قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أحفاد الجارحي ج5 (ترويض الشرس) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثلاثون

رواية أحفاد الجارحي ج5 (ترويض الشرس) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثلاثون

رواية أحفاد الجارحي ج5 (ترويض الشرس) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثلاثون

توقفت سيارة أحمد مقابل السيارة الداخليه للقصر، فحمل حمزة الصغير بين يده، بينما حمل حازم زوجته، أغلق أحمد أبواب السيارة من خلفهما، ثم جذب الحقائب ولحق بهما للداخل، ما أن ولجوا للقصر حتى تجمع الجميع من حولهم، والدهشة والحيرة تجتاز الوجوه، فعاتبته تالين بضيقٍ: انت ازاي متبلغنيش يا حمزة!
أجابها بارتباكٍ ظاهري مضحك: أنا ماليش دعوة ابنك اللي قال متقولوش لحد.

مال حازم على كتفه وهو يردد بصرامةٍ مصطنعه: متخافش يا حمزة محدش يقدر يكلمك طول ما فيا النفس وحيًا أرزق، اللي عايز يتعارك يعاركني أنا ابني مالوش ذنب في حاجة.
دفعه حمزة للخلف وهو يصيح به بانفعالٍ: أنت بتقول أيه يا ولد يا عديم التربية!
جحظت عينيه بصدمة، فضمه اليه وقال وهو يربت على ظهره: ميزو يخرب عقلك بدافع عنك تقوم تقل بأصلك معايا. وده كلام بالذمة!

تلاشت عنها غيمتها القاتمة، وانفرجت شفتيها بالضحك، حمل أحمد الصغير عن أبيه ثم اتجه بها لوالدته التي حملته بفرحةٍ، فرددت: بسم الله ما شاء الله قمر.
انحنت آية ثم طبعت قبلة على جبين الصغير، قائلة بحزن: ربنا يباركلها فيه يا رب، بس بردو مكنش ينفع متعرفناش يا حازم يعني أكيد نسرين كانت لوحدها من غير ما نكون جنبها في وقت زي ده!

رد عليها ببسمةٍ هادئة: كفايا اليوم الصعب اللي عشناه امبارح، محبتش أزود عليكم، الموضوع بسيط الحمد لله وادينا رجعنا بخير.
حملت شذا منهما الصغير، فاحتضنته وتساءلت: هتسموه أيه؟
رد عليها حمزة بابتسامةٍ واسعة: أحمد بإذن الله.
أضاف حازم بمكرٍ وهو يدعي ثباته ورزانته: احتار بالاسم وأخويا موجود، ثم انه طالع شبهه جدًا فقولت اسميه على اسمه عشان لما يربيه يبقى شبهه قلبًا وقالبًا.

ضحكت دينا فأشارت لاحمد بمرحٍ: ده داخل على طمع يا أحمد خد بالك.
ابتسم وهو يخبرها: معنديش مانع لو هيتسمى على اسمي فعلًا!
وضعه حازم بين يديه وهو يؤكد له: اتسمى يا باشا من دلوقتي. أنت بايدك تنقذ العيلة وتربيلنا حد يكون عاقل عشان يلم مصايب خالد ويحاسب على مشاريبه ولا نسيت؟!
منحه نظرة مقززة قبل أن يتجه للاعلى، فتابعه حازم ببسمة حالمة، وكأنه يرى مستقبل ابنه الباهر يلوح له مع كل خطوة يصعدها أحمد للأعلى.

علي التراس.
أمسك به جيدًا فحال بينه وبين السقوط عن السور، والأخير مازال مصر على القاء ذاته، يختار الموت عوضًا عن مواجهة الشبح الذي يطارده، أبعد معتز عنه القناع وهو يشير له من وسط ضحكاته: مش عارف قبلوك في الشرطة ازاي وأنت عقلك في ذمة الله كده، ده المجرم عنده شجاعة عنك.

اشتعل الغضب بمقلتيه، فركله بقدمه ببطنه، فترنح معتز للخلف ومازال يحارب ضحكاته الصاخبة، حملت مروج كوب القهوة الساخن، وهرعت للتراس فوجدت أخيها مستلقي أرضًا، وزوجها ينحني بجسده على التراس، فتساءلت بريبة ونظرات الشك تحيطهما: في أيه؟
استقام مازن بوقفته، وأشار اليه بعصبيةٍ: أخوكي ده مش طبيعي. مختل عقليًا ولازم يتعالج.

وتركهما وولج لغرفته، فاتبعه معتز وهو يخبره من وسط ضحكاته: أنا بردو اللي محتاج أتعالج، ده انت اللي محتاج تأخد مقويات عشان تقوي قلبك الجبان ده.
استدار اليه وهو يجذب حقيبة سفره، فصاح به باستنكار: حقيقي مشوفتش بجنانك أنت وولاد عمك. بس أنا اللي غلطان اني لسه قاعد هنا انا حالا هرجع دبي أفضل ألف مرة من اني اكون هنا وسطكم.

رد عليه معتز بتسلية وهو يجذب قهوته من يد شقيقته: مالنا يا حبيبي، صقور الداخلية بتوعك معملوش نص الواجب اللي عملوه رجالة الجارحي مع المجرمين.
وتابع بعنجهيةٍ: ثم ان ليك الشرف انك الوحيد اللي سمحناله يناسبنا، مستكترناش عليك موجة بالرغم من أننا مبنحبش ندي بناتنا لحد، بس هنعمل أيه احترمنا انك صاحب عدي وفكرناك وحش كاسر زيه أتريك مش محصل حمزة القط!
تساءلت مروج بدهشة: مين حمزة القط ده يا معتز.

أشار لها بمكر: نخلص الخناقة وأشرحلك.
أومأت برأسها بخفة ثم عادت لتتابع اجواء المعركة الحماسية بين زوجها وأخيها، ترقبت دوره بفضولٍ، فوجدته يكز على أسنانه بغيظٍ كاد باسقاطهم، فأشار بحدة: أهي عندك شوفلها عريس مناسب. أنا بعد اللي عملتوه فيا محتاج هدنة من النساء ومن العالم كله.

وجذب ملابسه من الخزانة، ثم ألقاها بالحقيبة المفتوحة على الفراش بإهمالٍ، لحقت به مروج فجذبت منه الحقيبة والملابس التي يضعها، مرددة بصدمة: بتعمل ايه يا مازن بعد كل اللي حصلنا هناك عايز ترجع تاني. لا أنا مش هقبل بكده ولا هقبل إني أتغرب وأسيب أهلي تاني.

منحها نظرة قاتمة قبل أن يغلق سحاب الحقيبة، فجذبها ثم قابلها بنظرةٍ جادة تباعدت عن مشاكسته مع معتز كليًا، وقال: ده المتوقع يا مروج. انك دايمًا مش حابة تقدمي أي تنازلات عشاني، مستقبلي ممكن يتدمر عادي بالنسبالك، مش مهم المهم انك لقيتي الحجة المناسبة عشان نرجع من هناك زي ما كنتي حابة من البداية.
واستطرد وهو يجذب يد الحقيبة: متقلقيش أنا المرادي مش هجبرك تيجي معايا في مكان.

جحظت عينيها في صدمةٍ، أصابتهما دمعات لامعة مما استمعت اليه، لحق به معتز وحال بينه وبين باب الغرفة، ليسأله بدهشة: أيه اللي بتقوله ده يا مازن. أنت في واعيك؟!

أبعد يده عنه وهو يشير له بنفاذ صبر: المرادي أنا في واعيي يا معتز. وعارف أنا بقول أيه كويس. أختك عمرها ما فكرت في شيء يخصني. وطول ما كنا في دبي مكنتش بتفوت فرصة غير وبتحسنني فيها بالذنب انها بعيد عنكم، ودايمًا مكنش على لسانها غير انها عمرها ما بعدت عنكم ولا قادرة تعيش بعيد عنكم، أنا مقدر أن أي بنت بتشتاق لاهلها في الغربة بس على الاقل وجود جوزها جنبها المفروض انه يفرقلها، وهي محاولتش تحسنني مرة اني عارف أحتويها واعوضها ولو جزء بسيط عن فراقكم، دايمًا كانت بتحاول تفكرني بالجميل العظيم اللي عملته انها سابت كل ده وجيت معايا. مع إن اللي اعرفه ان الست مكان ما بيكون جوزها بتكون معاه ولا أيه؟

تقوس جبينه بانفعالٍ من اتهاماته الخطيرة المندفعة تجاه شقيقته، فصاح باندفاع متهور: ده ميدلكش الحق انك تتكلم عليها بالشكل ده في وجودي، اللي بينكم شيء يخصكم مينفعش تهينها بأي شكل حتى قدام أي حد حتى لو الحد ده أنا!

واستطرد بعصبية وهو يحاول ابعاد مروج التي تمسكت به خوفًا من تهوره المعتاد فخشيت أن تزداد الامور سوءًا: يمكن تكون غلطت بس أنت كمان غلط يا مازن، أنت عندك غرور انك تشتغل نفس الشغل اللي بتشتغله بره هنا معانا واحنا طالبينك أكتر من مرة لكن عادي بالنسبالك تشتغل في شركة مش شركتك وبتأخد فيها مرتب زيك زي أي موظف.
عارضه حينما قال: أنا شريك فيها يا معتز مش شغال عند حد.

ابتسم ساخرًا: بنسبة 20 ? متبقاش شريك يا أستاذ!
جابهه بحدة: بالنسبالي أفضل ألف مرة من اني اشتغل معاكم. اي منصب هوصله هيبقى معروف لاني جوز المدام!
واسترسل ساخرًا: وأكيد هتزودوا مرتبي اكرامًا لاني متجوز حفيدة عتمان باشا الجارحي!

كور قبضته بعصبية بالغة، ودنا منه وهو يصرخ بعصبية: متعصبنيش يا مازن. سبق واتكلمنا في الحوار ده أكتر من مرة واتناقشنا فيه بما فيه الكفايا راجع تفتحه تاني ليه، يبقى أكيد مش واثق من نفسك ولا من شغلك عشان كده بترمي كل حججك على نفس الشماعة.

واسترسل متحديًا: اللي أعرفه انك بدل ما كنت تهرب وتجري على دبي عشان تثبت نفسك كنت دخلت وسطينا وعملتها، كنت تحاول كل لحظة تثبت فيها نفسك للي حوليك خصوصًا انك هتكون مسؤول عن نقاط حساسة في المقر والشركات، وحمايتهم شيء مش سهل. اختارت تبعد وتروق دماغك بعيد عن الحوارات دي، لكن عدي طلع أفضل منك بالرغم من اني كنت بشوفه غلط قرر يواجه وأثبت نفسه بجدارة لحد أخر لحظة.

واستكمل ببعض الهدوء بعدما استعاد اتزانه وهو يحتضن شقيقته ويربت عليها لتهدأ قليلًا بهدوئه: حتى بعد ما صحتله فرصة يرجع للشرطة اتخليت أنت عنه، مع انك سبق وعملتها عشانه!
أجابه مازن بعدما استمع لحديثه الصائب بعناية: لاني لقيت نفسي بره مجالي، انا اشتغلت في دبي ولقيت راحتي هناك أكتر من الشرطة، كفايا اني كنت بأمن على أولادي ومراتي وأنا عندي ثقة ان مفيش شيء سييء هيحصلهم!

ردد ساخرًا: واللي عمله مهاب الكلب ده ضمنت انه يحصل!

صمت قليلًا وهو يوزع نظراته بينه وبين مروج الباكية داخل أحضانه، فاستطرد معتز قائلًا: أنت مشتت ومش عارف أنت عايز أيه ده ميدلكش الحق ترمي انفعالاتك وغضبك على أختي، مهما كان واصل بيك الحال اتحكم بأعصابك، ولو افترضت انك معاك حق في كلامك فمقدرش ألومها، احنا اتربينا في البيت ده واتعودنا كلنا نكون مع حد، وفعلا بعدها التام عن البنات وعننا ده فعلا شيء فوق طاقتها ولازم تقدر ده كويس، متحاولش تقارن تماسكنا ببعض بأي حد تاني احنا غير أي حد، يبقى تهدى وتفكر كويس وتشوف أنت عايز أيه بالظبط. تشتغل بدبي ولا ترجع للشرطة تاني. ولو اختيارك كان دبي يبقى هتشتغل هنا معانا وايدك في إيدنا ولو سمعت منك اعتراض يا مازن هكمل كسر باقي عضامك وشوف لو فيك حيل تدافع عن نفسك بقى.

رفع احد حاجبيه بسخطٍ: أنت بتهددني؟!
أكد له بصدر رحب: أكيد وباللي عملته مع مروج قدام عيني هيكون في أفعال مش أقوال، تحب تشوف؟
غلبته بسمة صغيرة على شفتيه، فحك ذقنه النابت وهو يشير له: وعلى أيه، الطيب أحسن.
وأخفض ذراع الحقيبة وهو يشير له: رجع الهدوم رجع.
جذب عنه الحقيبة ثم القاها على الفراش، ففتح سحابها وهو يتساءل بفضولٍ: أيوه يعني اختارت أيه؟

أحاط زوجته بذراعها، فقبل وجنتها وهو يهمس لها باعتذارٍ صريح اليها، ثم تطلع تجاهه وهو يردد بكلمات ثقيلة: هفكر لسه بس تقريبًا هجرب حظي معاكم الأول!
تهللت أساريرها بما استمعت اليه، وأخيرًا رضخ زوجها لما كانت تود به منذ البداية، فعاد يضمها اليه وهو يهمس لها: حقك عليا. متزعليش.
ابتسمت وهي تخبره: مش زعلانه بالعكس فرحانه بقرارك ده أوي.

تابعهما معتز ببسمة هادئة، فتسلل بخفة ليتركهما بمفردهما، ليتشارك رومانسيتهما المنعزلة، فما أن أغلق الباب وكان بطريقه لجناحه، حتى وجدها تهرول من خلفه راكضة، تناديه بلهفة: معتز.
استدار اليها وهو يتساءل بغضب: قالك حاجه تاني؟
هزت رأسها نافية وهي تزيح دموعها، فعانقته بفرحةٍ اتبعت نبرتها: ربنا ما يحرمني منك يا حبيبي. أنا أول مرة أحس انك عقلت وكبرت كده.

أبعدها عنه ببسمة تلاشت للغضب، فقال بشكٍ: ليه أنا كنت مجنون. هقلب عليكي وعلى جوزك تاني!
تعالت ضحكاتها، ورددت من بينها: حقك عليا.
ضمها اليه ببسمته الهادئة، وقال بحنان: ربنا يهديلك الحال يا حبيبتي.

ولج لغرفته بتعبٍ وإرهاق فاق طاقته، نزع عنه جاكيته، وحرر قميصه ثم تمدد جوارها، فشعرت به ففتحت عينيها بنومٍ وسألته باستغرابٍ: أحمد، كنت فين؟
ابتسم وهو يردد بنعاسٍ: ياااه يا آسيل. دي قصة طويلة أوي وأحلى ما فيها انك نمتي لحد ما رجعت.
وضمها اليه ثم أغلق عينيه باستسلامٍ: الصبح هحكيلك مغامرتي الشيقة مع شبحك الناعس وحازم، بس دلوقتي أنا محتاج أدخل في غيبوبة نوم!

الظلام المعتم كان سائد على الجناح بأكمله، فحاول الوصول للوحة المصابيح، فما أن ضغط عليها حتى برقت عينيه في دهشةٍ صريحة، الغرفة الخاصة بهما كانت تغمرها البلونات الحمراء، وبمنتصفها الطاولة تحمل قالب من الكعك، والشموع تملأ المكان بأكمله، بحث بعينيه عنها، فوجدها تخرج من غرفة الملابس الجانبية بفستانها الأحمر الطويل، وشعرها منسدل بحريةٍ من خلفها، تطل عليه بأبهى زينتها المعتادة بجناحهما الخاص، والآن تفرد سيطرتها الكاملة عليه، اقترب منها هائمًا بتفاصيلها، حتى بات قبالتها لا يفصلهما الكثير، أمسك يدها وعينيه لا تفارقها، فقال بعدم تصديق: أنا كنت لسه بفكر أصالحك إزاي؟

منحته رانيا أجمل ابتسامة قد يحظى بها بحياتهما يومًا، وهمست إليه على استحياءٍ: بصراحة أنا اللي اتعمدت أتخانق معاك عشان تسيب الجناح وأقدر أحضر الحاجات دي علشان أفاجئك بعيد جوازنا.
وجذبت العلبة الصغيرة المغلفة، ومنحته اياها وهي تخبره: كل سنة وأحنا مع بعض لأخر العمر يا حبيبي.

تناول منها العلبة، ثم وضعها جانبًا، احتضن وجهها بيديه معًا، وقال ببسمة عاشقة: كل سنة وانتي روحي وقلبي وأم أولادي وكل ما بملك في الدنيا.
ثم انحنى تجاه الطاولة، فجذب أحد الزهرات الحمراء، ثم وضعها بين خصلات شعرها وهو يردد ببسمة مرحة: دي لاني معرفتش بعيد جوازنا ومعرفتش أجبلك هدية زي ما جبتيلي.
ضحكت وهو تخبره: كل مرة بفاجئك يا رائد!
شاركها الضحك وهو يخبرها: المهم انك فاكرة وبتفكريني.

تلاشت ابتسامتها حينما رأته يحاصرهل بنظرات عينيه الرمادية، رفع يده يضم جانب وجهها، وانجرف خلف طوفان عاطفته فمال إليها يرنو من رحيق بلسمها مطولًا، وهو يهمس إليها: بأحبك.
ابتعدت عنه وهي تتأمل عينيه بشرودٍ، وباتت لا ترى سوى دفوف عشقها تناشدها بأرق الكلمات وأعذبها، فابتعدت عنه ثم اتجهت للطاولة، فجذبت ورقة بيضاء مطوية بحرصٍ، ثم قدمته له وهي تهمس له: كتبتها علشانك.

وتركته وغادرت للشرفة خجلًا من رؤية تعابيرته فور قراءته لما دونته إليه، فتح الورقة وهو يقرأ ما دونته باهتمام والبسمة تتسلل لشفتيه رويدًا رويدًا، وقلبه يسبقه بخفقاتٍ شرسة عنيفة
« فوق درب الغرام تسابقت الأماني، وكل أمنية نسجها حلم اللقاء بك، وها أنت اليوم تجتاز منتصفه ولا تعلم ما الذي تريده؟!
تحارب تلك العاطفة القاتلة، ومشاعرك لا تضلك عن عشقك الصريح لي، والآن أمازلت تكابر؟!

اليوم سيتبرأ عنك الغرور، وستكن لتواضع حبي سيدًا، ترددها علنًا، وربما حينها سأخبرك بأنني لم أسمعك جيدًا، سأجعلك ترددها كثيرًا حتى يعتاد قلبك على سكنةٍ لم يسمح لها يومًا! »
ترك رائد الورقة جانبًا، ثم اتبعها للخارج، فمال على رقبتها وهو يضمها اليه، قائلًا بخبث: بقى أنا مغرور؟
التفتت إليه وهي تؤكد لها بضحكة تعلو صداها: أيوه دي الحقيقة، أنت كنت ومازالت مغرور يا رائد باشا.

وأشارت له بعدم اهتمام: بس ده ميهمنيش. المهم انك آ...
قاطعها حينما قال بهيامٍ: اني عشقتك ومستعد أسيب كل شيء عشان عيونك.
وضيق عينيه بحركة مضحكة وهو يتابع: صحيح اني مندفع شوية بس طيب وغلبان والله. والاهم اني بحبك ولا أيه؟
هزت رأسها بابتسامة رقيقة، فضمها إليه بقوةٍ، وحملها مرددًا بغمزة ماكرة: نكمل كلامنا جوه أحسن هنا الجو برد ومش مريح!

تعالت ضحكاتها وهو يركض بها للداخل ويغلق باب الشرفة بقوة كادت باسقاط زجاجه، فأغلق الستار لينزوي بعشقه معها لعالم لا ينبغي لأحدٍ مشاركتهما به!

تغلبت الشمس بقوة ضيائها على عتمة الليل المظلم، لتنشط يومًا جديد، فاستيقظ الجميع باكرًا على غير عادتهم لنومهم الباكر منذ الأمس، فهبط الشباب للاسفل للاستعداد للعودة للمقر...
بالأعلى.

خرج عمر من حمام غرفته، يجفف المياه عن وجهه، ثم اتجه لغرفة الملابس لينتقي ما يناسب عودته للمشفى باليوم الأول، وبداخله سعادة لا يتقاسمها مع أحدٌ، تفاجئ بنور بالداخل، تضع أحدى البذلات الأنيقة والحذاء على المقعد، فجذب ما اختارته وهو يقول ببسمته الجذابة: صباح الخير يا روح قلبي.

تركته واتجهت للخزانة، فجذبتها وأخذت تختار البرفيوم إلى أن اختارت غايتها فوضعتها على الطاولة واتجهت للمغادرة بصمتٍ لم يعتاد به منها، ارتدى عمر بنطاله على عجلة من أمره، وخرج خلفها وهو يناديها بلهفةٍ: نور!
توقفت عن استكمال خطواتها، فوقف قبالتها وهو يتساءل باستغراب: مالك؟!
هزت رأسها وهي تخبره: مفيش.
وعقدت حجابها ثم كادت بالتوجه للاسفل، فأمسك يدها وهو يتساءل بقلق: مفيش ازاي إنتي مش طبيعية قوليلي مالك؟

جذبت يدها منه ثم رسمت ابتسامة مصطنعة وهي تخبره: صدقني أنا كويسة. هنزل أحضرلك الفطار عشان ما ينفعش تتأخر في أول يوم ليك بالمستشفى
تجعد جبينه بدهشة من علمها بعودته للمشفى، فابتسمت وهي تشير له بغرور: ياسين الجارحي قالي كل حاجة يا دكتور.

وتركته وهبطتت للأسفل سريعًا، حتى لا يرى دمعاتها التي تحاول تخبئتها، لا تود أن يتعكر صفوه بأول يوم عودته للمشفى، يكفيها رؤية الفرحة تتراقص بعينيه بعد وقتٍ طويل، هبطت نور للأسفل، فوجدت الشباب يتناولون طعام الافطار، فاتجهت للمطبخ ثم عادت بطبق لزوجها، وأخذت تضع ما يحب عمر بتناوله، تابعها الشباب والفتيات باستغرابٍ، لم يكن الهدوء أبدًا من طباعها، تطلع ياسين لاحمد، الذي قال ببسمة هادئة: أيه يا نور مفيش صباح الخير ولا أيه؟

اتجهت نظراتها اليه، ورددت بنبرة كانت حزينة للجميع: صباح الخير.
حاول ياسين مشاكستها، فقال: شكلك كده عملتي حزب جديد يا نور، طمنينا الشكاوي المرادي على أيه؟
وضعت مليكة كوب العصير عن يدها وهي تشير له بتعبٍ: مفيش شكاوي والله.
أكدت شروق هي الاخرى: لا احنا براءة يا ياسين ملحقناش نشتكي لنور في حاجة!

جلست نور على المقعد، وحاولت جاهدة رسم ابتسامة مخادعة، ولكن صعب عليها الأمر، فانسدلت دمعاتها المخبئة عن الجميع، هرعت رحمة إليها، فضمتها وقد ايقنت ما يصيبها في الحال، فقال جاسم بقلق: نور أنتي كويسة؟ لو تعبانه نطلبلك دكتور!
لم تجيبهم مازالت تبكي بصمتٍ، فقال حازم: يبقى عمر مزعلك صح!
أضاف معتز بضيق: لو هو والله نوحي عليه عدي، هو فوق هطلعله حالا.

مازن بغضب: يا عم اقعد بقى أنت كل حاجة عندك بتتحل بالضرب والتربية ارحمنا!
صاح بهما رائد: ده وقته!
وتساءل بحزن: نور ممكن تبطلي عياط وتقولي في أيه؟
تغلبت على بكائها واستقامت بوقفتها بعيدًا عن المقعد، وقالت قبل أن تغادر للحديقة: مفيش حاجة يا جماعة، أنا عايزة اقعد لوحدي شوية.
وتركتهم وغادرت والجميع بات القلق ينهشهم، فتساءل أحمد بشكٍ لعلمها بالامر: في أيه يا رحمة؟
أجابته بحزن: ذكرى وفاة والدتها النهاردة.

تجمع الحزن على وجوههم جميعًا، فتلك الفتاة بالأخص يعزها الجميع، حتى الشباب هي بالنسبة اليهم المقربة من الفتيات، مشاكستها الدائمة ومحاولاتها بحل الامور بينهم كانت مقبولة اليهم حتى وإن اعتبره البعض تدخل بالخصوصية، حتى ياسين الجارحي يعاملها معاملة خاصة، لأنهم جميعًا يعلمون بأنها لا تود سوى رؤيتهم بخيرًا، لا ترغب في رؤية المشاكل تجتاز حياتهم الزوجية، رفض ياسين وأحمد المغادرة للمقر حتى رائد وجاسم ومعتز، فخرجت الفتيات أولًا إليها، حاولت رحمة أن تجعلها تكف عن البكاء ولكنها لم تستطيع، حتى مليكة ورانيا، فقالت شروق بمرحٍ: يعني بالذمة ده كلام، نسرين ولدت امبارح وبدل ما نطلع نتلم حوليها ونفرح بالبيبي قعدين منكدين على بعض.

أزاحت نور دموعها وهي تتساءل بدهشة: بجد نسرين ولدت، امته وازاي ده؟
قالت آسيل بسخرية: هي حكاية قد تكون علقت معايا كتير عشان استوعبها بس هحكيلك.
قاطعتهما رانيا قائلة: قبل الحكي والطلوع قومي نفطر الأول ونروق كده.
ركضت مروج تجاههم، وجلست جوار نور وهي تدفع الشطيرة لفمها قائلة بمزح: وتدخل تفطر ليه انا جبتلها الاكل وجيت أهو، على الاقل تأكل بالهواء الطلق.

ردت عليها داليا بغيظٍ: انتي بتعلي علينا يعني، هدخل اجيب العصير وأجي واهو بردو هينفع بالهواء الطلق مفهوش مشاكل
تعالت ضحكات الفتيات، واصطحبنا نور بينهم للضحك، وما أن تأكد الشباب من نجاح الأمر حتى هبطوا اليهم، فجذبوا المقاعد ووضعوها حول الطاولة المستديرة، فقال ياسين ببسمة هادئة: أيوه كده. الزعل مش لايق عليكي احنا واخدين على آ...
قاطعته نور بغضب: هتقول لساني الطويل زي عمر هزعل وأقلب الحزب عليك وعليهم.

ضحك وهو يشير لاحمد: حصل مني ده يابو ليان؟
ابتسم أحمد وهو يردد بجدية: متسمحيش للحزن انه يسيطر عليكي يا نور. انتي مش لوحدك احنا كلنا حواليكي.
وقال رائد بتأثرٍ: صحيح مفيش حد هيقدر يعوض مكانة والدتك الله يرحمها بس كل اللي حوليكي بيحاول يكونلك الأم والأخت.
وقال جاسم بمشاكسة: والأخ أهم حاجة الأخ!

تابع معتز بعصبية بالغة: أنا بردو مازلت مصر لو الواد عمر هو السبب في زعلك قوليلي الوحش فوق في عرينه نلحقه قبل ما يروح في أي مكان.
لكمه من كان بطريقه اليهم، وهو يصيح به: هو أنت فاكرني زيك يا ويزو، لم الدور واركن على جنب.
واتجه عمر ليجلس جوارها، فلف يده حول مقعدها وهو يردد بحنان: احنا عندي أغلى من نوري عشان أعكنن عليها ولا أخليها تشيل مني!

ردد حازم بسخرية: شجرة واتنين ليمون يا ابني. يا أخي احترم نفسك ده احنا مترشقين حوليك!
ضحك عمر وهو يشير له: يلا يلا كل واحد على عربيته وعلى المقر، أنا خلاص افراج رسمي!
قالت رحمة بمكر: هما بيرحوا براحتهم يا عمر أنت اللي للأسف ليك مواعيد وتقريبًا اتاخرت!
تفحص ساعته بصدمةٍ، فتركهم وهرول لسيارته وهو يردد بصوت مرتفع: سلام مؤقت.

وغادر بسيارته سريعًا، فذمت نور شفتيها وهي تردد بسخطٍ: يعني لو كنت قولتلكم ان عمر مش راضي يحققلي حلمي الوحيد كنتوا هتجيبولي حقي منه بجد ولا كلام!
ردد معتز بفرحة: جربينا.
وزعت نظراتها بينهم بحيرةٍ، ثم قالت ببكاء مضحك: أنا بقالي أربع سنين بتحايل عليه يشتريلي عربية بينك من غير سقف مش راضي، يرضيكم!
تطلع الشباب لبعضهم البعض وكادوا بالضحك، فتطلع اليهم ياسين بنظرة صارمة قبل أن يقول: لا غلطان والله.

وأضاف أحمد وهو يكبت ضحكاته بصعوبة: متزعليش يا نور هو أكيد خايف عليكي.
عاتبته باستنكارٍ: مانا كنت هتعلم السواقة يا أحمد.
شاركتها آسيل بغضب: ده مبررك ما كلنا بنسوق وعندنا عربيات، حرام عليه المفروض يسبها تأخد حريتها.
طرق ياسين بيديه: أيه يا آسيل احنا متجمعين نحل مش نسخن الامور.

انتهى من ركضه لساعة كاملة، واستند على المقعد القريب منهم، صوت أنفاسه القوية كانت مسموعة للجميع، فاتجهت اليه، وضع عدي زجاجة المياه على الطاولة، ثم جفف عرقه بالمنشفة التي يحملها، فوضعها ودنى منهم بعدما علق ذراعه برباط المتصل لرقبته ليريحه قليلًا، فجلس على احد المقاعد قائلًا بثباتٍ: بليل هتكون عندك العربية يا نور. وعمر مش هيتكلم ولا هيكون عنده أي مشاكل.
تهللت أساريرها، وتساءلت بفرحة: بينك؟

ابتسم وهو يشير لها: بينك وسقفها مفتوح!
صفقت بيدها وأشارت له بسعادةٍ: روح يا شيخ الهي ربنا يشفيلك دراعك اللي مبيلحقش يطيب ده.
تعالت ضحكاته الرجولية، وردد بصعوبة من بينها: اللهم آمين. تسلميلي!
سعادتها جعلت الفتيات بأكملهن سعداء، فهمست رحمة اليها: اترضيتي أهو بينا نطلع نطمن على نسرين بقى.
أشارت لها: يلا.

وبالفعل غادرت الفتيات للاعلى، فأشار أحمد للشباب قائلًا: المقر يا شباب. ياسين الجارحي هناك من بدري مش عايزين مشاكل.
اتجه كلا منهم لسيارته، فأوقف عدي ياسين قائلًا: أنتوا نازلين النهاردة ليه كنتوا ريحوا!
اجابه ببسمة هادئة: اليوم بيفرق معانا يا وحش، ما أنت عارف.
ابتسم وهو يخبره: ربنا معاكم.

جلس بالداخل يتناول طعامه بشرود، فمازال لا يعلم نتيجة قراره هذا، ربما ما يعنيه سعادة زوجته التي لمسها حيال ذلك، ولج عدي للداخل فوجده يجلس على طاولة الطعام وحيدًا، فجذب المقعد المقابل اليه ثم تساءل: قاعد لوحدك ليه يا مازن؟
لم يستمع إليه، شروده كأنما صنع حوله هالة منعزلة، فصاح به مجددًا: مازن!
انتبه اليه، فقال باستغرابٍ: بتناديني يا عدي؟

ردد ساخرًا: لا بغني ليك. بقالي ساعتين بكلمك وأنت مش معايا خالص!
وضع الشوكة عن يده ثم قال: أنا معاك أهو.
تفحصه بنظرة تعمقت به، فقال: في أيه؟
زفر وكأنه يخرج ثقل عظيم عنه، وانهاه حينما قال: أنا تعبت من التفكير، بس خلاص أنا هقسم نفسي اتنين عشان أكون مرتاح.
رفع أحد حاجبيه وهو يقول بتريثٍ: مش فاهم.
نهض عن الطاولة وهو يطرق الطاولة بعزيمة: هشتغل معاك ومع معتز ولازم أبلغها قراري وحالا.

وتركه وصعد للأعلى، فراقبه عدي بصدمة وهمس بعدم تصديق: اتجنن ده ولا أيه؟!

بالمشفى.

سعادته بتلك اللحظة لم يكن هنالك ما يوصفها، عودته لمكتبه ولعمله كان كالحُلم البعيد، وها هو يتحقق من أمامه، جلس عمر على المقعد المخصص له براحة تغمرها كليًا، بهجة استقباله اليوم جعلته قادرًا على العمل لآلآف الساعات المتواصلة إن شاء الأمر، عبثت أصابعه في اللافتة الحاملة لاسمه الدكتور عمر الجارحي، كم اشتاق لذلك اللقب المنسوب إليه كثيرًا، والآن قد عاد دون أن يجرح أخيه ببعده عن عمله، واستقبل أول كشف له بعدما تناول كوب قهوته، فاستعد بابتسامته لاستقبال أول مريض، تلاشت ابتسامته تدريجيًا بعدما فتح الباب من أمامه، فردد بدهشة: بابا!

وقف ياسين الجارحي جانبًا شامحًا للحارس، بأن يمر من جواره حاملًا باقة من الورود، وضعها على المكتب وغادر على الفور، اقترب ياسين ثم سحب المقعد وجلس وهو يخبره: مبروك رجوعك يا دكتور عمر.
لحق به عمر، فجلس قبالته وهو يردد بفرحة: مش مصدق ان حضرتك جاي بنفسك تباركلي.
وانحنى ليقبل يده بامتنان: وجودك هنا شيء كبير ومهم بالنسبالي يا بابا.

ربت بحنان على رأسه ثم قال: الواجب مفيش عليه شكر يا عمر، كان لازم اكون موجود جنبك في يوم زي ده!
مش لوحدك اللي عليك واجبات يا ياسين، أنا كمان عليا واجبات ولا أيه؟

قالتها آية بعدما ولجت للداخل بجلبابها الأسود الرقيق، وكانت تحمل بين يدها باقة صغيرة من الورود، ومصحف صغير من نفس اللون، وضعته بأول درج من الخزانة ليكون قريبًا من يد ابنها، احتضنها عمر وقد غمره اليوم سرورًا لا يضاهي أحدٌ، فقال: أنا مش قادر أصدق انكم في مكتبي أخيرًا.
ابتسمت آية وربتت على كتفه: حبيبي ربنا يفرحك بخير الدنيا كله. احنا مش هنطول عليك عشان الناس اللي بره. وبليل ان شاء الله هشوفك.

نهض ياسين عن مقعده، ثم احنى يده فوضعتها بيده، همس لها بمكرٍ وهو يراقب عمر المتصنع لانشغاله بالهاتف: كويس انك جيتي. بقالنا كتير مخرجناش مع بعض. تحبي تروحي فين؟!
ضحكت وقالت وهي تراقب عمر بخجل: على النيل طبعًا.
غمز لهم عمر بمشاكسة: أيوه يا حاج واكلة معاك
استدار اليه بنظرة قاتمة، فابتلع ريقه بصعوبةٍ، فجذب البلطو الطبي الخاص به وتصنع انشغاله بارتدائه لحين مغادرتهما!

بالمقر الرئيسي لشركات الجارحي.
عاد أحمد وياسين للمكتب الخاص بعدي، لتوالي أمور المقر مثلما كان يفعلان، مضى أكثر من أربعة ساعات ومازالوا يعملون على ملفات الصفقات الاخيرة بعنايةٍ، حتى بعد مغادرة الشباب المقر، طرق الباب يد خافتة، جعلت أحمد يردد بانشغالٍ: ادخل.

ولج للداخل ونظراته متعلقة بمكتبه الخاص الذي رفض ياسين وأحمد الجلوس عليه، فنقلت مكاتبهم بمحاذاة الجانب الأيمن للغرفة، ابتسم عدي وهو يتابع انشغال كلا منهما حتى لم يهتم أحدٌ لمعرفة من القادم، اتجه عدي لمكتب ياسين القريب منه، فجذب المقعد وجلس قبالته يتأمله ببسمة هادئة، رفع ياسين عينيه عن الملف ليتأمله بدهشة اتبعت كلماته: عدي انت بتعمل أيه هنا؟!
أجابه بنفور: حسيت اني مش مرتاح. فقولت أجي أبص عليكم.

ترك أحمد الحاسوب وقال بدهشة: من أول يوم حنيت؟
واسترسل ساخرًا: ويا ترى بقا حنيت لينا ولا للمقر.
لم تتلاشى ابتسامته قط وهو يخبره: معرفش. يمكن ليكم انتوا الاتنين.
وجذب أحد الملفات الموضوعة من أمامه ثم اتجه لمكتبه ليتابع عمله، وكلاهما يتابعانه بصدمة!

ذاك المكان المحبب لقلبها، عاد يجمعهما من جديدٍ، يجلس أمامها بهيبته التي عشقت تفاصيلها، تأملته بحبٍ وقلب يعود لصباه عاشقًا، حتى وإن تملكها الشيب مازال حبها له شابًا حيويًا، منحها ابتسامة جذابة، فاستند بيده على يدها الموضوعة على الحجارة، وسأله بصوته الرخيم الجذاب: بتفكري في أيه؟

التقطت نفسًا مطولًا وهي تخبره: في اللي مرينا بيه الفترة الاخيرة، الحمد لله انه عدى وانزاح. متتصورش أنا كنت ببقى عاملة إزاي من أول ما عدي بيخرج لحد ما بيرجع بليل.
وشددت من ضم يده وهي تستطرد: كل ما قلقي كان بيزيد كنت بطمن بوجودك. مكنتش بسمح للخوف يحاوطني وأنت موجود جنبي يا ياسين.

تعمق بتطلعه إليها، فود لو تمكن من ضمها اليه لينزع عنها كل ذرة قلق داخلها: كل اللي مر في حياتنا يا آية كان مدبر من ربنا. اختبار ورا التاني وكنا صامدين لاننا مع بعض وهنفضل كده لحد أخر نفس خارج مني.
زوى حاجبيه باستغرابٍ، حينما وجدها شاردة عنه، نظراتها تكاد تنقلب لجحيم دامي، استدار ياسين تجاه ما تتطلع إليه، وعاد ليتأمله ببسمة ساخرة: كبرت على الغيرة دي. دول في عمر مليكة يا آية!

بعدت يدها عنه، ثم قالت بضيق: يا ريت هما اللي يخلوا عندهم دم، دول من ساعة ما قعدنا وهما عنيهم علينا.
ابتسم وهو يشاكسها: يمكن عاجبهم قعدتنا الرومانسية. عمومًا لو حابة نغير المكان أنا جاهز.
هزت رأسها بالنفي، فمنحها نظرة ثابتة مغزاها خبيث وخاصة حينما قال: بقولك أيه. أنا كنت حابب أصبغ شعري أهو على الأقل البنات دول يكون عندهم الجرءة يطلبوا رقم موبيلي!

منحته نظرة قاتلة جعلت ضحكاته تتمرد بالتتابع، فاستعادت اتزانها وقالت بعدم مبالاة: لو كنت واحدة قدرت تاخدك مني كانت عملتها من زمان. أنا جوه قلبك ومحدش هيقدر يخرجني منه بسهولة!
رفع يدها إليه، فطبع قبلة رقيقة على أصابعها وهو يهمس لها: محدش قدر يعملها ولا هيعملها!

اتسعت ابتسامتها وثقتها به وبعشقها تمرد على العوالم بأكملها، تلك الفتاة البسيطة التي تمرد قلب ياسين الجارحي لاجله، تحدثت عينيها إليه ونظراتها تتوزع بين أعين الفتيات الفضولية بتأمل ذاك الرجل الذي يحمل رومانسية ورقي تعامل مع زوجته بهذا العمر، تحدتهم نظراتها وكأنها تخاطبهم بتحدٍ
وإن سألك أحدٌ ماذا فعلت به؟
أخبرهم بأنني احتليت وطنك وبات قلبك لي أسيرًا، ومن أرادت قلبك عليها بمحاربتي أولًا لتفوز بك!

عاد عدي من المقر بصحبة أحمد وياسين، فصعد لجناحه الخاص، بحث عنها بعينيه فوجدها تجلس على الفراش بملامحٍ هادئة للغاية، جذب المقعد القريب منها، ثم اتجه ليضعه قبالتها، فابتسم وهو يسألها؛
أخدتي كفايتك من النوم؟
أومأت برأسها ومازالت رأسها منكس أرضًا، ويدها تلهو بغطاء الفراش بعشوائيةٍ، فقال بنبرةٍ تعمد أن يجعل كل حنان وحبًا إمتلكه اليها به: طيب ممكن أعرف مخبية وشك مني ومش حابة تبصلي ليه؟

ظلت كما هي تعجز حتى عن رفع رأسها، فاحتضنت يده يدها، ثم وضعهما على قدميها، طالبًا منها: طيب بصيلي طيب وعاتبيني في اللي عايزاه براحتك.
وخمن بعد طيلة صمتها: أنتي مترددة من حوار رجوعي للشغل يا رحمة؟
هزت رأسها بنفي، فأصابته بالتخبط والحيرة،
تدفقت دمعاتها تباعًا فلامست يده، فانتفض بجسده ليسرع تجاهها، فقال بلهفةٍ وهو يرفع رأسها اليه: رحمة؟!

تفاجئ بعينيها تملأها حمرة بكائها فبدت أشبه بالمتورمة، ضم خدها بيده وهو يسألها بقلقٍ: في أيه؟ صدقيني لو مش عايزاني أرجع مش هرجع أبدًا.
واقترب منها، فطبع قبلة على جبينها وهو يستطرد: قولتلك قبل كده أنا ميهمنيش غيرك!

عادت برأسها للأسفل مجددًا وجسدها ينتفض من البكاء، فشك أن هناك أمرًا أخر يفوق عودته للعمل، أجبرها مجددًا بالتطلع إليه حينما رفع عنها خصلات شعرها ثم رفع خدها اليه، ليسألها بخوفٍ: أيه اللي مزعلك بالشكل ده، اتكلمي؟

أزاحت دمعاتها عنها، ثم تحركت بجسدها تجاه الكومود، وعادت اليه بما تحمله، وضعته بين يديه، فوزع نظراتها بينها تارة وبين ما يحمله، عجز عن تحديد ذاك الشيء الصغير الذي يحمله، فكان بنهاية طرفة قطعة زرقاء بلاستكية، نزعها رائد عنه، فأسبل بعينيه بدهشةٍ حينما رأى خطين من اللون الأحمر بنهايته، استعاد معلوماته المتعلقة بهذا الشيء فانفرجت شفتيه بدهشةٍ لحقت سؤاله: ده أيه؟

اجتمعت علامات الذعر بحدقتيها، فقالت بخوفٍ مقبض: متعمدتش إن ده يحصل والله، أنا كنت بأخد الحبوب في مواعيدها!
حاول عقله اختصار فهم ما يحدث أمامه، فردد بعدم تصديق: انتي حامل؟!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة