قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أحفاد الجارحي ج5 (ترويض الشرس) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثاني والعشرون

رواية أحفاد الجارحي ج5 (ترويض الشرس) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثاني والعشرون

رواية أحفاد الجارحي ج5 (ترويض الشرس) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثاني والعشرون

(إهداء الفصل للقارئات الغاليات تقى أحمد، منة مصطفى، أسماء يونس، بسملة مصطفى، أمل خالد، شكرًا جزيلًا على دعمكم المتواصل لي، وبتمنى أكون دائمًا عند حسن ظنكم. بحبكم في الله، قراءة ممتعة ??).

الليل في ثلثه الأخير، ومازال الجميع بخصامٍ مع النومٍ، وكأنه عدوهم الغير مرحب به بذاك الوقت، الهموم تهرول من خلفهم فتجعل الراحة أخر مسعاهم، هبط عدي للأسفل حينما جفاه النوم دونها، اختار الجلوس أمام النافذة العملاقة، بالقاعة الرئيسية للقصر، مضى لدقائق قبل أن يشعر بخطواتٍ تقترب منه، وقبل أن يستدير ردد: لسه صاحي ليه؟

ابتسم عمر وهو يجذب أحد المقاعد ليصبح قريبًا منه: حسيت انك صاحي. روحتلك اوضتك ملقتكش فقولت أكيد هلاقيك تحت!
أجابه بضجرٍ يحاوطه: مجاليش نوم.
انتبهوا معًا لاحمد الذي دنا اليهم بالمقعد الخاص بالسفرة، فوضعه محاذاة لمقعد عمر وهو يردد بمزحٍ: الظاهر ان الموضوع جماعي. ياسين نازل ورايا.
اتبعه ياسين ومازن، فجلسوا جوار بعضهم البعض، فقال مازن ساخرًا: فين باقي الحزب؟
اجابه ياسين: يمكن نايمين.

اردف عدي باستهزاء: محدش فيهم هنا.
ضيق عمر عينيه بدهشةٍ: راحوا فين بالوقت ده؟!
اتاته الاجابة صريحة حينما صدح صوت السيارات بالخارج، ومن ثم خرجوا معًا واتجهوا للداخل، جلسوا جوار بعضهم على أريكة مطولة، يراقبون نظرات باقي الشباب بتذمرٍ، وخاصة حينما اخبرهم حازم بما حدث هناك، فردد أحمد بسخريةٍ: كنت فاكر إن حازم بس اللي مش بيفكر بعقل طلع في عدد يفرح ما شاء الله.

منحه معتز وجاسم ورائد نظرة ساخطة، فردد ياسين بضحكةٍ مشاكسة: هموت وأشوف منظركم قدام ياسين الجارحي كان عامل ازاي!
أضاف عمر ساخطًا: بتعيدوا المراهقة من تاني ولا أيه! المفروض اننا بنعقل انتوا فاهمينها بأي طريقة!
خرج رائد عن صمته بنفاذ صبر لما يستمع إليه، ما كان ينقصه شيئًا حتى يستمع لسخريتهم، فقال من بين اصطكاك أسنانه: اللي عنده كلمة يحتفظ بيها لنفسه، احنا مغلطناش ولا ارتكبنا ذنب!

رفع عدي احد حاجبيه ساخرًا: ولما تطلع على السلم في نصاص الليالي ده الصح يا عاقل!
انكس رأسه أرضًا بحرجٍ، فاستطرد عدي بحدةٍ: أنا قولتلك استنى للصبح أنا والشباب كنا هنروح معاك بس أنت اللي اتصرفت من دماغك!
فصل مازن بين الطرفين، حينما ردد بمللٍ: خلاص يا عدي. اللي حصل حصل. المهم دلوقتي هنعمل أيه؟
تساءل معتز بعدم فهم: في أيه يابو نسب؟

وضع الوسادة المطولة عن يده، ثم قال بضيقٍ يعتريه: أنا كنت راجع دبي أنا ومراتي أيه اللي رجعني هنا معرفش!
اتكأ جاسم للمقعد بأريحيةٍ، ثم قال ساخرًا: سفر أيه. خليك هنا مصر محتاجة لشباب في طيبة قلبك يا ميزو.
كبت أحمد ضحكة كادت بالانفلات منه، وقال بجدية مصطنعة: جاسم معاه حق يا مازن. سفر أيه اللي زعلان علشانه صدقني هنا أفضل من برة كتير.

قاطع حازم حديثهم حينما أتى من الخارج مسرعًا، ليخبرهم وهو يحاول التقاط أنفاسه: ياسين الجارحي وصل!
فور انتهائه من اخبارهم كان الجميع يهرول لاعلى، حتى ياسين وأحمد وعمر، الوقت بات متأخرًا وذاك أهم قانون بقاموس قواتين قصر ياسين الجارحي، فإن رأهم مستيقظين لذلك الوقت، باتت القاعة أكثر هدوئًا بمغادرة جميع من حوله، ومع ذلك لم يتبقى سواه، هو من قرر المواجهة في تلك اللحظة بعد ان كشف أبيه مساعدته لرائد.

كان بطريقه للصعود للأعلى، فتوقف عن استكمال طريقه حينما وجد عدي يجلس على الأريكة المقابلة للدرج، اتجه بخطواتٍ بطيئة حتى أصبح قبالته، فتساءل وعينيه تحاوطه بجمود، وبثباتٍ تساءل: مهربتش زيهم ليه!
ابتسامة صغيرة داعبت شفتيه، فاستقام بوقفته ثم دنا ليصبح قريبًا من أباه، ثم قال: وأهرب ليه. أنا معملتش شيء يخليني أهرب من مواجهة حضرتك!

رفع أحد حاجبيه بحركته المعتادة، فكشفت أهدابه الطويلة عن عسلية عينيه، فقال بصوته الحازم المعتاد على القاء أوامره: اطلع نام. كلها كام ساعة وهتنزل المقر.
والتفت ليغادر وسرعان ما توقف محله حينما قال الاخير: سبق وقولت لحضرتك اني مش هرجع المقر تاني، وأعتقد حضرتك اتقبلت ده!

ابتسامة غامضة تشكلت على طرفي شفتيه، فعاد ليجابهه من جديدٍ، وتلك المرة قال برزانةٍ: عمرك شوفت تلميذ مدخلش الاختبارات بعد مذاكرة ودراسة طول السنة؟
فشل بفهم مغزى حديثه، فاستطرد بمكرٍ: وأنت كذلك لو عايز تسيب المقر يبقى لازم تنجح في المناقصة اللي هيتعرض تفاصيلها بكره، وبدون ما تلجئ لمساعدة حد، وأظن إن المدة اللي قضيتها مع أحمد وياسين كفيلة تخليك تنجح، وقتها أوعدك أفكر في كلامك.

واستدار بجسده كليًا ليتجه للدرج وهو يردد: تصبح على خير.
تسلل خيوط الفجر مع اشراقة آذانه الهادئ الذي تسلل لأعماقه، لا يعلم لما ود أن تتحقق احدى امنياته التي فشل بتحقيقها في صغره، أسرع عدي خلف أبيه فمنعه من استكمال طريقه حينما ناداه: بابا.
توقف عن صعوده، والتفت إليه يطالعه باهتمامٍ، فقال بتردد بدى بثقل كلماته: الفجر أذن، في مسجد قريب من هنا لو تحب حضرتك نروح مع بعض.

ضيق عينيه وهو يراقب ما يحاول ابنه الغامض فعله، فهبط الدرجات المتبقية بينهما، ثم قال بهدوءٍ: المسجد اللي سبق ونمت فيه قبل كده. واضح انك بترتاح فيه وأنا حابب أصلي فيه.

وتركه مندهشًا واتجه للخارج، فتحرك عدي من خلفه ليتبعه بخطواتٍ سريعة، حتى أصبح على محاذاته فتبطئت خطاه، الهواء المنعش كان يلفحهما، والشوارع الخالية منحتهما السكينة، ربما قلة ما تشاهد ياسين الجارحي دون سيارته الفارهة، الآن يسير على قدميه جوار ابنه الذي يحارب ما بداخله من مشاعرٍ متصاربة، لا يعلم لماذا لا يستحضر غضبه وسخطه على ما فعله أبيه، وكأنه بات على ثقة بكل قرار يتخذه حتى وإن أراد ابداء غير ذلك، انحنى ياسين ليخلع عنه حذائه، فوضعه جانبًا جوار حذاء عدي الأبيض الذي يليق بزيه الرياضي، ثم ولجوا معًا للداخل، توضأ كلاهما وانضموا لصفوف المصلين، وأدوا فريضتهم خلف الأمام، وكأن الله عز وجل أرسل أراد أن يرشده بطريق ضالته، فأراد أن يشد على يده ليتمكن من رؤية ما فشل برؤيته، فقال بخشوعٍ يهز القلوب قبل المس بالابدان.

«وَقَضَى? رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ? إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا».

لا يعلم لما ادمعت عينيه خلسة وهو يشعر كلمات تلك الآية، لطالما كان بار بوالدته، ولكن أباه لا يعلم اجابته الصريحة على سؤاله، مجادلته وعناده الدائم جعله في موقف حيرة، لا يعلم إن كان ينطبق على أبيه نفس الذي ينطق على والدته، كل ما يعلمه بتلك اللحظة أن عقله انجرف عن طريقه الدائم، ربما نظرته لصغيره جعلته يفق لمعاملة أباه، فنظرته لابنه مماثلة لنظرة أبيه، ومن المؤكد هو مثله لا يرغب الا بالأفضل إليه، انتهى الامام من صلاته وهو يسلم يمينه ويساره ومن خلفه المصليين، وتشتت جمعهم بعدها، منهم من جلس جانبًا بصحبة القرآن الكريم يقرأ وارده قبل عودته لمنزله، ومنهم من غادر المسجد لمنزله، أما عدي فاعتدل بجلسته وقد نوى باريحية جلسته البقاء، وحينما شعر ياسين بذلك اعتدل لجواره هو الاخير، وفجأة اندهشت تعابيراته حينما وجد عدي يتمدد واضعًا رأسه على ساقه، تحير من تصرفه الشبيه للطفولي ومع ذلك جنى الخوف ثماره داخله، فمرر يده بحنان فوق خصلات شعره البنية، وما تعجب له حينما غفاه النوم سريعًا، ابتسم ياسين وهو يتأمله بشرودٍ، لم يسبق له يومًا الشعور بذاك الاحساس الدافئ، ابنه المشاكس يغفو على قدميه ببراءةٍ طفلًا صغيرًا مسالمًا، لا يسعى لخلق المشاكل بينهما، شعر وكأنه هو الذي يفتقد ذلك الشعور وليس ابنه، مرت أكثر من ثلاث ساعات ولم يحاول ياسين افاقته أبدًا، يده مازالت تعبث بخصلات شعره الثقيل، ويده الاخرى تراسل زوجته التي انتفضت فزعًا فور عدم رؤيتها له عند استيقاظها، عبث بعينيه بانزعاجٍ، ففتحهما ببطءٍ، برق بحدقتيه التي لمحت سجاد المسجد، فانقشعت غيمة التيهة حينما تذكر أخر احداثه، استقام عدي بجلسته وهو يتطلع لياسين بضيقٍ لحق نبرته: أنا آسف. أكيد حضرتك تعبت.

وبرر بحرجٍ: أنا معرفش راحت عليا نومة ازاي!
نظراته كانت تتلهف لمعرفة شيئًا يبعد كل البعد عما يشغل عدي بتلك اللحظة، فقال بإِكْتَرَاثٍ: عمرك ما عملتها حتى وأنت صغير، طمني انت كويس؟
هز رأسه ببسمةٍ صغيرة، وقال بهمسٍ شبه ساخر: حبيت أعوض اللي فات من طفولتي. ولا ياسين بس اللي مسموحله بده!
وبجديةٍ تامة ادهشت ياسين، تساءل: هو معقول حضرتك تكون بتحبه أكتر مني فعلًا!

اتسعت بسمة على معالمه الثابتة، فاعتدل بجلسته ليبدو قريبًا منه، عله يستمع لحديثه الهام: وتفتكر أنا بعز ابنك واولاد اخواتك ليه؟
ابتسامة بلهاء رسمها وهو يحك رقبته، فاستند ياسين على مرفقيه ثم انتصب بوقفته وهو يشير له ومازالت الابتسامة تداعب شفتيه: يلا نرجع القصر. آية قلقانه ومش جايلها نوم.

أومأ برأسه ولحق به، فتوقف ياسين عند باب الخروج، ثم دث يده بجيب جاكيته وأخرج من مبلغٍ، ثم وضعه بالصندوق المدون عليه كفالة اليتيم، وانحنى بالخارج يجذب حذائه، وفور انتهائه من ارتدائه، بحث حوله بغرابةٍ حينما لم يجد عدي يلحق به، فتطلع لداخل المسجد، ووجده يضع مبلغ من المال بنفس الصندوق، اتسعت ابتسامته وهمس بصوتٍ غير مسموع: لما كل ده ينتهي اوعدك يكون بينا تحديات تانية بس المستفاد منها اللي يستحق الصدقة والخير!

خرج عدي ثم شرع بارتدائه (الكوتشي الأبيض)، وما أن انتهى حتى خرجوا معًا للقصر، فصعد كلا منهما لجناحه الخاص.

اعتلت الشمس عرشها الذهبي بتألقٍ، وكأنها تزف بداية هذا اليوم الهام، اجتمع الشباب بأكملهم بالمقر، بالغرفة الرئيسية للاجتماعات بإنتظار ياسين الجارحي، مرت عليهم الدقائق بمللٍ، حتى فتح الباب الزجاجي عثمان الحارس الشخصي، ومن خلفه دخل ياسين بصحبة الفتيات، فاتجهن للجلوس على الجانب الأيمن لمقعده الرئيسي، وعلى يساره كان يجلس الشباب في حالة من الحيرة والتخبط لما يحدث هنا، رفع عدي عينيه بها فوجدها تتهرب من التطلع إليه، وكأنها لا تحتمل عتابه القاس، حتى آسيل كان لها النصيب الاكبر حينما وجدت أحمد يتجاهل وجودها رغم جلوسها قبالته!

وشروق فطالعته بقوةٍ والغضب يسيطر على حدقتيها باحترافٍ، أما نور فلوحت بيدها بسعادةٍ لعمر الذي ابتسم باستهزاءٍ عليها، أما رانيا فاحتقن وجهها بحمرةٍ غامضة وعلى ما بدى لرائد بأنها لا ترتاح بجلستها، افتقد ياسين لوجود مليكة، فحينما هاتفها بالصباح أخبرته بأنها مازالت لم تسترد عافيتها بعد لذا ستحظى ببعض الراحة لحين تعافيها الكامل.

خيم السكون عليهم والنظرات بأكملها تتجه للمقعد الرئيسي بترقبٍ لما سيخبرهم به، مزق صوته الحازم رداء الصمت العتيق، فقال بخشونةٍ: سبق وأخدت قرار بتدخل البنات بادارة المقر والشركات، واللي حصل انهم مخدوش الموضوع على محمل الجد، حاليًا الأمور اختلفت والمقر محتاج ليكم كلكم، عشان كده من النهاردة مفيش تهاون.

ووزع نظراته بين الطرفين وهو يستطرد بجدية تامة: الامبراطورية اللي سعينا ليها أنا وابائكم على المحك بسبب مناقصة كبيرة نظمتها أكتر من شركة غربية (أجنبية)، ومفيش قدامنا أي حلول تانية غير ان العرضين يكونوا لينا لان مينفعش حد تاني يشاركنا في المشروع المرتبط بالمناقصة دي.

وارتشف من كوب القهوة الموضوع من أمامه على مهلٍ، ثم تابع: فاكرنا أنا ويحيى كتير عشان كده لقينا ان الحل الأنسب يكون لينا شركة بلوجو مختلف، والشركة دي هيكونلها أكتر من فرع تابع للمقر بس خاص للبنات.
والتفت برأسه تجاه الشباب وبدأ باملاء أوامره: ياسين وأحمد اللي هيتولوا تدريب البنات وتجهيز العرض الخاص بيهم.

واتجهت نظراته للمحترف الثالث، ثم قال بغموضٍ: وأنت يا رائد حضر نفسك للسفر، الشركة طلبت تنفذ العرض بتاعك ولازم تكون هناك بنفسك.

اتسعت ابتسامة عدي وهو يلهو ذاته بتأمل حاسوبه، كانت خطة محترفة من أبيه لابعاد الأكثر خبرة من حوله، ليجعله عاجزًا، ليعتمد كليًا على ذاته، عساه لم يعلم عنه الكثير، لم يكن بالضعيف يومًا ليعتمد على أحدٌ من قبل، ولكنه كان بحاجة ليجمع خبرة تمكنه من قيادة المقر بحرفيةٍ تفوق أبيه، وها قد حان وقت الاختبار وله ذلك، هدوئه واتزانه أصاب الشباب بالتخبطٍ، توقعوا ثورته العارمة تجتاح قواعد ياسين الجارحي، ولكنهم زادوا دهشة حينما قال وهو يتفحص قائمة رجال الأعمال المشاركين بالمناقصة: مهاب أبو العزم مشارك!

تحرك مقعد ابيه الهزار تجاهه، فأكد له بحديثه الغير مباشر: المرادي مش هيخسر عرض واحد الاتنين!
منحه بسمة صغيرة، وحمل الحاسوب بذراعه الأيسر ثم اتجه للخروج وهو يردد: خسرهم من دلوقتي.
وترك القاعة وغادر لمكتبه بثقة وثبات سبب حالة من الحيرة للجميع، وعلى رأسهم عمر الذي بات لا يعلم ماذا يدور برأس أخيه!
أنهى ياسين اجتماعهم حينما قال: تقدروا تكملوا شغلكم.
وتابع للفتيات ثم قال: احمد وياسين هيكونوا معاكم متقلقوش.

اشار لأحمد الذي نهض عن مقعده وأشار لهن قائلًا: اتفضلوا معايا.
لحقوا به جميعهن وتبقى ياسين محله، التفت إليه أحمد وتساءل باستغرابٍ: مش جاي؟
اجابه بوجومٍ تغلل ليجعله حزينًا: هحصلكم.
أومأ برأسه بتفهمٍ، واستكمل طريقه للأعلى، فاختبأ رائد بالخارج، واستغل أن زوجته كانت الاخيرة بينهم فجذبها للرواق الطويل التابع لمكاتب الشباب.
بينما بداخل قاعة الاجتماعات.

راقب ياسين الجارحي نظراته المتوترة بتمعنٍ، فقرأ ما يتردد داخل حدقتيه قبل أن يتحدث لسانه، فخلع عنه جاكيته ثم القاه على طرف المقعد الجلدي، ومنحه اذن الحديث: عايز تقول أيه يا ياسين. سامعك.

ترك مقعده الاخير بين الصفوف، ودنا حتى جلس جوار عمه، لعق شفتيه بارتباكٍ وهو يبحث عن مدخل لائق بما يود قوله، واخيرًا استجمع شجاعته وقال: عمي أنا عارف إن حضرتك بتعمل كده مع عدي عشان يكون مسؤول وقادر إنه يتحمل مسؤولية المقر لوحده، وعارف كمان إن حضرتك عمرك ما فرضت على، حد فينا يكون موجود هنا احنا دخلنا من البداية الكليات اللي تخدمنا وتضيف للمقر وللشركات، زي ما عدي وعمر اختاروا اللي حابين يكونوا عليه. اللي بقوله ده لسبب اني أفهم حضرتك انك لو بتعمل كده عشان محدش فينا يبص لعدم مساعدتهم لينا بالمقر فأنا مش لاقي سبب مقنع لده لأن حضرتك اللي ربيتنا وعارف اننا مستحيل نكون بالشكل ده.

وانقطع لبرهةٍ ثم استكمل بحزنٍ: عمر مخنوق كل ما بيحاول يبان انه كويس بيفشل في ده. أما عدي فحضرتك بتحاول تكسر جناحته اللي اتعود يطير بيها. أرجوك يا عمي تعيد نظر في قرارك ده بلاش تجي عليهم عشانا احنا قابلين وراضين ووجود البنات معانا هيساعدنا كتير فمفيش داعي لوجودهم.
ورفع عينيه اليه وهو يردد بتوترٍ: سامحني لو تجاوزت حدودي مع حضرتك بالكلام، بس أنا خلصت ذمتي.

صمته أثار قلقه بشكلٍ كبيرٍ، وخاصة غموضه الغير مرهون، يفشل في فهم مغزى هذا الصمت إن كان تقبل للأمر أم غضبًا لما تفوه به، لمسة يد ياسين على يده هو من طمئنت قلبه، وخاصة حينما تابع ببسمةٍ هادئة تزيد وقاره وقارًا: أنت مورثتش من أبوك غير قلبه الطيب يا ياسين، بحس دايمًا بالسعادة لانك اختيار مليكة بنتي، ومتأكد ان ربنا بيحبها عشان كرمها بشخص زيك.

ونهض عن المقعد ثم جذب جاكيته، واتجه للخروج وهو يخبره: اطلع للبنات وخليك جنبهم. وخليك واثق اني دايمًا بختار الأفضل ليكم كلكم.
وتركه يراقب فراغه وغادر لسيارته على الفور، فانسحب ياسين للاعلى ليتابع ما كُلف به.

جذبها لتقف أمام عينيه، ونظراته الثاقبة تحيط وجهها، استندت على ذراعيه، وهي تتطلع اليه باستغرابٍ اتبع سؤالها: في أيه يا رائد؟
وبخوفٍ مصطنع، رددت: أنت هتتحول تاني ولا أيه!
رد عليها بعصبية بالغة: خليني أنا اللي أسالك فيكِ أيه؟ احنا مش اتصالحنا امبارح وكله تمام ومقضين الليل كله حب بالموبيل!

هزت رأسها تأكيدًا لما أحضره من دلائل قاطعة، فاسترسل بغضبٍ: أمال قاعدة مش على بعضك ليه وعمالة تبصيلي من فوق لتحت!
أخرجت ما كبتته بداخلها حينما اندفعت تبكي على صدره وهي تطرد ما بداخلها بانفعالٍ شديد: أنا هموت من الوجع، نور الله لا يسامحها ملبساني كعب أطول من حياتي وقال أيه لازم نبان اننا كسيدات أعمال راقين.
ابتسم رغمًا عنه ومع ذلك ساندها، فانهارت وهي تشير له على قدميها: الحقني يا رائد مش قادرة أقف.

انحنى تجاهها فحملها بين يديه، ثم اتجه لاقرب غرفة ففتح بابها، والاخيرة تصرخ بها: مكتوب عليها عمر الجارحي!
اجابها وهو يضعها على سطح المكتب بعدما أبعد الاوراق عنه: مش مهم. وريني.
انحنى على قدميه تجاهها، فرفع الصندل الذي ترتديه بصدمةٍ، ما يعرفه عن زوجته بأنها تمقت ارتداء الكعب المرتفع، ناهيك عن ذاك الارتفاع القاتل، حرره عنها وهو يعاتبها بضيقٍ: انتي لازم تسمعي كلامها يعني!

قالت وهي تتأوه ألمًا: انا كنت حابة أجرب الكعب العالي مع الجيب والجاكيت ده عشان أغريك وانتقم منك. بس اتريني انتقمت في نفسي.
قالت جملتها الاخيرة ببكاء جعله يضحك تلقائيًا، فاستقام بوقفته ثم ضمها اليه وهو يوسيها بطريقةٍ مضحكة: يا ستي أنا بني آدم بيتغري بالكعب الأرضي عادي جدًا، انتي بس اللي مضخمة الامور انتي ونور!

تعلقت به بشوقٍ لوجوده لجوارها، فضمها بحنانٍ، ومع فتح باب المكتب دفعته عنها بخجلٍ، صعق عمر مما رأه فرفع يده وعينيه تتحاشى التطلع تجاههما مبررًا موقفه الذي ظنه سخيفًا: أنا بعتذر الظاهر اني غلطت وفكرته مكتبي. خدوا راحتكم.
وخرج على الفور ثم أغلق الباب من خلفه، وعاد ليفتحه من جديدٍ وهو يردد بسخطٍ: لا ثواني أنا صح مش بهلوس. ده مكتبي فعلًا!

انزعج رائد لحالة الخجل المسيطرة على زوجته، فاراد تخفيف حدة ما تشعر به، فثار بغضبٍ: تعالى اتفضل شوف أخرة عمايل مراتك.
ابتلع ريقه الجاف بصعوبةٍ، فأشار له بتقززٍ دون سماع شكواه: أنا already متبري منها.
ثم دنا ليصبح قريبًا من رانيا التي مازالت تفرك بأصابع قدميها المتورمة، انكمشت ملامحه فزعًا، فتساءل بقلقٍ: ده من أيه؟

حمل رائد الحذاء الثقيل وقدمه لعمر الذي برق بعينيه بصدمةٍ، فشدد الاخير على اخباره: نور اجبرتها تلبسه. ولازم حالا تصلح غلطة مراتك وتعالجها.
لوى فمه بازدراء: هو انتوا ليه بتحسسوني اني ساحر!
وجذب ورقة من على سطح مكتبه، ثم جذب أحد الاقلام ودون مرهم طبي ثم قدمه لرائد وهو يشير له بضيق: ابعت حد يجبلها المرهم ده، ويفضل انك تروح بنفسك عشان تشتريلها حذاء طبي.

هز رأسه ثم وضع الورقة بجيب جاكيته الرمادي، وحملها بين يديه ثم اتجه للمصعد، وهي تصرخ به: نزلني هتفضحني قدام مين تاني!
ابتسم وهو يصعد بها للاعلى ويهمس بغمزة مكر: للبنات بس.
وولج بها للطابق المخصص للفتيات ثم وضعها بغرفة المكتب.

بالمكتب الخاص بالفتيات.
بدت هناك بعض المشاغبات باختيارهن للمكاتب وكأنهن ينتقون فساتين يرتدونها، ضغط أحمد ييده على مقدمة أنفه بانزعاجٍ لما يحدث أمام عينيه، فمال بجسده على الطاولة وأخذ يراقب ما يحدث بعدم استيعاب، تطورت الامور بينهن فقالت شروق بغضب: أنا عايزة المكتب اللي جنب الشباك بتنخنق أنا!
اجابتها نسرين بغضب يفوق حالتها: أنا مش عاجباكِ بالكورة اللي قدامك دي، أنا أكتر واحده محتاجة المكتب ده.

ردد أحمد ساخرًا: على أساس انكم قاعدين تحت الأرض ولا المكيف الله يرحمه ولا أيه مش فاهم!
طرق ياسين على الباب ثم استأذن بالدخول وهو يتساءل بغرابةٍ: في أيه؟
أشار له أحمد بنفاذ صبر لتلك المهمة الشاقة التي كلفوا بها: تعالى حل الخناق اللي من أولها ده. أنا حقيقي استسلمت!

كبت ياسين ضحكاته، واتخذ الوضع الحازم فقال بصلابة: احنا هنا جاين نشتغل مش نتخانق. وبعدين انتوا مترضوش ان الشباب يشمتوا فيكم من أول يوم شغل ولا أيه؟
وزعت الفتيات نظراتها لبعضهن البعض، وكأن حديثه أفاقهم لنقطة هامة أتت كل واحدة منهن لاجلها، لذا وبهدوء أدهش أحمد الذي بذل أقصى ما بوسعه انسحبت كل فتاة لاقرب مكتب إليها، برزت ابتسامة ياسين وهو يردد بإعجابٍ: هايل. كده نقدر نفهم بعض!

خلع ياسين جاكيته ثم حرر جرفاته، وثتى قميصه وكأنه على وشك الالتحاق بملحمة تاريخية، بينما اتجه أحمد لمكتبه الذي يترأس الغرفة مقابل مكتب ياسين بنهاية الغرفة، وعلى طرفي الغرفة صف من المكاتب الخاصة بالفتيات، كادت آسيل بأن تقتل من تجاهله الشديد اليها، وخاصة حينما قال ياسين: تلاته هيكونوا مع أحمد وتلاتة معايا.
قاطعه أحمد حينما استغل قرب المكاتب منه: نور وشروق ورانيا معايا. هما القريبن مني.

اخفى ياسين ضحكته وهو يراقب ملانح آسيل التي كادت بقتله حيًا، فحملت حاسوبها الوردي واتجهت لمكتب ياسين بكبرياء عجيب، اتبعتها نسرين وكذلك حملت رحمة جهازها ولحقت بهم، فتكون حلقات جماعية حول ياسين وأحمد، الذي بدأ كل منهما بشرح طبيعة العمل المطلوب منهما وما قد يساعدهن بانشاء خطة العرض، فكان عليهم استغلال العشرة أيام المتبقية بتدربيهم بالعمل على أكثر من ملف، ومراجعة ما تم اصداره سابقًا من شركات الجارحي، فجذبت كل فتاة حاسوبها وبدأت بتدقيق احد الملفات وطرح وجهة نظرها بالكتابة بالورقة البيضاء التي قدمها اليهن ياسين وأحمد، وجلسوا معًا ينتظرون ما سيقدمون، نهض ياسين عن مكتبه ثم اتجه لاحمد الذي يعبث بهاتفه متجاهلًا نظرات آسيل المحتقنة، فجلس على المكتب قبالته ثم قال بمشاكسةٍ: ملعوبة يا فنان.

أبعد أحمد هاتفه وهو يمنحه ابتسامة خبيثة، فاخفض صوته اليه: الغلطان يستحمل الخصام!
تعالت ضحكاته الرجولية، وقال بصعوبة بالحديث: اهدى عليها كفايا نور زمانها قايمة بالواجب وزيادة معاهم.
ابتسم ثم تلبس الجدية وهو يسأله بشكٍ: كنت عايز عمي في أيه؟
اخبره بضيقٍ: قولتله اللي واقف على لسانا كلنا. بس كالعادة مخدتش منه عقاد نافع.
بإستنكارٍ قال: المعروف عن ياسين الجارحي. لسه أول مرة تكتشفه ولا أيه؟!

علي رأيك. هروح أشوف عملوا أيه!
واعتدل بوقفته ثم اتجه ليرى ماذا فعلن، فاتجه لنسرين أولًا، فوجدها مازالت تراجع معلومات الملف، ثم اتجه لآسيل، فقدمت له وجهة نظرها المدونة على الورقة البيضاء، ضيق ياسين عينيه وتساءل بذهولٍ: الميزانية مالها؟
ردت عليه آسيل وعينيها تمسك بمن يتابعها خلسة: الميزانية اللي اتحطت للمشروع ده كانت مبالغ فيها، حسيت ان اللي جيه من وراه مش مغطي المصاريف اللي اتمول بيه المشروع.

ابتسم وهو يردد باطراءٍ: برافو عليكي يا آسيل. شكلك مش هتتعبيني.
ثم أشار لها على احد الملفات الموضوعة على طرف مكتب أحمد المسؤول عن الملفات بأكملها: خدي ملف من دول وخليه معاكي لما ترجعي البيت لان صعب تخلصيه هنا، الملفات دي اتقل من اللي رجعتيها وزي ما عملتي هنا هتعملي بالبيت، ورقة بيضة وتحللى المميزات والعيوب اللي نقدر نتخطاها بالمستقبل.

اكتفت باشارة صغيرة من رأسها، ثم اتجهت لمكتبه وقلبها يخفق بشدةٍ، تتمنى أن يمنحها نظرة واحدة، الأمر ليس هين بالنسبة اليها، اعتادت على ابتسامته التي تقابلها فور لقاء الأعين، تعذب قلبها وهي تراه يعمل على حاسوبه في صمتٍ تام، فسحبت أول ملف قبالتها وفي طريق عودتها فتحته لتتفحصه بفضولٍ، انتبهت آسيل لتوقيع كل ورقة كان تحوي على توقيع رائد الجارحي، هتيقنت بأن أولى المراحل هي مراجعة الملفات التي تمت عن طريق موظفي الشركات ذو المناصب الهامة، والمرحلة الثانية مراجعة عقود الصفقات التي تمت عن طريق المدراء، لاح على وجهه بسمة واسعة، فعادت سريعًا لمكتب احمد الذي أغلق الحاسوب وراقبها باستغرابٍ، احدثت حالة من الفوضى، فقامت بفتح الملفات بأكملها وهي تراقب التوقيع حتى وقع بيدها الصفقة التي تمت على يد زوجها أحمد الجارحي، الملف الذي حملته جعله يفهم الآن ما تفعله، فابتسم وهو يهمس لها بسخريةٍ: متحاوليش. مستحيل تطلعيلي غلطة في شغلي!

كونه تحدث إليها جعل قلبها يرقص على أوتار صوته التي ترأفت بحالتها، ومع ذلك قالت وهي تتصنع تحديه: هنشوف.
وتركته وعادت لمكتبها ونظراته تراقبها بشغفٍ.

شوقها اليه كان يمزق نياطها، يتوسل لها بأن تتشيع منه وتستغل تلك الدقائق التي جمعتهما معًا، ليت ما تنمناه يعود، تلك اللحظات التي لومت بها ذاتك على فعل كنت تود القيام به لن تعود مهما فعلت، وأكثر ما يقلقها هو صمته الغير معهود بالنسبة اليه، افاقت رحمة من حزنها العميق على صوت ياسين الذي يناديها للمرةٍ الثالثة: رحمة!

رمشت بعينيها عدة مرات وهي تنبه لوجوده، فرفع ياسين ورقتها الفارغة وهو يتساءل بذهولٍ: فين ملاحظاتك؟
تلألأت الدمعات بعينيها، فقالت بصوتها المحتقن للبكاء: أنا أسفة مرجعتش حاجة. لو ممكن يا ياسين تسمحلي أخد الملفين معايا وبكره بإذن الله هيكونوا جاهزين.
اعترض لما قالت وبرر قائلًا: بس كده هيبقى صعب أوي عليكي يا رحمة.
منحته ابتسامة فشلت باخفاء حزنها: هقدر بإذن الله.

لم يرد الضغط عليها أكثر من ذلك، خاصة وقد اتضحت له حالتها النفسية الغير مستقرة، فوافق على اقتراحها ثم سلمها الملفين.

حملت نور الورقة ثم اتجهت لمكتب أحمد، الذي قام بتفحص ما ابدته من ملاحظات نالت اعجابه، وخاصة رانيا التي ابهرته واخبرته بعنجهيةٍ: كنت بساعد رائد كتير بشغله واتعلمت منه كتير.
ابتسم وهو يراجع ما فعلته: باين بصراحه.
واسترسل وهو يتابع باقي الاوراق الخاصة بشروق: شروق انتي حقيقي مش محتاجة مرجعة ما شاء الله متقنة جدًا.

اجابته نور بسخط: طبعا لانها كانت بتشتغل هنا. يعني المفروض يا مستر تتوصى بيا لاجل الدرجات.
ضحك بصوته كله ثم قال مازحًا: عيوني يا نور. بص ركزي انتي بس وفكك من الاحزاب اللي بتشنيها ضدنا دي وصدقني ربنا هيباركلك والله.
منحته نظرة مغتاظة، فضحك وهو يسلمهم الملفات ثم سمح لهم هو الاخر بالذهاب، واتجه لمكتبه.

أغلق أحمد باب مكتبه من خلفه، فوجدها تلحق به، منحها نظرة ساخطة، ثم اتجه لمكتبه فصعدت فوق سطح المكتب مقابله ثم قالت بحزن: دي مقابلة تقابلني بيها.
أبعدها عنه ثم قال بجفاءٍ وخشونة: وعايزاني أقابلك ازاي وانتي سايبة البيت بدون إذن مني! قولتلك قبل كده بلاش تقللي مني ولا تستغلي حبي وطيبتي معاكي لانك هتشوفي مني الابشع مني!

ابتلعت ريقها بارتباكٍ من جحيم عينيه القاتم، ومع ذلك لم تيأس، لجئت لاخر طريقة تود بها استعطافه، فقالت بضيق: أنا مش جاية أتكلم مع زوجي. من فضلك انصرف وهاتلي صديق طفولتي المقرب اشكيله حالي.

رفع احد حاجبيه باستنكارٍ، فاقتربت بجسدها اليه وهي تردد بدلال: أنا محتاجه مساعدتك. جوزي زعلان مني وعايزة اشتريله هدية شيك كده، وبما انك راجل هتقدر تختارلي شيء قيم أصالحه بيه. لاني غلطت فيه جامد وكل اللي حواليا مغلطنيني حتى نور.
برق لعينيه للحظة، فردد بعدم تصديق: ناصفة النساء وكارهة رجال آل الجارحي ضدك!
هزت رأسها عدة مرات، فابتسم وهو يهز رأسه بعدم تصديق، ذمت شفتيها وهي تسترسل: ها قولي أصالحه ازاي.

أثنى اصبعه فاقتربت اليه تلبية لاشارته، فقال بخبث: قربي منه. وبوسيه. وقوليله وأنا أسفة. بسيطة.
جحظت عينيها صدمة، فقالت بغضب: أنت بقيت قليل الادب على فكرة وبتستغل الصداقة اللي بينا لصالحك كزوج!
وضع قدمًا فوق الاخرى بتعالي، وهو يشير لها: بالعكس أنا بحاول أساعدك لضعف موقفك.
تلاشت ابتسامتها وجلست فوق قدميه، ثم اختبأت باحضانه وهي تردد بصدقٍ نقلته له مشاعرها: أنا آسفة يا أحمد. حقك عليا.

ربت بحنان على ظهرها ومال برأسه على خصلات شعرها، فاستكانت بين ذراعيه بصمتٍ اطبق على كلاهما.

بمكتب عدي
مضت الساعات عليه ولم يشعر بمن حوله، صب تفكيره على العرض المبدئي الذي وضعه بنفسه، لم يشغل باله بأي شيئًا أخر سوى التفكير بهزيمة مهاب أبو العزم، كان عليه رد الصاع اليه مجددًا، وهو يعلم بأنه الخلاص له من ذاك العمل الغير محبب اليه، تسلل اليه طرقات باب مكتبه ومن بعدها ولج ياسين للداخل وهو يتساءل بحيرةٍ: مش مروح ولا أيه. الشباب مستانين تحت.
أشار له وهو يغلق حاسوبه: جاي.

ثم رفع هاتفه ليمرر اتصاله باحدهم، وهو يخبره: استنى أنت والرجالة هناك وأنا مسافة السكة وأكون عندك.
ضيق ياسين عينيه باستغراب، فساله باستفهامٍ: مين دول يا عدي!

نهض عن مقعده ثم جذب جاكيته، فعاونه ياسين على ارتدائه: دول حرس امني يا ياسين، أنا مش ضامن مهاب أبو العزم اللي كان ورا اللي حصل معايا أنا ورائد ولا لا، وبما إن البنات بقوا جزء من الشغل والصفقة فلازم نأمن ليهم حماية خاصة انهم بالوقت ده بعيد عن القصر!
قال بتعجبٍ: لو كلامك صح تفتكر إن عمي كان هيسيبه حي!
اشار له بتخبطٍ: مهو ده اللي مش فاهمه. بس بحاول اتصرف على الاساس ده
واسترسل وهو يتجه للخروج: يلا نتحرك.

صعق ياسين حينما علم من عثمان بما يخطط عدي لفعله، وخاصة بعد ان تلاقى تفاصيل المناقصة، ما خشاه وابعده عنه بكل قوته يقترب منه عدي بذاته مثلما يريد هذا الارعن، صدمته زادت اضعافًا حينما علم بأنه كلف احد رجاله بمعرفة كل شيء متعلق بمهاب ابو العزم، وانه يود اللقاء به باسرع وقت للتفاوض بينهم بامر هام!، فامره بضرورة التدخل ومنع ذلك الرجل من الوصول لشركة مهاب وبالفعل تمكن عثمان من ذلك وقد وصل لعدي خبر بما فعله ابيه!

اجتمعت الفتيات بالغرفة العلوية للمنزل، وكلا منهن تجلس أمام حاسوبها ومن أمامها أوراق الملف، اكتفت مليكة بمراقبتهم بصدمة وخوف من مصيرها، فهي لا تحبذ الخوض في تلك المشاقة، ولكنها سعيدة كونها ستكون برفقته، ولجت مروج للداخل، فوضعت صينينة السندوتشات والعصائر على الطاولةٍ ثم قالت بغرور: عشان تعرفوا بس اني بحبكم. ياريت متنسوش الواجب ده.
جذبت شروق احد الفطائر ثم قالت: انتي ومليكة اللي خلعتوا.

اجابتها بمرح: حبيبتي انا مالي بيكم. كلها كام يوم وهرجع انا وميزو دبي! انا بنفسي رفضت واقنعت عمي بصعوبة اني مش تبعكم.
رددت نسرين بسخط: نفدتي يا بت والله. بس مليكة كلها كام يوم وتشرف.
قالت رانيا بمزحٍ: لو تلاحظوا يا بنات مليكة كل ما تولد عيل عمي يصمم ينزلنا المقر المرة اللي فاتت نفدنا وكلنا اتلبخنا في الاولاد المرادي معتقدش عمي مصمم اننا يكونلنا مكان.

قالت نور بجدية: بصراحه شايفة انه معاه حق. انتوا مش مليتوا تشفوا نفسكم غير ستات بيوت. من حقنا يكون لينا طموحات واحلام نحققها ونسعى ليها.
اكدت مليكة عليها: فعلا يا نور معاكي حق. بس دي مسؤولية صعبة جنب مسؤولية الاولاد.

ردت عليها داليا قائلة: الست بطبعها بتستحمل اي حاجة يا مليكة، والاولاد عمر ما هيجي عليهم وقت تنتهي فيه مشاكلهم ولا وقت مش هيحتاجونا فيه لذا انا مع نور جدًا اننا لازم يكون لينا هدف نسعى له. على فكرة انا جاسم رفض اني اطلع معاكم النهاردة عشان كده فضلت عنده بالمكتب وعلمني حاجات كتيرة جدًا، بصراحه اتفاجئت بيه. هو مش بس زوج مثالي لا ذكي جدًا وعجبتني دماغه. حقيقي استفدت منه جدًا.

نور بملل: دخلنا في المحن اهو، البداية كانت حلوة وتحمس نهاية الكلام معجبتنيش.
ضحكوا جميعًا، فتخلت رحمة عن صمتها ثم قالت بغضب: ما تسيبي البت تحب في جوزها ايه مشكلتك معاها كمان!

كادت بأن تجيبها ولكن فجأة تخلل اليهم مسمع صوت قوي قادم من الاسفل، ارتعبن جميعًا وتسللن للاسفل لمعرفة ما يحدث، لم تكن الفتيات تمتلكن شجاعة تأهلهن للسيطرة على الأمر، وخاصة بأنهن من تركوا القصر وتمردن على أزواجهن، فقد خطط ياسين الجارحي جيدًا للبقاء بمنزل منعزل عن الشباب بعد أن وكلهم بالوقوف أمام الشباب بتلك الصفقة، فازدادت الامور ربكة بينهم، لذا قرروا بترك القصر والانعزال بذلك المنزل حتى تتم المحاربة بينهم على ألهبة من النيران، وها قد أتت لحظة ملأها الندم لاتخاذ مثل هذا القرار الأحمق، كسر الصمت المطبق بينهن أسفل منضدة الطعام المطولة صوت مليكة المرتجف وهي تهمس اليهن: تفتكروا ده حرامي!

ردت عليها آسيل برعبٍ: حرامي هيدخل يسرق أيه من بيت زي ده يا مليكة!
قالت شروق برهبةٍ: طب يعني الصوت ده مصدره ايه، مهو الناس اللي برة دي مش جايلنا زيارة يعني!
ابتلعت رانيا ريقها الجاف بصعوبة بالغة، وهي تطرح خيارًا اضافيًا من امامهن: تفتكروا الشباب يكونوا بينتقموا من اللي عملناه فيهم فبعتوا ناس تخلص مننا؟

أكدت نسرين الأمر: أنا مع رانيا، اكيد طبعا بعد ما قلينا معاهم واستقوينا بعمي ياسين حبوا يخلصوا مننا خالص.
قالت مروج بندم: انا مش عارفة ايه اللي خلاني اسمع كلامكم بس، طب انا لا ليا لا في شغلكم ولا لخططكم ايه اللي مشاني ورا كلام نور وخلاني اسيب بيتي وأولادي واجي هنا!
رددت شروق بخوفٍ: اخرتها موتة شريفة رحيمة وبنت ناس ومحترمة لينا وللي شار علينا الشورة المهببة دي.

صاحت داليا بغضبٍ سيطر عليها: كله من نصايح استاذة رحمة والمؤرخة نور اللي عملنا فيها جيمس بوند دي.
اجابتها نور بحدةٍ: تصدقوا انا غلطانه اني بعملكم كيان وقيمة قدامهم. دول لغوا شخصياتكم خالص، وبعد ما خليناكم تثبتوا نفسكم قدامهم تلومونا. ايه ذنبنا ان رجالتكم طلعوا قتالين قتلة؟
لكزتها رحمة بغضب: قطع لسانك عدي مستحيل يكون كده، هو بس واخد على خاطره مني بس متوصلش لدرجة انه يقتلني!

كزت مليكة على اسنانها بعصبية بالغة: ده وقت خناق. هتفرحوا يعني لما يلاقوا مكانا ويخلصوا علينا!
تهدلت معالمهم بيأس، فقالت رحمة بصوتٍ اشبه للبكاء: طب نعمل ايه دلوقتي، اتصل بعدي يجي يلحقنا هو خبير بالتعامل مع المجرمين وهيعرف يتصرف!
كادت آسيل بأن تدك عنقها وهي تصرخ بانفعال: بتسألينا نعمل ايه وانتي ووش الندامة دي السبب ده انا هطلع بروحكم النهاردة.

فصلت بينهن مليكة وهي تصيح بتريث: بس يا بت منك ليها، احترموا وجودي الله.
التفت نور اليهم لتشير لها بسخرية: انتي من اول وقعة كده عايزة تجري لاحضان سي عدي ما تنشفي كده امال.
اجابتها بنفس النبرة الساخرة: انشف! نور يا حبيبتي انتي ليه مش مقدرة اللي احنا فيه يا ماما. في مجرمين برة داخلين علينا باسلحة واحنا لوحدينا من غير راجل!
رمشت بعينيها بمللٍ: وفيها ايه احنا يعني منعرفش ندافع عن نفسنا!

قالت رانيا: نعم هندافع عن نفسنا ازاي يعني واحنا مستخبين زي الفار المبلول، لا احنا نتصل بيهم افضل انا مع حل رحمة.
اشارت لها بتفاؤل: بصي على النقطة الايجابية احنا مستخبين بالمطبخ حيث الاسلحة وما يلزم استخدامه من مسحات وحلل ومقشات واهمهم السكاكين!
اشارت لها نسرين بصدمة: سكاكين هي الحكاية هتوصل للدرجادي، لا انا على وش ولادة ابوس ايدك روحيني.

ربتت نور على كتفيها وهي تمنحها ابتسامة غريبة: خلاص هنديكي مقشة احسن. المهم تكوني مرتاحة للسلاح اللي هتحاربي بيه عشان تقدري تستهدفي اصابة صح.
ثم اتجهت نظراتها لهن لتبدأ بتوزيع المهام: وانتي يا شروق هنديكي الغطيان بتاعت الحلل، عايزكي تمسكي الراس كده بالغطا خبطة شمال وخبطة يمين بحيث يجيله ارتجاج بالمخ فهماني؟

جحظت عينيها في صدمةٍ، وقبل ان تستوعب ما تقول تسللت نور من أسفل المنضدة ثم بدأت رحلتها بالبحث بالمطبخ عما يمكن استخدامه، فناولت شروق اثنين من غطى الاوعية، ولنسرين ورانيا عصا استخراجتها من المقشات اليدوية، بينما قدمت لرحمة خبازة معجبات البيتزا الضخمة، ولمليكة منحتها وعاء يحمل خليط من توابل الشطة والفلفل الاسود، وهي تؤكد عليها استهداف الاعين، بينما منحت مروج ومليكة شوكات حادة وما يتوفر لديهم من سكاكين صغيرة الحجم، واستخدمت هي مفتاحًا خاص بالانابيب ثم وزعت نظراتها بينهن وهي تردد باعجاب: كده تمام، توكلنا على الله.

اوقفتها رحمة بصدمة: هو احنا اللي هنهجم كمان!
اشارت لها بتاكيد: طبعا امال نستنى لحد ما يخلصوا علينا!
اقتربت منها مليكة ثم قالت بارتباك: طب ما نكلم بابا أحسن.
صاحت بها بانفعال: ونقلق عمي ليه الله الراجل لسه راجع من المقر هلكان بعد ما سلمنا المهمة، نشده لجريمة هو بغنى عنها. احنا نخرج ونقولهم احنا تبع ياسين الجارحي على طول ونديهم درس مينسهوش.
ثم اتجهت ناحية الباب وهي تشير لهن، فاتبعوها للخارج.

خشى كبير الحرس من أن يكون أصابهن السوء، خاصة لعدم سماع أي صوت بالداخل، فاقتحم وهو ورجاله المنزل، انتهى بعض الرجال من البحث عنهم بالاعلى وحينما لم يجدوهم هبطوا لاستكمال البحث بالاسفل، فتسللت الفتيات بقيادة نور من خلفهم ثم رفعت نور ما تحمله وهي تصرخ قائلة: بينا يا بنات.

وهبطوا بما يحملوه فوق رؤؤسههم والاخرون بصدمة كبيرة لم يتمكن احدًا من الافاقة بما يحدث هنا وخاصة بمن يقفوا على الباب وصدمة ما يحدث لرجاله قد كممت الافواه، تأوه أحد من الرجال حينما لطخت عينيه بمزيج من الشطة الحارة فصاح بصراخ: عيني، الحقونا.
ضحكت الفتيات بثقة لما تمكنوا من احداثه، فقالت نور بغرور: بقوا انتوا سايبن الدنيا كلها وجايين عندنا برجليكم، ده احنا سيدات أعمال قويات، خد دي.

وقامت بلكمه بالمفتاح الحديدي، فصرخ نجدة برئيسه الذي يقف بالخارج مصدومًا: الحقنا يا عدي باشا. أبوس ايدك!
رددت رحمة بدهشة: وده يعرف عدي منين؟
قال أحد من الرجال بسرعة لينجو بحاله: عدي باشا وأحمد باشا وعمر باشا وياسين والله نعرفهم كلهم.
قالت رحمة بشك: يبقى انتوا استغليتوا اننا بعيد عنهم وجاين تنتقموا مننا، اكيد انتوا تبع الراجل اللي خطف مروج. اتوصوا بالرجالة يا بناااات...

انصاعت لها الفتيات وتحمسن حينما افتكت بهم ضرباتهم أو هكذا ظنوا فان شاء الرجال لابرحوهم ضربًا ولكنهم يخشون حتى مجرد مقاومتهم خوفًا من رئيسهم، فقطع تلك الفوضى صوت بات صادمًا للجميع اتاهم من خلفهم يردد: ما شاء الله. بقيتوا بلطجية كمان!

استدرت الفتيات للخلف فصعقوا حينما وجدوا الشباب من خلفهم، افواههم تكاد تصل للارض، فاقترب احمد من اسيل ثم جذب الشوكة التي تحملها وهو يردد بصدمة: دي ايه يا اسيل انتي هاجمه على طبق سلطة!
اضاف حازم ساخرا: المقشات لا يعلى عليها بس مش لحرب فيها اسلحة!
وردد ياسين بغيظٍ: ارمي يا حبيبتي خلة السنان اللي انتي ماسكها دي وتعالي جنبي هنا.

القت مليكة السكين الصغير عن يدها ثم أسرعت هي واسيل لتقفن خلف نور ورحمة التي كاد قلبها بالتوقف رعبًا، اشتعلت نظرات عدى غضبًا وصاح بمن جواره: ساعدوهم.
انصاع اليه جاسم ورائد فاسرعوا تجاه الرجال وكلا منهما يحاول ايقاف الاخر، فخطو ببطء خلفهم، وقف زعيمهم أمام عدي ثم قال بفزع: أنا نفذت اوامرك وجت هنا يا عدي باشا بس زي ما حضرتك شوفت اتبهدلنا انا ورجالتي.

اجابه وهو يحك مقدمة انفه بحرج: معلش يا صلاح انا هعوضك انت ورجالتك عن الهبل ده.
اخبره عمر الذي تمكن من السيطرة اخيرًا على صدمته: استنوني برة انا هعالج الجروح بنفسي.
هز راسه بوقار لهم ثم كاد بأن يلحق برجله ولكنه استدار تجاه الفتيات ثم تطلع لعدي قائلًا: دول مش عايزين حراسة ما شاء الله يحرسوا مديرية.

أسرعت نور تجاهه، فتراجع الرجل للخلف بخوف ولكنه وجدها تخبره بابتسامة واسعة: شكرا لشهادتك الغالية دي يابوصلاح خد بالك بقى من نفسك ومتعملهاش تاني وتدخل بيوت الناس من غير استأذان وخاصة لو كانوا ستات يكفيك شرهم وشر طريقك.
هز الرجل رأسه عدة مرات، ثم غادر على الفور بينما منحها عمر نظرة نارية ثم قال من بين اصطكاك اسنانه: عملت ايه في حياتي عشان ربنا يبتليني بيكي!

وأمسك بها من قبعة البيجامة التي ترتديها ثم هبط بجسدها للاسفل وهو يصيح: عملالي فيها زعيمة عصابة، بتضربي الرجالة يا نور!
قالت بخوف: هما دول رجالة دول كسر حرب!
فصل عدي بينهما وهو يصيح بشراسة: عمر ارجع مكانك.

استمع اليه وعاد ليقف محله، بينما خرج عدي عن زمام رزانته حينما اخشوشنت نبرته: ارموا لعب العيال اللي في ايديكم ده واتفضلوا غيروا هدومكم وحالا على العربية مفيش بيات هنا بعد النهاردة وشوفوا بقى مين اللي هيقدر يوقفني عن قراري ده.
أنا اللي هوقفك!

اتجهت جميع الأنظار تجاه الصوت الذي يعد مذبحة قابضة للشباب ونجاة للفتيات، فرمش عدي بعينيه عدة مرات وهو يحاول السيطرة على انفعالاته التي لن تجدي نفعًا أمام أبيه، بل قد تزيد الامور سوءٍ أمام شخصان يمتلكان نفس العناد، فبالنهاية لن يناطح أبيه، وبالتأكيد سيبدى رأيه ولكن باحترامٍ يستحقه من أمامه لذا اختار جيدًا ما أجابه به: وأنا أكيد هحترم كلام حضرتك بس اللي حصل هنا يخليني أخد قرار زي ده، فلنفترض أن في حد فعلًا اتهجم عليهم انهم يواجهوه تصرف صح!

نظرات صلبة متحجرة، لم تنخضع ابدًا لذلك المبرر الغير مقبول منه، فحرر لسانه لينقل عنه جزء من ثباته المعهود: لما تعلم رجالتك الأول تحترم البيت اللي دخلينه تعالى وحاسبني على تصرفاتهم.
وأشار ياسين بيديه على باب المنزل وقد علت نبرته لتصبح أكثر من ذي قبل: في باب يتخبط عليه أكتر من مرة لحد ما واحدة فيهم تفتحه. اللي حصل ده حسابه عندك وعند الكلب اللي دخل هنا.

ثم تابع بحدةٍ: أما بقى بالنسبة لقرارك بالرجوع فأنا مش هجبر بنت من بناتي انهم ينخضوا لقرار حد، كل واحدة عاقلة كفايا انها تقرر اللي هي عايزاه.
وأشار بيديه بغضبٍ قد سكن عسلية عينيه الساحرة: مش عايز أشوف حد فيكم هنا، وخليك مطمن أنا أعرف ازاي أحمى حرمة بيتي مش مستنيك تبعت الاغبية دول يحرسوا بيت من بيوت ياسين الجارحي.

يعلم بأن ما ارتكبه بحق أبيه كان خطًا ولكن مازال حتى تلك اللحظة يدفع ثمنه هو والشباب، انسحب الشباب بأكملهم للخارج خوفًا من أن تتطور الامور بينهم وبين ياسين وخاصة بأنه لن يمرر ما حدث هنا بسهولة، أما عدى فمنحها نظرة أخيرة تتوق لضمها إليه، فقلبه يئن لوعة لفراق عشقها، ثم كاد بالخروج خلف أبناء عمه ولكنه توقف والتفت تجاه أبيه الذي يقف بشموخٍ يضاهي الجبل الصامد بقرار اعتزاله رؤية العالم من حوله، فقال بحزن التمسه ياسين بلهجته: حتى لو أنا غلطت في اللي عملته فالشباب ملهمش ذنب يدفعوا تمن الغلطة دي معايا، أنا اللي أخدت القرار ده وأنا المسؤول عنه.

ثم اتجه للخروج فتوقف فور سماعه امره الصريح: مكانك.

استدار اليه عدي فوجده يدنو منه حتى أصبح قبالته، فتطلع اليه بنفس تلك الأعين التي ورثها عن أبيه، وترقب سماع ما سيقول، فاختلى ياسين بالصمت وكأنه ملكًا يتحكم به فمزقه حينما قاطعه قائلًا: الخسارة عمرها ما كانت فلوس وبس، لو فاكر أن غضبي وعقابي ليك دلوقتي سببه العرض تبقى متشبهنيش في شيء، كيان الجارحي مش بس مصدر قوته الفلوس والممتلكات، العلاقة اللي زرعناها بينكم تعبنا أوي عشان تكون بالقوة والترابط ده، ومساندة ولاد عمك ليك دلوقتي أكبر دليل على نجاحي باللي عملته طول السنين اللي فاتت والمفروض انك تكون مكاني بالنسبالهم.

ورفع اصبعه أمام وجهه وهو يستطرد بانفعالٍ: أنت بالذات مينفعش تغلط، لأنك مسؤول عنهم لو غلطت هتوقع الكل والخساير مش هتكون صفقات ولا فلوس الخساير هتبقى أكبر من كده. والمؤسف ان كل اللي بنيته انا ويحيى متوقف عليك وغلطة تاني زي دي هتهد كل اللي اتبنى، ويمكن المرادي أنا لحقت الموقف ومنعتك توصل للكلب ده وتتفاوض معاه بس الله أعلم المرة الجاية اذا كنت هقدر ولا لا.

ودنى منه قليلًا وهو يردد الكلمات ببطءٍ حذر: مش هسمحلك تغلط تاني يا عدي، حتى لو كانت قسوتي عليك هتكرهك فيا.
برر له قائلًا: مكنتش هتفاوض معاه. دي حجة عشان اقابله في حاجات كتيرة محتاج اعرفها. الشخص ده من وقت ما ظهر وفي حاجات كتيرة بتحصلي وللي حواليا!
توترت نظراته وقد غامت بغضب ساكن فصاح به: بطل تداري فشلك ورا تحقيقات الشرطة اللي ملهاش مكان وسط رجال الاعمال دي.
وبجمود استرسل: حصل ولاد عمك.

تعمق بالتطلع اليه قبل أن يلحق بهم للخارج، بينما استكمل ياسين خطواته الثقيلة للداخل ثم جذب أحد المقاعد ليجلس بمنتصف الردهة مقابل الفتيات التي تتشبثن ببعضهن البعض في توتر لحوار ياسين الصارم، فخشين أن يطالهم غضبه المخيف ولكنهم تفاجئوا حينما ارتسمت ابتسامة جذابة على طرفي شفتيه وهو يثني عليهما بصوته الرخيم العذب: أنا فخور بيكم!

القت الفتيات ما تحمله من اسلحة مضحكة واجتمعوا من حوله، فقالت مليكة: كنت واثقة ان حضرتك هتيجي.
ضمها اليه وهو يشير لها بحنان: أنا مقدرش اتخلى عنكم يا حبيبتي.
ثم اشار لهم بمزحٍ: انا طلبت اكل لينا كلنا، نتعشا مع بعض واطلعوا كملوا شغلكم مش عايزهم يشمتوا فيكم.

ضحكت الفتيات وبالفعل شاركهم ياسين العشاء ثم غادر للقصر مجددًا، فصعدت الفتيات باكملهن للاعلى للنوم بعد ان قضوا ساعات الليل بالعمل على الملفات، وتبقت رحمة بالاسفل تجمع الاطباق وتنظف المكان جيدًا بعد محاولتها للنوم الفاشلة، فقامت بتنظيف الردهة الرئيسية وفجأة استمعت لطرقات خافتة على باب المنزل، تطلعت للساعة الموضوعة على الحائط فوجدتها الثالثة صباحًا وقبل ان تتجه لتيقظ الفتيات استمعت لصوته يأتي من خلف الباب: رحمة أنا عدي افتحي!

ابتلعت ريقها بتوترٍ، فاتجهت لتحرر مقبض الباب، ولج عدي للداخل يتطلع لحدقتيها التي لا تفارق عينيه، اخفضت عينيها عنه وهي تردد بتوتر: رجعت تاني ليه يا عدي انت مسمعتش كلام عمي!
اخرجته عن هدوئه، فصرخ بها باندفاع: يعني انتِ اختارتي ياسين الجارحي وفضلتيه عليا يا رحمة!
ازدردت حلقها الجاف بصعوبة بالغة، وهي تحاول استجماع كل ذرة شجاعة امتلكتها يومًا، فقالت: مين قال كده!

قوس جاجبيه ساخرًا: اللي مخبياه عني ووجودكم بالبيت ده تسميه أيه!
رفعت عينيها اللامعة بالدمع، فصاحت بصوت مرتفع يفرغ ما بداخلها: سميه ثقة في قرار أخده والدي، أو اختيار الصح ليا وليك، التهور والاندفاع اللي انت فيه ده يا عدي اخرته صعبة.
جحظت عينيه صدمه، فجذبها اليه وهو يردد بعدم تصديق: انتي شايفاني كده يا رحمة!
هزت رأسها وهي تؤكد له: الكل شايفك كده.

شدد من ضغطه على راسغها وهو يردد بتصميم: اوكي، شوفيني زي ما تحبي بس أنا مش ماشي من هنا غير لما تقوليلي بتحاولي تداري عني أيه.

دفعته بعيدًا عنها وهي تفرغ ما بداخلها: كفايا بقى كفايا، انا مبقتش حمل نظراتك وكلامك. مبقتش قادرة ادافع عن نفسي قدامك. بقيت بكره ضعفي وبحاول ابرر لكل اللي حواليا انك أحن انسان عليا حتى بقيت ببرر لنفسي يا عدي، انا بقيت بكره تحكماتك وشخصيتك الصعبة، عشت عمري كله بخاف من ابن عمي اللي كان محاصرني من كل اتجاه وجيت انت وعملت نفس اللي بيعمله بس الفرق بينكم اني حبيتك. حبيتك وأنا بتمنى اتغير من جواليا بوجودك. نفسي استقوي بيك زي ما أي ست بالدنيا بتستقوى بجوزها. انا بخاف حتى من اني اتعشم في الامل ده.

وخرجت عن رزانتها حينما دفعت الزجاج المحاط بها، فتهشم واسقطت الطاولة وهي تصرخ بانهيار: كفايا حرام عليكم. انا بني آدمة ومن حقي اقول لا مش حابة اتكلم في شيء يخصني لانه ببساطة يخصني. مش عايزة اخاف من حد غير من اللي خلقني. مش عايزة اخاف منك ولا من غضبك الغريب.
ابعدها عدي عن الزجاج وهو يشير لها بصدمة: طب اهدي، هتتأذي باللي تعمليه ده!

كان يعلم بأنها تتعرض لبوادر ازمة نفسية حادة، ولم يتمكن من احتوائها زاد من الامر سوءًا وها قد يحصد ثمار عصبيته، ابعدته رحمة عنها وعادت لصراخها ببكاء يفطر القلوب: علاقة حبنا ملهاش مثيل. قصة غريبة مستحيل حد يصدقها، بس فيها عيب يخلي محدش يتمنى يعيشها. الخوف والرهبة اللي عايشاهم بسببك يا عدي.

وببطءٍ رددت: أنا بسببك بقيت أضعف من الاول، بقيت بخاف من خيالي. بخاف من صوت الباب بليل وانا لوحدي، يمكن بتطمن لوجودك بس لما بتغضب بحس انك بتكسر العالم اللي عيشتني جواه. انت شايف ان رائد متهور انا شايفاك ابشع منه، يمكن تكون اتغيرت بالفترة الاخيرة بس انا مش قادرة اشوفك غير بالصورة اللي اتعودت عليها.
ولكزته بقوة وهي تخبره: اطلع بره، اخرج بره!

ليت انحطام قلبه يصدر مثل تلك الاصوات التي نتجت عن الزجاج المكسور، اخرجت تلك الضعيفة كل ما كيت داخلها، وها هي تمضي على اول خطوات علاجها النفسي مثلما أراد ياسين، تمضي وقلبها يزداد ألمًا، استدار ليغادر فمضى بخطواتٍ ثقيلة حتى وصل لسيارته، القى بثقل جسده على الدركسون، احتضن وجهه لقليلٍ من الوقت عله يتمكن من معافرة كل ما يناطحه، جسده لم يعد بحاجة لاستقبال المزيد من الجروح، جرحه بات نفسي وجسدي، حرك عدي مفتاح سيارته ليتحرك بها عائدًا للقصر، فتفاجئ بها تقف أمام سيارته باكية بصوت صاخب، فاتكأت على مقدمة سيارته وارتمى جسدها منه للارض ولسانها يردد جملة واحدة: متمشيش!

أسرع خارج سيارته، ليحملها عن الارض بفزعٍ، فوجدها تفقد وعيها تدريجيًا وكلماتها تعيد على مسمعه من جديدٍ: متمشيش!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة