قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أحيت قلب الجبل للكاتبة ياسمين محمد الفصل الحادي والثلاثون

رواية أحيت قلب الجبل للكاتبة ياسمين محمد الفصل الحادي والثلاثون

رواية أحيت قلب الجبل للكاتبة ياسمين محمد الفصل الحادي والثلاثون

شعرت ببعض العطش. وأرق تجهل تفسيره. نهضت عن الفراش. تلتقط حجابا ما تلفه باهمال حول رأسها لتنزل الى الطابق السفلي. فتحت باب غرفتها تتثائب خارجه. سرعان ما قطبت جبينها باستغراب عندما رأت ام السعد تقف امام باب غرفة سارة. يبدو عليها الارتباك. ومع فتح باب الغرفة وانتباه ام السعد للخارج منها. كانت الصدمة. وشهقه صامته خرجت من قلبها. اتسعت عينيها تغلق الباب سريعا سوى من شق صغير. تنظر اليه. تنكر نظراتها خروجه على تلك الهيئة من غرفة ابنة عمها. بجلبابه فقط. يحمل عبائته وعمامته بين يديه. وباليد الأخرى يحمل شيئا آخر لم تستطيع تحديد هويته. جرح نازف احدهم يضغط عليه بكل ما أوتي من قوة. ما تشعر به الآن. الروح تصرخ. تنهار ارضا يشق صوت صرخاتها سكون الليل قهرا. تحتضر. بينما الجسد متصلب خلف الباب. أغلقت الباب برفق. يعلو صدرها ويهبط. تبكي بصمت غير كافي لإفراغ ما بداخلها. ينكر عقلها ما رأته الآن. بينما القلب ينازع كمن فقد عزيز. يصرخ متألما. تتجسد صرخاته على هيئة خفقات كرصاصات مميتة. اما خارجا.

أشار سالم إلى ام السعد ناحية الغرفة بالدخول مرة أخرى. لتخفي آثار ما خلفته خطته. نزل بخطوات غاضبه إلى مكتبه. اغلق الباب خلفه بعنف. تحترق انفاسه. ينهر نفسه. يسبها. إتكأ بيده على سطح مكتبه يطرأ رأسه أرضا بندم. لم يكن يريد فعل ذلك. تلك الافعال ليست من شيمه. لكنه اضطر. اضطر إلى خلع ثوب رجولته. وربما آدميته. اذدرد ريقه بصعوبة. يمني نفسه. أن كل شيء سيكون على ما يرام. يملك زمام الأمور بين يديه. عقد الأمور. وبحوزته حل لكل عقدة. سيخرجه في وقته المناسب...

في صباح اليوم التالي...
استيقظت. من نوم متقطع بين اوقات الليل، حيث كانت تذهب بين الحينه والأخرى تتفقده للإطمئنان عليه. متذكره تلك الحالة المزرية اللتي كان عليها امس. والسبب فقد أخيه كما ينعته هو. تنهدت بحزن ناهضة عن الفراش. تخرج متجهة إلى الغرفة اللتي ينام بها. طرقت الباب بهدوء. ثم فتحته. وانقبض قلبها.

تنظر في انحاء الغرفة باحثة عنه. وفكرة فقده تلوح في افق افكارها كالشبح. بخطوات سريعه ونظرات خائفة. وقلب ام يرتجف قلقا. اتجهت ناحية المكتب حيث دليل السلامة خاصتها. فتحت الباب بلهفة تتحدث سريعا.
: منصور. مازن مش موجود في البيت.
نظر اليها ناهضا من خلف مكتبه. يرفع يديه امامه يتجه إليها قائلا
: عارف. اهدي ماتخافيش.
تنهدت تخرج انفاسها وكأن عدم وجوده قد اسرها بداخل صدرها. بنبرة مازالت على قلقها ولهفتها ردت.

: راح فين.؟ انا لسه شايفاه ما بقاليش ساعه كان نايم.
اقترب منها اكثر يلتقط يديها بين كفيه يضغط عليهما برفق. وكأنه يبعث لها الأمان بتلك الحركة. يرفق بحالها. لهفتها. زعرها. لم يكونا من فراغ. ليتحدث قائلا بابتسامة صغيرة
: حنان. انا عايزك تهدي. ابننا خلاص بقى في حضننا. مش هيفترق عننا تاني.
ابتلعت غصة عالقة بجوفها. تستمع اليه. فأردف منصور.

: عايزك تطمني. انا حاسس بيكي وبهاجس الخوف اللي بيسيطر عليكي لا يمشي او يسيبنا تاني. حاولي تتغلبي عليه.
بعيون تلتمع بها دموع الخوف ردت قائلة
: خايفة يامنصور. قلبي مش متطمن. عايزاه قصادي طول الوقت. اشبع منه. ما يسبنيش ولا لحظة واحده.

جذب رأسها الى صدره يضمها اليه متنهدا بحزن. ما مرت به خلال تلك السنوات الأليمة لم يكن هينا ابدا. الأمر اشبه بالإحتراق. بالتمزق. بالموت فجأة ثم تدب فيك الحياة مرة ثانية. من المؤكد انك ستتشبث بها خوفا من فقدها مرة أخرى...

مشى في ذلك الرواق المزدحم بالمجرمين والضباط. يمسك بمرفقه احدى العساكر جاذبا اياه بصلابة. معالم وجهه مرهقه. نظراته معلقة بالأرض في غيمة من الندم. اقترب من باب مكتب رئيس المباحث. ثم فتحه العسكري يؤدي التحية. وما ان استقام رئيس المباحث يتحدث قائلا
: طيب اسيبك انا براحتك يا باش مهندس.

رفع عيونه ينظر الى الجالس امامه بعدم تصديق. سرعان ما هبطت انظاره ثانية إلى الارض خزيا. خرج الضابط مغلقا الباب خلفه. ليعم الصمت ارجاء المكان. يقطعه عبد السلام قائلا بحزن ونبرة انكسار
: كمان جاي تطمن عليا بنفسك. انا ما استحقش حتى انك تبصلي. انا عارف اني غلطت في حقك وحق منصور وحنان.
ثم تهدجت انفاسه مردفا
: سامحني. سامحني يا ابني.

يجلس امام المكتب يستند إلى ظهر الكرسي. ينظر إلى اللا شيء بمعالم وجه غير مقروءه. وكأنه في الغرفة بمفرده. عم الصمت قليلا ليقطعه هو مستقيما بخطوات هادئة تعاكس ذلك الدمار بداخله. يتقدم نحوه حتى توقف امامه مباشرة. يضع يديه بجيب بنطاله. ينظر اليه بجمود. ليتحدث قائلا بجفاء.
: انا مش ابنك. ومش جاي اتطمن عليك.

لم يستطيع رفع عينيه والنظر اليه. فأردف قصي بما جعل عينيه تتسع لآخرهما. ينظر اليه بعدم تصديق. يفقد توازنه وقدرته على الوقوف. يبتعد خطوة للوراء بعدم استيعاب. عندما اردف قائلا
: عمر مات.
تسارعت خفقات قلبه يوشك على التوقف. ينظر حوله بنظرات تائهة في محاولة استيعاب لما يسمعه. يتنفس بصعوبة. قائلا بنبرة متألمة
: انت بتقول ايه. ايه اللي انت بتقوله ده.
وبثبات انفعالي رد قصي يعيد جملته على مسامعه.

: زي ما سمعت. عمر ابنك مات.
ترنح في الوقوف. كاد ان يسقط. ولم تتحرك شعرة واحدة من الواقف امامه. مد زراعيه في الهواء في محاولة للإتزان. بنظرات حائرة تائهة يقترب من اقرب مقعد اليه جالسا عليه. يبكي بحرقة. يحترق قلبه. يتآكل داخله ألما. ينتحب كالأطفال. لينظر له قصي قائلا بجمود.

: اد ايه احساس صعب. صح؟ ان ابنك يموت وماتشوفوش تاني. بس عارف ايه الأصعب.؟ ان يبقى ابنك عايش ومش عارف تشوفه. مش قدام عنيك. تبقى عارف هو مع مين ومش عارف مكانه. مش عارف هو عايش ولا يمكن يكون مات.
الألم بداخله قد بلغ مبلغه. فصرخ باكيا يرفع رأسه ويديه إلى السماء قائلا
: يااااارب. يارب اغفرلي يارب. اغفرلي يارب.
وانخرط في بكاء مرير يتجرع مرارة الفقد. يتأوه من بين نياط بكائه.

اقترب قصي منه خطوتين. ينطر اليه قائلا بنبرة منتقمة.
: انا جاي انهارده اديك فرصة.
هدأت نوبة بكائه بعض الشيء ينظر اليه باستجداء.
: هخرجك من هنا. و بعدها تختفي من الوجود نهائي.
نظر اليه بنظرات متسائلة قد فهمها قصي فأردف
: تنسى ان ليك بنت اسمها يمنى. او ان ليك بنت من الاساس. والا تفضل هنا زي ما انت. وهي تعرف حقيقتك. في كلتا الحالتين هتبقى ميت بالنسبالها.

اجهش في دوامة بكائه. ضريبة يجب عليه دفعها. دين عليه وجب عليه سداده. لا مفر. فهو مات في نظر نفسه منذ زمن. لكنه سيفضل ان يعيش بذكرى ابنته. ان تتذكره دائما كأب. وليس كحقير...

استيقظت ورأسها يكاد ان ينفجر. ألم شديد. مبالغ فيه. تكاد لا ترى امامها. نهضت تجر جسدها بثقل. ورنين هاتفها المزعج يزيد من حدة ذلك الألم برأسها. التقطته سريعا ترد. فوجدتها حياة. تبادلا التحية. ومن ثم انخرطت حياة تقص على مسامعها كل ما حدث وتلك المفاجآت والكوارث اللتي توالت عليهم من بعد سفرها. شهقت تستمع الى صديقتها بنظرات مصدومة قائلة.

: انا مش قادرة اصدق. معقولة.؟ قصي اللي انقذك في المطار من باسم. واللي اتبرع لانكل منصور بالدم. يبقى ابنه.؟، وابن طنط حنان.؟
ردت حياة من الجهة الأخرى بيأس
: انا نفسي مش مستوعبه. مش قادرة اقولك ماما حنان تعبانة قد ايه. بقت على طول سرحانة لا بتعيط.
: يا حبيبتي يا طنط. اكيد يا حياة شعور صعب جدا.
انا عمري ما سمعت عن ان ليها ابن خالص. ولا هي حتى قالت قبل كده. واختها دي ربنا ينتقم منها. دي مش بني ادمه.

ردت حياة بحزن
: بجد مش قادرة اصدق ازاي اختها و تعمل كده.؟ انتي مش متخيلة البيت بقى عامل ازاي يا سارة. طاقة حزن غريبة ملياه.

تنهدت سارة بحزن لحال اسرة صديقتها. وبعد الانتهاء من حديثهما معا ودعتها مع وعد بمكالمتها مرة اخرى للإطمئنان على حنان. ثم نهضت تمسك برأسها تفتح خزانة الملابس تخرج منها ملابس ملائمة للنزول الى الاسفل متجهة إلى حمام غرفتها لأخذ حمام بارد عله يهدأ من تلك الآلام المفاجأة التي تجهل مصدرها. ودخول اشبه باقتحام حرمات. باندلاع نيران مشتعلة من أعلى جبل ما تهتك في وجهها كل جميل. تحرقه. حتى لا يتبقى منه سوى رماد يستطيع النفخ فيه وتحريكه كيفما شاء. دخل إلى غرفتها مغلقا الباب خلفه. استمع الى صوت مياه الصنبور فعلم انها بالداخل. ثم وقع نظره على قفص العصفور بحافة الشرفة. اقترب بخطوات بطيئة. وقف امامه مباشرة. يرفع رأسه في شموخ ناكرا تدني و انحدار انسانيته امس. ينظر الى العصفور بداخل القفص نظرة غامضة. ثم مد يده ببطء. يمسك بذلك الباب الصغير الذي يحجبه عن العالم والتحليق بحرية وانطلاق. وربما كان يحميه. فتح الباب الصغير. وابتعد العصفور خوفا. ومن ثم سكن قليلا. وكأنه يستوعب. حريته امام ناظريه. اقترب بقفزات صغيرة يتأكد من عدم وجود تلك القضبان بالنسبة إليه. اقترب اكثر. يقف على حافة الباب الصغير. ينظر خارجا إلى عالمه. وسرعان ما فرد جناحية متلهفا منطلقا في الهواء بسعادة تحت سماء حرم من لونها لأيام. انطلق يمارس فطرته. الحرية. ومع اول انطلاقة له. كان خروجها من الحمام. تسمرت بعدم استيعاب وتعجب لوجوده بغرفتها بدون استئذان. يقف مستديرا يحجب عن عينيها مافعل توا. لتتحدث بحدة قائلة.

: انت بتعمل ايه هنا. ازاي تدخل من غير ما تخبط.؟
وسؤال متأخر. وصدمة متأخرة. حيث استدار اليها يتنحى جانبا يعطيها المساحة الكافية لرؤية القفص فارغا. اقتربت بخطوات راكضة نحو القفص. تنظر اليه بعيون متسعة زهولا. ثم نقلت نظراتها خارجا إلى السماء تبحث بعينيها بلهفة. سرعان ما نظرت اليه تتحدث بغضب وحدة شديدة.
: انت عملت ايه.؟ ازاي تعمل كده؟

وامام غضبها كانت ابتسامتة جانبية ساخرة منه ونبرة لا مبالاة مقتتها هي حد القتل رد قائلا
: عملت ايه.؟ خرجته. بقى في مكانه المناسب.
اشتعلت عينيها بقوة تنظر اليه تكاد تحرقه. تأخذ يديها وضع اللكمة وهي على شفا جرف من تسديدها إلى تلك الابتسامة الساخرة على شفتيه
: بأي حق تدخل الاوضة وتتصرف التصرف ده من غير اذني.؟ دي حاجه خاصة بيا انا انت مالك بيها.؟

تركها وكأنه لم يفعل شيئا. وكأنها لا تكاد تحترق غضبا من تصرفه. قائلا بعدم اهتمام يتخطاها جالسا على الأريكه.
: سيبك من الكلام الماسخ ده. عشان في حاجه اهم.
اندفعت نحوه بخطوات سريعة وكادت ان ترد صارخه. حتى اشار لها بالسكوت. يخرج من جيب عبائته ورقة يناولها اياها. لم تأخذها من بين يديه. بل ظلت توجه اليه نظرات غاضبة حانقة من تصرفه.
: خدي يا بت عمي. اجري الاول جبل ما تمضي.
قالها بنبرة ساخرة. وابتسامة غامضة.

انتزعت الورقة من بين يديه تلتقطها. تقرأها. تتسارع خفقات قلبها. تتسع عينيها. تنظر اليه قائلة بغضب
: ايه ده.؟ ايه الهبل ده. مين قال ان انا هتنازل عن حقي و ورثي.؟
نظر اليها يتصنع البرائة بمعالم وجهه. يرد قائلا
: وه. انتي يابت عمي. اوعاكي تكوني نسيتي ليلة امبارح. لما جيتلك اهنه. وبصمتي على الورجة دي. و ورجة تانية كمان.
ثم نقل نظره نحو الفراش خلفها يبتسم بوله متنهدا يردف
: ومش بس اكده.

نظرت له بزهول. تشتد خفقاتها أكثر. اي بصمة.؟ واي ورق.؟ ماذا يقصد.؟ فردت تذدرد ريقها قائلة
: انت بتقول ايه.؟ جيت فين و ورق ايه اللي بصمت عليه انا ما عملتش حاجه من اللي بتقولها دي.
استقام واقفا امامها يخرج هاتفه. يعبث به قليلا ثم يناولها اياه قائلا
: طب خدي. اتأكدي بنفسك. اني ما هكدبش عليكي.

تناولت الهاتف من بين يديه بيد مرتعشة. تلك الثقة اللتي يتحدث بها تصيبها بالخوف. لا تتذكر ايا مما يقول. نظرت إلى شاشة الهاتف. تشاهد فيديو ما. مهلا. تلك الغرفة. اللتي يقفون بوسطها الآن. ذلك الفراش خلفها. وهي. نائمة بدون ملابس. اتسعت عينيها تكاد تخرج عن محجرها. وفجأه ظهر هو بشاشة الهاتف. يقترب منها. وما ان رأته حتى القت الهاتف بوجهه صارخه. تتشبث بملابسها ترجع بخطواتها إلى الوراء في حالة صدمة. تنفي برأسها بجنون. تنزل الدموع من عينيها واحدة تلو الأخرى بدون بكاء. وكأن ما تبكي روحها. اصتدمت بحافة الفراش فجلست لا اراديا. قدميها عبارة عن شيء هلامي لا وجود له. لا تقدر على الوقوف. كيف حدث ذلك.؟ لقد انتهت. ليتها لم تأتي. ليتها لم تطالب بحقها. ليتها تعود الآن في غمضة عين حيث منزلها وحيدة. التقط هو هاتفه. يقترب منها وهي في حالة زهول وكأنها غائبة عن الوعي. فرد قائلا يغتنم تلك الفرصة. بنبرة هادئة.

: امضي على الورجه دي. اني ما هسبكيش. هكتب عليكي. وماحدش هيدرى باللي حصل بناتنا. وده لصالحك جبل ما يكون لصالحي.

مازالت على تلك الحالة. ناولها القلم. فأخذته بيد تتحرك آليا فقدت السيطرة عليها. عقلها الآن في ناحية أخرى. عقلها غارق. صارخ يستغيث بذكرى والدتها يسألها العودة. التجسد امامها الآن وانتشالها الى احضانها. وقعت بتيه. اخذ الورقتين يتنهد براحة داخليه. حصل على ما يريد. ضمن بقائة أخيرا. والأن باتت زوجته. تحدث قائلا بجفاء لم يرفق لدموع عينيها. لم يرفق لصدمتها اللتي لم تفق منها بعد. ليتحدث قائلا.

: كتب لكتاب هيكون الليلة. هنزل اجولهم الخبر دلوجتي.
ثم تركها خارجا من الغرفة. ترك خلفه دماء نازفة من روحها. تائهة في صحراء قاحلة. والنهر لم يكن استقرارا وحياة بل كان النهر مسموم. والملاذ اللتي رأته احضان تحتويها. لم تكن سوى نيران جائعة تلتهم ما تبقى منها دون رأفة...

جلست بالسيارة جواره تشعر بالفرح. تبتسم وابتسامتها بالنسبة إليه. تعني سعادته. لم يرتب افكاره بعد. بماذا سيخبرها.؟ الام. الاب. الاخ. ذهبا في رحلة دون عودة. وسيكون هو جميعهم. نظر اليها يبتسم بحزن. وهي تنظر من خلال نافذة السيارة بإنبهار تبتسم بسعادة. فتحدث قائلا
: مبسوطة يا يمنى.؟
نظرت اليه ترد بسعادة وحماس
: اوي اوي يا ابى. مصر حلوة اوي.

رفع يديه يربت على رأسها بحنو يبتسم لها. لتسأله بما جعل عقله يطرح آلاف الاجابات المناسبة لسؤالها.
: احنا رايحين لبابا وماما.؟
اذدرد ريقه بصعوبة. ليجاهد برسم ابتسامة صغيرة على شفتيه يتصنع التفكير قائلا
: بصي يا ستي. احنا هنروح الفيلا دلوقتي تغيري هدومك و بعد كده هخدك افرجك على مصر كلها. ايه رأيك.؟
صفقت يمنى بحماس شديد ثم مالت تقبل وجنته قائلة بسعادة
: موافقة طبعا.

عادت تنظر مرة ثانية من خلال النافذة. ينظر هو اليها بحزن للحظات ثم نقل نظر إلى الطريق أمامه. لم يعد لها أحدا سواه. لن يتركها. هل تستقبلها والدته بينهم. هل سيتسع صدرها لها مرحبة بها بينهم.؟، ماذا لو رفضت وجودها.؟ ، والإجابة محسومة قبل طرحه للسؤال. نظر جانبها اليها متنهدا بعزم. لن يتركها. سيكون برفقتها هي...

اخذت تخطو ذهابا وإياباً. تضغط على كفوف يديها بتوتر. تنظر إلى الساعة تقريبا كل دقيقتين. يراقبها هو دون ادراك منها. يشعر بما تشعر به الآن. لكن عليه التماسك والثبات لكي لا تتمادى في فرط قلقها عليه. تحدثت باندفاع تانديه قائلة
: منصور. ده اتأخر أوي. كلمه تاني، أو اكلمه انا.
تنهد بتعب قائلا
: ابنك كبير يا حنان. بقى راجل مش عيل صغير. مش هينفع كل شوية نتصل بيه نقوله انت فين.
زفرت بنفاذ صبر لتأخذ الهاتف قائلة.

: لاء انا مش قادرة اصبر اكتر من كده.
رفعت الهاتف إلى اذنيها تنتظر رده بتوتر ولهفة قلقة. انتهت مدة الاتصال ولم يرد. لتعاود الكره مرة ثانية. وفي تلك المرة اتاها الرد لتتحدث بلهفة قائلة
: ايوة يا مازن. مش بترد ليه. انت فين كل ده يا ابني.؟
اسئلة متسارعة. ونبرة متلهفة. و عيون تتعطش لرؤيته. والرد اشبه بضربة رأس. حيث جائها صوته باقتضاب
: مش هقدر اجي انهارده.
ونبرة اللهفة تحولت لمعاتبة. لقهر. لتوسل.

: ليه. مش هاتيجي ليه.؟
اغمض عينيه بقوة يضغط عليهما بإبهامه وسبابته. صوتها يؤلمه. يريد الركض اليها. لكنه لن يستطيع.
: ورايا حاجات مهمة هخلصها واكلمك تاني.

انزلت الهاتف ببطء من على اذنها. نظراتها خاوية. قلبها لا يكف عن الشعور بالألم. تلك الندبة بداخله. كانت على وشك الأختفاء. الآن عادت لتنزف من جديد. يبتعد عنها. لا يريدها. قطعة من روحها لا تريد البقاء معها. اي ألم ذاك الذي يضاهي ما تشعر به الآن. نظرت الى منصور بتيه ومن ثم صعدت إلى غرفتها بخطوات بطيئة. بينما الأخير يفكر في حل ما. عليه فعل شيئا ما لإعادته لانتشاله من زوبعة الحزن تلك. ليظهر له الحل الذي سيعيده اليهم مرة ثانية. الحل الذي ادرك مدى قيمته بالنسبة الى ولده. حيث تقدمت منه حياة بارتباك يبدو عليها الحياء الشديد. قائلة بتردد.

: خالو. انااا كنت عايزة اسئلك على قصي. هو كويس.؟
ابتسم. سرعان ما وجدها فرصة مناسبة لإخبارها. فرد قائلا
: هو كويس يا حبيبتي. لكن اكيد هياخد وقت على ما ينسى. مهمت كان ده متربي معاه من صغره على انه اخوه حتى لو الحقيقة غير كده.
تنهدت بحزن والقلق يتمكن من قلبها لأجله. نظرت إلى منصور سريعا عندما آتاها ندائه قائلا.

: حياة. انا عاوز اقولك على حاجه عملتها بدون علمك. وياريت يابنتي تسامحيني عليها لأني عملت كده بدافع الخوف والقلق عليكي.

انتبهت إلى ما يقول. لتنظر اليه بعدم فهم ونظرات متسائلة. ما الشيء الذي يستدعي ان يطلب خالها منها المسامحه. ليردف منصور بما جعل تفكيرها يتوقف للحظات غير مستوعبا لما قال توا. سرعان ما اتسعت عيونها بزهول. خفقاتها تنطلق متسابقة بسرعة صاروخية. وربما تتراقص لا تدرك. عندما اردف منصور يذدرد ريقه بحزن.
: عرضت على قصي يتجوزك. ووافق...

نزل من الشركة يشعر بهاجس صغير من القلق عليها. لم تأتي إلى الشركة منذ 3 ايام. للمرة الثالثة اللتي يأتي بها إلى شركة المنياوي وتخبره السكرتيرة بعدم وجودها. ركب سيارته يتجه بها نحو بيت منصور المنياوي. سيخبره بكل شيء. وسيعلن الأمر للجميع. لن يترك أخته تعيش برفقة غرباء وهو على قيد الحياة. سيكون لها الرفيق. يعلم تماما كم باتت وحيدة بعد وفاة والدتها. مثله تماما. سيكون كلا منهما للآخر سكن. سيعوضها عن كل ما عانته وحدها. غافلا. غير مدرك. انها الآن كطير ذبيح. تسلب انفاسها منها عنوة. تتنازل عن روحها قسرا...

ممدة على السرير. موصل بها اسلاك وخراطيم عدة. تتنفس بهدوء. تفتح عيونها وكأنها تنوي على فتح قبور. ممرضتان يدخلان صباحت و في نفس التوقيت يوميا. ثم في آخر اليوم تأتي واحدة فقط تحقن ذلك الكيس البلاستيكي المعلق على حاملة ما بجوارها بما يشبه الدواء. حيث الحالة الصحية للمريضة او بالأحرى للمتهمة حرجة، ومازالت تغرق في غيبوبة سوداء. أو هكذا ظنوا. فقد عاد لها الوعي منذ أيام. والان تتصنع هي غياب الوعي. ومن ثرثرة معتادة بين تلك الممرضتين. علمت انه تم القبض عليها اثناء غيبوبتها. ولم يؤثر ذلك بشعرة من رأسها. بل كل ما كان يؤرق مضجعها. هو رجوع قصي إلى أحضان والداه. وبمجرد مرور الفكرة ببالها. قد ابدى جهاز قياس نبض القلب بعضا مما تخفيه داخل صدرها من نيران حيث أخذ صوته يعلو عن المعتاد. نيران مشتعلة تصرخ نازفة تتعطش للمزيد من الشر. للمزيد من الكراهية. استقامت نصف جالسه تستند على يد واحدة. لم تصيب الحادثة ايا من جسدها عدا ذراعها بالكتف. وارتطام رأسها اثر الصدمة. مما ادي إلى حدوث غيبوبة صغيرة. نسجت بعضا من خيوطها السوداء بداخل رأسها. فلمحت منذ استفاقتها تلك المطفأة المعلقة أعلى الحائط. نزعت من جسدها جميع الخراطيم اللتي تعوق حركتها وبصعوبة نزلت تبتعد عن السرير تتجه نحو مطفأة الحريق. تتأهب واقفة في وضع الاستعداد تحمل تلك المطفأة بين يديها إلى أعلى. تنتظر آخر دخول إلى الغرفة اليوم. وربما الأيام القادمة. بعد لحظات. اتقنت فيهما الثبات. دخلت الممرضة تحمل بين يديها بعض الأدوية. ومع نظرة زهول منها لعدم وجود المريضة وبداية استغاثة. كان ارتطام المطفأة برأسها اسرع. سقطت أرضا فاقدة للوعي. نظرت زهيرة اليها بأنفاس متسارعة. وعيون مشتعلة. ثم دنت تنزع عنها ملابسها الخاصة بالمرضى. ترتدي ملابس التمريض خاصة تلك اللتي تجثو ارضا. بعد دقائق قليله. وقفت تستعد لبدأ عاصفة جديدة. عاصفة ملبدة بغيوم سوداء. يضاهي سوادها لون قلبها المتحجر. عاصفة على ما يبدو انها لن تمر مرور الكرام...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة