قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أحفاد الجارحي ج5 (ترويض الشرس) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الخامس عشر

رواية أحفاد الجارحي ج5 (ترويض الشرس) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الخامس عشر

رواية أحفاد الجارحي ج5 (ترويض الشرس) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الخامس عشر

ما قاله لم يكن هينًا لمسمع أحدٌ، الجميع يجابه تلك الكلمات المفجعة، والأغلب يزعم عدم سماعهم الجيد لما قال، ومع ذلك حطم شكوكهم حينما عاد ليكرر بصوته الباكي: اتصل بالاسعاف يا ياسين. عدي قاطع النفس!

لم يخونه قلبه من بداية شعوره بتلك النغزة القاتلة، لم يكن يتعلق به الأمر إذن بل كان لتؤامه الشقيق، هو من يجابه الموت بين تلك الزقاق، وذاك اللعين من ينغز بالآلآم الطاعنة لقلبه، لا يعلم من أين أتى بذاك الثبات وبداخله يبكي بانهيارٍ، فأسرع تجاه الهاتف الذي يحمله ياسين بصدمةٍ، ثم جذبه إليه وهو يصيح بحزمٍ: رائد اسمعني، أي عربية اسعاف عشان تجيلك هتحتاج وقت. خده بعربيتك على أقرب مستشفى بدل ما حالته تسوء أكتر من كده، سامعني!

أتاه صوته المتقطع يخبره: عربيتي عطلانه يا عمر، التريلا كانت بتحاوط على عربيتي أنا وعدي هو اللي رمى نفسه قدامها.

صرخات آية و مليكة انطلقت لتحطم قلوب من حولها، بالرغم من تجمع الفتيات من حولهن الا أنهم لم ينجحوا بتهدئتهم ولو قليلًا، الرجال يغلبهم الصمت والنساء العويل والبكاء، والهاتف فقط من يحدد ذاك المصير المقبض لفلذة كبده، شعر ياسين بالاختناقٍ، فحرر جرفاته عن رقبته وهو يتابع المكالمة، يحاول السيطرة على طوفان قلبه المهلك، يرغب بالحديث بالتعبير عما يشعر به، يتمنى بداخله أن يغلق جفنيه وحينما يفتحه يعاد المشهد من أمامه، حينها كان سيتمسك بذراعه ويمنعه من الخروج من القصر، كان سيضمه ويخبره بما احتبسه بداخله طوال تلك الأيام، كان ليخبره بأنه لم يتعمد تحديه بل كان يحميه من الخطر بينما يلاحقه هو خارج قلاعه الآمنة!

مزق صوت رائد صمتهم التعيس حينما ردد لذاته بتيهةٍ: أكيد لو طلعت على الطريق الرئيسي ألقى عربية تساعدني.

وعلى الفور اسند جسد عدي الفاقد للوعي أرضًا بحرصٍ، ومن ثم هرع راكضًا والدماء تغزو جبينه جراء اصطدامه بتابلو السيارة حينما كانت تحاول الحاوية استهدافه هو، وصل رائد للرصيف، فاستهدفت عينيه سيارة (ميكروباص) قادمة من على بعدٍ، لوح لها عدة مرات حتى توقفت، ففتح الراكب نافذة السيارة المجاورة له بالمنطقة الأمامية جوار السائق الذي ألقى نظرة متفحصة عليه وهو يتساءل بقلقٍ: خير يا ابني.

ردد رائد بعشوائية جعلت حديثه مرتبك: أرجوك ساعدني، أخويا بينزف وهيموت لو منقلتوش أي مستشفى!

منحه السائق ذو الخمسة وأربعون عامًا نظرة متفحصة، ثم عاد ليتطلع لابنه الجالس لجواره، فوجده يشير له بتحذيرٍ، عله فخًا منصوب إليهما لسرقة الاتوبيس المصدر الوحيد لدخلهما، جذب رائد محفظته ثم أخرج مبلغ طائل من المال، فقدمه اليهما قائلًا بتوسلٍ: خد المبلغ اللي تحبه ولو حكمت هكتبلك شيك بس أرجوك ساعدني انقله لاقرب مستشفى.

نظرته بمن يقف أمامه لن تخيب، حتى وإن دلت ملابسه على ثرائه الفاحش الا أنه رأه شابًا يليق به الأخلاق ولن ينحدر أبدًا لذلك المستوى، لذا أشار له وهو يوجه حديثه لابنه الشاب: عين فلوسك يا ابني. انزل معاه يا مسعد وساعده يشيل أخوه لحد ما أدور العربية.
لم يحبذ فكرة أبيه، وخاصة بما قد يصيبهما من أذى وتحقيقات الشرطة حول الحادث، وهما أناسًا بسيطة لا تقوى على محاربة كل ذاك، فقال: بس يابا آآ.

انهى نقاشه قبل أن يستمع للمزيد: في انسان بين الحيا والموت. وأبوك راجل مبيقمش من على سجادة الصلاة. لو كملنا طريقنا مش هسامح نفسي!

هز الشاب رأسه في انصياعٍ، وخرج على الفور من الاتوبيس ليلحق برائد الذي هرول من منحدر جانبي والاخير يلحق به ببعض القلق من أن تكون شكوكه صحيحة بأن يستدرجه بعيدًا عن أبيه حتى تباغته مجموعة وتسرق الاتوبيس وما يقلقه حقًا إيذاء والده التي قد تصيبه في مقتل، بدأت معالمه بالاسترخاء قليلًا حينما وجد شخصًا ملقى أرضًا بإهمالٍ، فأسرع بخطواته حتى ركض من خلفه حينما تأكد له صدق حديثه، انحنى الشاب مسعد تجاهه، ثم أشار لرائد الذي يحاول حمله: خد بالك يا باشا ليكون عنده كسور في رقبته.

بارتباكٍ تساءل: طب اشيله ازاي؟
اشفق الشاب على حالته، وخاصة برجفةٍ يده التي نقلت له حبه الشديد لاخيه، فأشار له على ذراعيه وحمله: كده. ارفعه معايا بسرعة.

ساعده رائد وأسرعوا معًا للطريق الرئيسي، فأسرع العجوز بفتح الباب ثم عاونهما على وضعه بالاريكة الامامية، حيث جلس رائد على مقعدها وحمل جسد عدي تجاهه، فتحرك بهم السائق بسرعة البرق للمشفى القريبة منه، والعائلة بأكملها تنتظر على الهاتف، فاستعلموا عن المشفى التي يقصدها السائق الذي بدوره ردد بصوتٍ عالي للسماعة المفتوحة بينهم، فعلى الفور تحركوا جميعًا لسيارتهم وأوقف يحيى أحمد وياسين، فأشار لهم بصوته الواهن: احمد هات من الخزنة مبلغ كويس.

اشار له وهو يسرع لغرفة المكتب الرئيسية: حاضر يا عمي. حالًا.
واسترسل حديثه وهو يشير لابنه: ياسين بسرعة جهز باسبور وأوراق عدي عشان لو حكمت ننقله بره مصر بأسرع وقت. وحصلنا انت وابن عمك.
اسرع للأعلى ليبحث عما اراده والده بينما أسرع يحيى خلفهم بسيارته.

صرير مزعج تصدره عجلات السرير المتحرك للمشفى، صريرها يبث القشعريرة بالنفوس، غامت روحه في ظلامٍ دامس، حياته شبيهة بالمعركة التي لا تنتهي أوتارها، وكلما انتهى من شقٍ فتح خندقًا أخر يعيق قدميه، سئم من المحاربة وانقطعت انفاسه في سباقٍ تعمد بأن يكون أحد متنافسيه، يشعر الآن وبتلك اللحظة بأنه بحاجة للراحة والاسترخاء بعيدًا عن تلك الضغوطات، ولكن ما يضيق صدره بتلك اللحظة بأن مع عتبة رحيله هناك ما يتشبث بيده بقوةٍ ويأبى تلك السلام لروحه، معشوقة قلبه ومن يشعر بكل هفوة قد تمسها تمزق نياط قلبه أولًا قبل أن تمسها، ردد لسانه الثقيل بحروفٍ لم تكن مسموعة سوى لقلبه المستجير للنجاة لاجلها هي: ر، ح، م، ة. رحمة!

يشكو ما يصيبه اليها، يحاول المقاتلة ولكن فقد شغفه بكل شيءٍ حتى الحياة، ضوء قوي ضرب عينيه فجعله يرمش بجفنيه المغلق بانزعاجٍ، تليه أبرة غليظة تبث بأوردته وبعدها فقد احساسه بأي شيءٍ يجري حوله، وكلما كان يشتد به ألمه لسماعه صراخاها كان يحرك جفنيه بحركةٍ خافتة، يستمع هسيس الاطباء وهم يحاولون انقاذه، وأخر ما استمع اليه سؤال متحير لاحداهم: معقول ده يكون ابن رجل الاعمال المعروف ياسين الجارحي!

مازالت الممرضة تلح عليه بالدخول لاحد الغرف حتى ترى جرح رأسه وما أصابه من بعض الكدمات المتفرقة، وهو يحاول بكافة السبل ردعها عنه وتركه بمفرده، عينيه مازالت معلقة على باب غرفة العمليات ونظرة يخطفها بين الحين والآخر ليديه المغرقة بالدماء، ومن جواره كان يجلس العجوز وابنه بعدما رفضوا الذهاب لاي مكان الا بعد الاطمئنان على ذاك الشاب، ولم تمر سوى خمسة وعشرون دقيقة الا وصفوف سيارات الجارحي كانت تسد المشفى الحكومي البسيط، وكأن وزير الصحة بزيارة سريعة للمشفى الذي انقلب رأسًا على عقب فور تسرب خبر نسب المصاب بالحادث للجميع، توافدوا تجاه الطابق الثاني، فوجدوا رائد يجلس منكس الرأس في حالة يغمرها الحزن ألف عامًا، أسرع عمر تجاهه وهو يتساءل بفزعٍ: الدكاترة قالوا أيه!

بانكسارٍ تطلع له وهو يجيبه: لسه محدش خرج.
تعالت شهقات آية الباكية، فاقتربت لتمسك جاكيت زوجها وبخفوتٍ شديد قالت: ابني يا ياسين، ابني!
لم يمتلك تلك القوة التي اعتاد التحلي بها دومًا، فتطلع تجاه ابنه وردد: عمر.

ضمها عمر إليه، حتى تراجعوا معًا للخلف وصدى صوتها يتردد للجميع ولأول مرة: ابني لو جراله حاجة مش هسماحكم العمر كله، أنا ساكتة ومستحملة كل اللي بيحصل، كلكم جاين على عدي حتى أبوه جاي عليه ليه كل ده ليه حرام هو عملكم أيه؟
تفاجئ عمر من حالة الانهيار الغريبة المسيطرة على والدته، وخاصة حينما تابعت: وانت يا رائد انت مش ابن عمه بس ابن خالته كمان ازاي تسيء ليه بالشكل ده ازاي؟

انكس رأسه بحزنٍ جعل دموعه تناسب دون توقف، همت اليها مليكة بدموعٍ قاتلة، اشارت لها برأفة: كفايا يا ماما عدي هيبقى كويس والله عشان خاطري اهدي اعصابك!

علي يمينها عمر وليسارها مليكة، أولادها يقدمون الدعم بينما قلبها يختلج الف آه لعدم وجود ثالثهما، بعدتهم عنها وتمردت لتقف أمام ياسين الجارحي، وفاضت بما يضيق بصدرها: عمري ما عارضتك وكنت بحاول أحنن قلبك على ابنك اللي معرفش ليه مليان بالقسوة عليه. بس النهاردة عمري ما هكون في صفك تاني يا ياسين أبدًا.

رفع عسلية عينيه القاتمة تجاهها، فانفرجت شفتيها بصدمةٍ حينما وجدت عينيه غائرة بالدموع، تصلبت وانصاع جسدها لدينا التي تجذبها لاحد المقاعد بينما عينيها لم تترك وجه زوجها، اعتادته قويًا، صلبًا، صارمًا، ليتها وجدته كذلك بتلك اللحظة ربما كانت نيرانها ستزداد فلن تهدأ ثورتها أبدًا، ودت لو كانت هي له السند بتلك اللحظة فضمته لصدرها لتمنحه الدعم بينما نياط قلبها يتمزق دون رحمة...

علي درب من الشوك كانت تنزف قدميها، ومع ذلك تحاول الصعود مجددًا، وكلما زاد بها الجرح عافرت للوصول أكثر، قلبها بأس يشتد حدته كلما فارق محبوبها يدها، فتركض لتتشبث بيده من جديدٍ، وبكائها يتوسل له بألا يتركها، اضطراب نبضات قلبه بالداخل والاطباء يحاولون انعاشه كان قلبها يخفق ببطءٍ بالخارج، بينما الجميع يترقبون سماع أي خبر من الأطباء كانت هي على اتصال روحي به، تعلم حالته الآن ركيف يصارع الموت ويتعركل ثم يحاول النهوض مجددًا، سكون جسد رحمة زرع القلق بنفس نور التي رفضت تركها، فظنت أن ما يحدث لها من توابع صدمتها، لذا ضمتها لصدرها فكانت بعيدة عن أعينها فلم ترى ما يصيبها!

كان يحيى لجوار ياسين يشدد على كتفيه من الحين للأخر، والجميع يترقب لحظة خروج أي طيب يطمن قلوبهم، وفجأة انفتح باب العمليات وطالت من خلفه احدى الممرضات فهرولت سريعًا للخارج، وما لبثت سوى دقائق حتى هرولت الاخرى فاوقفها أحمد وهو يتساءل بقلقٍ: في أيه؟!
قالت على وجه سرعتها: محتاجين نقل دم فورًا، بنخسر المريض!
أوقفها عمر وهو يصيح بها: أنا نفس الفصيلة. اسحبي مني.

أشارت له وهي تهم بالدخول: بسرعة من فضلك، انت بتعاني من أي مرض مزمن.
أشار لها بالنفي، فالتقطت انفاسها براحةٍ: طب الحمد لله. اتفضل معايا.
كاد بالدخول خلفها، فأوقفه ياسين حينما اشار له بالتراجع: أنا اللي هتبرع لابني.
رمش بعينيه بدهشةٍ، ومع ذلك حاول أن يختار كلماته: يا بابا أنا موجود. وحضرتك كبرت والسحب ده هيتعبك.
حدجها بنظرة صارمة، وقولًا ساخر: وأيه كمان كمل، محتاج لعكازات!

وضع عمر رأسه أرضًا وهو يعتذر عما بدر منه: العفو. أنا مقصدتش طبعًا.
عينيه ارسلت اشارتها فتراجع عمر للخلف وتابع ياسين دخوله مع احدى الممرضات، وبينما كادت الاخيرة بتتابعها اوقفها عمر ليستميلها: أرجوكِ تسحبي مني والدي مش هيقدر على الكمية دي، أنا دكتور وفاهم.
باتت بحيرةٍ من أمرها، فقال: اسحبي منه حاجة بسيطة وكملي مني بدون ما يعرف.
هزت رأسها بموافقةٍ وأشارت له على غرفة جانبيه: اتفضل يا دكتور.

لحق بها عمر، وجاسم من خلفهما، فما ان ولج للغرفة حتى قال للممرضة: أنا كمان نفس فصيلة عدي.
منحته ابتسامة عملية وهي تخبره: لو احتاجنا كمان هنسحب من حضرتك.

سحبت الممرضة كمية قليلة من ياسين بناء على طلب عمر، وأكدت له بعدم حاجتهم للمزيد، فأصر على رؤية ابنه قبل خروجه من قسم الجراحة، وأمام رغبته انخضعت له وسمحت له بالدخول بعدما تم تعقيمه جيدًا وارتدى كمامة طبية ورداء خاص بغرفة الجراحة، كانوا قد انتهوا من جراحته وتبقى نقل الدم لانعاشه قليلًا، رؤية الدماء تحيط بالغرفة وبسريره الخاضع له صنعت فجوة عارمة ابتلعت بها انفاسه، تركزت عينيه على وجهه الخاضع لمسك التنفس، مرر ياسين يده على رأس عدي بحنان، فتخللت أصابعه خصلات شعره البني الطويل، استجابت دمعاته لتأثير ما يراه فانهمرت ببطءٍ على خديه، وبصوته المتقطع ناداه: عدي!

حرك جفنيه الثقيل، وهو يحاول جاهدًا بفتحهما، بدت الرؤيا مشوشة قليلة ومن ثم اتضحت ملامح من يقف قبالته، وإن أخفت الكمامة نصف ملامحه عينيه كفيلة بجعله يلامس معالمه، رددت بلسانه الثقيل وحروف تندفع ببطءٍ: بابا!

خلع عنه ياسين الكمامة وأزاح دموعه عنه، ومن ثم مرر يده على جبينه وهو يهمس له: قاوم عشاني، لو حصلك حاجة عمري ما هسامح نفسي. حاولت احميك طول الفترة اللي فاتت والمرة الوحيدة اللي طلبت منك تخرج ورا أخوك مأمنتش حمايتك الكافية، أنا أسف!

صوته مشوش لدرجة لم تجعله يستمع اليه، بدى إليه وكأنه يردد شيئًا فحاول استيعابه ولكن تعبه سحبه لنومٍ عميق، صوت الاجهزة من حوله كانت تنعش قلب ياسين قبل أن تنعش قلب ابنه، انتصب بوقفته بكل عظمة فور دخول الاطباء للغرفة لتفقد أمره، فاستدار اليهم وهو يتساءل بجمود: حالته أيه، وبدون ما تزيف الحقيقة!

أجابه الطبيب على الفور: اطمن يا باشا. الحمد لله وضعه دلوقتي مستقر النزيف وقف. وزي ما حضرتك شايف مفيش غير كدمات متفرقة في دراعه وكتفه اللمين. واحنا بننقله الدم وكلها دقايق وهيفوق بإذن الله.
عاد ليتطلع اليه وهو يشير له بنبرة تحتضن الرجاء والحسم بآنٍ واحد: انقله الدم في اوضة تانية غير هنا من فضلك.

وأشار للدماء المتفرقة بكل مكان بالغرفة بألمٍ، تفهم الطبيب حالته وعلى الفور أعده للخروج، فعاونه ياسين بدفع سريره المتحرك خارج الغرفة، وفور رؤيته تجمهر الشباب من حوله ليعاونهم على دفع السرير لاحد الغرف، حمله ياسين وحازم بمعاونة معتز وجاسم، فوضعه على السرير، وخاضت الممرضات معركة اخرى بوضع المحاليل والاجهزة الطبية من حوله، وقف الجميع حوله بالغرفة الا رحمة بقت بالخارج محلها والصمت والسكون جعلها مقبضة، ومع ذلك لم يشعر بحالتها احدٌ، هرع عمر تجاه غرفة اخيه بعدما انتهى من سحب الدماء، فولج وقميصه مرفوع عن ساعده، فمنحه ياسين نظرة مطولة فتهرب من لقاء عتابه حينما اندفع تجاه الفراش يقبل جبهة اخيه بدموع اغرقت وجه عدي الذي شعر برائحة أخيه ووجوده لجواره، فناده عمر بصوتٍ باكي: عدي.

جاهد لفتح عينيه مجددًا، فارتسمت على وجه عمر ابتسامة واسعة وهو يشير له: سامعني!
هز رأسه ببطءٍ شديد ثم انغلق جفنيه مجددًا، وفجأة اعاد فتحهما وهو يردد بلسان ثقيل وصوت مسموع للجميع: رائد؟
علموا ما يقصده بسؤاله هذا، فاكد له عمر: متقلقش رائد كويس.

حينها غلق جفنه انصياعًا لنومٍ يغلبه، فطرح حازم الغطاء على جسده العلوي العاري، بينما اتجهت الأعين لرائد الذي تراجع للخلف بدوار هاجمه، اسنده أحمد وهو يسأله بشكٍ: فيك أيه!
انسدلت الدماء من جانب وجهه، فازحها سريعًا وهو يجيبه: أنا كويس.
اسرع إليه عز وأدهم، فرفع خصلات شعره الطويل للخلف ليتفاجئ من الجرح الغائر أعلى جبهته، فصاح ادهم بفزع: جاسم اطلب حد من الدكاترة فورًا.

كانت الممرضة بطريقها للداخل، فاتجهت اليه وقالت بعصبية: بقابي ساعة بتحيل على حضرتك تدخل للدكتور يشوف جرحك. وأنت مش سامح لحد يقربلك ومتعصب علينا كلنا.
رد عليها رعد بنفور عجيب: ده طبعه ومستحيل هيغيره. يمكن لما يخسرنا كلنا واحد ورا التاني يفكر!
صوته الصارم خرج ليوقف تلك المهازل: رعد!
علي الفور ابتلع جملته لنفسه، فاسترسل ياسين حديثه بغضبٍ: قوم ارفع ايدك عليه تاني. ما خلاص بقيتوا بتحلوا مشاكلكم بالضرب!

وقصد بحديثه يحيى، وعاد ليستطرد بنبرة ساخطة: مرة واحدة قررت فيها متدخلش في مشاكلكم وأنا واثق انك انت ويحيى موجودين وهتحلوا مكاني عملتوا ايه؟
اقترب منه رعد وهو يبرر له: يعني كنت عايزني اعمل ايه. اقف معاه ضد عدي وعدي مغلطتش في حاجة.
تفهمه بهدوء مش تحسسه انك واقف مع ابن عمه ضده! الابن مهما كان بيستنى رد فعل رحيم من أبوه. انت شوفت ان الكل واقف ضده ومغلطه متبقاش أنت كمان ضده فهمه بالعقل!

كلمات فاض بها بنفاذ صبر، ومع ذلك استرسل بهدوءٍ عجيب: عمومًا ده لا مكانه ولا وقته. خد ابنك ووديه للدكتور.
هز رأسه بانصياعٍ واتجه للاريكة الجالس عليها فأشار له بالنهوض، أبى رائد التحرك للخارج واتجه ناحية النافذة التي يقف ياسين جوارها، وبحزنٍ وارتباك شديد قال: أنا آسف يا عمي.

واخفض عينيه أرضًا سريعًا حينما استدار تجاهه ياسين: مكنش قصدي كل ده يحصل والله، عدي انقذني من الموت وعمل المستحيل عشان اقف واسمعه بس أنا آآ.

ضمه ياسين اليه بحركةٍ مفاجئة للجميع، فبكت دينا تأثرًا به بعدما ظنته سيعاقبه أشد العقاب لما حدث لابنه الذي لو ود لحرق العالم بأكمله لاجله، ربت على كتفه ومن ثم اخرجه ليقابل عينيه ليملي امره اليه: مفيش حد حاول يقلل منك أبدًا ولا هتحصل جوه قصري، المقر ده انت وياسين شلتوه سنين طويلة، مكنش فيه حد من اولادي معاكم واحمد نفسه كان بايطاليا ومش موجود. أنت محتاج تدي لنفسك القيمة اللي تستحقها. ودلوقتي متفكرش في حاجة واخرج مع ابوك للدكتور عشان يعقملك جرحك.

هز رأسه بابتسامةٍ شاحبة، وقبل ان يستدير للخروج منح عدي نظرة أخيرة وعلى الفور اتجه للخروج.
جلست آية على المقعد المجاور لعدي، وأمسكت يده بين يدها، طبعت قبلة عميقة على يده ومن ثم رفعت عينيها لمن يراقبها بهدوءٍ، أما عمر فحرص على مراقبة الاجهزة باهتمامٍ واخذ يتفحص مواعيد الدواء وغيره.

طرقات خافته على باب الغرفة، جعلت معتز يفتح بابها فتفاجئ برجلٍ بسيط يقف على بابه ولجواره شابًا بسيط، ولمتابعتهم المكالمة مع رائد خمن بأنه الرجل الذي نقل عدي للمشفى، فسمح له بالدخول بعد أن رحب به باحترامٍ، اقترب الرجل من سرير عدي ليلقي عليه نظرة متفحصة ثم قال: حمدلله على سلامته. ربنا يباركلكم فيه يارب. انا محبتش أمشي أنا وابني غير لما اطمن عليه. ربنا يتم شفاه على خير يا رب.

ردت آية عليه بمحبة: يا ررب. تسلم يا حاج.
بينما اقترب منه ياسين، فصافحه وهو يخبره بامتنانٍ: اللي عملته ده عمري ما هنسهولك أبدًا. أنت انقذت ابني واللي عملته لينا صعب يتوصف.
ربت العجوز على يد ياسين الجارحي وهو يخبره ببسمته البشوشة: معملناش غير الواجب والاصول يا بيه. والوقتي نستأذن.

اوقفه حينما أشار لاحمد الذي فهم مقصد عمه فجذب الحقيبة التي تحوي مبلغًا طائل من المال وقدمه له، فحمله ياسين ورفع للعجوز قائلًا: ده مش مكافأة للجميل اللي عملته لان كنوز العالم كله ميوفيش حقك، دي هدية بسيطة تقدر تأمن بيها مستقبل ابنك.
جحظت عين الشاب لرؤيته مبلغًا هكذا، أغلق الرجل الحقيبة ودفعها تجاه أحمد وهو يلومه: احنا مبنخدش تمن لكرامنا يا باشا. اي حد كان مكاني كان عمل كده.

عارضه ياسين: لا. مش كلنا زي بعض. ثم اني قولتلك اعتبره هدية مني لتأمين مستقبل ابنك. انت قدمت مساعدتك لابني وأنا بعمل نفس الشيء!

تبتسم الرجل وحمل منه المال بأعين دامعة، ثم قال بنبرة انعشت قلب ياسين: أنا راجل بسيط أه بس عندي نظرة في اللي قدامي، وأنت يا بيه شخص عنده حب كبير لربنا. أنا فاهم انك بتحاول تساعد حد وبتتمنى من ربنا انه يفاديلك ابنك. شكلك بالبدالة وباللي حواليك يخلي اللي يقرب منك يترعب ويفكر ينفد بجلده ويجري بس طيبة قلبك ورزانة لسانك اللي بيفهم هيفهم انك مختلف من جواك. وأنا مقدرش اقف بينك وبين صدقة حابب تعملها لابنك. وهدعيلك ان ربنا ميحرمكش منه وانه يقوملك بالف سلامة.

منحه ابتسامة صافية، فبالرغم من بساطة حديثه الا انه زرع البسمة على وجوه الفتيات والشباب، فأستأذن بالانصراف ولم يعترض ياسين لذلك، بعد خروجه اقتربت مليكة من الفراش لتلقي نظرة متفحصة على اخيها، فاشار لها ياسين بالاقتراب، ومن ثم ربت على كتفيها وهو يخبرها: خدي البنات وارجعي القصر يا حبيبتي. اخوكي بقى كويس.
أشارت له ببكاء: مش قبل ما اطمن عليه يا بابا.

ضمها اليه وهو يهمس لها: اللي في بطنك له عليكي حق. روحي ارتاحي وانا الصبح هبعتلك السواق يجيبك المستشفى اللي هنقل عدي ليها.
هزت رأسها باستسلامٍ، ودنت مجددًا من فراشه فانحنت لتطبع قبلة على جبينه وهي تهمس لاخيها: انا همشي وهجيلك بكره يا عدي. ربنا يشفيك يا حبيبي.

واتجهت الفتيات لنور ورحمة لاستعدادهم للمغادرة، حاولت نور تحريك رحمة وهي تحسها على النهوض: رحمة حبيبتي عدي بقى كويس ونقلوه اوضة تانية. تعالي نروح مع مليكة والبنات نغير ونرجع.
لم تنصاع اليها، فهزتها مجددًا عن احضانها بدموعٍ: عشان خاطري يا رحمة متعمليش في نفسك كده، احمدي ربنا انه اتعدى مرحلة الخطر.
انحنت تجاهها مليكة وهي تشير لها: والله بقى كويس. تعالي حتى بصي عليه قبل ما نمشي.

تعجبت من سكونها، حتى حدقتيها لم ترمش بها ولو لمرة، رفعت أسيل رأسها اليها ولطمت خديها وهي تناديها: رحمة!
اخرجت نسرين زجاجة المياه الباردة من حقيبتها ووضعت على وجهها وهي تحاول ان تجعلها تسترد وعيها، بينما مازالت مليكة تهز راسها وهي تردد بصراخ: رحمة مااالك؟
ابعدتها عنها نور وهي تتفحص وجهها البارد والمقبض للانفاس بصراخ عاصف: رحمة...

وحينما لم تستجيب اليها صرخت بصوت عالي لمن بالغرفة التي تقبع على بعد ليس بكبير عنهم: عمر الحقني!
علي الفور خرج الشباب تجاه صوت نور، فانحنى عمر تجاههم وهو يتساءل بدهشةٍ: في أيه؟
ردت عليه مليكة لبكاء: منعرفش رحمة مش بترد على حد ولا بتتحرك.

تفحص عمر وجهها بنظرة قلق لما يحاوره في تلك اللحظة، بينما جذب احمد المياه من زوجة اخيه نسرين واخذ يرش المياه على وجهها، تفحص عمر حدقتيها وهي يناديها بفزعٍ: رحمة سامعاني؟ رحمة!
تأكدت شكوكه تجاه ما اصابها فانتصب بوقفته بحزنٍ، ليجد ابيه اتى من خلفهم فسأله بصدمة: مالها؟

أجابه بحزنٍ: حالة نفسية حادة. صعب تفوق منها بالوقت الحالي. لانها لا حاسة بشيء ولا سامعة ولا شايفة اللي حوليها، لازم تتنقل مستشفى متخصص حالا.
أغلق عينيه بقوةٍ وهو يحاول احتمال ما يصيبه، الا يكفيه ابنه حتى يختبر الان باحد بناته، حارب كل ذلك حينما قال: حازم جهز العربية هنتحرك فورًا من هنا.

ركض للخارج وهو يسرع لسيارة الاسعاف ومن خلفه معتز، ليستعدوا جميعًا لنقل عدي ورحمة لاحدى المستشفيات التابعة لياسين الجارحي!

هاجت ثورته وماجت فور سماعه بذلك الخبر، فرفع سلاحه وهوى بحافته على رأس الجالس أمامه وهو يصيح بانفعالٍ: غبي قولتلك أوعى عدي يتصاب، عايزه حي يا حيوان.
وكاد بتمزق شعره من فرط ضغطه عليه وهو يردد: بوظت كل اللي عملته عشان انتقم من الكلب ده! قولتلك رائد هو اللي لازم يموت عدي لا.

واسترسل بجنون نفسي مخيف: معقول هيموت كده ببساطة من غير ما انتقم منه. ده انا عملت كل ده عشانه. غيرت وشي وبقيت رجل الاعمال مهاب ابو العزم عشان اجيبه تحت رجلي. لا يا عدي مش هتموت بالسهولة دي اللي عملته معايا صعب انسهولك صعب!
##.

داهمت قوة الشرطة العقار المهجور بناء على تعليمات المقدم عدي الجارحي، وأخيرًا بعد رحلة بحث وصلت لثلاث سنوات عن هذا الارهابي المدعى أمجد السلاموني، فنسب اللواء المهمة لعدي بعد أن فشلت القوات فشل ذريع بالقبض عليه، لما ثبت بنشاطه مع الأخوان وغيرهم مما لهم علاقة با لما سو نية، لذا كانت مسؤولية كبيرة على عاتقه ومع ذلك اجتهد عدي حتى كان لا يغفو الليل أحيانًا وهو يحاول الوصول لهذا اللعين الذي يخون بلده ويطعنها برعونته وما يفعله من افعال تدينها، وبعد رحلته المجهدة تمكن اخيرًا بمعاونة فريقه من الوصول لمكانه، وعلى الفور تحركوا بسريةٍ تامة، فحاوطوا العقار بحرافيةٍ تامة بناء على خطة عدي حتى لا يتمكن من الفرار مثلما فعل سابقًا، وبالفعل سقط رجاله حينما فشلوا بتحديد مكان الرصاص الذي يقذف عليهم واضطر امجد السلاموني بالخضوع اليهم، فوضع يده خلف رقبته وانحنى ارضًا وهو يتابع المكان من حوله بريبة وخوف، وفجأة ظهر عدي أمامه فسبب له صدمة بأن من يتبادل الرصاص من الداخل هو بصحبة ثلاث عساكر فقط، بينما القوة بأكملها تحتشد بالخارج، وقف عدي قبالته ومن ثم ركله ليسقط اسفل قدميه وهو يردد باستحقارٍ: كنت فاكر انك هتهرب المرادي! يبقى أكيد مسبقش ليك انك سمعت عن عدي الجارحي.

وانحنى ليكون مقابله وهو يستطرد: أنا مفيش قضية مسكتها ومجرمها فلت مني!
وببسمة ساخرة ردد: حظك بقى.
ابتلع ريقه الجاف بصعوبةٍ لحقت بحديثه: ساعدني اهرب وانا مستعد احولك مبلغ عمرك ما كنت تحلم بيه. بلاش تسلمني للحكومة وانا اوعدك هخليك ملك.

عبث بسلاحه ببرودٍ ومن ثم جذبه بشراسة ليكسر الباب المتهالك الحائل بينه وبين فريقه، فدفعه اسفل الاقدام وهو يردد بمقتٍ: مديك عذرك بالنهاية متعرفش مين انا عشان تفكر ترشيني بالفلوس!

طبعت معالمه داخل حدقتيه الحاقدة، وبالاخص الضرب الذي ناله من فريق عدي تشفيًا لما فعله بالاطفال والنساء ولما تسبب به من خساير يبكي القلب عليها دمًا، لذا قرر ببساطة الانتقام منهم ومع اول فرصة هروب من السجن حقق انتقامه منهم جميعًا وتبقى رئيسهم، فاختار له موتة بطيئة لم يحبذ الراحة له مثلما فعل مع فريقه!

عاد من ذكرياته على صوت احد رجاله وهو يخبره: مفيش اي معلومات قدرنا نوصلها عن مصطفى ولا حتى الرجالة اللي كانوا معاه يا باشا فص ملح وداب.
لهى بسلاحه وهو يجيبه: مش محتاجة ذكاء. اكيد عدي الجارحي اتخلص منهم زي ما قدر يخلص بنت عمه.
وأشار لمن يقبع ارضًا ينتظر عقوبته برعبٍ: غور راقب المستشفى ولو جبتلي خبر موته هخليك تحصله!

أصر عمر على عودة نور برفقة الفتيات، لتأثر جرح ولادتها بشكلٍ سييء، كانت من أصرت على الذهاب معهم من البدايةٍ لذا منعها من التوجه للمشفى، توجهت السيارات لمشفى ياسين الجارحي وتبقت سيارة ياسين، وحينما نجح عمر بارسال نور بسيارة ياسين ومليكة كاد بالتوجه لسيارته ولكنه انتبه لسيارة ابيه، اتجه اليه وانحنى تجاه نافذته الخلفية فاستمع لمكالمته وصوته المنفعل: يعني أيه مش راضي يتكلم؟ اسمع يا عثمان الكلب ده لازم ينطق ويقول مين اللي وراه فاهم؟

واسترسل حديثه بعصبيةٍ بالغة: واعرفلي مين الكلب اللي بيوصل تحركات ابني واللي بيحصل في القصر. لو حكمت امسح القصر حتة حتة يمكن تلاقي اجهزة تصنت!
وأغلق هاتفه ثم القاه جواره بغضبٍ، فُتح باب السيارة وجلس عمر جواره بصمتٍ، مزقه ياسين حينما التف برأسه تجاهه ثم قال بثباتٍ: مش حابب تسأل عن حاجة؟
هز رأسه بالنفي، فردد باتزانٍ عجيب: عظيم.
ثم أمر السائق بالتحرك فتساءل: على المستشفى يا باشا.

اشار له بالنفي فتحرك بانتظار ما سيخبره به من تعليماتٍ، خرج عمر عن صمته حينما ردد بتوترٍ: اللي حصل ده كان مقصود؟
التقط نفسًا مطولًا ثم زفره على مهلٍ وهو يجيبه: الحرب طويلة يا عمر. الضربة فيها صعب تتوقع وقتها.
ثم التفت اليه وهو يسترسل: اللي عملته في المستشفى انا عديته ومتكلمتش عشان أنت كمان ليك حق على أخوك، الحب الاسري مفهوش عقوبة زيه زي الحب كل شيء مباح فيه!

رمش بعينيه مرات متتالية بعدم استيعاب: مش قادر افهم حضرتك. طب يمكن اللي بيحاول يقتل عدي هو مهاب ابو العز ده. يوم المناقصة كان باين عليه ان فيه شيء غريب جواه نحية عدي!
رد عليه بغموض جعل الاخير بحيرةٍ من امره: ويمكن يكون في حد بيحركه ومتعمد يخليه الستارة اللي بيتحامى فيها.
وبنظرة شفقة على حالة العدم فهم الذي تضربه قال: هتفهم لما نوصل اللي حابب أوصلهولك.

تعجب الجميع من غياب ياسين الجارحي وعمر الملحوظ، ومع ذلك انشغلوا بنقل عدي لغرفته ورحمة بالغرفة المجاورة له، فالتف من حولها عدد من أطباء الطب النفسي، وكلا منهم يحاول أن يجعلها تسترد وعيها، وحينما فشلوا وصلوا الاجهزة لاعضائها ليحرصوا ببقائها على قيد الحياة، بينما بنفس الطابق هناك من يشعر بخفقات قلبها الثقيل، وكلما بدأ يسترد وعيه وجد والدته لجواره تقرأ القرآن الكريم بصوتها العذب ويدها لا تفارق يده، صوته بترديد اسمها كان منخفضًا لدرجة لم يستمع اليه أحدٌ، ومع ذلك ما زال يردد بخفوتٍ: رحمة!

اتبع عمر أبيه وهو لا يدري لماذا أتى الى هنا بالتحديد، إن كان بحاجة لتقديم البلاغ فلما يزور مكتب اللواء بنفسه!
فُتح الباب من أمامه، فنهض اللواء ليكون باستقباله بنفسه، تبادلا السلام وأشار له اللواء بالجلوس ثم اختار بالجلوس قبالته دون اللجوء لمقعده الاساسي وهو يردد بترحابٍ: أهلًا بيك يا ياسين باشا. نورت الداخلية كلها والله.
وأشار لعمر: اتفضل اقعد.

والتقط سماعه الهاتف وهو يتساءل باهتمامٍ: تحبوا تشربوا ايه.
جذب منه ياسين السماعة ووضعها مجددًا، وبجديةٍ تامة قال: مفيش داعي لترحيبك ده، خلينا نتكلم في المهم، أنت طبعًا عرفت باللي حصل مع عدي.
أومأ برأسه بحزنٍ وهو يشدد على حديثه: واحنا مش ساكتين بندور في آآ.

طرق ياسين على مكتبه بعنفٍ وهو يصيح بعصبية رعب قلب عمر وهو يحاول فهم ما يحدث هنا: استكفيت من كلامك ده. أنا طول الفترة اللي فاتت وأنا بحاول ألهي عدي عن كل اللي بيحصل حوليه، وده لاني عارف انه لو لاحظ ان الكلب ده هرب وبيطارده هيرجع للقرق ده تاني. حاولت اشتته لحد ما توصل ليه وتقبضوا عليه بس لحد كده وكفايا أنا اللي هاخد موقف.

وأشار باصبعه وهو يردد بصرامةٍ: اللي يمس شعرة واحدة من ابني أمحيه من على وش الأرض، مهاب ابو العزم من بداية ظهوره وانا عارف ان في حد بيحركه عشان يقف في وش عدي، وانا قبلت بلعبته واجبرت عدي يمسك الصفقتين وانا بنفسي براقبه وبحاول اوصل للي وراه وفعلا اللي حسبته طلع صح. اعداء عدي اتحالفوا مع الحيوان امجد السلاموني عشان يخلصوا منه وانت لسه قاعد وبتقولي هنوصلهم. هتوصلهم امته لما يخلصوا على ابني!

بخزي ردد: انا مقدر موقف حضرتك بس احنا فعلا مش ساكتين. بذلنا جهد كبير ومقدرناش نوصل لاي حاجة تخصه كأنه مالوش وجود.
ضاقت عسليته بوجومٍ وهمس بخفوت: لو جن هحضره بايدي وهحرقه!
وتركه ونهض عن مقعده وهو يشير له: لو انت مش قادر توصله وانت بمنصبك ده أنا اللي هوصله وبنفسي!

وتركه وغادر وعمر يحاول أن يلحق به وقد بدت له خيوط ما يحدث الآن، عاد ياسين لسيارته وفور صعود عمر تحرك السائق للمشفى بأمرٍ منه، عاد الصمت يتراقص على أوتاره من جديدٍ الى أن كسره عمر وهو يردد بحزنٍ: عشان كده كنت بتصعب الدنيا على عدي بالتحدي اللي بينكم؟ كنت بتحاول تبعده عن ايدين المجرم ده؟

اشار ياسين للسائق بالتوقف، ومن ثم هبط واتجه ليقف أمام المياه الراكدة يتأملها بنظرات شاردة، تأخر الوقت جعل المكان من حوله ساكن، يستقبله بترحابٍ ليخفف عنه حدة ما يشعر به، اقترب عمر من خلفه ثم قال: طب ليه محاولتش تنبه عدي ان المجرم ده هرب؟
أجابه بهدوءٍ، ومازالت عينيه تتطلع للمياه بشرودٍ: أخوك عنيد يا عمر. كان هيرجع لشغله تاني عشان يمسك المجرم ده.

ردد بضيقٍ يحاول اخفائه: ولو رجع ده شغله وهو حابب يكون موجود فيه أكتر من المقر. عدي مش لاقي نفسه بينا يا بابا. انت بتحرمه من الشيء الوحيد اللي بيحبه!

استدار ليكون قبالته ثم ردد بصوت يتألم: أنا بعترف اني اناني، أنا اناني في حبكم انت واخواتك. مش مستعد افقد ابن منكم. أنا واثق ان ربنا سبحانه وتعالى لو قادر يقبض روح هيقبضها لو كانت بأخر مكان على الأرض، بس انا مش مستعد ارمي ابني للنار واقف اتفرج عليه وهو بيتحرق، انا مش مستعد لده يا عمر، حرمتك تكمل في شغلك عشان عدي ميقارنش نفسه بيك ويفتكرني بميزك عنه، عارف اني ظلمتك وظلمته بس انا مش هقدر اموت في اليوم الف مرة وهو بعيد في شغله، والدليل قدامك لما بعد عن شغله اول مجرم هرب بيحاول بكافة الطرق يوصله عشان يقتله!

وأنكس رأسه وهو يسترسل باصرارٍ: مستعد ابقى ابشع من كده في نظره بس هو يكون قدام عيوني. انا مش زي الأباء اللي عندهم قوة تحمل ومش بيملكوا غير دعواتهم لاولادهم!
واستطرد باصرارٍ: وزي ما حميته من مصطفى واللي قبله قادر احميه لحد اخر يوم في عمري.

وتطلع اليه وهو يخبره: زمان لما والدي اتقتل كنت ما بين اختيارين. يا أكون ضعيف قصاد اعمامي وزي ما اتخلصوا منه هيتخلصوا مني يا أعيش وأكون قوي عشان اختي. اختارت الخيار التاني لان الضعف مش في قاموسي، حاربت الدنيا كلها لحد ما بقوا نفسهم يترعبوا مني. ساعتها كان ممكن تشوف العيلة دي بشكل مختلف وبالرغم من كده زرعت بينهم الحب لاني محبتش حد يعيش اللي انا عيشته، اللي عيشته صعب ومتمنهوش لاعدائي، ولما ربنا كرمني بيكم كنت على ثقة انكم هتعيشوا حياة مختلفة عن اللي عشتها لاني بنتلكم بيت كله من الحب والترابط، وفي لحظة عدي خالف توقعاتي وساب الطريق اللي زرعته ليه واختار طريق صعب ارجع امشي فيه تاني طريق كله عداوة وانتقام ومكنش عندي مانع ادخله مرة تانية وتالتة. وبدل العقبة هحط قدامه الف عقبة عشان ميحاولش يرجع!

واسترسل ببسمةٍ صغيرة: صحيح التحديات غيرته وغلبت عناده وشراسته بس أنا مستمتع وانا شايفه بيحاول يحتويكم كلكم. وأهي فرصة يقرب من ولاد عمك ويعرفوه عن قرب. عدي طبعه مخيف للي ميعرفوش لكن لما يقرب ليه هيعرف طبعه كويس.
واتسعت بسمته وهو يشير لذاته: زيي تمامًا حتى لو هو مش مقتنع بده. مصير الايام تثبتله.

تمرد الدمع عن عينيه الممتلئة بالدموع، وتهاوت لتزيح عنه غمامتها، فاقترب اليه وهو يردد بصوتٍ شاحب: أنت أعظم أب في الدنيا دي. واثق ان عدي لو فهمك هيحبك اضعاف الحب اللي جواه ليك.
ابتسم وهو يرفع رأسه بكبرياءٍ جعل الاخير يبتسم: مين قال انه مش بيحبني!
ومازحه ببسمة ساخطة: بس أعتقد هيغير رأيه لما يعرف اني بحاول أروض شراسته وعناده!

ضحك بصوته رغم دموع عينيه، فدنا منه وارتمى على صدره، احتضنه ياسين وبجدية تامة همس اليه: بلاش انت كمان تزعل مني يا عمر. صدقني في اقرب وقت هترجع لشغلك وللمستشفى.
ابتعد عنه وهو يتأمله ببسمة تحمل حب العالم بكنايتها: أنا عمري ما هكون عقبة تشيلك ذنب وعذاب ضمير يا بابا، خلي عند حضرتك ثقة ان المكان اللي هتقرر اني هكون فيه هتقبله وانا في كامل سعادتي لاني عارف ان حضرتك بتختار مصلحتنا قبل أي شيء.

عاد ليضمه اليه مجددًا ولم يعلم الى أي ساعة ظل بها هكذا، كأنه هو من كان بحاجة له وليس العكس، وبعد دقائق ابعده عنه ثم عاد ليجابهه بشموخٍ ويده تعتلي جيب سرواله ليشير له بجدية: يبقى لازم نتوه الحادث ده عن تفكيره، والاهم من كده أخليه يدخل بتحدي جديد بينا. لازم اشغل عقله عن اللي بيحصل حوليه على الاقل الفترة دي لحد ما اوصل للي ورا مهاب ابو العزم!

بالمشفى...

قارب عقرب الساعة على الثالثة بعد منتصف الليل، ومازال الشباب يتجهر خارج غرفة عدي بانتظار افاقته من المخدر واستعادة وعيه كليًا، غفى بعضهم على مقاعد الاستراحة والاخر يغفو محل مجلسه الا رائد بقت عينيه مفتوحة، جفاه النوم وهو يتردد على غرفة عدي بين الحين والأخر، فجلس أمام باب غرفته بحزنٍ، يود أن يستعد وعيه سريعًا ليعتذر له عما بدر منه، شعر رائد بيد موضوعه على كتفيه، فرفع عينيه ليجد ياسين لجواره يخبره بحزن: هيفوق وهيسمعك واللي بينكم هيتصافى لان مفيش بينا مكان للخلافات يا رائد.

منحه ابتسامة صغيرة قبل ان يزيح نفسه ليجلس الاخر جواره، فقال بضيق: انا السبب في اللي حصله يا ياسين. يمكن لو كنت وقفت وسمعته مكنش كل ده حصل.
اتاه رد أحمد الذي ظنوه يغفو باستناده على جسد المقعد مغلق العينين: ده نصيب ومكتوب يا رائد. والحمد لله عدي بخير وشوية وهيفوق.
سأله بتوتر: تفتكر هيسامحني!
اجابه معتز تلك المرة: انا وانت غلطنا في حقه ومحتاجين نعتذرله.

ردد جاسم بسخط: انتوا عندكم العصبية والاندفاع طبع عمره ما هسيبكم مش عارف مش بتبقوا عسل زي احمد وياسين والعبد لله ليه؟
لكزه حازم بغضب: بلاش انت يا تايسون ده انت أصعب منهم. بالصلاة على النبي العيلة دي مفهاش غير عمر دكتور المسالك البولية!
اتجهت اعينهم تلقائيًا لما يشير اليه فوجدوا عمر يدنو منهم، وياسين يدلف لغرفة ابنه ليتفحصه.
تساءل احمد باستغراب: كنت فين لحد دلوقتي؟

اجابه وهو يجلس لجوارهم بتعبٍ: كنا قاعدين على البحر شوية.
اشار له بتفهمٍ، فسأله عمر بلهفة: عدي مفاقش؟
هز رأسه نافيًا فعاد الوجوم ليتخلل معالمه من جديد.

وجدها تغفو على حافة فراش ابنهما، أثار تورم عينيها لا تفارقها، تضم مصحفها اليها، كانت قاسية اليوم معه ومع ذلك لم يغضب منها، فإن كان مستعد لمحاربة العالم لاجل ابنه يحق لها اكثر من ذلك، مرر ياسين يده على وجهها بلمسة جعلتها تردد في منامتها: ياسين!

ابتسم حينما وجدها تفتح عينيها، ففركتهما بألمٍ تشعر بحرق يهاجمهما جراء بكائها المتواصل، استقامت آية بجلستها ثم رددت بصوتها المبحوح: متزعلش مني أنا مقصدتش انا آ.

جذبها لتنهض عن المقعد وهو يخبرها: انتي مغلطتيش بتدافعي عن ابنك بعد اللي حصل بينه وبين ابن اختك، طبيعي اللي حصل يا آية. بس عشان خاطري متحاوليش دايمًا تشوفيني بالنظرة دي، عدي يبقى ابني يعني انا اكتر حد يهمني أشوفه باحسن حال، حتى كل اللي بعمله ده فعشانه.

كادت بالاعتذار مجددًا فأوقفها حينما شدد على كلماته الصارمة: مبحبش اشوفك بالشكل ده ولا حابب اسمعك بتعتذري. السنين اللي بينا تكفي انها تخليكي تفهمي حبي لابني.
هزت رأسها بتفهمٍ، وقبل ان يستكملا حديثهما دق هاتف ياسين وحينما رفعه وجده حفيده، التقط نفسًا مطولا قبل ان يجيبه فوجده يردد بصوت متقطع من البكاء: بابا ماله يا جدو، وماما ليه مرجعتش ارجوك قولي.

اجابه بحب: مفيش يا حبيبي مجرد اصابة بسيطة وهتتأكد بنفسك لما تيجي الصبح، نام دلوقتي وبكره هبعتلك عمر ياخدك.
اجابه بدموع: رحمة رجعت من الرحلة ومن ساعتها مش مبطلة عياط على ماما وبابا، انطي مليكة ومروج معاها بس هي مش راضية تهدأ ولا تبطل بكى.
هز رأسه بتفهمٍ وهو يخبره: متخافش انا وآية هنرجع حالا وهنهديها.
واغلق الهاتف بحزنٍ شديد، فتساءلت بلهفة: في ايه يا ياسين!
قال بحزن شديد: حفيدتك محتاجالك.

تطلعت لعدي بحيرة لا تعلم اتتركه وتختار ابنته الصغيرة ام تظل لجواره، ضمها ياسين اليه وهو يخبرها: متقلقيش عمر والشباب بره مش هيسبوه. خلينا نروح للاولاد محدش هيعرف يهديهم غيرنا والصبح هنيجي على طول.
أومأت برأسها بتفهمٍ، واتجهت لابنها الذي يتسنى له سماع كل شيء، فقبلته وهي تهمس له: ربنا يقومك بالسلامة لاولادك يا حبيبي.

وتركته وغادرت بصحبة ياسين، ليتوجهوا معًا للقصر بعدما احاطت الحرس كلتا الغرفتين بأمرٍ من ياسين الجارحي.

ساعة كاملة مضت وهو يجاهد لفتح عينيه إلى أن تمكن أخيرًا من استعادة وعيه كليًا، شعر عدي بوجعٍ قاتل يصيب كتفيه الأيمن، ومع ذلك حرك رأسه برفقٍ للغرفة، فوجد أحمد يغفو على الاريكة ورائد لجواره، وجاسم يتمدد أرضًا جوار معتز وحازم، وعلى يمينه عمر وياسين، حاول عدي تحريك جسده ولكنه لم ينصاع اليه ابدا، فنادى القريب منه: ياسين!
وحينما لم يستجيب له عاد ليناديه: ياسين.

استيقظ ياسين وعمر معًا، فاشرقت وجوههما عن سعادة كبيرة فور رؤيته يسترد وعيه، امسك عمر يده وهو يتساءل بلهفة: عدي. انت كويس!
ابتلع ريقه بصعوبة وتعب بدى لهما، ثم قال بصعوبة: مية.
علي الفور جذب ياسين المياه ثم حمله اليه ليعاونه عمر على ارتشاف المياه، بينما ردد ياسين بفرحة: حمدلله على سلامتك يا وحش.
منحه بسمة صغيرة ولم يقدر على الحديث، بينما يمرر نظراته على الغرفة جاهد للحديث مجددًا: رحمة؟

زرع القلق على ملامحهما مما جعله يصر على سؤاله: فين رحمة؟
قال عمر وهو يطرح الملاءة على صدره العاري: هتيجي الصبح مع البنات. ارتاح دلوقتي.
منع يده من طرح الغطاء بيده اليسري وردد بصعوبة: مستحيل تسيبني. رحمة فين؟
أجابه ياسين بحذر: رحمة تعبت شوية لما عرفت بالحادث.
انقبض قلبه وارتاع ألمًا فتساءل بخفوت وهو يجاهد لجعل صوته اعلى مما عليه: هي فين يا ياسين؟
أشار له: بالاوضة اللي جنبك.

نزع عنه عدي الاجهزة وحاول جاهدًا الانتصاب بوقفته، فانحنى وهو يرتد لفراشه من جديد بوجعٍ قاتل جعله يتأوه بخفوت، اسنده عمر وهو يعاتبه: قولتلك ارتاح الجراحة لسه شادة عليك!
تطلع له برجاءٍ فلا يحمل اي انفاس للمجابهة بمعركة معه: خدني ليها.

اومأ برأسه بحزنٍ شديد، فخلع عمر عنه جاكيته ثم وضعه حول اخيه، وسانده من الجانب الايسر لاصابته البالغة، حاول ياسين اسناده من الجانب الاخر فمنعه عمر حتى لا يتأذى جرحه، واشار له: انا هساعده.
واسنده اليه ثم خرج به حتى وصل لغرفة رحمة، صعق عدي وهو يراها ساكنة كالموتى، عينيها لا تفارق سقف الغرفة، بصعوبة جلس لجوارها على حافة فراشها، فمنحها نظرة متفحصة ثم عاد ليتطلع لعمر وهو يسأله بخوف: مالها؟

اجابه ياسين بارتباكٍ وخوف ان تتأثر حالته بها: الدكتور بيقول ان اللي هي فيه ده تتبع لحالة نفسية عندها من فترة طويلة، وانها المفروض كانت تتابع مع دكتور نفسي بسبب اللي حصل معاها يوم ولادتها. وان اللي حصلها خلاها اي ازمة تعدي عليها تقارنها باليوم ده، اللي بيحصلها ده مش هيكون اخر مرة لو متعالجتش!

ليته يعلم بأن رؤيتها لابن عمها ايقظت جروح الماضي، وعادت هواجسها بفقدانه مجددًا تلتهمها وها هو الآن يحقق اسمى هاجس لديها بفقدانه، عساه يعلم بأنها لا تمتلك سواه هو، حتى وان كان عالمها مليء باناس يحبونها بصدق، هو عالمها وكفى، عساه يعلم بأنها ستستكفى بحبه هو لأخر لحظة بحياتها، لاخر نفسًا يزور أنفاسها، مرر عدي يده على وجهها وهو يناديها بصوته الواهن: رحمة، رحمة حبيبتي أنا جنبك هنا.

لم يصدر عنها اي رد فعل فعاد ليكرر: سامعة صوتي. أنا جنبك!
وأمسك يدها وهو يشدد على أصابعها ويسألها بوجع: حاسة بايدي؟

اخترق صوته عالمها المتحجر، كانت تضم جسدها بيدها وتخشي رفع رأسها خارج ذاك السور العالي، صوته الدافئ جعلها تنهض بعزم وهي تركض باحثة عن مصدر صوته الرخيم الهادئ، ترفع يدها اليه ان ينجدها ويحملها بعيدًا عن الوحش الذي يعيقها باغلالٍ قاسية، تحرك جفن عينيها باشارة صريحة بافاقتها، فاشار له عمر بسعادة: عدي بدأت تفوق!

تطلع تجاه عينيها بلهفة، فاختل الدمع منهما وتحرر، ومن بعده رمشت، ولسانها يردد ببكاء مزق قلب عمر وياسين: ع د ي، عدي!
أجابها واصابعه تحتضن اصابعها: شوفتي الحالة اللي وصلتلها بسبب تفكيرك وخوفك عليا، قولتلك انا جانبك وهفضل جانبك!

حانت منها نظرة جانبيه لمن بالغرفة فكبتت ما بداخلها بوهنٍ، جعلهما ينسحبان على الفور، فما أن انغلق الباب حتى احتضنته وحررت ذاتها من حجزها فانفجرت بالبكاء والاخر يشدد عليها بذراعه الأيسر، وحاول بصعوبة ضمها بذراعه المربوط برباط يصل لرقبته، ظلت لاكثر من ثلاث دقائق تخرج ما بداخلها، وهو يستقبلها بصدرٍ رحب حتى وإن كان جرحه يشتد مع استناد جسدها عليه، تحامل قدر الامكان لشوق بقائها جواره، رفعت عينيها الباكية اليه تطمن ذاتها بأنه ليس حلمًا، فمالت على وجهه بقبلات متفرقة، يمزجها البكاء، رفع يدها اليه وطبع قبلة رقيقة على كفها وهو يخبرها بخفوتٍ: والله انا كويس، متقلقيش.

تحرر صوتها الخافت اخيرا: محستش بده. انا حسيت انها هتكون اخر مرة أشوفك فيها يا عدي.

احتضن جانب وجهها بيده ثم تمدد لجوارها وضمها اليه، مرت اكثر من ساعة حتى غلبها نومًا بين احضانه بفعل الادوية، وكأنها لم تغفو لعامٍ كامل، فمال على رأسها واستسلم للنوم بغرفتها مع ان فراشه كان مريحًا عن ذلك، لم يتمكن عدي من النومٍ عينيه تراقب كل انشن بوجهها، يدها المتكأة على صدره تلامس خفقات قلبه لها، سمع لطرقات باب غرفته ومن بعدها لصوت رائد الذي يردد من خلفه: عدي محتاج اتكلم معاك استنيت انك تخرج لاوضتك بس انت لسه باوضة رحمة!

اتاه الواهن يردد: ثواني يا رائد.
جذب عدي حجاب رحمة المائل خلف رأسها، فعدله على رأسها، ثم حاول جاهدًا النهوض عن الفراش ليحملها عنه، سيطر عليه الوجع وعاد ليطرحه على فراشه بضعفٍ لم يعهده من قبل، فناده وهو يخبره؛
من فضلك يا رائد ناديلي عمر.
رد عليه سريعًا: حاضر.
وبالفعل ما هي الا ثوانٍ حتى ولج عمر للداخل، فاقترب اليه يتساءل في قلقٍ: حاسس بايه؟
أشار له بخفوتٍ: أنا كويس.

واشار لزوجته وهو يخبره بانفاسٍ مضطربة: شيل رحمة للسرير التاني وشد عليها الستارة.

علم بأن الحالة المجهدة التي تسيطر عليه لمجهوده بمحاولة حملها، وحينما فشل لجئ لاخيه الشقيق، انحنى عمر تجاهه وحمل رحمة الغافلة بسباتٍ عميق تأثرًا بالمحاليل والادوية، وضعها على السرير المجاور لاخيه وجذب الغطاء عليها ومن ثم فرد الستار حتى لا يراها احدٌ، وعاد ليقف قبالته، يتفحص ذراعه واصابة رأسه باهتمامٍ، فهمس له عدي بابتسامةٍ خافتة: بالراحة عليا اخوك معتش فيه حتة سليمة.

ارتسم الحزن على معالمه، فانحنى ليقبل جبهته وهو يربت على يده: هتقوم احسن من الاول.
ثم قال: مازن والشباب كلهم بره محدش فيهم روح ومستنين يطمنوا عليك.
بلل شفتيه الجافه بلعابه وبارهاق شديد قال: دخلهم.
هز رأسه بإيجاب: حاضر.

وبالفعل فتح عمر باب الغرفة وأشار لهم بالدخول، توافدوا للداخل والجميع يخبره بامنياتهم بالشفاء العاجل، انحنى تجاهه معتز وردد بحزن: انا اسف يا عدي صدقني انا كنت مشتت لما عرفت باللي حصل لمروج متزعلش مني!

رد عليه بتعب شديد وعينيه تتوزع بينه وبين صديقه الذي يتطلع له بالم: مش زعلان منك يا معتز، مقدر الحالة اللي كنت فيها. بس صدقني انا مدخلتش الصفقة غير لما مراد طمني ان مروج بأمان وبمصر. وقبل ما هو يقتحم الفندق اللي كانت فيه آآ.
سعل بقوة وهو يجابه المه جراء حديثه ومع ذلك استرسل: قبل ما ياخد اي خطوة طلبت من مازن يخرج من دبي هو واولاده عشان مهاب ميهاجمهمش اول ما يعرف اني هربت مروج. ويرجع يهددني بيهم.

قال مازن بتأثرٍ: ارتاح يا عدي احنا مش عايزين نسمع اي مبررات المهم انك بخير وفي وسطنا.
التقط انفاسه بصعوبة، وتحرك وجهه تجاه رائد الذي يتابعه بحرجٍ ويجاهد للحديث، اشار له عدي بالاقتراب والجلوس لجواره، فجلس وهو يتابعه بأعين دامعتان، وقال بوجع: معتز كان عنده مبرر قوي للي عمله لكن انا معنديش مبررات يا عدي. انا عصبي ومتهور ومتعلمتش من عصيبتي لما رانيا وبنتي بعدوا عني العمر ده كله رجعت زي الاول وأوحش!

ابتلع ريقه بصعوبة وهو يجاهد فعليًا للحديث: لما تندم على شيء عملته افضل الف مرة من لما متكنش عارف غلطك يا رائد. اللي عايزك تعرفه اني مقللتش منك، الكل كان متوقع اني هختار ياسين واحمد للمناقصة، بس انا كنت شايفهم زي بعض دماغهم نفس التفكير، كنت على ثقة انهم هيقدموا عروض متشابهة بنسبة كبيرة وده هيقلل نسبة ربحنا للمناقصة، لكن انت دماغك مختلفة واكيد مش هتكون بنفس تفكيرهم بالتالي فرصتنا أكبر.

وسعل بقوة جعلت جسده يرتد وعمر يسانده ويتوسل له بالصمت والهدوء، ولكنه رفض واسترسل: انت فاقد الثقة في نفسك مع ان عرضك عمل حالة من الجدال بين الشركات المنافسة، لدرجة ان في نفس اليوم جالنا عقدين بمبالغ وهمية عشان عرضك!
رمش بعينيه بدهشة فاسترسل حديثه بوجع يجتاز رأسه وكتفه: افتح اللاب بتاعي بالمقر هتشوف بنفسك العقدين. يمكن وقتها يكون عندك ثقة بدماغك الغبية دي.

ضحك رغم انهمار دمعاته، فمسد على كتفه وهو يردد بصوت باكي: انت فدتني بروحك وفكرت فيا بلحظة كنت حاقد فيها عليك ارجوك سامحني.
مازحه ببسمة: خف ايدك عني انا متدشمل افوقلك بس وهظبطك.
تعالت ضحكاتهم الرجولية معًا، فاستطرد بجدية: انا كمان كنت غلطان. كان ممكن امسك بدالك بس مكنتش جاهز يا رائد. انا بحاول اتعلم على قد ما اقدر. واحمد وياسين بيحاولوا معايا. بس ميولي ودماغي مش جايباني غير للشرطة.

ردد احمد بمرح: لولا دماغك البوليسية دي مكنتش هتوصل لمروج وتنقذها بالوقت القياسي ده.
استطرد جاسم هو الاخر: ولا كنت هتعلم على مهاب ابن ال
هز رأسه بوجعٍ: اول قرار هاخده لما اقف على رجلي استقالتي من المقر.

اخفى عمر بسمته الخبيثة لا يعلم ماذا يخطط له ياسين، قاطع حازم مجلسهم حينما انحنى تجاه عدي وقال: بقولك يا وحش بما انك في حالة سلام واصابة جايبة أجلك كده كنت عايز اقولك الشوكولاته اللي طلبتها لوالدتك وصلت فأنا بقول تطلعها زكى على روحك وفكك من عيد الجواز اللي لحد الآن مش عارفين نحتفل بيه ده. حتى اخوك الحزين لما فكر يسمى ابنه عدي كنت هتطوح مننا يا جدع.

حدجه بنظرة قاتمة ثم اشار تجاه الشباب ليخبرهم: انتوا شايفين حالتي تستدعي وجود الحيوان ده؟!
تبادلوا النظرات والاخير يتراجع للخلف بصدمة ويشير لهم: اوعا حد يقرب عليا النعمة افجر المستشفى باللي فيها وآ.
بترت كلماته حينما تلقفه مازن ثم اسدل فوقه الملاءة الموضعة لجواره، فحملوه وكأنه جثة تستعد لكفنها ثم عادوا به لصندوق السيارة مكانه الذي نشأت بينهما علاقة حب وعشرة!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة