قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أحيت قلب الجبل للكاتبة ياسمين محمد الفصل الرابع والثلاثون

رواية أحيت قلب الجبل للكاتبة ياسمين محمد الفصل الرابع والثلاثون

رواية أحيت قلب الجبل للكاتبة ياسمين محمد الفصل الرابع والثلاثون

تجلس جواره بتوتر وخجل. قلب يخفق بعنف. وجنتين قد راق له النظر إلى حمرتهما. لم تكن تعلم انها ستذهب اليه برفقة والدتها. و تعود برفقته. هي وهو فقط. وذلك ما اضطر إليه الأمر. ان تظل والدته بمنزلهم. ويذهب هو ليوصل خطيبته إلى المنزل. ليكون الأمر في إطاره الطبيعي امام اخته الصغيرة كما يدعوها.
: متشكر.
أجفلت على نبرة صوته رغم هدوئها. فاذدردت ريقها تسأله بعدم فهم وقد نست الأمر.
: على ايه.؟

نظر إليها للحظات ثم تابع سيره بالسيارة قائلا.
: إنك انقذتي الموقف وقولتي انك خطيبتي.
اشتدت خفقاتها أكثر. ارتبكت. وما زاد الارتباك وجنتيها سوى احمرارا. رمشت بأهدابها عدة مرات. والصورة كاملة محببة إلى قلبه. فردت تبرر عن قصد انها فعلت فقط من أجل والدتها.
: اصل اا. ماما يعني ما عرفتش ترد. فإضطريت اقول كده.
اومأ لها تلتمع عينيه بمكر وقد فهم مقصد التبرير. ليتصنع الأسف قائلا
: بس في حاجة ما عملتيش حسابها.

نظرت له بانتباه مهتم. ليردف
: هتضطري تكملي الدور للنهاية.
اتساع طفيف بعينيها. ومازالت خفقاتها تعلو وتيرتها.
: يعني ايه.؟
فرد كمن يوشك على تقديم تضحية ما
: يعني انا وانتي هنمثل دور المخطوبين لحد ما نلاقي حل.
شعور ما ولد داخلها بضيق ورفض. ليس لفكرة الإرتباط. بل لتمثيلها. وها هو يرد لها الصاع بابتسامة داخلية ظاهرها أسف
: هضطر اطلبك من والدي. خالك يعني.

أطاح بما تبقى لها من رقة. ولكل انثى بداخلها شخصيتين احداهما عكس الأخرى. وهذا ما اكتشفه هو عندما ردت بنبرة مستنكرة. حادة. غاضبة. تلتفت بجميع جسدها تجاهه
: هتضطر.؟ مين قال اني هوافق اصلا.؟
قابل غضبها ببرود ولا مبالاة قائلا
: انتي وافقتي خلاص. انتي اللي ورطتي نفسك.

هل نسى بشأن زواجهم كما أخبرها خالها. ام لحديثه هدف آخر.؟ تخاذلت مكانها بخزي. تعدل من جلستها. تنظر من خلال نافذة السيارة إلى الطريق. ماذا يقصد بإضطراره للارتباط. هل كان خالها محق بشأن حبه لها.؟ هل أخطأت تفسير حديثه عن زوجته.؟ وشعور أشبه بإصتدام وهم ما امام حقيقة. وفكرة تترسخ بذهنها. حتما اضطر هو ايضا رغما عنه قبول الزواج منها شهامة منه لا أكثر...

يقال ان حواء لها القدرة على امتلاك الشيء ونقيضه في ذات الوقت. الرقة والشراسة. الثرثرة والرزانة. الذكاء الداهي والغباء التام. ويبدو ان الأخير يفرض سطوته الآن على جميع افكارها.

اشتباك ما بين دموع لعينه عاصية التمعت تثور طالبة الخروج من عينيها. و كرامة تنظر لها محذرة. تدفعها لعدم الظهور أمامه. وغافل هو عن تلك المناوشات بداخلها. ابتلعت غصة ما بصعوبة تربع يديها امامها تنظر من نافذة سيارته ترفع ذقنها قائلة باندفاع
: زي ما انت ما إتورطت كده و وافقت على جوازك مني.؟

نظر إليها بصدمة برع بأخفائها خلف معالم وجه غير مقروءه. متى علمت بشأن زواجهم. وازت نظرته التفاتة منها ترفع ذقنها للأعلى قليلا قائلة بكبرياء تستعيد به بعضا من كرامتها المبعثرة كما تظن.
: انا مش موافقة. وتقدر تقول اننا فركشنا الخطوبة أو ما حصلش نصيب.
و مازال الغباء متحكما بشراسة.

اما هو فلم تكن رغبته تطرف الحديث بينهما بذاك الإتجاه. لكنه لم يرد. لم ينكر. ولم يبرر. فقط صمت. التفتت برأسها تجاه النافذة. وما زاد صمته كرامتها سوى تبعثرا، عضت باطن وجنتها ترغم عيونها على ابتلاع تلك الدموع. وئدها. حرقها. بينما تلتمع عينيه للمرة الثانية. وتلك المرة لم تكن إلتماعة ماكرة فقط. بل أشد مكرا. وابتسامة جانبية. وضغطة قوية. ثم ضغطات متتالية على مكابح السيارة بقدمه دون ملاحظة منها. ارتدت اثرهما للأمام والخلف صارخة تتسع عيونها بخوف. لتتوقف السيارة فجأة. نظرت إليه بتسائل فزع.

: ايه ده. في ايه.؟
زفر يحاول ان يدير السيارة مرة أخرى. او بالأحرى يتصنع المحاولة. لتنظر حياة حولها باستكشاف. دب الخوف بأوصالها. مسيطرا على جميع حواسها. حيث طريق مظلم. لا تستطيع تحديد هويته. خالي من البشر تماما. ونبرة هادئه تخبرها بأن عليها تقبل الأمر وكأنه من طبائع الكون الفيزيائية. عندما قال قصي بلا مبالاة جالسا فوق مقعد السيارة بإسترخاء
: العربية عطلت. مش هتمشي.

حيث عليه ان يثبت لها كونه بات يفضل ذلك النوع من ألورطه يفضله بشدة...
تهاوت جالسة على تلك الأريكة بمنزلها. تنظر أمامها بخواء. تفتقد احتضان والدتها بشدة. شعور طاغي بالفقد يسيطر على جميع مشاعرها. فقد ثقة. حب. امان. سند. ملجأ...

تثور دموعها نزولا تحرق وجنتيها في حالة من الصمت، صمت أباح لها وأخيرا الأنهيار. أغمضت عيونها بقوة. تطلق العنان لآهات أبت المكوث بجوفها أكثر. آلام مهلكة حد الموت. روح تحترق. تنوح. تمرر فقط صراخ حاد يكاد يشق ذلك السكون من حولها.
: يا أمي. يا أمي. يا أمي.

أخذت تصرخ. تنادي الموتى في احتياج لضمة واحدة. فقط ضمة لم تعثر عليها بين من يحملون قلوبا تنبض بالحياة. كفت عن الصراخ تتهاوى أرضا ينشيج باكي. يتخافت صوتها بانهاك. ترتجف هامسة وقد تمددت تلامس وجنتها جفاء الأرض.
: سبتيني ليه. سيبتيني لوحدي ليه. ارجعي يا أمي. ارجعيلي انا ماليش غيرك.

قادته شياطين غضبه نحو منزل منصور مباشرة. صورتها لا تبارح عينيه. كلماتها يتردد صداها بداخله ( ماما متوفية، بابا مات. مات من زمان. ) يقترب من المنزل تشتعل عينيه بحمرة الغضب. تحترق أنفاسه. ( مسافرة. عند اهلي، ده ابن عمي. عن إذنك. ). يصك اسنانه ببعضها قهرا. يكاد يسحقها. وكلمات جدته تجول برأسه تزيد من اشتعال نيرانه كالوقود. ( مالناش دعوة يا حمزة دول اهل مع بعض، ابن عمها هيتجوزها ويصلح غلطته )، وهنا قد حطتمت كلماتها آخر حصون ثباته. أخذ يطرق باب منزل منصور بعنف. بجنون. بغضب يكفي لإحراق الكون. فتحت الخادمة الباب بزعر تنظر له بخوف. لينطلق الى داخل المنزل زاعقا.

: سارة. سارة.
لترد الخادمة سريعا بخوف
: انسة سارة مش هنا. مسافره.
التفت لها. بوجوم صادم. لم تأتي إلى هنا.!
لم تلجأ لأحد غيره.! ليزعق بألم. بحدة. باحتراق.
: انداهيلي أي حد أكلمه.
بتلعثم وخطوات خائفة إلى الخلف ردت الخادمة تجيبه بارتباك
: مااا مافيش ححد هنا والله العظيم. كككلهم خرجوا.

يلهث. يعلو صدره ويهبط. يرتجف قلبه بعنف. أين هي.؟ أين ذهبت.؟ وتصور له خيالاته أسوء الإحتمالات. بنظرات حائرة. يشد على شعر رأسه للخلف بعنف خارجا من المنزل. ليتفاجأ بصديقه يصف سيارته بأهمال يهرول ناحيته راكضا. (أخبرته تفيده بما حدث ليغلق الهاتف معها متوجها بسرعة البرق نحو منزل منصور ). والقلق يتجسد بنظرة عينيه. وقف امامه قائلا بلهفة
: هي فين.؟
زعق فيه بحده. دافعا اياه بصدره قائلا.

: وانت مال أهلك.؟ إبعد عن وشي يا آدم.
تخطاه خارجا. ليمسك آدم بذراعه يلفه إليه صارخا
: سارة فين يا حمزة.؟ اخت.
ولم يستطيع إكمال جملته حيث صب المارد عليه جام غضبه. يكيل له لكمات متتاليه زاعقا ما ان نطق بإسمها
: قولتلك ابعد عن وشي. ما لكش دعوة بيها.

ارتد ادم خطوات للوراء تآثرا بلكمات حمزة. ليتركه الأخير ذاهبا. بينما أسرع آدم يقبض على تلابيب ملابسه من الخلف يرد له ما تلقاه منه من لكمات قائلا بتقطع يتناسب مع كل لكمه.
: انت. اللي مال. أهلك. بأختي.
أنحني حمزة للأمام قليلا. يمسح خيطا من الدماء اندفع يسيل من جانب فمه. يلهث باستيعاب آخر كلمة. (أختي )، بأنفاس متقطعة سأله بعدم فهم
: أختك؟ هي مين دي اللي أختك.؟
والآخر يلهث بدوره. يزعق بغضب قائلا.

: سارة. سارة أختي يا حمزة. تفيدة حكيتلي. هي فين.؟

وقف كل منهم صامتا لا يسمعان سوى صوت لهاثهما. يحاول حمزة فهم ما تفوه به آدم. ليتركه الأخير بنفاذ صبر راكضا نحو منزل منصور. بعد دقيقة واحدة. خرج آدم كالإعصار يركب سيارته. وحمزة مازال واقفا بمكانه يحاول استيعاب قوله. ليركض نحوه مباشرة ما ان رآه يتحرك بالسيارة. فتح الباب يجلس جواره دون كلمة واحدة. تشتعل براكين في عيني كل منهم. تحرك بالسيارة مصدرا صريرا صارخا أثر احتكاك العجلات بالأرض. يتجه بسرعة صاروخية باتجاه منزل أخته كمل علم سابقا حسب ما جمعه عنها من معلومات...

نظرت له تبلع لعابها بخوف. تعيد النظر حولها فلا ترى سوى ظلام. فتح الباب بجواره خارجا من السيارة. ليتفاجأ بها تتشبث بأكمام سترته بقوة. تتسع عيونها. ترتجف حدقتيها بزعر. تختنق نبرة صوتها قائلة
: رايح فين.؟

نظر إليها بتفحص. للمرة الثانية يراها على تلك الحالة من الخوف المبالغ به. ذلك الإرتجاف. ذلك الخوف. حالة الرهب التي تبدو عليها الآن. يدركها تماما. يعرفها عن ظهر قلب. يدرك انها نتيجة حدث ما. حدث بمثابة عدو. حدث مؤلم يظل عالقا بالذاكرة لا ينسى. أي ألم مرت به حسنائه.؟
: هشوف العربية عطلت ليه.

قالها بإيمائة ونبرة مطمئنة. لتترك ملابسه بقلب يرتجف. تتعرق بغزارة. وبررودة قاسية تجتاح جسدها. لفت ذراعيها حول نفسها. تغمض عينيها تحاول تنظيم أنفاسها، بينما يرفع هو غطاء السيارة يخرج هاتفه مغلقا إياه. ينزع إحدي اسلاك بطارية سيارته. ثم أغلق الغطاء مرة أخرى. ركب بجوارها. ينظر أليها بقلق ليسألها وهي مازالت على حالتها قائلا
: حياة.؟
نبرة صوته سكن. أمان. فتحت عينيها تنظر إليه متنهدة براحة ليردف.

: انتي كويسة.؟
اذدردت ريقها بتوتر شديد تومأ له عدة مرات.
ليدير السيارة مرة أخرى. وتلك المرة لا تصدر أي حركة أو صوت. نظر إليها متحدثا بجد أتقنه جيدا
: شكلها كده مش هتدور. اكيد عايزة ميكانيكي.
نظرت إليه تتسائل بعدم فهم.
: يعني ايه.؟ طب كلم اي حد يجي يلحقنا.
كبت ابتسامته بصعوبة يتحسس جيوبه لينظر لها في صدمة قائلا
: الظاهر نسيت تليفوني في البيت.

بدون تردد. او تفكير لجزء من الثانية. فتحت حقيبتها تخرج منها هاتفها تناوله إياه قائلة بلهفة.
: خد تليفوني اتكلم منه.
جز على اسنانه غيظا. ضاعت الفرصة. أخذ الهاتف من بين يديها على مضض. يفتحه. سرعان ما ارتسمت على شفتيه ابتسامة مبهجه لم يستطيع كبح جماحها. حيث محاسن الصدف كانت من نصيبه. فرد قائلا
: تليفونك فاصل شحن.

أخذت الهاتف من بين يديه بعنف طفيف. تضغط على زر تشغيله بقوة. ترتبك فيقع الهاتف من بين يديها لتتحسس تحت قدميها حتى وصلت إليه. تكاد تبكي. وهو يصر على معرفة السبب. ذلك الخوف الشديد. تلك الحالة من الرهاب. حتما لها سبب. نظرت حولها مرة أخرى تلتفت له تختنق بعبراتها قائلة
: يعني إيه. هنفضل هنا. دي حتة مقطوعة.
: انا معاكي. ما تخافيش.

قالها بنبرة حانية يحتوى بها خوفها. نبرة أشبه بإحتضان. لكن الأمر لا علاقة له بحاجة إلى إحتضان او ما شابه. الأمر أكبر مما يظن. وهذا ما سيدركه متأخرا. لفت ذراعيها حولها مرة أخرى. تغمض عينيها. تحاول تنظيم أنفاسها. ترتجف، دام الصمت بينهم لبعض الوقت. ليقطعه بروي و صوت هاديء
: وانا صغير. كنت بخاف انام لوحدي. حتى لو النور مفتوح.
فتحت عينيها. تصغي إلى ما يتفوه به. ليكمل شاردا ينظر امامه بجمود.

: في مرة. قومت مفزوع. لقيت النور مطفي وامي مش جمبي.
توقفت عن الإرتجاف. جذب انتباهها إليه. لكنها مازالت تحتضن نفسها في خوف. فأردف قصي مكملا لازال على جموده لكن تفيض عينيه بنظرة من الحزن
: صرخت. ناديت عليها. ما ردتش. خرجت من الأوضه جري بعيط. روحت صحيتها. اقولها اني خايف. اني ما بعرفش انام لوحدي.

التفتت إليه تحل وثاق يديها تتسارع خفقاتها بشدة. وومضات من الظلام تعج بخيالها. ليلتفت اليها بدوره. وكان لها السبق. باعتراف احدهم. حيث أردف بحزن يلفه الانكسار قائلا
: لأول مرة في حياتي. أعرف يعني إيه ندم. ندمت اني قولت انا خايف. اني عرفتها نقطة ضعفي.
عقدت حاجبيها بتعجب تسأله باستفهام.
: ليه.؟
ابتسم ساخرا يشرد بتلك الذكرى التي كان لها أثرا قويا في نفسه. لن ينساه أبدا. أثرا يمقته. و يمتن له كل الأمتنان.

عشان استغلت نقطة ضعفي. والسبب عرفته متأخر اوي. من أيام بس.
بنبرة فضوليه متسائلة ردت
: إزاي.؟
ليكمل ومازال على شروده بجمود
: ضربتني بالقلم. ودخلتني اوضه ضلمه. قفلت بابها عليا بالمفتاح. وسابتني.
شهقة صدمة خرجت منها. تليها دموع لا آخر لها. كيف توجد قلوب بلا رحمة إلى هذا الحد.
أظلمت عيناه. تنكمش تعابير وجهه بغضب. بألم. مردفا بهدوء ظاهري بينما أعادت له الذكرى زعر اللحظة. ظلامها.

: غمضت عيني مافتحتهاش. فضلت اصرخ. انده عليها. أخبط بكل قوتي على الباب. ما ردتش عليا.
تكتم شهقات بكائها بيديها. تنساب دموعها فوق وجنتيها بلا توقف.
لأول مرة يبيح لنفسه التحدث في ذلك الأمر. وشعور مريح يتسلل نحو روحه.
: فضلت صاحي طول الليل خايف، خايف اروح في النوم. خايف افتح عنيا. فضلت على كده فترة. كل يوم تحطني في الاوضه الضلمه. وتقفل الباب وتمشي.

نظرت اليه بزهول. تتعجب وجود تلك القوة بطفل صغير. عندما أردف قصي وقد تحول الحزن بداخل عينيه إلى نظرة ثقة. نظرة ثاقبة. نظرة تحدي.
: فكرت في الوقت ده ان كل اللي بيحصلي عشان قولت انا خايف. لو ماكنتش قولت كده على الأقل كنت هنام في اوضتي والنور مفتوح.
صمت قليلا. ثم ابتسم لبرائته التي اهدته طوق النجاة. مردفا.

: فتحت عيني فجأه. وتخيلت الضلمة بتقرا أفكاري. والكلام اللي بردده جوايا. خوفت أكتر تكتشف اني بخاف منها. لتعرف هي كمان نقطة ضعفي. لحد ما قررت اقنع نفسي. ان الضلمة ما بتخوفش. انا خايف منها لأني عاوز أخاف. انما هي ما بتخوفش...
نظر اليها يبتسم بهدوء وكأنه يمرر مزحة ما وليست مآساة. مردفا.

: قررت اصاحبها. تخيلتها صاحبي. بقيت أتكلم. اكل اشرب. ألعب. مع الضلمة. ما بقيتش استنى لما تيجي تاخدني تحبسني وتقفل الباب.
نفى برأسه مردفا
: بقيت اطلع لوحدي. ما كانش تعود. كان تحدي. طلعت منه كسبان.
نظر امامه مرة أخرى يكمل قائلا.

: كسبت صاحب ما بقيتش اخاف منه. لما بطلت أخاف بطلت تهتم بحبسي في الأوضه. عرفت ان مهما كنت خايف ما أقولش. ما ابينش نقطة ضعفي لحد. اي حاجة كنت بخاف منها بعد كده. كنت اطلع الأوضة الضلمة. اقفل الباب. واحكي. واخرج بعد كده مش خايف.

حتما كان انتصاره مربح. اكتسب قوة تفوق عمره بمراحل. لكنه لم يدرك حينها انه ترك جزء منه بتلك الغرفة. بذلك الظلام. شيء ما لا يمكن تعويضه. حيث قايضه الظلام سالبا منه طفولته. برائته. نقاء فطرة شاب الظلام جزء منه...

نظرت إلى الفراغ تستمع إليه شاردة بجمود. بظلامها الخاص. ترى الآن ذلك الركن المعتم بذاكرتها. منزل فارغ. و فتاة صغيرة بضفيرة مشعثة ترتجف بخوف. تختبأ تحت مكتب غرفتها الصغير تضم ركبتيها إلى صدرها باكية. تنتظر عودة والدتها. حيث خرجت في جولة قصيرة لكنها لم تعد. تأخرت. تأخرت كثيرا.

يعود والدها في كل صباح. هيئته تخيفها. يهرتل بكلمات لا تفقه لها معنى. يتخبط مستندا إلى الأشياء من حوله. ينظر اليها ضاحكا بصخب كلما سألته عن عودة والدتها ولماذا تأخرت. ضحكاته تصيبها بالفزع. فتركض هاربة نحو غرفتها. تحتمي تحت سقف مكتبها الصغير تضمها جوانبه في شبه إحتضان. ستنتظر والدتها ها هنا. ستعود. وإقتحام مفاجيء. ثم صرخة خوف إثر جذب عنيف. والجزء الأكثر ظلاما. ذلك الجزء الذي لم تخبر عنه أحدا قط. ربما طمست عتمته على ذاكرتها. حيث نزع والدها قناع وجهه. ليظهر لها وجهه الحقيقي. شيطان تتسع عينيه بخلل. يضغط على ذراعها الرقيق بعنف. يتحدث بغرابة.

: عاوزة تعرفي ماما اتأخرت ليه.؟
تتسع عينيها بفزع. قلبها كعصفور يرفرف داخل صدرها. تتساقط دموعها لا تعلم لماذا يفعل والدها هكذا. مال عليها لتبتعد بخوف للوراء. اقترب هامسا بفحيح قرب أذنيها.
: عشان ماتت. انا قتلتها. مش هترجع تاني.

كانت صغيرة جدا. لكنها كانت بالقدر الكافي لإدراك ما يقول، بكت صارخة تنفي برأسها بين يديه. ليضحك هو بخفوت. ثم علت ضحكاته بصخب شيئا فشيئا خارجا من الغرفة. والصغيرة في نوبة بكاء. فزع. صراخ. حتى غفت رغما عنها. تصر على الإنتظار. تنعت ما قاله لها بالكذب...

عادت من شرودها. وفي تلك الحالة لم يأخذ منها الظلام شيئا قط. بل ترك بداخلها جزء منه، لن تستطيع التخلص منه. دمعات حارقة. بمذاق الموت. تتساقط بغزارة من عينيها. لم تخبر أحد بشأن همس والدها في ذاك اليوم. ليس لإعتقادها بأنه كذب. فقد صدق الشيطان. وكفت عن الانتظار. حفرت حفرة ما. بقاع الذاكرة. انتقت البقعة الأكثر ظلاما. ثم ألقت فيها بما حدث في ذلك اليوم، نسته تماما. لكن يبدو ان أحدهم نبش القبور. ليطفو ظلام القاع فوق سطح مخيلتها...

نظر إليها بدوره وشعور ما يلح عليه بشدة لاحتضانها بين ذراعيه. مد يديه دون تردد نحو وجنتها يزيل تلك الدموع بحنو. فظلت على جمودها لم تبدي أي ردة فعل. تأكد انها واجهت ظلاما ما. ربما تغوص به الآن. تسارعت خفقاته قلقا. ومخافة عليها من الغرق جذبها سريعا نحو أحضانه يضمها إليه برفق. يحيطها بذراعيه. يشدد من ضم رأسها إلى صدره. فكانت أحضانه أشبه بشاطيء النجاة. تنهد مغمضا عينيه. أراد ان يبثها بعض الإطمئنان. فكان له المثل. أسدلت ستائر ليل عينيها رغما عنها. تسكن ظلاما من نوع آخر. رفقت بها أفكارها تمنحها غياب مؤقت عن الوعي...

دقائق. بعض دقائق فقط كانت فارقة، وصلت سيارة آدم متوقفا بها امام منزل سارة. نزل حمزة يسبقه بخطوات سريعة. يشير باتجاه المنزل قائلا.
: هو ده.؟

أومأ له آدم راكضا بدوره نحو باب المنزل. القلق يتجسد بنظرات كل منهم. لهفة طاغية الحضور. والمشاعر تختلف. بين عاشق محب. ورابطة دم يرافقها خوف أب. وكانت الصدمة بمثابة ثقل ضيف لا رغبة لهم في استقباله. وقف كل منهم متسع العينين. خفقاتهم تشتد وتيرتها. يكاد يسمع كل منهما صوت نبضات الآخر وكأنها موصلة بجهاز ما. حيث باب منزلها مفتوح إلى آخره. ابتلع كل منهم غصته يتقدمون بترقب. غافلين عن تلك الدماء التي يخطو كل منهم فوقها. دخلا إلى المنزل لينادي آدم زاعقا بإسمها.

: سارة.؟
مازال كل منهم يستمع نبضات الآخر. وقد حل ثقل الضيف على قلوبهم لتتسارع الخفقات أكثر. اتسعت عينيهم ينظر كل منهما إلى الآخر. عندما لاحظوا تلك الفوضى بالمكان. وبقعة دماء واسعة إلى حد ما. يستريح جوارها وشاح رجالي علم حمزة سريعا صاحبه. همسة خاوية خرجت منه بإسمها
: سا. سارة.

قطرات دماء صغيرة. تابعة لتلك البقعة الأم. يصوبون انظارهم أرضا بزعر. يتتبعا سير قطرات الدماء. حتى خرجا من المنزل وما زالت القطرات ممتدة. توقف كل منهما فجأة. يتوقف معهم صوت نبضاتهم. وصفير تام. يعلن نهاية ما لقطرات الدماء بمنتصف الشارع تماما...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة