قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أحفاد الجارحي ج5 (ترويض الشرس) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل العاشر

رواية أحفاد الجارحي ج5 (ترويض الشرس) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل العاشر

رواية أحفاد الجارحي ج5 (ترويض الشرس) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل العاشر

ارتبك الجميع في حضرته، وكأن هالته تصنع فجوة تلتهم من حوله، الصمت أحيانًا لا يعد خوفًا ممن أمامك، ربما هو وقار وامتنان لهيبة ذلك الرجل ذو النظرات الصارمة التي تنجح بخلق أجواء مضطربة للجميع، وكأنه يخلق نظام عسكري نجح بتأسيس تلك القواعد داخل قصره الخاص، ذاك الصمت قطعه صوت صديق الطفولة والمقرب إليه حينما رحب به بكل حبٍ وبهجةٍ: حمدلله على السلامة.

سحب نظراته عن عدي الذي يراقبه بنظرةٍ نجح بفهم سبب ما يجول بعقله وخاصة بأن حديثهما الاخير عن تولي ادارة الصفقتين لم يكن بعيدًا، واتجه ليحيى فقال بثباتٍ: اتمنى ميكنش ناقصكم حاجة.
ابتسم الاخير وهو يردد: ناقصنا طبعًا وجودك.
منحه ابتسامة هادئة قبل أن يستكمل طريقه للمقعد الأسود، استرخى بجلوسه عليه وعينيه تتنقل بخفة بين حمزة وحازم، فقال بتريثٍ: مش ناوي تعقل يا حمزة؟

تلقائيًا رفع يده يتحسس بها شعره وكأنه يحمل كارثة ملموسة، فاندفع بما يضيق بصدره حينما قال: كويس انك رجعت يابو عدي يا غالي، عشان انا في غيابك بتبهدل من الغبي ده. قولتله يصبغ شعري لون يصغرني راح محولني لهيفا!
فشل الشباب بالسيطرة على نوبة ضحكاتهم بالرغم من وجود ياسين حتى يحيى ضحك بصوت مسموع، فاتخذ حمزة برهانه الأكيد: شوفت يا ياسين بيتريقوا عليا ازاي!

حانت منه نظرة جانبية تجاههم، فكفوا جميعًا عن الضحك ومن ثم اتجهت لمن يقف يرتعد كأنه يرتدي معكب هائل من الثليج، وراح يردد بخوفٍ: النية كانت بني محروق النتيجة مكنتش في الخطة. بس أنا أوعد حضرتك اني هجتهد وهحوله لنفس للاسود أو للونه الابيض عشان يتلم آآأقصد عشان يديله وقار كده.
قطع تلك الأجواء المربكة صرخة نور الحماسية وهي تردد: أنكل ياسين رجع يا بنات.

وفي ثوانٍ معدودة تراصت الفتيات بالأسفل من حوله بفرحةٍ جعلته يبتسم بمحبةٍ لم يشعر بها فور تجمع الشباب بأكملهم، نقاط ضعفه تكمن ببناته أولًا وبمن هبط يناديه بشوقٍ: جدو!
تلقائيًا فتح ذراعيه لمن هرول إليه يضمه بشوقٍ وهو يردد: القصر مالوش معنى من غير حضرتك. أنا كنت بعد الأيام عشان أشوفك تاني.

حدجه عدي بطرف عنيه بنظرة حزينة، ثمة مشاعر غيرة تفور بداخله، فحينما يغيب لشهور عن القصر لم يحظى بمثل تلك المشاعر التي ينعم بها أبيه من ابنه الصغير، بالرغم من جمود ياسين الجارحي وصرامته كيف تمكن من كسب قلب صغيره بمثل تلك الدرجة؟!

راقبهما باهتمامٍ وإن بدى انشغاله بالتطلع للفراغ، ولكنه كان يتلصص لسماع ما يحدث بينهما باهميةٍ، جابت عينيه القاعة وهو يبحث عن والدته، فكاد بالسؤال عنها ولكن سبقته رحمة حينما تساءلت: فين ماما آية؟
ربت ياسين بيده على حجابها وهو يشاكسها بلطفٍ: يعني مش فرحانة برجوعي وهمك آية أكتر مني!
شعرت بالحرج قليلًا، وأسرعت بالحديث: لا طبعًا احنا كلنا كنا بننتظر رجوع حضرتك. بس انا استغربت لما مش لقيتها مع حضرتك.

أشار لها بتفهمٍ، ثم قال بثباتٍ: آية بره مع رعد ودينا.
صاحت داليا بحماسٍ: أيه ده؟ بابي ومامي رجعوا!
وقبل أن تتجه للخارج وجودتهما في طريقهما إليهم، يبدو أن اليوم بات مميزًا بعودة أغلب أفراد العائلة!

بالخارج.

كانت تتبع شقيقتها للداخل، ولكنها توقفت عن المضي قدمًا وراقبت الدرج الخارجي للقصر بابتسامةٍ حالمة، لا تنكر بأن تلك الرحلة القصيرة ستظل محفورة داخل قلبها قبل أن تختم بذاكرتها، مازالت تتذكر الطريقة التي اصطحبها بها لقضاء تلك الرحلة بالرغم من انها كانت تظن نفسها تتوهم، مازالت تتذكر كيف اعتنى بها طوال تلك الفترة، وانفردت معه بعشق خلد طوال تلك السنوات، استندت آية على درابزين الدرج وصعدت، فوجدت من يساند يدها حتى وصلت للاعلى، رفعت عينيها تتأمل من يشدد على يدها، فابتسمت قائلة: عدي. حبيبي!

منحها ابتسامة دافئة ومازال يرفعها حتى انهت صعود الدرج، فانحنى يقبل يدها، أغلق عينيه تأثرًا بلمساتها الحنونة فوق شعره الذهبي، وصوتها الرقيق يعلو: ربنا ما يحرمني منك.

استقام بوقفته فبدى فرق الطول بينهما، وكأنه أبًا لها وليس ابنها، ضمها اليه واختفى جسدها بهالة حضوره، فقالت بصوتٍ بدى قريبًا للبكى: الحمد لله انك لسه واقف قدامي. قلبي كان هيقف وأنا شايفاك بتغرق قدام عيوني. كنت هرمي نفسي وراك بس لولا باباك انقذك.

عاد المشهد ليتجسد أمامه، فربت على ظهرها وعقله شارد فيما حدث بالأمس حينما كان على اليخت برفقتهم، وكلماته لا تفارقه، تحرك بها للداخل بعدما لف ذراعه حولها وبمكرٍ سألها: انا كويس. بس قوليلي اخدك فين واتاخرتوا كده!

انشغال عقله بما يخص أبيه جعلها تبتسم، فالعلاقة بينهما غير مفهومة، كالأسد الذي يمقت وجود شبله بغابة يكون هو سيدها ولكن بالوقت ذاته قد يمزق أي وحشًا قد يمسه بخدشٍ صغير، فاتبعته للداخل قائلة: ياسين كان حابب نكون لوحدنا في يوم زي ده. وبالاخر رجعنا ليكم ولبيتنا.
منحها ابتسامة صادقة ارتسمت فور شعوره بسعادة والدته، صمت الآذان فجأة بصراخ مليكة وهي تناديها بفرحة: ماما. حمدلله على سلامتك يا ست الكل.

أشارت آية لها قبل أن تصل لها: بالراحة على البيبي!
تشبثت بذراع عدي الذي حال بينها وبين السقوط، فطرق على رأسها بخفةٍ: أنتي جاية من على الطريق الزراعي! اهدي واعقلي.
ابعدت ذراعه وضمت والدتها التي قابلتها بمحبة كبيرة، واخبرتها بشوقٍ: وانتي كمان وحشتيني أوي يا ملاكي. طمنيني عنك وعن يحيى.
وراقبت الطريق من خلفها باستغراب: هو فين مجاش معاكِ!

قالت وهي تزيح دموع فرحتها عنها: يحيى مسافر مع رحمة في رحلة تبع مدرستها.
تلقائيًا اتجهت نظراتها تجاه عدي الذي زم شفتيه وهو يخبرها: اضطريت أوفق. الولد احرجني بذوقه.
استأذن بالانصراف فتابعته ببسمة صغيرة زرعت الفضول بمليكة لمعرفة سببها فهمست لها بخفوتٍ: في أمل ان اخوكي يتغير.

اعترضت على أملها بذلك وقالت: انا مش عارفة ليه عايزينه يتغير. عدي ليه كارزما مختلفة عصبي بس حنين، عاقل بس مجنون شوية، متكبر بس بنتفاجئ بتواضعه أحيانًا. الخلاصة ابنك مش مفهوم ربنا يصبر رحمة ويديها ويدينا طاقة تحمل.
قهقهت ضاحكة على وصفها الدقيق، فدفعتها للخطى جوارها وهي تهمس لها بنفس نبرتها المنخفضة: صدقيني في أمل. تعالي نشوف رحمة ونور وحشوني أوي.

انسحب ياسين عمدًا من الداخل، وبحث عن عدي حتى وجده يقف على التراس، وعلى ما يبدو إليه بأنه شارد الذهن، اقترب حتى بات يقف قبالته، فالتقط نفسًا مطولًا قبل أن ينفثه في مللٍ: كنت عارف إنك هتيجي ورايا.
أبعد ياسين المقعد قليلًا حتى يتمكن من الوقوف لجواره، فتأمل شلال المسبح المرتفع وهو يتساقط بنظرة تعمقت بما قد يفكر به عدي، وقال بعد صمت طويل: أنت خايف من رجوع عمي يا عدي؟

ابتسامة شبه ساخرة تمايلت على شفتيه، فردد بسخطٍ: شخص زي ياسين الجارحي يتخاف من بعده مش من قربه.
تقوس جبينه بحيرةٍ: بمعنى؟
أجابه بمكر: بمعنى إنه من الأفضل يكون قدام العين عشان نتنبئ بخطواته. طول مهو بعيد طول ما هو غامض ومش مفهوم.
ارتسمت ابتسامة واسعة على شفتيه، وردد بثقة: عمي مش مفهوم لاي حد حتى لو عاش معاه عمر كامل.
سحب نظراته عن الشلال وسلطها تجاهه وهو يخبره: بالنسبالك. أنا لا.

اشار بيده وهو يقترب ليجلس على حافة التراس المتدلي: يمكن. بس اللي انا واثق منه إن ورا عمي لغز كبير يا عدي. أكبر من جو التحدي اللي بيخلقه بينكم. وصدقني مدام هو بنفسه قالك بلاش أحمد قصاد رائد يبقى تنفذ كلامه لانه ليه نظرة بعيدة وهو أكتر منك خبرة.

انكمش وجهه بعاصفة حلت لتستحضر غضبه: هو اللي حملني المسؤولية دي. يبقى مستحيل هسمحله يتدخل في قرار أنا سبق وأخدته. حتى الطريقة اللي بيحاول يكشف بيها مخططاتي قدامه طريقة متناسبهوش!
وهو ده اللي مأكدلي ان في حاجة كبيرة عمي بيحاول يخبيها. فكر في كلامي كويس يا عدي.

كلمات أخيرة قالها قبل أن يغادر ليتركه يحسم أمره المتعلق باختيار أحمد ورائد، فبالرغم بأنهم ذو كفاءة وخبرة أكثر من الشباب ولكن ياسين فقد اقتناعه التام باختيار عدي فور اعتراض ياسين الجارحي على اختياره، لانه لديه ثقة بأن هنالك شيئًا هامًا لا يستطيع أحدًا رؤيته سوى ياسين الجارحي ذاته!

اجتمع الجميع حول مائدة الطعام، بعد أن فتشت المفاجأة التي يستعد لها الجميع، وبالرغم من جفاء الأجواء من الأحاديث الا أنها كانت محفوفة بالبهجة والمحبة لوجود ياسين وآية بينهم، بدأ الجميع بتناول الطعام، إتكأ ياسين على مرفقيه ووزع نظراته بين الجميع، وبالأخص لزوجته التي تجلس على يمينه وابنه الجالس على يساره، ومن أمامه على نهاية الطاولة يجلس رفيق دربه، أخفى حنينه لتلك الأجواء المختلفة، ولمذاق الطعام الرائع، فشرع بتناول طعامه، وفجأة علق الطعام بجوفه، سعل بقوةٍ جعلت وجهه يتلون بالأحمر القاتم، وقبل أن يمد يده على كوب المياه، وجد كوبًا قريبًا من فمه، واحدهما يعاونه على ارتشافه بأكمله حتى هدأت نوبة سعاله، وصوت من يقف قبالته بالكوب يتساءل بلهفةٍ: حضرتك كويس؟

لم يكن سوى عدي المتلهف لسماع إجابة صريحة من أبيه، أول من أسرع إليه بقلبٍ تمزق مع كل سعلة خرجت منه، هز ياسين رأسه إليه بأنه على ما يرام، فاستقام عدي بوقفته وقد هدأت أنفاسه المنفعلة فعاد لمقعده من جديدٍ وتابعه بتلصصٍ من حينٍ والأخر، المشهد برمته كان يتابعه الجميع ببعض الدهشة والحيرة، لم يعد أحدٌ يفهم ما يدور بعقولهم، عدي لم يعد مفهوم بالمرة، عاد الصمت يكمم الأفواه من جديدٍ الى أن مزقه ياسين وهو يردد بنبرة استهزاء: أنا شايف إن نور كويسة. خليني أعترف ان حجتكم كانت مقنعة ونجحت بس محبهاش تتكرر تاني.

وألقى منديله القطني على الطاولةٍ، ثم نهض وصعد للأعلى والجميع يراقبه حتى تخفى من أمامهم، تحرر الجفاء بينهم فقال رعد ممازحًا: الحصار اتفك. ها طمنوني عاملين أيه؟
أجابته داليا وعينيها تلتهم جاسم: احنا بخير بس الخناق اللي بينا مازال مستمر.
وأضافت رانيا: يا أنكل البيت ده محتاج ليكم لانه من غيركم فوضى.
جز رائد على أسنانه بغيظٍ: بتقولي أيه يا حبيبتي سمعيني؟

ابتلعت ريقها بتوترٍ ألزمها بالصمت، فقالت نور باستنكارٍ: انتي خايفة ليه. ما تتكلمي وتقولي لانكل رعد على اللي بيحصلنا هنا!
ضحك يحيى بصوته الرجولي المميز وقاطع حديثهما: نور أنا شايفك مش مقصرة مع حد في لستة الشكاوي. مش فاهم لسه محتاجة أيه بعد رجوع ياسين الجارحي بنفسه!
اقترحت عليها ملك بخبث: انا بقول تجمعوا الشكاوي وتطلعوله فوق هو اللي هيقدر ياخدلكم حقكم.
صاح بها حازم: أيه يا طنط خليكي محضر خير.

ونكز ياسين بخوفٍ: ما تشوف أمك.
تجاهله واستكمل تناول طعامه، بينما اجتمعت الفتيات وصعدن للاعلى لتقديم الشكاوي المقترحة، ولحق بهم رعد ويحيى فلم يتبقى سوى الشباب، استغل عدي بقائهم بمفردهم وقال بخشونة: كويس اننا بقينا لوحدنا.
اعتدل احمد بجلسته وسأله باهتمامٍ: خير يا عدي.
انصت الشباب إليه بانصاتٍ وخاصة حينما تابع وقال: أنا اخدت قرار بخصوص الصفقتين واختارت ان أحمد ورائد.

تطلع رائد لأحمد بدهشةٍ من اختيار عدي الغريب، وتساءل بذهول: مش هسألك ليه اختارتنا بالذات. بس هقولك الموضوع صعب ومستحيل تتم الصفقتين لصالح شركتنا!
اعترض على حديثه: الاتنين هيكونوا تبع امبراطورية الجارحي يا رائد. انت مش أول مرة تمسك مناقصة ولا أحمد. يعني عندكم الخبرة الكافية اللي تخليكم تهزموا مهاب أبو العزم.
اكتفى بإيماءة صغيرة من رأسه، ثم قال مرغمًا على ادعاء اقتناعه: هحاول.

اتجهت نظرات عدي لأحمد الذي ردد هو الأخر: مفيش مشكلة. هشتغل على العرض ومش هتخرج من ايدنا.
منحه ابتسامة هادئة قبل أن يتشتت الجمع فيما بينهم.

اتجه عمر لغرفته لينال قسطًا من الراحةٍ، اتجه لفراشه وألقى بثقل جسده عليه بعد يومًا شاق للغاية، فتسلل إليه بكاء صغيرته من الغرفة الملتصقة به، رفع الوسادة على رأسه وهو يردد بخفوت: مش وقتك أنا مش قادر.

عادت بالبكاء من جديدٍ، فنهض عن فراشه قسرًا، اتجه لغرفتها فوجدها تجلس على الفراش بمللٍ، أضاء إنارة الغرفة ثم تمدد جوارها وبنومٍ جعله يتثأب أكثر من مرة قال: أكيد مفيش حد هيشيل الليلة غيري. وأنا حقيقي يا حورية البحر أنتي راجع تعبان ومش قادر.
وتمدد على قدميها الصغيرة الممددة على الغطاء وهو يسترسل برجاء: سبيني بس اريح نص ساعة وأنا اوعدك هقوم وأعملك قرد بعدها لحد ما تنامي.

تعالت ضحكات الصغيرة ببراءةٍ، وأخذت تلهو بخصلات شعره، فاستكان وغفى تمامًا على قدميها.

تسللت نور للداخل بحذر، فهي تعلم بأن عاقبة ما فعلته بالاسفل لن تمر مرور الكرام، بحثت عنه وحينما لم تجده تهللت أساريرها، فأبدلت ملابسها واتجهت لغرفة صغيرتها، خيم العشق بابه العتيق بين حدقتيها حينما رأته يحتضن ابنتها ويغفو بإرهاقٍ، انصرفت عنها كل فكرة دفعتها لمشاكسته فسحبت الصغيرة برفقٍ لغرفتها، ثم أطفئت الاضاءة، واقتربت منه لتطرح غطاء على جسده، انتفضت فزعًا حينما قرب يدها اليه، طبع قبلة رقيقة على كفها هامسًا بنومًا يغلبه: بحبك.

ابتسمت وهي تحتضن كفها، وقبل أن تغادر لغرفتها انحنت لتطبع قبلة على جبينه، ورحلت سريعًا لابنتها، وقرارها أن تقضي الليل بصحبتها الليلة.

خلع قميصه عنه حينما شعر باختناقٍ يهاجمه، وضع بمكان لا ينتمي إليه وكعادته لا يحاول التقليل من ذاته وتقبل الهزيمة بسهولةٍ، وها هو يشعر بثقل المسؤولية التي يحملها على عاتقه، فتح نوافذ الغرفة لتلفحه تلك النسمات الباردة علها تتمكن من التخفيف عما يجتاحه، استند على حافة باب الشرفة وهو يراقب انارة حمام الغرفة بترقب، يتنمى أن تنتهي رحمة من حمامها وتخرج إليه سريعًا، ربما لا يحب الحديث المبالغ به، ولكن وجودها لجواره يمنحه كل ما يحتاجه في تلك اللحظة، عاد ليتطلع أمامه من جديدٍ، تسلل إليه تأوهات خافتة جعلته يستقيم بوقفته وهو يناديها بقلقٍ: رحمة!

وحينما لم يستمع لردٍ منها، اقترب من باب الحمام وطرق وهو يكرر ندائه: رحمة. فيكِ أيه؟
فتحت باب الحمام وهي تحاول التصنع بابتسامةٍ صغيرة: مفيش.

وتركته واتجهت للفراش بخطواتٍ متهدجة، توحي له بما تشعر به في تلك اللحظة، راقبها بنظرةٍ تخللت إليها، وخاصة حينما احتضنت الوسادة وهي تحاول محاربة ألمها، جذب عدي قميصه وارتداه باهمالٍ، واختفى من امامها ثم عاد بعد لحظاتٍ قليلة، وجدته يجلس جوارها ويضع على الكومود مشروب النعناع الساخن، وبعض المسكنات، احمر وجهها خجلًا بعدما كشف ما أصابها فجأة، فابتسم وهو يشير لها بمكر: تحبي تبدأي بأيه الأول المسكن ولا السخن؟

أخفضت عينيها عنه بحرجٍ، فضحك بصوته الرجولي وهو يداعبها قائلًا: حبيبتي السنين اللي بينا تكفي إني أحفظ حالتك وبالمواعيد.

رفعت عينيها اليه فوجدته يضع المسكن بذاته أسفل لسانها ومن ثم قدم لها المياه، فارتشفتها وتمددت بتعبٍ جعلها تئن بخفوتٍ وهي تواجه ألم عادتها الشهرية، جذب عدي الغطاء ليداثرها جيدًا ثم تمدد لجوارها ويده تضم جسدها اليه، حنان قلبه يختبئ خلف حاجز قسوته الغامضة، يمتلك الرأفة والحب وغيرها من المشاعر السامية ولكن يغلبها حاجز صنعه بذاته، حاول عدي الاستسلام للنوم ولكنه لم يحظى به فما أن شعر بغفلتها، فتسلل بهدوءٍ من جوارها ثم عاد لشرفته من جديدٍ، عبث بهاتفه بمللٍ فتفاجئ باحدى الأخبار تعلن عن وفاة ظابط شرطة بطريقة مأساوية، حيث ثم قتل أفراد عائلته أمام عينيه ثم ذبح واشتعلت النيران بمنزله، دقق بإسمه جيدًا، وكانت صدمة كبيرة له، فبحث عن اسم بسجل هاتفه وما أن أجابه صوت المتصل به حتى ردد بذهول: مين اللي قتل كمال بالوحشية دي؟

استمع لرد زميله وهو يبرر بتوتر: لسه موصلناش للقاتل، ولا لأي دليل لان البيت كله ولع للأسف.
رد عليه بضيقٍ شديد: مش محتاجة أدلة دي واضحة زي الشمس. ده انتقام ومش هيطلع غير من مجرم له تار عند كمال!
=احنا شغالين وهنوصله ان شاء الله.
ابقى بالغني بالجديد أول بأول، ولو احتجت مساعدتي متترددش أنت عارف كمال كان غالي عليا ازاي، ياما اشتغلنا مع بعض.

=عارف يا باشا ومقدر موقفك. ان شاء الله هكون على تواصل مباشر مع حضرتك.
وانتهت المكالمة فيما بينهما، بينما لم تنتهي رباطة فكره بما حدث لزميله وبالسيارة التي كانت تراقب تحركاته منذ قريب، ربما هناك ما يثير الشكوك بالأمر!

غيابهم ليومين متتاليتين جعل هناك ازدحام هائل من الأعمال، لذا انصرف الشباب صباح اليوم التالي باكرًا قبل استيقاظ أحدًا من القصر، عملوا بجهدًا كبير قبل أن يصل ياسين الجارحي لتفقد الأمور بالمقر، لف معتز رأسه يمينًا ويسارًا بتعبٍ ثم قال بإرهاقٍ شديد: أنا خلاص تعبت، مش هقدر أكمل غير لما أخد ساعة راحة على الأقل.
أغلق جاسم حاسوبه، ثم تمدد على سطح مكتبه وهو يردد بتعبٍ: مين سمعك، أنا خلاص ارهقت.

أضاف رائد وهو يقاوم النوم بصعوبةٍ: أنا بقالي ساعة شغال على الملف ده ومش عايز يخلص تقولش بيعاند هو كمان!
خلع عمر سترته السوداء ثم حرر الجرفات الخاص به وهو يصيح بغضب: يا جدعان أنا دكتور والله العظيم دكتور مش محاسب، جايبني اراجع حسابات أول مرة أشوفها. ده أنا حتى كنت بخلع من حصة الرياضة اتقوا الله!

ضحك أحمد ثم قال وهو يوزع نظراته بين أبناء عمه: أيه يا عصب الجارحي، نخيتوا أوام كده أمال فين كلام الكفاح والمستقبل والعزيمة بتاع امبارح!
رد عليه جاسم بغضب: اقعد يا عم انت طول عمرك واخد على المرمطة دي ذنب أمنا أحنا أيه!
سأل معتز باستغراب: أمال فين ياسين وعدي وحازم!

أجابه عمر قائلًا: عدي وياسين فوق في مكتب عمي بيخلصوا شوية اجراءات على اللاب بتاعه، أما الحيوان ده فمعرفش فين بس أي كان هو فين فاكيد بيعمل كارثة جديدة.
ردد أحمد بعصبية: هو أحنا لحقنا!
قال رائد بغضب: قوم يا أحمد شوف أخوك في انهي داهية، وقسمًا بالله ما قادر لاي مصيبة جديدة واديك شايف بعينك شكلنا عامل ازاي، قوم.

زفر بضيقٍ ثم ترك حاسوبه ونهض عن مكتبه، فما أن اقترب من الباب حتى وجده يدخل حاملا بين يده كارثة ستفتك بهم جميعًا، انتبه الجميع لما يحمله بين يديه فكانت علبة قيمة للغاية، فتحها ليبرز ما تحمله بداخلها، رفع أحمد حاجبيه وهو يردد باستغراب: شوكولا تشاكوبولجي مرة واحدة، جبتها منين دي؟
قال معتز بدهشة: ولا انت سارقها صح!، لحقت تجبها ازاي دي!

تساءل رائد بذهول: وقدرت على تمنها ازاي وانت أبوك ساحب منك الفيزا وكل ما تملك بعد حوار الشعر الأحمريكا!
تدخل عمر حينما صاح بغضب: ما تنطق يالا هنتحيل عليك.
ابتسم حازم بغرور ثم وزع عليهم قطع الشوكولا ليقول وهو يلتهم احد القطع: عشان تعرفوا اني حنين لما سرقت سرقت عشانكم انتوا!
ضيق احمد عينيه وهو يردد بذهول: سرقت مين؟!

أجابه بفخرٍ، وكأنه يجلب كنوز مقبرة فرعونية إليهم: الواد ياسين الواطي جايب لمليكة مراته أفخم انواع الشوكولاتة في العالم وسايبنا هنا هنموت من التعب.
جذب أحمد ياقة قميصه وهو يردد بعصبية: يعني أنت سرقت فعلًا!
هز رأسه وهو يخبره بعنجهيةٍ: اخدتها من المندوب اللي جاي بنفسه يسلمها، ابن ال، مرضاش يدهاني الا لما شاف بطاقتي وصدق اني من العيلة.

تناول رائد القطعة الصغيرة التي بيده وهو يردد بتلذذ: لا جدع يالا، بصراحة طعمها لا يقاوم.
تناولها عمر وهو يردد بحزن: هي طعمها حلو مقولناش حاجة بس ياسين هيتضايق.
قال معتز وهو يجذب قطعة من العلبة التي يحملها حازم: ولا هيتضايق ولا حاجة هيطلب غيرها، المهم اننا لقينا حاجة تفتح نفسنا على الشغل.

أجابهم أحمد بسخرية وهو يراقب ما يفعلونه: انت بتحلم، انت عارف عشان يطلب نوع فاخر من الشوكولا دي تاني هياخد معاه وقت وفلوس اد أيه، دي بتتباع بالدولار يا حبيبي!
تناول حازم قطعة اخري ثم قال وهو يلوكها بنهمٍ: وهو هيغلب يعني!

ضحكوا معًا وتقاسموا الغنيمة الباهظة، ولكن سرعان ما تلاشت الابتسامة حينما عاد ياسين وعدي، فجحظت النظرات المسلطة عليهم بصدمة، فتساءل عدي باستغراب: أيه اللي بيحصل هنا ده، كل واحد سايب شغله وقاعدين بتحلو!
اقترب منهم ياسين والخوف يدب بقلوبهما، فجذب قطعة من الشوكولا ثم تناولها وهو يقول بتلذذ: جمييلة اوي، جايبها منين دي يا حازم؟

توقفت قطعة الشوكولا في فمه، بينما ردد عمر بصدمة: هي العلبة دي دي مش كانت جايلك يا ياسين؟
انكمشت تعابيره بدهشةٍ: لا وأنا هطلب شوكولا لمين هنا!
لف معتز العلبة وهو يقول: ازاي بس!
قرأ أحمد الاسم المدون بصوت مقبض: السيد ياسين الجارحي!
ردد حازم بصوتٍ انقطعت اوتاره وكأنه يحاول تصديق ما سيقول: اهو مكتوب ياسين الجارحي!
ثم تطلع تجاه ياسين قائًلا: مش أنت اسمك ياسين يا ابني ولا انا اتحولت؟

سكنت الصدمة وخيما بالوجوه وخاصة حينما ولجت السكرتيرة للداخل لتخبرهما بعملية: ياسين باشا وصل المقر.
القى حازم العلبة من يده لاحمد، والقاها أحمد لياسين وياسين لعمر وعمر لرائد ورائد لمعتز ومعتز القاها للوحش الثائر ثم في لحظة وجد الغرفة فارغة بأكملها، فأختبئ كلا منهم أسفل مكتبه، ولم يظل سوى عدي الذي يتطلع لهم باستغرابٍ وهو يحمل العلبة، وحينما استدار للخلف وجد أبيه يقف مقابله!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة