تلك التي تجبرها على إعتزال الطعام والحياة والأشخاص، وكل شيء مبهج.
ولكنها لم تعد تشتهي أي شيء. فلماذا تجبر نفسها على إبتلاع الطعام.
هزت والدتها رأسها غير مقتنعة بما قالته، ثم قالت محتجة: -لا، أنا لا أصدقك.

أدركت لمار أن الجدال مع والدتها سيفتح عليها بابا لا يمكن غلقه، وهي لا تريد أن تعيد تجربة الذكريات المؤلمة مرة أخرى، لذا أسلم شيء الآن هو تجنب الحديث، وإختلاق أي عذر واهي حتى تغلق باب المناقشة.
ولهذا إدعت أنها تتثاءب، ثم سحبت الملاءة على وجهها، وأردفت بصوت شبه ناعس: -أمي. أنا أريد أن أنام.

جذبت والدتها الملاءة عنوة، ونظرت لها مضيقة عينيها قائلة بجدية: -لمار لن تتهربي مني هذا المرة، أنا أعلم أنك لا تريدين النوم
زفرت لمار في إنهاك، ثم إعتدلت في نومتها، وأجفلت عينيها للأسفل لتتنجب النظر إلى والدتها فترى الحزن الدفين فيهما، وأجابتها قائلة بصوت معترض:
-أنا لا أتهرب من الحديث، ولكني حقا مرهقة.

نظرت سمية لها بعاطفة أموية حانية، ثم وضعت يدها أسفل ذقنها لترفع رأسها في مواجهتها، وحدثتها بنبرة رقيقة قائلة:
-غاليتي، حالك لا يعجبني، ماذا بك؟ من فضلك أخبريني!
تنهدت تلك المرة بإنهاك وهي تميل بوجنتها على راحة أمها، وهمست وهي تبادلها نظرات حزينة ب:
-لا تقلقي أمي
مسحت هي على وجنة إبنتها، وأزاحت بعض الخصلات من على جبينها، ووضعتها خلف أذنها، وتابعت بصوت جاد:.

-بل أنا منزعجة حقا، أنت إبنتي، وأنا أعرفك جيدا، وأنا أراك كل يوم أسوأ عن ذي قبل
أمسكت لمار بكفي يد والدتها، وضغطت على أصابعها قليلا، ثم إبتسمت لها وهي ترد قائلة:
-صدقيني إنه ضغط العمل، وأنا الآن قد إرتحت منه
رمقتها بنظرات غير مريحة وهي تردف بهدوء: -وأنا أريد ان أحدثك في تلك المسألة.

إنقبض قلبها وهي ترى الحيرة جلية في عيني والدتها، هي حقا تشعر بها، ولكنها تأبى أن تحزنها بسوء إختيارها. لذا حاولت ألا تتغير تعابير وجهها، رغم نبرتها المتوجسة وهي تسألها ب:
-ما الأمر؟
ضيقت سمية عينيها، وحدقت في عيني إبنتها دون أن تطرف للحظة، ثم سألتها دون تردد ب:
-لماذا استقلت؟

إبتعلت لمار تلك الغصة المريرة في حلقها، هل تخبرها بالحقيقة وبأنها إستقالت لتعلقها بحب وهمي أرهق قلبها، وكسر روحها، وسلب أحلامها، هل تخبرها بأنها غرفت حتى النخاع في حب شخص مخادع، أم تكذب عليها فتريح بالها بإجابتها الزائفة.
لقد كانت في حيرة كبيرة، فهي تخشى المواجهة، وتخاف من أن تسقط من نظر والدتها بتصديقها للحب العذري في هذا الزمن اللئيم...

بدت هادئة بشكل مريب وهي تجيبها دون تلعثم: -سئمت من الكتابة والطباعة
إزداد إنعقاد ما بين حاجبيها، وعاودت إستجاوبها ب: -فقط؟
ردت عليها بإيجاز قاطع دون أن ترمش عينيها: -نعم
إستدارت والدتها برأسها للجانب لتنظر ناحية الحاسوب الموضوع على الطاولة، ثم أشات بعينيها عليه متسائلة بإستفهام:
-ولماذا لم تعودي تتابعين الفيس بوك وتتواصلين مع رفاقك كسابق عهدك؟

إتسعت عينيها في إندهاش غير مصدقة ما سمعته من أمها للتو. إذن فهي ليست غافلة عنها كما كانت تعتقد. بل كانت مدركة لكم الساعات التي قضتها على مواقع الإنترنت المختلفة.
دار في رأسها عشرات الأسئلة، وهاجت نفسها بمشاعر مختلطة، ما بين الغضب والحزن، والضيق، والإنفعال.
لقد ظنت لمار أنها بمنأى عن والدتها، ولكن الأخيرة كانت على دراية بما تفعله إبنتها في وقت فراغها. فهل حقا إكتشفت أمر علاقتها الإلكترونية؟!

طال صمتها مما أثار ريبة والدتها، ولكن كان لسكوتها هذا مبررا. فهي تحاول التحكم في نفسها، وبذلت مجهودا مضنيا ليخرج صوتها طبيعيا وهادئا كما كان حينما أجابتها قائلة:
-لقد مللت إضاعة وقتي في تفاهات لا تجدي
لم تقتنع سمية بما قالته، فسألتها بإصرار وهي تحدق في عينيها: -هل هذا السبب حقا؟
أومأت برأسها موافقة وهي تهمس ب: -نعم
مطت والدتها شفتيها للأمام وهي تردف ب: -ولكني غير مقتنعة.

تنهدت هي في تعب، ثم قالت بإحباط دون أن ترمش عينيها: -أمي. أنا وجدت أن الحياة الحقيقية بوجود أشخاص حولي، وليس على هذا العالم الإفتراضي!
إنتظرت لمار أن تستسلم والدتها وتكف عن التحقيق معها، ولكن على العكس كانت هي اكثر إصرارا لمعرفة ما الذي أصابها، وتبذل ما في وسعها لتضيق عليها الخناق حتى تنهار حصونها، وتفصح عما تعانيه وتكتمه في داخل طيات قلبها.

سألتها والدتها مجددا ولكن بنبرة متمهلة وهي ترفع حاجبها للأعلى: -وهل أنت تختلطين بأي أشخاص يا لمار؟ فأنا معظم الوقت أراك وحيدة!
إبتسمت لها إبتسامة سخيفة وهي تجيبها بفتور: -كنت أركز في العمل فقط
ثم تمطعت بذراعيها، وعقدتهما خلف رأسها، وفرقعت أصابعها محاولة إزالة التوتر المشحون في الأجواء المحيطة.

أمعنت والدتها النظر إليها متفحصة ردود أفعالها الغير طبيعية. هي متأكدة من إخفاءها لمسألة ما خطيرة جعلتها تتخلى عن كل شيء حتى عن وظيفتها المستقلة.
أرخت لمار ذراعيها، وثنيت ركبتيها وضمتهما إلى صدرها، وأسندت رأسها عليهما، ونظرت إلى والدتها بنظرات ثابتة وهي تتابع بحسم:
-هذا أفضل
-لماذا؟

صرت على أسنانها وهي تتابع بضيق: -نوعية البشر في ذلك المكتب لا يمكن وصفهم يا أمي، فبعضهم وقح، والبعض الأخر صعب المراس، وهناك حفنة منهم كاذبة
-يا الله؟ هل كلهم سيئون لتلك الدرجة؟
نفخت في حنق وهي تجيبها بصوت مختنق: -نعم، وأبشع لو تعلمين
جاهدت لمار لكي لا تلاحظ والدتها تأثرها بما تقول، فعمدت للتثاؤب مجددا حتى تقاوم رغبتها في الصراخ...

في نفس الوقت يئست سمية من هروب صغيرتها من الإجابة عليها بوضوح، فتنهدت في إستسلام، وأردفت متسائلة بتريث:
-هل فكرت فيما ستفعلينه الفترة القادمة؟
تنفست لمار الصعداء لأن والدتها أخيرا عدلت عن هذا التحقيق الذي أوشك على كشف كل شيء.
لم تستغرق هي سوى بضعة ثوان لتجيبها بحماس زائف ب: -حسنا. سأرتاح لبضعة أيام ثم أبحث عن عمل بديل.
زمت والدتها شفتيها للأمام متسائلة بإهتمام: -أها. هل تودين مساعدتي؟

نظرت لها بإمتنان وهي تجيبها بإيماءة خفيفة من رأسها: -شكرا أمي. أنا سأبحث عن المناسب لي
مسحت سمية على وجنة إبنتها اليسرى وهي تهتف بعزم: -عامة أنا سأخبرك معارفي عن تفرغك، فإن وجد أحدهم ما يناسبك سأجعله يبلغني فورا، إتفقنا؟
زمت شفتيها على مضض، ثم أردفت مستسلمة: -حسنا
رسمت والدتها إبتسامة رضا على وجهها بعد أن وافقت هي على مساعدتها دون أن تحتج كعادتها، ثم أمرتها بنبرة أموية جادة ب:
-هيا! إنهضي، لنأكل سويا.

زمت لمار شفتيها معترضة ب: -ولكني آآ...
وضعت سمية إصبعها على ثغر إبنتها لتمنعها عن الحديث قائلة بصرامة: -لن أقبل بالرفض، هيا حلوتي!
تجهم وجه لمار عقب تلك الكلمة الأخيرة، وظهر العبوس في قسماتها الهادئة. ولمعت عينيها ببريق حزين.
وحبست أنفاسها للحظة محاولة السيطرة على كم الذكريات الهائل الذي تدفق إلى عقلها مذكرا إياها بحب أفسد قلبها.

حدثت نفسها بحنق وهي تضغط بأصابعها الرقيقة على الملاءة ب: -كم أبغض تلك الكلمة ( حلوتي )، فقد كان يكتبها لي في رسائله المخادعة.!
نظرت سمية إلى إبنتها بنظرات حائرة، فقد طال شرودها، بالإضافة إلى تشنج وجهها.
ففرقعت بإصبعها في الهواء أمامها لتلفت إنتباهها.
تنحنحت لمار بعد أن أفاقت من شرودها، ثم هتفت بجدية واضحة في نبرة صوتها: -إحم. أمي من فضلك لا تناديني حلوتي، يكفي أن تقولي لمار.

ضيقت عينيها في إستغراب جلي، وسألتها بحيرة: -ما بها الكلمة؟
عبست بوجهها وهي تجيبها قائلة بإنزعاج: -لا شيء، ولكني لا أحبذها
هزت سمية كتفيها في عدم فهم، فهي تعلم أن إبنتها لن تبوح بسهولة عن مكنون صدرها، ففضلت أن تدع المناقشة جانبا، و أردفت بحماس زائد
-كما تشائين حبيبتي، هيا قبل أن يبرد الطعام
-حسنا يا أمي
ثم نهضت الإثنتين عن الفراش، وجلستا متجاورتين على الطاولة ليتناولا الطعام سويا.

عمدت سمية إلى تذكير إبنتها بمواقف طفولية لها، فضحكت كلتاهما بعذوبة على تلك الذكريات الجميلة، وتناست لمار لبرهة تلك الأحزان التي تحتويها...
ثم عانقت والدتها في إمتنان حقيقي على دعمها المستمر لها قائلة بسرور: -شكرا لك أمي على كل ما تفعلينه لي
ربتت والدتها على ظهرها، وهي تردف بخفوت: -أنت جنتي يا صغيرتي، اسأل الله أن يديم عليك السعادة وينجيكي من أي شر
-اللهم أمين.

خلال الأيام اللاحقة كانت سمية قد أبلغت كل من تعرفه عن ترك لمار لعملها القديم وسعيها للحصول على وظيفة أفضل لعل أحدهم يجد لها فرصة مناسبة تعوضها.
وبالفعل أخبرتها إحدى رفيقاتها في العمل عن وجود وظيفة شاغرة بأحد النوادي الرياضية.
تسائلت سمية بإهتمام واضح وهي تستند برأسها على مرفقها ب: -وما طبيعة ذلك العمل؟

أجابتها زميلتها بجدية وهي تنظر للملف الموضوع أمامها: -هم يبحثون في هذا النادي عن شخص يجيد تعليم الصغار مهارات استخدام الحاسوب
ارتسمت تعابير الفرحة على وجهها، وهتفت بحماس: -حقا؟
-نعم. لقد أخبرني زوجي بهذا، أبلغي إبنتك ودعيها تجرب حظها
بدت الحماسة الممزوجة بالسعادة على قسماتها البسيطة وهي تبادر قائلة: -سأخبرها بالطبع
رمقتها رفيقتها بنظرات جادة وهي تكمل بنبرة رسمية: -حسنا. دعيني أنتهي من هذا الملف.

جذبته سمية من على سطح المكتب، ونهضت عن المقعد قائلة بإصرار: -عنك صديقتي، فأنا سأنهيه
نظرت لها بإندهاش، ثم سألتها بعدم تصديق ب: -هل أنت جادة؟
أومأت سمية برأسها إيجابيا قائلة بنبرة حاسمة وهي تتجه إلى مكتبها لتجلس عليه:
-طبعا، فأنت من بشرني بتلك الأخبار السعيدة
مطت زميلتها ثغرها في تفاخر، ثم تابعت بمكر: -ممم. سأنتظر الحلوى منك إن حصلت على الوظيفة.

أجابتها على الفور دون تردد بوعد صريح ب: -أكيد، لن أبخل عنك بشيء.

تنهدت سمية في إرتياح بعد تلك البشرى السارة بوجود وظيفة شاغرة في تخصص إبنتها الدراسي، فقط عليها أن تتريث إلى أن تعود للمنزل لتخبرها بنفسها، وترى السعادة ترتسم مجددا على وجهها الذي إفتقدت فيه روحه الشقية خلال الفترة الماضية. فلعلها تكون بداية موفقة لمرحلة أفضل في حياتها تترك الأثر الطيب في نفسها وتعيد إليها ثقتها. أو ربما بداية لتجربة أسوأ. فهي لا تدري ما الذي تخبئه الأيام لوحيدتها...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة