قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أحفاد الجارحي ج5 (ترويض الشرس) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثاني عشر

رواية أحفاد الجارحي ج5 (ترويض الشرس) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثاني عشر

رواية أحفاد الجارحي ج5 (ترويض الشرس) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثاني عشر

تعاونت الفتيات بجمع الأطباق، ومنهن من قامت بتنظيف المكان جيدًا، ومن جمعت الأطباق المغلفة ثم قمن بإلقائها بسلة المهملات، انتهت حملة نظافتهم على أكمل وجه، وجلسوا يرتشفون المياه الغازية بعد تناولهم لتلك الحموضة، ضحكاتهن الطائفة من قلوبهم تغزو قلب من يراقبهن منذ فترةٍ، يترقب فور انتهائهن من تلك الوليمة الغير محببة إليه، لذا اختار الجلوس بالداخل واكتفى بمراقبتهن من أعلى التراس، وما أن انتهت جلستهن حتى استعدن للدخول للقصر، فحملت الفتيات الأغراض واتجهوا، انقطع طريقهم بذهولٍ حينما وجدوا الاضاءة تسري بالقاعة الرئيسية، فنادت آية أحد الخدم وهي تساءله بدهشةٍ:.

في حد من الاولاد رجع؟
هز رأسه وهو يوضح لها:
لا يا هانم. ده الباشا اللي رجع من نص ساعة.
فغرت فاهها صدمةٍ تشاركت بها مع من حولها، وخاصة حينما ظهر ياسين من أمامهم، اتجه بصمتٍ عجيب للمقعد الجانبي للصالون، وجلس يراقب نظرات توترهم باستمتاعٍ، لم تمتلك أحدهن القدرة على اختيار كلمات تخفف عنهن حدة هذا الموقف، تأملهم بهدوءٍ وروية وهو يباغتهن بصوته الثاقب:
حفلتكم خلصت ولا لسه؟

ابتلعت آية ريقها بتوترٍ، بينما هزت ملك رأسها عدة مرات تؤكد له ذلك، فهز رأسه بتمهلٍ وهو يردد بحبورٍ:
عظيم.
وجذب الجريدة الموضوعة من أمامه يتفحصها ببطءٍ تحت أنظارهن المراقبة لكل ردود أفعاله، فقال وهو يقلب بين أوراقها:
هتفضلوا بصينلي كده. لو حابين تقعدوا ونقلبها جلسة نقاش معنديش مشكلة.

فور نطقه لتلك الكلمات تفرقنا سريعًا من أمامه، فهرولت الفتيات لغرفهن، بينما تبقت هي تراقبه بغيظٍ يموج داخلها حد الانفجار، وكأنها تتحدى كل ذرة برود يمتلكها، وقد ربح هو كعادته فظل يتابع قراءته للجريدة بسكينة جعلتها تتمرد عن صمتها حينما دنت لتجلس قبالته وهي تردد باستغرابٍ:
غريبة انك متضايقتش يعني!
أغلق الجريدة بنظامٍ، ثم وضعها لجواره وجذب كوب القهوة يرتشفها على مهلٍ:
هتضايق من حاجة بتسعدك ليه؟

رفعت احد حاجبيها بدهشةٍ، لحقت بسؤالها:
بتفرحني بس بتضايقك!
ابتسم أمام وجهها المحبب إليه بكل تعابيره، وقال:
اللي يضايقني أقدر أتقبله من بعيد عشانك!
ضحكت وهي تخبره على استحياءٍ:
مش عارفة إنت أيه اللي حصلك اليومين دول. قلبت على قيس مرة واحدة. قولي بس فين ياسين الجارحي بجبروته!
رفع حاجبه وأخفض الآخر وبنبرة اخشوشنت في حدتها قال:
تحبي استدعهولك؟
أشارت نافية:
لأ، لأ، كده مرتاحين مع بعض أكتر.

ارتخت معالمه ببسمة تحررت لتخبرها بصدق مشاعره:
متقلقيش قدر بعد السنين الطويلة دي يتعلم ازاي يصرفه عنك انتِ بس!
أشرق وجهها المجعد ببسمةٍ جعلتها في غاية سعادتها، فنهض عن مقعده وهم بالصعود وهو يشير لها:
كفايا سهر. اطلعي الجناح وأنا شوية وجي.
واتجه للمصعد بعد صعوده الدرج الصغير الجانبي، متجهًا للطابق العلوي، وبالأخص غرفة أغلى من يمتلك معزة خاصة بقلبه!

توقفت السيارات تباعًا أمام باحة القصر الخارجية، هبطوا جميعًا وكادوا بالاتجاه للداخل، فاستوقفهم صوت تأوهاتٍ خافتة تأتي من صندوقٍ أحد السيارات، كبت معتز ضحكة كادت بالانفلات منه، فقال برجاءٍ:
ما تفكه يا أحمد خلينا نتفض!
جذب أحمد حقيبة حاسوبه من السيارة، وهو يصيح به:
أي حد هيفكر يفكه هيتعلق مكانه. الواد ده اتمادى ولازم يتربى.
اقترب منه جاسم محاولًا استمالته:
معلش يا ابو حميد قلبك أبيض طول عمرك.

تساءل بدهشةٍ وهو يوزع نظراته بين الجميع بحيرةٍ:
ده خلى عمر يقطع شهادته!
ارتسمت بسمة شبه ساخرة على وجه ياسين الذي يستند بجسده على السيارة ويتابع ما يحدث بتسليةٍ:
خلاص يا أحمد هو عمر يعني ماشي يلف على المستشفيات الحكومية بيدور على شغل ومش لاقي يأكل! ده عنده مستشفي باسمه يا حبيبي هيطالبوه هناك بالشهادة في ملكه!
خرج عمر من السيارة، واتجه اليهما ليفصل بذلك الحوار الذي يتسبب له بالضيق قبل أن يمسهم:.

فكه يا أحمد. أنا كده اخدت رزقي منه يا عالم الدور على مين فيكم؟
تسلل لوجوههم ارتباكٍ ينجح ذاك الأبله بخلقه بين دائرة جمعهم، فجذب معتز جاكيته الأسود واتجه للأعلى، لحق به جاسم وهو يحذره:
اوعى تفكه يا أحمد. سيبه في شنطة العربية للاسبوع الجاي يكون عقل كفايا.
ربت ياسين على كتف أحمد وهو يغمز له بمشاكسةٍ:
القرار يخصك لوحدك، مينفعش نتدخل بين الأخ وأخوه. تصبح على خير.

مشط المكان من حوله بنظرةٍ يحومها الاستهزاء، فحانت منه نظرة خاطفة لرائد الأخير بهبوطه للسيارة، اتجه أحمد إليه وهو يتمعن به بنظرةٍ حائرة، ختمها بسؤاله المباشر:
مالك يا رائد من الصبح وأنت مش عاجبني. أنت تعبان؟

أغلق باب سيارته ثم فعل القفل الالكتروني، وهو يحاول الا يتطلع إليه فينكشف غضبه الذي يحاول اخفائه، واكتفى بتلك الكلمات المقتصرة:
مفيش حاجة يا أحمد. أنا بس راجع مصدع شوية ومحتاج ارتاح.

هز رأسه بتفهمٍ، ومن ثم سأله باهتمامٍ:
جهزت عرضك للمناقصة ولا لسه؟

استقام بوقفته من أمامه، وببسمةٍ ساخرة أجابه:
هيفيد بأيه. والكل متأكد إني هخسر المناقصة والغريب انهم حاطين ثقة كبيرة فيك!

اندهش من سماع ما قاله، وردد بصدمةٍ:
أيه الهبل اللي بتقوله ده! انت أول مرة تدخل مناقصة ولا أيه؟

منحه نظرة ثاقبة وكلمة ساخطة:
الظاهر كده.

وتركه وهم بالصعود وهو ينهي الحديث بطريقة بدت لاحمد غريبة للغاية:
تصبح على خير.

وتركه وصعد للاعلى بينما ظل أحمد محله جوار سيارته، على صوت حازم من الداخل، فرفع أحمد غطاء السيارة عنه، انحنى بجلسته وهو يشير له على القماشة التي تمنعه عن الحديث، فازاحها عنه بنفاذٍ صبر، ليردد الاخير بحزنٍ:
كده يا أحمد عايز تقتل اخوك الوحيد!

لم يعبئ بما يقول فعقله شارد بما استمع اليه للتو، حل عقدة يده ثم استند بجسده على السيارة ومازال يتطلع للفراغ، وقف حازم جواره يتطلع له بضيقٍ، فاستمع لحواره مع رائد من البداية، لذا قال:
رائد متهور يا أحمد. لو خسر المناقصة دي الموضوع مش هيعدي بسلام.

رفع عينيه إليه، وكأنه كان بحاجة الحديث مع أحدٌ ولم يجد حوله سوى أخيه المشاكس، الذي قرر التنازل عن مزحه الدائم ليخبره بعقلية رجل متزن:
اختيار عدي من البداية كان غلط، يمكن لو كان اختار ياسين بدال رائد كان أفضل، وده مش تقليل من رائد بس رائد انسان عصبي ومتهور وصعب انه يفهم إن حربك دي لصالح اسم العيلة مش لصالحك انت.

تهدلت معالمه بحزنٍ شديد، وسأله باختناقٍ:
طب والحل. أنا مستحيل أسيب الفجوة دي تتخلق بينا يا حازم.

ضم شفتيه معًا، وكأنه يفكر بحلٍ مثالي لتلك المعضلة، اجلى أحباله الصوتية وهو يخبره بعد لحظاتٍ من الصمتٍ:
لو رائد مكسبش المناقصة دي يا أحمد مش لازم أنت كمان تكسبها.

رفع أحد حاجبيه بذهولٍ:
تقصد أيه؟

أوضح له مقصده، حينما قال:
متكشفش ورقك كله، جهز عرض بديل للمناقصة دي، لو رائد كسبها يبقى هتقدم العرض اللي هيضمن نجاحك أنت كمان، ولو منجحش يبقى مفيش قدامك أي اختيار غير انك تقدم العرض البديل ومتنجحش أنت كمان.

ابتلع ريقه بتوترٍ من سماع ما قاله، وأخبره بترددٍ:
بس لا ياسين الجارحي ولا عدي هيقبلوا بده يا حازم، خسارتنا قدام مهاب أبو العزم هتقيم حريقة في المقر!

أبعد عنه جرفاته بنفورٍ من ارتداء تلك الحلى الغير مريحة، وردد قائلًا:
عارف وعارف كمان أن عمي مش هيكون راضي عن اللي هيحصل بعد كده بينكم يا أحمد، ومش بعيد كمان يحط اللوم على عدي وهتكون في مشكلة جديدة!

فكر جيدًا بما قاله أخيه الأصغر، بعدما سد عليه كل فجوة كان يلجئ إليها، فوجد أن الحل الذي قدمه إليه هو الأمثل بالتأكيدٍ، انسحب من شروده وتطلع إليه بإعجاب يطفوه الدهشة بعنوانٍ لا يستدعي إخفاءه، فاستقام بوقفته عن السيارة وتساءل بتشتتٍ:
أنت حازم أخويا بجد ولا ركبك عفريت وهيختفي بعد عشر دقايق!

رفع رأسه عاليًا وهو يجيبه بعنجهيةٍ:
انا هو نفس الشخص. عجبتك!

واسترسل وهو يبحث عن نظاراته بجيب سرواله، فارتداها وهو يستطرد بغرورٍ:
أنا المفروض تشكروني على الجو اللي معيشكم فيه جوه غابة ياسين الجارحي. وبدل ما تفرحوا باللي بعمله عشانكم بترموني في شنطة العربية!

قهقه أحمد عاليًا، وضم يده حول كتفيه وهو يحثه على الصعود برفقته للاعلى، وأخبره بسخطٍ:
انت ثروة لا تقدر بتمن يابو خالد.

تهجمت تعابيره غضبًا:
وليه بس السيرة العكرة دي ما كنت ماشي كويس!

تعالت ضحكاته فشاركه الضحك انتهازًا لتلك الفرصة التي لا تعوض فيما بينهما.

طرقات خافتة متتالية على باب الغرفة، جعلت الصغير يعلم بكنية الطارق، فهرع تجاه بابه ليكن باستقباله بنفسه، رحب به ببسمةٍ كادت بأن تصل للأذن:
جدو!

ضمه إليه بمحبةٍ لا تسع كون لوصفها، ودخل به حتى جلسوا معًا على الأريكة التي تنحدر بكراتٍ صغيرة زرقاء تناسب أجواء الغرفة تخص الصبي، رفع ياسين يده على خد الصغير بحنانٍ بالغٍ:
طمني عليك يا بطل؟

ابتسم الصغير وهو يخبره:
انا بخير وبقيت أفضل لما حضرتك رجعت، كنت خايف انك تفضل بعيد عن القصر أكتر من كده. بس الحمد لله إن بابا قرر يرجع حضرتك.

رفع أحد حاجبيه بشكٍ راوده لما استمع اليه:
أفهم من كده انك اتعمدت متحذرنيش إنه عرف مكاني!

تطلع له بربكةٍ جعلته يردف بشجاعة تحلى بها:
بصراحة آه لاني كان نفسي أشوف حضرتك.

رفع كفيه يحتضن خده بمحبةٍ، فحانت منه نظرة جانبية لمكتبه، فقال متلهفًا:
أيه أخر انجازات الفنان بتاعنا؟

ركض مسرعًا تجاه مكتبه، وجذب أحد لوحاته ثم عاد بها إليه، فقلب ياسين بين محتويات ما رسمه بحرافيةٍ، والبسمة لا تفارق شفتيه لجمال ما رآه، استوقفه عدة صور تخص ظباط الشرطة وأغلبها رسومات لشتى أنواع الاسلحة، جذب انتباه صورة أخيرة قريبة حدًا ما لعدي ابنه، وعلى ما يبدو بأن ذاك الصغير الذي يرتدي ملابس الشرطة ويقف لجواره تخص حفيده المهوس بكل ما يخص الشرطة، وعلى ما يبدو بأنه يختار نفس الدرب الذي سلكه ابنه من قبل، وبذل كل ما بوسعه ليمنعه من ذلك، والآن سيقف مكتوف الأيدى من جديدٍ، لاح على وجهه ابتسامة عابثة، ابنه الشرس لا يتناحى عن تحديه ويظن بأن ابنه لا يود أن يكون مثله هو بل مثل جده، ليته يعلم حقيقة مشاعره.

أغلق ياسين اللوحة الضخمة من أمامه، وراقب قلق الصغير الذي يتراقص بحدقتيه، فربت بحنان على معصمه وهو يخبره:
اللي أنت عايزه هتحققه بنفسك ومحدش هيقف في طريق ولا هيعارض اختيارك. اطمن أنا في صفك مش ضدك.

لمعت الفرحة بعينيه وارتمى بأحضانه يتعلق به بأمانٍ يرغب دومًا بالشعور به في حضرته!

مشاعره الثمينة يقدرها ويقدر ما يحتاج إليه، لذا فضل البقاء بمفرده، وعدم العودة بصحبة الشباب للقصر، فإتجه لأكثر مكانًا قد يريحه، ولم يجد راحته سوى بالجلوس أمام المياه التي يتردد صداها بحافة الصخور التي تلامسها بعناقٍ طويل، اشمر عدي عن بنطاله، ثم طوى قميصه حتى كشف عن ذراعيه وحرر أول أزراره حتى مقدمة صدره، وجلس فوق الصخور القريبة من المياه، لا يعلم كم ظل على تلك الحالة الساكنة، يتأمل المياه بصمتٍ عجيب، أزعج جلسة سكونه صوت رنين هاتفه، فجذبه من جواره وهو يتأمل اسم المتصل على مضضٍ، فضغط على زر الاجابة وتركه لجواره وهو يجيب بتأففٍ:.

عايز أيه يا مزعج؟

تردد صوته المرتبك إليه، فنجح بزرع التوتر بداخله لمعرفة ما به:
عدي. إبعد عن طريق مهاب أبو العزم الراجل ده خطير.

نزع عنه سماعته وجذب الهاتف لأذنيه وهو يسأله بقلقٍ:
في أيه يا مازن؟

رد عليه مسرعًا:
الراجل ده مش سهل يا عدي. مخيف ولازم تاخد حذرك منه.

بنفاذ صبر صاح:
ما تنجز وتقول في أيه؟!

أوضح له ما حدث:
الشاب اللي استدرجته وعرفت منه المعلومات اللي بلغتهالك من يومين اتقتل بطريقة غامضة ومحدش لاقي تفسير لموته. بس طبعًا أكيد اتفهم سبب موته!

أبعد خصلات شعره الذي بدى يزعجه بطوله عن عينيه وهو يخبره:
مازن أنت لازم ترجع مصر بسرعة. أكيد هيهاجمك في أقرب فرصة.

طمنه حينما قال:
لا معتقدش إنه هيعرف يوصلي. لإني مدتش للشاب ده أي معلومه توصله بيا. اطمن أنا لو حسيت بالخطر هنرجع فورًا.

حذره مجددًا:
خد بالك من نفسك. وسبلي أنا مهاب ده.

أغلق هاتفه وعقله ينجرف خلف عدة طرق كلاهم لا يتفق بمقابلة الآخر، ولكنها تتحدان لتأيد نقطة واحدة، بأن عليه أن يواجهه وجهًا للأخر!

شاشة ضخمة تحتل منتصف ردهة يملأها عدد مهول من الحرس الخاص، المكلف بحماية رجل من حيتان رجال أعمال الشرق الأوسط، وبمنتصفها مقعد ضخم يحده اثنين من تماثيل النمور الجامحة، يعتليه مهاب أبو العزم وهو يتأمل صورة عدوه الجديد الذي انضم لقائمة تخص عدي الجارحي، وذراعه الأيمن يقف لجواره وهو يتابع الصور من أمامه، فعبث أحد الرجال بالريموت الالكتروني من على بعدٍ ليقلب باقي الصور، فخرج مهاب عن دائرة صمته المخيف حينما سأل من يقف على يمينه:.

مين ده؟

أجابه بثقةٍ تجعله مثير للشكوك، وكأنه يعرف أفراد آل الجارحي:
ده مازن أحمد الباز صديق عدي المقرب وزميله. يعني مش أول مرة يساعده وينقله معلومات عنك يا باشا. ده متعود يكون الكلب اللي بينبح ورا صاحبه. وزي ما قدر يسحب المعلومات دي من الحيوان اللي قتلاناه يقدر يعمل أكتر من كده لانه ظابط وده جزء من شغله.

واسترسل بفحيحٍ شيطاني:
وجوده بدبي خطير علينا كلنا يا باشا.

أمره دون سماع المزيد:
اخلص منه.

ارتسمت السعادة الغامضة على وجه هذا الأرعن الذي انضم إليه لينتقم لنفسه، وكأن كل اعداء عدي اجتمعوا ليعلنوا حربًا شيطانية لعينة، عاد الرجل ليقلب بالريموت عدة صور التقطها لمازن بعد مراقبته لثامنيةٍ وأربعون ساعه، حتى أتت قبالتهم احدى الصور، فأمره مهاب سريعًا بالتوقف، انحنى بجسده للأمام وهو يتأمل تلك الصورة المعروضة، واصبعه يشير لمن يراقبه بتكبيرها، وبعد لحظات خرج سؤاله مسحور خلفها:
مين دي؟

أجابه ذراعه الأيمن باستغرابٍ مما يحدث إليه:
مروج بنت عم عدي وتبقى مرات مازن!

شروده بصورتها كان بمثابةٍ انذار بخطرٍ مهيبٍ، فنهض عن مقعده واتجه إلى الشاشة بخطواتٍ بطيئة، مرعبة، حتى باتت يده تمسد على وجهها برغبةٍ دنيئة، فهمس بشرٍ عظيم:
مفيش مانع تكون وسيلة تساعدنا في الانتقام من الحقير ده هو واللي وراه.

وببسمةٍ ماكرة، ردد:
بس يا ترى هقدر أقنعها بالوش ده بعد عملية التجميل!

أسرع من خلفه وهو يردد بضحكة لا تخص سوى شياطين الانس:
انت تعجب الباشا يا باشا. وبعدين العملية دي هي سر نجاتك. ومستحيل عدي يقدر يوصلك. ولا هيعرف عمره كله يوصل لعدوه اللي بيضربه من تحت لتحت حتى لو شافك وش لوش!

شاركه الضحك لينقطع عنه فجأة، ليتابع بقسمٍ لعين:
كل اللي عمله فيا جواه السجن عقابه هيكون عسير أوي.

واستدار تجاهه وهو يأمره:
احجزلنا تذكرتين على بكره بليل، هحضر المناقصة دي بنفسي وهشوف اذا كان هيعرفني بالوش ده ولا لا.

واستكمل بتحذير قاطع:
بس خد بالك. ظهورك لعدي هيكشفنا. مش لازم يشوفك لا هو ولا أي حد. سامع.

أومأ برأسه عدة مرات وهو يؤكد له:
متقلقش يا باشا. أنا مش تلميذ!

وعاد ليتطلع تجاه الصورة المعروضة، فوزع نظراته بينها وبين من يراقبها بانبهارٍ وجراءة، فغمز له بمكرٍ:
بس قولي انت ناوي على أيه؟

عاد ليلامس الصورة من جديدٍ:
النية مش بتحقق المراد!

ودع القمر لقائه الغرمي واستقبلت الشمس بداية اليوم بترحابٍ غامر، ومع بداية اشرقتها غمر آذان الفجر الاجواء، وهو ينادي الصلاة خيرًا من النوم.

أغلق عدي عينيه بتأثرًا، فنهض عن الصخور وإتجه لأقرب مسجدًا إليه، شرع بالوضوء ومن ثم التحق بصفوف المصلين، وأدى فريضته بخشوعٍ تام اعتاد عليه بفضل توجيهات والدته، فلم يترك يومًا فردًا، حتى عمر ومليكة نشأوا على تلك التريبة التي احتدت بالحزم تجاه ما يخص الله عز وجل، فلم تتهاون آية يومًا مع أحدًا حتى وإن كانت رقيقة طيبة القلب، انتهى عدى من صلاته، ثم جلس على سجادته يترقب المسجد من حوله بنظرةٍ متفحصة، فاسند ظهره على احد الاعمدة، ولا يعلم كيف غفى واستسلم للنوم سريعًا.

كنت على طول بخالفك وواقف في وشك في أي قرار بتأخده، كأني كنت واخد عهد على نفسي اني اتحداك طول ما أنا عايش، أنا النهاردة ضعيف ومحتاج لوجودك، محتاجلك ولأول مرة أعترف بيها. أنا من غيرك مش مسنود أنت كنت السند والحماية ليا حتى وأنا رافض ده، بجد محتاجلك أوي...

تقهقهرت الدمعات على خديه مع تلك الصفعة القاسية التي يواجه بها نفسه لأول مرة بمكانٍ ليس به سواه هو، يبوح بما يصعب على لسانه العاجز البوح به، يخرج ما يأجج داخل صدره في ذلك المكان المنعزل، لا يآنس وحدته سوى تلك الدمعة الحارقة التي تحررت أخيرًا من معتقلها، وفجأة شق صوتٍ عذب ذاك الصمت المقبض وهو يجيب صراخه المهتاج:
أنا هنا يا عدي، جنبك ومستحيل هتخلى عنك!

استدار بجسده للخلف، فوجده يتكأ على تلك الصخور، وعلى ما يبدو بأنه كان يستمع لحديثه من البداية، نهض عدي عن الأرض بابتسامةٍ ازاحت غمة الحزن وكلمة واحدة تتردد بسعادة عالم بأكمله:
بابا!

انتفض بنومته فزعًا من ذاك المنام الغامض، والغريب له احتفاظ عينيه بالدمعات وكأنها تقسم بأن تذكره بمنامه الغريب، أي منامٍ هذا الذي يترك من خلفه وجعًا يضرب روحه ويطعن قلبه دون رحمة، كانت رسالة ربانية غريبة، لم يفهم مغزاها حتى الآن، حتى توقيت رؤياه للحلم كان الامثل لاعتباره رقية، وهل هناك أمثل من وجوده باحد منازل الله عز وجل؟!

نهض عن سجادة الصلاة، وهو يتأمل المكان من حوله بعينين دامعتين، فأخرج محفظته الجلدية ثم أخرج مبلغًا صخمًا، واتجه لصندوق المسجد وانحنى ليضعه وهو يردد بألمٍ:
أنا مش عارف أيه اللي بيحصل. بس أنا بتمنى إنك تحفظلي أبويا من كل شر. احفظني من نفسي ومن شيطاني يا رب.

وانحنى برأسه للأسفل وهو يسترسل بحزنٍ:
كل اللي حواليا نقاط ضعف ليا فيا رب متورنيش السوء في حد فيهم. افديهم بروحي يا رب.

واستدار ليغادر المسجد تاركًا من خلفه سكينته وراحته القصيرة، التي قضاها بداخل بيته الكريم، غادر عدي واتجه للقصر بعد أن قضى ليله به.

فتحت عينيها الساحرة بتكاسلٍ انصياعًا لليد التي تحرك جسدها، فرددت بنومٍ:
في أيه يا مارثا؟

ذكرتها الخادمة بما أخبرتها به قبل غفلتها أمس:
موعدك مع طبيبة الاسنان سيدتي!

فركت مروج جبهتها ببعض الألم، فاعتدلت على الفراش وهي تحاول فتح عينيها بصعوبةٍ، فمازال النوم يسيطر عليها، حررت يدها عاليًا وهي تشير لها:
جهزيلي الحمام يا مارثا.

هزت رأسها بطاعةٍ وانصرفت تلبي طلبها، بينما نهضت مروج عن سريرها واتجهت لخزانتها، تنقي ما يليق لزيارة الطبيبة، اغتسلت وارتدت بنطال قماشي من اللون الأسود الفضفاض، وقميص من اللون الوردي طويل يصل لبعد ركبتها، عقدت حجابها جيدًا، استعدت للمغادرة، وقبل أن تغادر شددت على الخادمة:
خلي بالك من عز وهمسة يا مارثا. عز يخلص واجباته وهمسة جهزيلها الرضعة بتاعتها في وقتها.

ردت عليها بود:
لا تقلقي سيدتي.

غادرت مروج بعدما اطمئن قلبها على أولادها، فصعدت لسيارتها واتجهت للعيادة الخاصة، انتظرت دورها حتى دخلت، وحينما انتهت غادرت مسرعة حتى لا تتأخر بعودتها على ابنائها، فولجت للمصعد وضغطت على زر الطابق الأرضي، فتحرك بها المصعد لينخفض عشرة طوابق ومن ثم علق بها بالطابق العشرون، انقبض قلبها وهي تعيد الضغط على ازرر المصعد، ولكنه لم يستجيب إليهاو، انقبض قلبها رعبًا، وخاصة حينما تلاعبت الإنارة وكأنه مشهد من فيلمٍ رعبٍ يعاد على مخيلاتها، سعلت مروج بقوةٍ كادت بإغلاق مجرى تنفسها، فمسدت يدها على حقيبتها الصغيرة، أخرجت هاتفها واختارت رقم زوجها، حاولت الاتصال به ولكن الشبكة بالمصعد كانت تحت الانقاض!، لم تحصل حتى على شرطة واحدة تنقذها مما تتعرض له، والمحزن بالأمر بأنه مبنى ضخمًا يحتوي على أربعة مصاعد، فلن يعبئ أحدًا إن تعطل احداهم، جلست مروج أرضًا وقد احاطتها وابل من الدموع، وجسدها يرتجف بعنفٍ، فسجلت رسالة صوتية لزوجها ومازال الأمل يولد داخلها، علها تصل له ويأتي لنجدتها:.

«مازن الحقني. الاسانسير عطلان بيا في عيادة دكتورة يمنى، أرجوك ساعدني أنا خايفة وحاسة إن نفسي بيتسحب مني. ».

هوت دموعها مع سقوط الهاتف عن يدها، مرت ساعة كاملة تجاهد بها لالتقاط الاكسجين ومحاربة الاغماء، وفجاءة شعرت بصوتٍ قريبًا منها يتساءل:
في حد جوه؟

نهضت على قدميها وهي تصيح بلهفةٍ:
أيوه. ساعدني أرجوك!

اتاها صوتًا رجوليًا يجيبها:
متقلقيش يا آنسة. بحاول أفتح الباب. عايزك بس تبعدي شوية.

ازاحت دمعاتها عنها والسعادة عادت تلوح لها بعد فقدان أمل عزيز لها، فتسلل لمسمعها صوت ضربات قوية تصيب الباب وأداة حادة تخترقه حتى نجحت بفصله عن بعضه من الجزء العلوي، فوجدت ذراع ممدود لها وهو يحثها على الاقتراب:
حاولي تمسكي ايدي بسرعة.

لم تفكر أبدًا، نجاتها بالوقت الحالي هو اسمى امنياتها، لذا حملت هاتفها وحقيبتها وتشبثت بذراعه، فرفعها بكل قوةٍ حتى تمكن من اخراجها للهواء الطلق، جاهدت مروج للوقوف على قدميها ومازالت نوبة البكاء تجتازها، فقدم لها هذا الرجل زجاجة من المياه قائلًا بلطفٍ:
اتفضلي.

تناولته منه مروج، وتجرعت منها كمية كانت كافية لانعاشها، وقد بدأ اتزانها يعاود لذهنها ولكنه غائب عن جسدها المرتجف، فقالت بلسان مضطرب:
مش عارفة أشكرك ازاي.

ابتسم وهو يتأملها بنظراتٍ عميقة، وبنبرةٍ غامضة قال:
مفيش داعي للشكر. انا كنت في ميتنج بالدور ده ولما جيت استخدم الاسانسير لقيته عطلان.

وقدم يده ليصافحها:
أنا مهاب.

استندت على حافة العمود الذهبي حتى وقفت على قدميها، تأملت يده الممدودة بحرجٍ، فتعمدت تمسكها بحقيبتها وهي تردد على استحياءٍ:
اتشرفت بحضرتك. واللي عملته معايا حقيقي مش ممكن أنساه.

سحب يده الممدودة بغضبٍ دفنه خلف ابتسامةٍ زائفة، وهو يخبرها بلباقةٍ:
أنا معملتش غير الواجب.

منحته ابتسامة صغيرة واتجهت بخطواتٍ شبه متعثرة للدرج، فاوقفها بذهولٍ:
هتنزلي كل ده احنا في الدور العشرين!

ازدردت ريقها الجاف بصعوبةٍ، فهي بحالة لا تسمح لها بالهبوط كل تلك المسافة، ومع ذلك تخشى الصعود للمصعد مجددًا، فما حدث سيجعلها تمقت صعود أي مصعد قط، وزعت نظراتها بحيرةٍ بين المصعد والدرج، فقطع حيرتها حينما قال بخشونة:
اسمحيلي انزلك بالاسانسير.

هزت رأسها نافية بلباقةٍ:
مفيش داعي أنا هنزل لوحدي.

اعترض طريقها ولحق بها وهو يخبرها بلطفٍ زائد:
مش محتاجة تخبي الحالة اللي انتي فيها لانها باينة.

لم تكن بحالةٍ تسمح لها بالجدال، وخاصة بأن ما كونته عنه لم يكن بالسييء، بالنهاية قدم لها يد المساعدة في وقتٍ ظنته الاخير من حياتها، ولجت معه مروج للداخل، فهاجمتها نوبة حادة من الدوار، ومشاهد ما حدث لها بالداخل منذ قليل ترتطم بها بوحشيةٍ قاتلة، رفعت يدها تتحسس جبهتها بألمٍ جعلها تهوى دون اي ارادة لها بالنهوض، حان بينها وبين الارض فسقطت بين ذراعيه وابتسامته الخبيثة تسري على شفتيه وهو يتأملها عن قربٍ خطر!

اليوم كان عطلة لرائد وأحمد، للتركيز للمعاركة التي تنتظرهما بالغد، فباشر الشباب العمل من المنزلٍ، كان عدي بطريقه للأعلى حينما وجد أبيه يستعد للهبوط، فوقف قبالته بوجهه الشاحب الذي أثار قلق ياسين، فسأله بنظرةٍ تلتهم تعابيره:
أنت كويس؟

أومأ برأسه بخفةٍ، فعاد ليتساءل من جديدٍ:
كنت فين لحد دلوقتي؟

ابتسامة ساخرة لحقت بكلماته المشككة:
اللي بيرقبوني مبلغوش حضرتك بمكاني؟

تعمق بالتطلع لحدقتيه الغريبة، وهو يردد:
قولتلك قبل كده واجبي اني أحامي العيلة كلها. وانت دلوقتي منصبك حساس والعيون كلها عليك.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة