قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أحفاد الجارحي ج5 (ترويض الشرس) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثالث والعشرون

رواية أحفاد الجارحي ج5 (ترويض الشرس) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثالث والعشرون

رواية أحفاد الجارحي ج5 (ترويض الشرس) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثالث والعشرون

أسند رأسها بين يده، وهو يراقب انغلاق جفن عينيها ببطءٍ، ولسانها يردد دون توقف: متمشيش، عدي!

تثاقلت رأسها على ذراعه، فاحنى يده أسفل ساقيها، وحملها اليه، عاد بها للداخل، فشمل المنزل بنظرةٍ خاطفة، خشى الصعود للأعلى فيجرح خصوصية الفتيات خاصة بعدم معرفته بأي الغرف تنتمي، لذا فضل البقاء بالأسفل، فولج لاحد الغرف الجانبية المخصصة لاستقبال الضيوف، كانت تشمل عددًا من الأرائك المريحة، فاختيار ياسين للمنزل كان غريبًا للغاية، المنزل كان بسيطًا لا يتسم بمظاهر الثراء، تحيط به الحقول من جميع الاتجاهات، وبعيدًا عن المارة، اختياره كان الامثل ليحفظ سلامتهم وربما هذا ما زرع الشك بداخل عدي، لذا اتخذ قرارًا متهورًا هكذا، أبعد عدي الوسادات الصغيرة، ووضعها بحرصٍ عليها، ثم عاد لسيارته مجددًا، فبحث بالدرج المجوف لها عن حقيبته السوداء الصغيرة، فتحها وعبث بما تحتويه من مشط صغير وغيرها من ادوات خاصة به، فجذب زجاجة عطره الصغيرة، ثم عاد اليها مجددًا، اسندها عدي اليه ثم قرب يده الممتلئة بالبرفيوم اليها، تسلل اليها دفءٍ اجتاز مغارتها، كانت تركض وهي تسعى لايجاد طريق للخروج من تلك المتاهة، حتى اهتدت به وإليه، تمسكت بذاك الطيف بكل ما اتت به من قوةٍ، حتى أخرج بها مما خاضته، ففتحت جفنيها الثقيل لتقاوم نوبة نومها بوقتها الغريب هذا، وجدته يضمها اليه، فاستدارت لتقابله وهي تردد بتوترٍ: عدي.

منحها نظرة نجح باخفاء حزنه فيها، فرددت بصوتها الشاحب: أنا أسفة. معرفش أنا قولت كده إزاي!
ملامحه الصامته لم توحي لها بالكثير، ومع ذلك حاولت ان تعلم ما الذي يضمره لها، اعتدلت بجلستها حتى باتت قبالته، تتمعن به وتترقب أي رد فعل قد يصدؤ عنه، تحرر لسانه الثقيل حينما تساءل بألمٍ: إنتي شايفاني كده يا رحمة!

عاد الخوف يتدفق اليها من جديدٍ، فازداد ألمه ضعفين وهو يراها تشير له بالنفي، قرب يده منها ثم ضمها اليه، احاطها بذراعيه فاخرجت ما بداخلها من بكاءٍ حرق قلبه قبل أن تصل دمعاتها لقميصه الأسود، فرددت بصعوبة: أنت اللي بتحسس اللي حواليك بشخصية مش شبهك. محدش قادر يكون فكرته عن شخصيتك بسبب تصرفاتك!

تدفقت دمعاتها الصامتة وقلبها يعاكس ذاك السكون، يصرخ داخلها علها تفيض بالمزيد، إن تراجعت الآن ستخسر ما خاضته من البدايةٍ، فقالت بترددٍ: انا مش عايزاك تكون غامض ومش مفهوم يا عدي، عايزة اقدر افهمك وأفهم ايه اللي ممكن تعمله واللي يخليني اقف وأقول انك متعملش كده بكل ثقة، لو فكرت في كلامي هتلاقي ان اللي حواليك دايمًا بيفهموك غلط لانك مش قادر تبني ليهم انطباع خاص عنك.

فتح أزرر قميصه حينما شعر بالاختناقٍ يهاجمه، فتابعت قائلة: أنا يتيمة وماليش حد، بعتبرك الورث الوحيد ليا في الدنيا دي، انت وعيلتك، ربنا رزقني بأب عظيم عوضني عن حرمان الاب اللي فقدته وانا عندي 18سنة، صدقني انا لو ابويا موجود لحد النهاردة مش هيعمل اللي عمي ياسين بيعمله معايا.

وانهارت بالبكاء وهي تسترسل: هو الوحيد اللي فهم الحالة اللي انا فيها، اخدني لدكتورة نفسية قعدت معايا وبعد كده طلبت انها تكون معاه لوحدهم، معرفش قالتله ايه بس اللي واثقة منه ان وجودي هنا وشغلي في المقر هما جزء من علاجي!
رفعت جفنها لتتطلع اليه، وعاتبته بحزنٍ: اللي انت عايز تعرفه مش هقدر اقولهولك لأنه ائتمني عليه، مقدرش أخون الامانة دي وبالذات بعد ما وصفتلك اللي بحسه نحيته!

احاط خدها الأيمن بلمسة يده الحنونة، وقربها اليه ثم قال بصوتٍ عذب طبطب على خوفها وحالتها الغير مستقرة: مش عايز أعرف حاجة، كل اللي عايزك تعرفيه ان مفيش في الدنيا شيء يهمني غيرك انتي.
واستكمل بدمعة لمعت بعسلية عيناه: لو انا مكنتش الزوج المثالي ليكي بعد كل الوعود اللي ادتهلك فالغلط من عندي انا.

بسمة صغيرة احاطتها، وباستنكارٍ تساءلت: تفتكر انا وصلت للدرجة المجنونة دي في حبك ليه! اكيد لانك أعظم راجل أنا حبيته، كفايا انك ابن ياسين الجارحي!
اتسعت حدقتيه على وسعهما، فردد وهو يتمادى بالضحك: بصراحة انا شايفه سبب مقنع!

كزت على لسانها بأسنانها، وحينما وجدته يضحك شاركته الضحك، ضمها عدي اليه ثم جذب احد الاغطية الموضوعة جانبًا، فاحاطها به جيدًا، اتكأت برأسها على صدره حتى غفت تمامًا، بينما ظل هو مستيقظًا، تسجيلاته تمر ببطءٍ، فتريه ملخص سريع لعلاقته بعائلته، ما أخبرته به كان صائبًا للغاية، ربما لذلك يبذل أباه كل ذلك المجهود المفرط ليبدل عقيدته، وربما ما حدث بينه وبين رائد ومعتز كان لذلك، انغمس برحلة لم تكن هينة قط، حتى تسلل ضوء الشمس النافذ من الشرفة فغمرتها بضوئها، وبحذرٍ شديد نهض عدي عنها، ثم اعاد طرح الغطاء الخفيف عليها، ومن ثم منحها نظرة أخيرة قبل ان يجذب مفاتيح السيارة ويغادر سريعًا خشية من أن تهبط الفتيات للأسفل دون علمهن بوجوده بالأسفل، عل أحداهن لم تكن ترتدي ثيابًا مناسبة.

صف عدي سيارته بالأسفل، ثم اتجه لجناحه الخاص، فما أن ولج للداخل حتى وجد عمر يغفو على المقعد الجانبي للصالون الخاص به، عقد حاجبه بدهشةٍ، فهزه وهو يناديه بذهولٍ: عمر!
فتح عينيه بانزعاجٍ، فانتصب بوقفته بعيدًا عن المقعد، وهو يردد بنومٍ: رجعت أخيرًا. أنا بستناك من بدري.
جلس على الاريكة المقابلة له وهو يتساءل باستغراب: مستنيني أنا ليه؟

احتل مقعده من جديدٍ، ثم قال بتريثٍ والضيق يضجر معالمه: كنت عايز أعرف عملت أيه مع بابا وليه اتاخرت لحد دلوقتي.
منحه نظرة ساخرة قبل أن يخبره: هو ياسين الجارحي بيتعمل معاه حاجة يا عمر!
ترنحت منه ضحكة كانت مسموعة لمن تبدل نظراته للصرامة، فأشار له الاخير بحزمٍ: الحمد لله ان المعلومة دي أخيرًا وصلتلك.
ونهض عن مقعده وهو يخبره بابتسامةٍ واسعة: كده أنا اتطمنت عليك أروح أنام بقى.

راقبه بأعينٍ متسعة، لا تصدق البرود الذي أحاطه فجأة، فرفع ساعته يتفحص الوقت، فوجدها السادسة صباحًا، جذب عدي حاسوبه الخاص ثم عاد ليستكمل عمله على ملفه الخاص، عله يحصل على الخلاص من العمل بالمقر مثلما قال أبيه!

بالوكر الخاص بالأفعى الخبيثة.
زرع طلب عدي برؤيته لمهاب خوفًا وقلقًا عظيمًا، فنفث دخان سيجاره بشراسةٍ وهو يستمع لحديث فؤاد بعنايةٍ، انهاه حينما أشار له بانفعالٍ: لا معتقدش انه عايز يتفاوض معايا زي ما قال، عدي الجارحي مش سهل ولا ضعيف انه يستسلم بالسهولة دي، أكيد وراه شيء أكبر من كده الا لو كان كشفني وعرف انا مين!

ارتعب من يستمع اليه، وتلقائيًا تساءل: طب والحل يا باشا. هندور على طريقة نخلص منه تاني.
نفى اقتراحه بتشددٍ: لا طبعًا مستحيل اخلص منه بالبساطة دي، كل اللي بفكر فيه اكسب المناقصة دي ووقتها هتنفذ اللي انا قولتلك عليه.
واسترسل بوجومٍ: ولحد ما ده يحصل لازم نتلاشى أي غلطة ممكن يمسكها علينا هو أو أبوه لحد ما أفوقلهم!

ملأت رانيا وشروق الطاولة المستديرة بالطعام والشاي الساخن، فجلست الفتيات يتناولن طعام الافطار قبل الاستعداد للذهاب للمقر، لاحظت نور ملامح رحمة الباهتة، فحاولت مرارًا معرفة ما أصابها، وكل ما تخبره به بأنها على ما يرام فقط لم تحظو بالنوم المثالي، وحينما فرغن من تناول الطعام تحركن للمقر على الفور.

استعد الشباب للذهاب للمقر، وتبقى عدي بغرفته يعمل على حاسوبه بانجذاب، جعله يتناسى ساعته المحددة، وحينما انتهى اغلق الحاسوب واسترخي بجلسته وهو يفرد ظهره بوجعٍ، فرفع ساعده ليتفاجئ بتأخره الملحوظ، ولج سريعًا لحمام غرفته، فابدل ثيابه ليستعد للهبوط، كان بطريقه لسيارته حينما لمح عمر يسرع من خلفه، فتساءل بدهشةٍ: أنت لسه هنا ليه!

رفع احد حاجبيه بسخطٍ: وأنت يعني رايح أول الناس! ثم اني مش رايح دلوقتي في مشوار مهم كده هقضيه على السريع.
تجعد جبين عدي وتساءل باستفهامٍ: ليه رايح فين؟
ارتدى نظارته السوداء بعنجهيةٍ وهو يشير له بتعالي: لما أجي هتعرف، عن إذنك.
وتركه مشدوهًا وغادر، فاستقل عدى سيارته وتحرك للمقر.

بالمقر.
اجتمع الشباب بالطابق العلوي المخصص للفتيات، وما أن وصلت الفتيات حتى ردد جاسم بسخرية: العصابة وصلت.
اتجهت نظرات الجميع لهن، فنشبت حرب شرسة بين كلا الطرفين، وخاصة حينما قال معتز بسخطٍ: المرة الجاية مش هتبقى خناقة بالمقشات واللذي منه، هتبقى حرب أسلحة!
تعالت الضحكات بينهم، فاضاف حازم: ولسه في مواهب متدكنة تقريبًا ياسين الجارحي اللي بيساعدهم على خروجها.

اتجهت كل فتاة لمكتبها بصمتٍ تام، مما دفعهم للتمادي، فقال رائد باستهزاءٍ: الهدوء القاتل ده مش لايق عليكم، شكلكم بتخططوا لكارثة جديدة مش مستريح بصراحة!
خرجت نور عن طور هدوئها: هو في أيه يا أستاذ منك له، أنتوا فاكرين سكوتنا ده ضعف لا ثواني كده.

ورفعت سماعة الهاتف ثم استدارت تجاه ياسين الجالس جوار أحمد يراقبان ما يحدث بصمتٍ تام، وتساءلت: رقم ياسين الجارحي كام يا ياسين، خليه يجي يشوف اللي بيحصل هنا بنفسه.
اسرع حازم تجاهها، فأغلق سماعة الهاتف وهو يردد بخوفٍ: الطيب أحسن يام عدي.
لاح على وجهها بسمة عريضة، وبغرورٍ قالت: أيوه كده اتعدلوا. احنا مش لوحدنا على فكرة. صح يا بنات؟
اجابوا معًا: صح.

اتجهت نظرة كل شاب لزوجته، فحملت توعد ووعيد، فأصبهن وابل من الفزع لما هو قادم، نهض أحمد عن مكتبه ثم قال بضجرٍ: لو خلصتم المهزلة دي كل واحد يروح يشوف شغله. احنا مش فاضين للعب العيال ده!

فور انتهاء جملته غادر الشباب الطابق بأكمله، واستعد أحمد وياسين لاعادة طرح ما يفيدهن بالعمل المبدئي قبب الاستعداد للعرض، استغلت آسيل انشغال ياسين مع داليا وانسحبت تجاه أحمد، وضعت الملف من امامه ثم قالت بصوتٍ منخفض: احمد عشان خاطري ساعدني أطلع عيب واحد. شكلي هيبقى أيه قدام ياسين أنا طول النهار براجع فيه ودماغي حرفيًا قفلت.

ضحك حتى ظهرت غمزات وجهه، وقال مستنكرًا: سبق وقوللك مش هتلاقي. أنتي اللي صممتي تاخدي ملفي!
ذمت شفتيها بضيقٍ اتبع تعصب نبرتها: يعني أيه هتتخلى عني!
ضحك وهو يخبرها: عمرك شوفتي شخص بيقدر يطلع عيوب في شغله. لو حابة استعيني بمساعدة اخوكي يمكن يفيدك!
وجدتها فكرة ليست سيئة، فاخرجت هاتفها ثم التقطت صور للملف بأكمله، وارسلتها لجاسم، فتفاجئت به يجيبها
«خلي الليدر بتاعتكم تساعدك ??»
أرسلت اليه.

«هتتخلى عن أختك الوحيدة يا جاسم ??»
رد عليها
«وعن أبويا نفسه لو اتحالف مع نور يا حياتي ??»
القت هاتفها بغضبٍ أصبح بدرجة خطيرة فور رؤيتها ابتسامة شماتة تتسع على شفتيه، كزت على أسنانه بغيظٍ، فالتقت الملف وأسرعت تجاه مكتب ياسين وهي تناديه بحنقٍ: ياسين.

رفع رأسه مسرعًا اليها، فالقت الملف من أمامه وهي تخرج ما قد يجعلها بالأمس مترددة من قوله الآن: معرفتش أطلع عيوب في الملف ومش مضطرة اتزلل لحد يساعدني!
سألها بملامح جادة: هل أنا رفضت مساعدتك؟
أشارت له بالنفي، فقال باستهزاءٍ: يبقى براحة طيب اتخضيت من الداخلة!

جذبت أحد المقاعد ثم جلست على بعدٍ منه تستمع ما يخبرها به للايقاع بأي عرضًا يقدم لها حتى وإن كان احترافي مثل زوجها، ومن ثم منحها ملفًا أخر، لتطبق درس اليوم مثل الفتيات، ولم يتبقى إليه سوى رحمة، لاحظ ياسين ارتباكها أمامه، واجتهادها للحديث، فقالت بحرجٍ: أنا ماليش عين حتى أعتذرلك يا ياسين، حاولت والله بس مقدرتش.

ابتسم وهو يردد بمرحٍ: انتي شكلك ناوية على طردي من المقر يا رحمة، ياسين الجارحي مش هيعجبه الحال ده.
واسترسل بهمسٍ ساخر: أنتي بالذات عليكي توصية زيادة!
رسمت بسمة باهتة، وحانت منها التفاته جانبية تراقب من حولها انشغال الفتيات بالعمل، وعادت تتطلع اليه وهي تجاهد لاخبره ما تود، فقالت بتوتر: ياسين أنا كنت عايزة أسالك عن حاجه وأتمنى انك تساعدني.
اعتدل بجلسته وهو يجيبها باهتمامٍ: لو أقدر مش هتأخر أكيد!

كان عليها فهم اللغز الغامض الذي فشلت بفهم مغزاه، فقالت بارتباكٍ جعل حديثها غير مرتب: امبارح عمي كان زعلان من عدي جدًا، وكانوا بيتكلموا عن تفاوض عمله عدي وده اللي خلى عمي متعصب. أنا مش فاهمه يعني أيه تفاوض وهيتفاوض مع مين وليه!

استمع اليها بحرصٍ، وقد بدأت الخيوط تتصل ببعضها حتى تكونت فكرته الكاملة عما حدث بالتحديد، فقال برزانةٍ: بصي يا رحمة، التفاوض ده بيتم بين رجال الأعمال، بيكون بمبدأ تنازل وتعويض بمعنى لما تكون في مناقصة هتفيد حد من الطرفين أكتر من الطرف التاني بيطلب منه ينسحب منها مقابل شيء بيتفقوا عليه، في رجال أعمال ممكن تنسحب من المناقصة مقابل مبلغ محترم وفي اللي بينسحب وعنده اليقين بالرد والتعويض في مناقصة تانية تجبر اللي انسحب عشان ينسحب هو كمان.

واسترسل موضحًا اهم نقاط هذا العرض الغير محبب: بس المبدأ نفسه مرفوض عند كبار رجال الأعمال وبالأخص شركاتنا لانها تعتبر في عيون الخصم ضعف وعدم ثقة انك قادر تواجهه!
رددت بعدم استيعاب: طب ليه عدي يعمل كده مع مهاب ده، ليه يطلب منه ينسحب ويعرض مكانة المقر لشيء زي ده!

أجابها بملامح بدت أكثر حزنًا: أنا فاهم عدي كويس، عدي مطالبش يشوف مهاب عشان يتفاوض معاها، عدي شاكك انه ورا الحادثة اللي حصلتله واختفائه الغريب مأكدله ده، واللي ميعرفوش ان عمي فاهم دماغه ومش عايزه يوصل للنقطة دي، من الأخر اللي حسيته من طريقة عمي انه مش عايز يخلي عدي يكون عداوة ليها في المجال ده.
كانت تعلم السبب الحقيقي وراء ما يفعله ياسين الجارحي، لذا لجئت للصمت والشرود فيما هو قادم!

بالمكتب الرئيسي لمقر شركات الجارحي.
كان يجلس ياسين على مقعده باسترخاءٍ، حينما استمع لطرقات باب مكتبه، فسمح للطارق بالدخول، فتح الباب وولج للداخل بخطوتٍ متهدجة ربما أقرب للثقة بقراره تلك المرة، جذب المقعد المقابل لابيه ثم وضع من امامه الحاسوب، عقد حاجبيه وهو يتابعه بريبةٍ، يحاول دراسة تعابيره ليستكشف ماذا هناك؟

فتح عدي الحاسوب، ثم قربه من أبيه وأشار له بهدوءٍ غريب: كنت حابب أخد رأي حضرتك في العرض اللي حضرته.
رمش بعينيه وإن كانت حركة جسده ثابتة، فسحب عينيه لشاشة الحاسوب، ليتتقل من صفحة للاخرى وملامحه يكسوها الانبهار، تابعه عدي ببعض القلق، وخاصة حينما انتقل بعينيه اليه، وبثباتٍ قال: اعتبر إن أول صفقة هتكون لينا بالعرض ده.

ابتسامة صافية رسمت على وجهه، فمنحه ياسين بسمة هادئة، ومن ثم أغلق الحاسوب وهو يخبره بغموضٍ: العرض كفيل يهزم مهاب وعشرة زيه، فياريت متلجئش للمقايضة دي تاني.
كاد بأن يجيبه فقاطعه بحزم لينهي ما خلق داخله: مش مهاب اللي ورا اللي حصل معاك يا عدي، شيل الاوهام دي من دماغك وركز للي جاي.
هز رأسه بتقبل تام لما قال، وردد بحيرة: حسيت ان الموضوع مش طبيعي.

وحينما وجد نظراته تحتد رويدًا رويدًا، قال: أنا مش حابب أشغل دماغي بيه.
وعبث باصابعه باللافتة الصغيرة التي تحمل اسم اباه بشرودٍ، انهاه حينما قال بترددٍ: أنا ممكن أعرف الدكتور اللي رحمة راحتله شخص حالتها بأيه؟
لم يكن مندهشًا لمعرفته بالأمر، بل لزم رزانته وهيبته حتى في اجابته البسيطة: مش لازم. اللي بعمله وهعمله هو الأهم ليها خليك واثق في ده.

منحه ابتسامة صغيرة، ثم نهض يحمل حاسوبه ويتجه للخروج، فتوقف حينما نداه ياسين قائلًا: عدي.
التفت اليه وهو يتساءل باستغرابٍ: حضرتك بتناديني!
هز رأسه وهو يخبره بابتسامةٍ صغيرة: أنا فخور بيك وبالعرض الفريد من نوعه ده. أثبتلي انك تستحق ادارة المقر من غيري.
ابتسم وهو يمازحه بضيق مصطنع: يعني ده معناه أيه لاني ابتديت اقلق، اتفاقنا كان إن العرض لو عجب حضرتك والمناقصة رست علينا هأخد حريتي!

عاد بجسده لمقعده ثم تابع العمل على الاوراق من أمامه وهو يخبره بثباتٍ: أنا مبرجعش في كلامي وأنت عارف.
اتسعت ابتسامته وبنبرة ملأها الحب قال: عارف. عن إذن حضرتك.
اكتفى باشارة من يده فما أن خرج وأغلق الباب من خلفه، حتى ترك ياسين الاوراق من يده والابتسامة تتراقص على شفتيه الباسمة!

اجتمع الشباب بالمكتب المخصص اليهم بالمساء بعد مغادرة الفتيات وأغلب الموظفين، فتساءل أحمد بقلق: فين عمر من الصبح مش باين!
اجابه معتز وهو يلتهم الشطيرة بجوعٍ: معرفش مجاش المقر النهاردة.
قال ياسين باستغراب: غريبة اول مرة يعملها!
واشار لحازم قائلًا: كلمه كده شوفه فين؟
جذب حازم هاتفه ثم طلب عمر فانطلق مسمع صوته اليهم، فتح الباب وولج للداخل وهو يشير اليهم بغرور: لسه فاكريني!

سأله رائد باستغراب: انت كنت فين من الصبح!
مشط الغرفة بعينيه ثم سأله بحذر: عدي هنا.
اجابه احمد: لا مشى من زمان، فهمنا بقا في أيه!
هرع للاريكة، فجلس جوار جاسم واحمد، ثم اخرج من جيب بنطاله جهاز صغير، قام بتوصيل اسلاكه لهاتفه، اجتمع الشباب من حوله فتساءل ياسين بدهشة: ده ايه؟
وزع نظراته بينهم ثم قال: مش عايزين تنتقموا من اللي حصل امبارح.

بات امره غامضًا للجميع، فردد حازم بعدم فهم: انتقام ايه متيجي سكة ودغري يا دكتور المسالك انت!
اشار لهم بغرور: هفهمكم.
ورفع الازرر، ثم بدأ بتحريك اصابعه على عدد من الازرار، وفجأة انطلق صوت الفتيات من المسجل الصغير بحوزته، واستمعوا لصوت شروق تصرخ وهي تردد: الحقووووني يا بنااااات تعالوا.
حرك عمر اللوحة مجددا فتعالت صراخهن، جذبه احمد وهو يشير لما يحمله: ده أيه فهمني.

قال وهو يعدل قميصه بكبرياء: هما مش عاملين فيها ابطال الحرب القومي، انا روحت وزرعت في البيت كله اجهزة هتخليهم يلفوا حولين نفسهم وشوية وموبيلاتكم مش هتبطل رن وطلب النجدة مع التوسلات هو بس اللي هنسمعه...
واشار لهم على الهاتف وهو يسترسل: انا ربطته بموبيلي بس طبعا مش هنقدر نفتح كاميرا فهنسمع اللي هيحصل بس.
صمتوا جميعًا ليستمعوا لما يحدث.

بالمنزل.
جحظت عين رانيا وهي ترى اسدالها ترتديه امرأة تحمل رأسها بين يدها وتهرول من حولها وكأنها تزفها، تخشب جسدها وهي تحاول الصراخ لداليا الغافلة على السرير المقابل لها، وفجأة انطلق صوتها يستنجد: داليا
فتحت عينيها فزعًا، فاستقامت بجلستها وهي تردد بحنقٍ: نعمين أنا عارفة اني مش هعرف انام منك النهاردة، في أيه؟
برقت بعينيها للحائط عل الاخيرة ترى نا تراه، فصرخت بنفاذ صبر: ما تخلصي عايزة أنام.

اتبعت نظراتها تجاه الحائط فانتفضت بجلستها بفزعٍ وخاصة حينما قامت المرآة بركلها برأسها المحمولة بين ذراعيها، ولكن لم يصيبها شيئًا ملموس، لم يكن سوى اشكالا الكترونية لشريط العرض المتحكم به عمر، هرولت الفتيات للاسفل، خرجت نور على صوت صراخهم، فتساءلت بانزعاجٍ: خير يا بت منك ليها!

وجدتهن يهبطن جميعًا للاسفل ومن خلفهم يركض الشبح الحامل لرأسه كالكرة بين يده، كاد بالهبوط من خلفهم ولكنه توقف فور رؤيته نور تحمل وساداتها وتتطلع له باعين ترفض تصديق ما تراه، فرفعت اصبعها تشير للدرج وهي تهمس بصوت شبه مسموع: نزلوا. نزلوا من هنا.
هرع الشبح للاسفل، وترك راسه تدور من خلفه فنادته الاخيرة بشحوبٍ: كابتن رأسك وقعت!

وحينما تفهمت مجرى الامور سقطت ارضًا وهي تنادي بصراخ: رحمة الحقيني يا رحمة، اتصلي بالبوليس بسرعة او بالكهنة في شبح خرج من فيلم هندي ومش عارف يرجع!

خرجت رحمة على صراخها، فوجدتها تزحف ارضًا ومن خلفها تزحف رأسًا بكيس قماشي، التقطت اذنيها صراخ من الاسفل، فطلت برأسها من الدربزاين لتجد الجسد بالاسفل يلاحق باقي الفتيات، استجمعت شتات امرها ثم هرعت مرة واحدة لغرفتها فاغلقتها من الداخل وانطلقت تحرر صرخاتها حتى صمت الاذان.

رفع عمر قدميه على حافة المكتب واسند ظهره للخلف، مستندًا بيده على رقبته، وبتعالي قال: راقبوا موبيلاتكم وعدوا من 1 لتلاتة.
وقبل أن ينتهي من جملته انطلقت حفلة جماعية من الرنين المتوسل للاجابة وصراخ الفتيات بالنجدة هو المسموع!

صف سيارته على جانب الطريق، ثم هبط من سيارته واتجه ليقف قبالة النيل، خلع عدي جاكيت بذلته الانيقة ثم جلس أرضًا على الصخور وعينيه شاردة بالمياه القاتمة من أمامه، ربما كان يفضل البقاء بمفرده على الدوم ولكنه الآن يشعر بأن ثمة شيء ينقصه لا يعلمه هو، المكان كان يعج بالمارة من حوله، حتى الباعة بكافة، تسلل لانفه رائحة الذرة المشوي الذي يعشق تناوله وبالأخص حينما يجلس بذلك المكان، وكأنه يحمل مصباح سري ليجد يدًا ممدودة بالذرة، التفت جواره فتفاجئ بمن يجلس جواره، التقط منه الذرة ثم قال ببسمة غامضة: عرفت مكاني ازاي!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة