قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أحفاد الجارحي ج5 (ترويض الشرس) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثامن والعشرون

رواية أحفاد الجارحي ج5 (ترويض الشرس) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثامن والعشرون

رواية أحفاد الجارحي ج5 (ترويض الشرس) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثامن والعشرون

تنقلت نظراته الحائرة بينهما، ثم عادت لتستقر على أبيه بتعجبٍ، محاولة جديدة يخوضها الآن، يحاول بها استكشاف ما يود فعله تلك المرة، ما يراه منه نقيض ما فعله طوال الفترة الماضية، بعدما بذل مجهوًا كبيرًا لحمايته، والآن يخالف ما يفعل ويسمح له بالعودة بمنتهى البساطة، وجود التمثال الغريب الذي لا يحتوي على رأس وملامح ويحمل ثيابه الخاصة، وكل ميدالية حصل عليها من حمله، جمعها على صدره كوسام شرف، تكريمًا لما بذله من مجهودٍ طوال تلك المدة، وعلى ما بدى إليه اتخاذ أبيه لهذا القرار مسبقًا، جاهد عدي للخروج عن بؤرة صمته وذهوله، فأجبر لسانه الثقيل على تردد: يعني أيه؟

أحاطته نظرات ياسين الدافئة، وهو يسبر أغوار أسئلته التي تحاصره بتلك اللحظة، فحاول أن يميل حواره للبساطة دون التخفي لمكره وثباته الخبيث: يعني خلاص يا عدي، اللي أنا كنت عايز أغيره فيك حصل، وبقيت الشخص اللي أقدر أمن إنه يكون سند للاحفاد من بعدي.

ثم وضع يده على كتفه وهو يسترسل ببسمةٍ هادئة: كل ابن من أولادي عنده شخصيته المختلفة اللي بتميزه، بداية من عمر وياسين وأحمد لحد حازم، كلهم بالنسبالي ميتخافش منهم الا أنت، كان جوايا احساس مخليني مرتبك طول الوقت، محدش جواه العند والغرور اللي عندك، لذا أنا قررت أخوض الحرب دي ضدك ومعاك في نفس الوقت، عشان تبقى الشخص اللي واقف قدامي دلوقتي. شخص رزين قادر يلبي احتياجات عيلته وفي نفس الوقت مبيقصرش في شغله وقادر كمان يفصل بين الاتنين.

وقربه اليه وهو يخبره بحبٍ لم يبذل مجهود ليجعل ابنه الحبيب يشعر به: الفترة اللي قضتها مع ولاد عمك هنا في المقر قربتك من كل واحد فيهم، شافوا اللي كنت بتحاول تخبيه عنهم، وقفت جنبهم وضحت بحياتك عشان واحد منهم (رائد)، وساعدت اللي محتاجالك ولما جيه الدور عليك ووقعت في اللي، كنت فيه كانوا هما أول ناس تمدلك ايدهم بالمساعدة.

وأشار بيده وهو يستطرد: كانوا في ضهرك عن قناعة، بدون ما حد ينفذ وصية أخدها على لسان تربيته، مش فرض انهم يساعدوك لمجرد اننا ربيناهم انكم سند لبعض!
واتجهت نظراته للزي العسكري، فطال به تأمله ليكسر حاجز صمته بنبرته الغامضة: دلوقتي أقدر أسمحلك ترجع لكيانك وأنا مطمن انك هتلبس بدلتك بس وأنت شخص مختلف.

وربت على يده وهو يحثه قائلًا: ولازم تعرف اني مش حابب أي حد يدرب حفيدي. أنا عايزك بنفسك اللي تبقى معاه خطوة بخطوة لحد ما يحقق حلمه.
واستدار ليتجه للمغادرة قائلًا: خليك مع اصدقائك. هنكمل كلامنا بعدين.
وتركه واتجه للخروج، وقبل مغادرته تبادل الصفح المرحب بالجوكر والاسطورة، فوجه شكره الخاص إليهما بكلماته الممتنة: مساعدتكم فرقت معايا جدًا، فحقيقي أنا عاجز عن شكركم.

قابله رحيم ببسمةٍ هادئة، اتبعت صوته الثابت: بالعكس احنا اللي واجب علينا نشكر حضرتك بعد ما ساهمت بالكشف عن الشبكة الدولية اللي كان بيديرها ال ده، وبالرغم من إن حياة عدي كانت في خطر الا إن حضرتك صممت وأصريت اننا نكمل الطريق اللي بدأناه ووجهت مصيرك معاه.

وتابع مراد قائلًا: أنا لو مكنتش سافرت أمريكا وروحت المستشفى اللي حضرتك بلغتني عنها مكناش قدرنا نكشفه ولا نوصل للي وراه، فالفضل يرجع لحضرتك بعد ربنا سبحانه وتعالى، ويمكن أكون زعلان من اللي حصل لعدي بس سعيد في نفس الوقت إنها كانت فرصة إني أتعرف على شخص عظيم زيك.
منحهما ابتسامة راقية، وانحناء رأس تقابل اطرائهم بكل تواضع، ثم همس إليهما قبل توجهه للخروج: لسه وراكم مهمة أكبر.

وأشار بعينيه لمن براقبهم بفضولٍ لسماع ما يحدث بينهم، غادر ياسين الجارحي وتركهم بمفردهم، فاقترب منهما عدي بنظرات واجمة، كبت رحيم ضحكاته، وبدى صلبًا لا يهزه القلق مما سيحدث هنا، بينما عبث الجوكر بهاتفه، وأشار لرحيم مداعيًا صدمته: يا خبر 33 مكالمة من حنين أنا قلقت على البنات، هسبق أنا وأنت حصلني يا رحيم.

وكاد بالخروج خلف ياسين، فأوقفه عدي حينما جذبه بقوة جعلت الاخير يراقب ذراعه المصاب، فتساءل باستغرابٍ: متأكد ان صابعك مكسور!
منحه عدي ابتسامة ماكرة، اتبعت سؤاله الخبيث: أنا كويس متقلقش عليا. القلق المفروض يكون من نصييك.
منحه بسمة ساخرة، وهو يهمس بتأكيدٍ: في دي عندك حق. انجز ولخص في الليلة اللي كلها مشقة دي!
اتاه ملبيًا لدعواته بالفصح عما بجوفه، فقال بغضبٍ: أنت كنت بتمثل عليا وواقف في صف ياسين الجارحي؟

أشار له باعتراضٍ صريح: لا عندك. أحنا كلنا كنا في ضهر ياسين الجارحي. اسالني ليه؟
حك جبهته بغيظٍ: ليه؟
أجابه ببسمة واسعة تشق طريقها على وجهه: لانه شخص ذكي، بالك لو اتعين مكان اللواء كان زمانه مقشط البلد من البلطجة والنصب أول بأول. نفسي تتعلم منه التوازن والثبات، يا أخي عنده طالة وبعد نظر وآ...

بتر كلماته وهو يرى نظرة غريبة تفترس ملامح عدي الذي بات على وشك أن ينقض عليه الآن، فقال بنفاذ صبر: عايز أيه من الأخر يا عدي، مش قضينا عليهم ورجعت بخير وفوق كل ده والدك سمحلك ترجع شغلك في أحسن من كده كلام؟
أجابه باستنكارٍ لتهربه مما فعل: في الأبشع. انك سبتني متغفل ومحاولتش توضحلي اللي حصل، على الأقل رحيم لمحلي وبفضله مكنتش وصلت لحقيقة ال ده!
ابتسم رحيم وهو يجيبه بعنجهيةٍ: تسلم يا وحش.

وتابع ببسمة خبيثة وهو يرفع يده على كتفه: أنا بس عايزك تعرف اني ظهوري ليك مكنش بهدف التلميح. عشان تكون في الصورة اللي مبحبش أهرب منها.

رمش بأهدابه بعدم فهم، فجذب رحيم خنجره الصغير، ثم نزع عن عدي قميصه، فاظلمت عينيه بغضب تام وهو يكتشف الآن ماذا فعل بالتحديد قبل أن يمسه مشرطه، نزع عنه رحيم جهاز التتبع وهو يخبره بمكرٍ: كان لازم أمنك كويس، صحيح القوات خدت وقتها لما وصلتلك بس الحمد لله ولاد عمك عملوا الواجب وبالأخص ابن عمك الصغير، أنا لحد الآن مش مستوعب انه قدر يمشي وراهم من غير ما حد يحس بيه، حقيقي الشخص ده ذكي جدًا.

كبت عدي ابتسامة كادت بالانقلات منه في وقتٍ ليس بالمناسب بالمرةٍ، وقال بحدة لجئ اليها ليسترد حقه: بجد اللي عملتوه معايا زعلني جدًا، بابا طول عمره مش مفهوم ليا، لذا أنا مستغربتوش لكن انتوا سبتوني على عمايا ومحدش فكر يرسيني على الحوار.

وتركهما واتجه للاريكة القريبة من النافذة، فجلس عليها بإهمال وحزن ارتسم على معالمه، تبادلا الجوكر والاسطورة النظرات الحائرة، وحسموا الأمر بنظرة مفهومه بين الأخ وأخيه، فاتبعوا خطاه، ليجلس كلاهما جواره، فقال مراد ببسمة هادئة: عدي أنت عارف إننا على طول في ضهرك، اللي عملاناه كان لحمايتك. صدقني الموضوع مكنش سهل وتفكير والدك كان في محله.

تابع رحيم بهدوءٍ لا يتعاهد مع شخصه المهيب: مهاب كان راسمها صح بداية لظهوره في العرض والصفقة اللي أخدها بالبداية لحد ما وصل هنا، كان باين انه دارس عنك كل شيء وبديهي عارف كل تحركاتك واللي تقدر تعمله، لذا كان لازم تفضل زي ما أنت واحنا اللي نلاعبه.

واستطرد قائلًا: الموضوع مكنش سهل، ركز وبص كويس، مهاب أبو العزم واللي وراه منتهتش امبراطوريته بالساهل، شوف كام قوة هاجمته عشان تهد اللي بناه طول السنين دي، أنت لوحدك مكنتش هتقدر تعمل كل ده، كنت هتدمر نفسك وعيلتك بايدك لان الموضوع مكنش هينتهي بموته، لان وراه ناس ساندينه بره مصر، فهرجع واقولك تاني تفكير ياسين الجارحي كان صح.

وأضاف مراد: عايز تقطع الشجرة متسبش أساسها وتقطع الأغصان، لازم تشيلها من الجذوع وده اللي حصل، اتحادنا وهاجمنا كلنا في وقت واحد وانتصرنا بفضل الله، ودلوقتي مستانينك ترجع بينا من تاني.
ضحك رحيم وهو يشير لكتفه الغائر بالدماء: بس تتعالج الأول.
قال مراد بمرحٍ وهو يتابع اصابته: وكأنك الشر اتجمع كله في كتفك الشمال يا عدي. هو بينه وبينك تار!

ارتخت معالمه المشدودة، فرسم بسمة فاترة وهو يجيبه: لا وأنت الصادق أخوك مختار الموقع الصح لاجهزته اللي ماشي يزرعها بين خلق الله.
ضحك رحيم بصوته الرجولي، وقال بسخطٍ: ميبقاش قلبك اسود يا صاح!
ثم نهض عن الأريكة ليشير لاخيه قائلًا: أنا بقول كفايا عليك كده النهاردة، ارجع البيت وريح واسبوعين تلاته القيك بتكلمني عشان ترجع لمكتبك.

استقام بوقفته قبالتهما، فوداعهما ببسمةٍ تحمل شكر وامتنان اتبع نبرته المحبة: أنا بشكركم على كل اللي عملتوه عشاني.
رد عليه مراد وهو يعانقه: متقولش كده يا عدي. سبق وانقذت حياتي من الموت وقدمتلي أكتر من معروف بدون مقابل.
ابتسم عدي وهو يغمز له: الصداقة مفهاش ديوان ولا أيه؟
طرق يده بيده وهو يشير له: مفهاش غير المحبة والتضحية بالدم.

راقبهما رحيم بضجرٍ: سيادة الجوكر المزعوم لو خلصت فقرة صداقتكم المملة نقدر نرجع القصر، أنا محتاج للراحة ده لو مش هزعج جنابك!
ضاقت زورقة عينيه بخبثٍ: بتأمر ولا بتبلغني؟
وضع يديه بجيوب جاكيته الأسود وهو يجيبه بتسلطٍ: الاتنين!
أشار الجوكر لعدي الذي يكبت ضحكاته بصعوبة: شايف طريقته يا عدي! ده متهزش اننا بقينا كل واحد بيشتغل لوحده، أنا بفتقده وأنا بتأوي جثث المجرمين!

ضمه رحيم اليه وهو يهمس له بنفور: هو أنت ليه بتشتاق ليا وقت الدم والقتل، بمعنى أوضح ليه رابط حبك ليا كأخ بالجثث أنا توبت من زمان عن حمايت التوابيت وتفكيك الاسلحة، أنا حاليًا فاتح صفحة بيضة مع شجن وبحاول أحافظ عليها عشان تفضل بيضة من فضلك متحاولش تلوثها.
أجابه بنفس هدوء نبرته وبمكرٍ يفوقه: عشان كده بطلت تطلع معايا وطلبت من اللوا يفصلنا عن بعض، عشان خايف أوصل اجرامك لاشجان.

برق بزيتونية عينيه بذهول: أنا ظابط شرطة مش قتال قتلة!
ضحك بسخرية: اثبتلها ده بتثبتلي أنا!
فصل بينهما عدي بضحكاته المرحة: انتوا جاين تحلوا مشكلتي ولا مشاكلكم!
ابتعد عنه رحيم وهو يشير برزانة زائفة: لا مش بنتخانق ده مهما كان اخويا للاسف، بيجمعنا بيت وسقف واحد، المهم أنت اهدى كده وكلمنا أول ما تحس انك جاهز.
أومأ برأسه ببسمة صغيرة، فودعه مراد قائلًا: هبقى أكلمك اطمن عليك.

وغادروا معًا، تاركين من خلفهما الوحش يحاول حسم أمره حول العودة أم البقاء، فتعلقت عينيه بوسام شجاعته على مر السنوات وسؤاله مازال يلح عليه وينتظر جوابًا صريح منه!

اجتمع الشباب بغرفة المكتب الخاص بهم، الا ياسين ورائد، اتجهوا للغرفة السرية ليطمئن كلًا منهما على زوجته، ما أنا وجدت رانيا زوجها قبالتها حتى أسرعت تجاهه باسئلتها المغتاظة: ممكن تفهمني في أيه، مليكة مالها؟ وليه طلبت مني معرفش حد!
أجابها ياسين وهو يهم للفراش بلهفةٍ ليطمئن على ملاكه: أنا اللي شددت عليه يقولك متعرفيش حد يا رانيا، طمنيني هي عاملة أيه؟

استدارت تجاهه، ثم قالت: بتفوق وبتنام تاني ومفيش على لسانها غير عدي!
والتفتت لزوجها مجددًا ثم تساءلت: قولولي في أيه؟!
طوفها بذراعه، وحثها على تتبعه: تعالي هحكيلك كل حاجة.
وخرج بصحبتها للخارج، بينما اقترب ياسين ليجلس جوارها، ضم يدها اليه وهمس لها بحبٍ: أخدت حقك يا حبيبتي، اللي كسرلك رقبتك قطعتله أيده ولو كان بإيدي اقطعله رقبته مكنتش هتردد!
أنت ازاي تخبي عني اللي حصل لبنتي!

كلمات صارمة نطق بها من يقف خلفه متلهفًا، مفزوعًا، لما علم به الآن، نهض ياسين عن المقعد، وارتد للخلف وهو يجيبه بارتباكٍ: حضرتك مكنتش بحالة تسمح اني احكيلك عن حاجة يا عمي، وبعدين الحمد لله مليكة كويسة وبخير.
تجاهل كلماته وهرع اليها، فجذب مقعده ليعتليه وهو يفتش بها بهلعٍ، فلم يجد سوى اصابة رقبتها، ضم خديها المتورد بيده وهو يناديها بقلقٍ: مليكة؟

رمشت بعينيها بانزعاجٍ، ففتحتهما على مهلٍ، وما أن وجدته قبالتها حتى انسدلت دمعاتها ورددت ببكاءٍ: بابا، عدي أخدوه!
ترك المقعد وجلس جوارها على الفراش، ثم حملها لصدره بحرصٍ، وهو يهدهدها بين ذراعيه كالطفلة الصغيرة: عدي بخير يا حبيبتي، المهم انتي!
وابعدها عنه ليسألها بخوفٍ: قوليلي حاسة بأيه؟
والتفت تجاه ياسين يأمره بغضب: جهز عربيتك هننقلها للمستشفى حالا.

أوقفته حينما قالت: أنا كويسة يا بابا. الدكتور لسه ماشي من شوية.
ثم تساءلت بلهفة: عايزة أشوف عدي.
لبيت رغبتها بسرعة البرق، حينما على طرق باب الغرفة، فولج عدي للداخل، أشرق وجهها ببسمة واسعة، ودموع سعادة تلمع بحدقتيها، فرددت بفرحة: الحمد لله انك بخير.
جلس عدي جوار أبيه على الطرف الأخر من الفراش، ثم أمسك معصمها وهو يخبرها بحبٍ: أنا كويس المهم انتي يا حبيبتي.

وزعت نظراتها بين أبيها واخيها ثم قالت: بقيت كويسة لما شوفتكم قدامي بخير.
وتساءلت بقلق: فين عمر؟
أجابها زوجها: عمر في سابع نومة، تقريبًا كده بيقول الليل داخل.
سأله ياسين باهتمامٍ: فين؟
أجابه على الفور: بمكتب أحمد.
نهض ياسين وهو يربت على يد مليكة المتعلقة به، واتجه لمكتب أحمد على الفور.

بمكتب أحمد.

كان يحاول تهدئة آسيل بكافة السبل، فخشى أن يزعج عمر بصوته، لذا تسلل للشرفة بخفة، ثم أغلق بابها من خلفه ليقود معركة عتيقة مع زوجته، في ذاك الحين ولج ياسين للداخل، باحثًا بعينيه عنه، فوجده يستكين بالأريكة المتحركة لفراشٍ، ابتسم وهو يتطلع اليه مطولًا، فدنا منه بخطواتٍ متهدجة، لا يعلم لما رأه في تلك اللحظة طفلًا صغيرًا لا يتعدى عمره الحادية عشر، جلس جواره ثم انحنى بجسده فمرر يده بين خصلات شعره الأسود، وطبع قبلة عميقة على جبينه، فتح عمر عينيه فاعتدل بجلسته سريعًا وهو يردد بنومٍ: بابا! أنا أسف محستش بيك.

لم تختلف نظراته تجاهه، تعمقها به جعل الأخير يندهش ويتابع ما سيقول بأهتمامٍ، وخاصة حينما قال: أنت عارف أنا بحب والدتك ليه؟
سؤاله كان غريبًا للغاية، ومع ذلك ابتسم وهو يجيبه: القلب لما بيحب بيعشق كل تفاصيل حتى لو كانت عيوب.

هز رأسه بثباتٍ، وتابع بنفس اتزان ملامحه: مش صحيح، أنا حبيت فيها قلبها الصافي الأبيض، نظرتها في الناس اللي حواليها حتى لو مكنتش مخونة للشر، حبيت فيها قربها من ربنا وابتسامتها اللي عمرها ما فارقتش وشها، حبي ليها اتحول لجنون، ويمكن هي السبب اللي غيرتني كده.

تابعه عمر ببسمة هادئة، فاستطرد ياسين: لما عرفت انها حامل اتمنيت من قلبي اللي في بطنها يطلع في نقاء قلبها، وربنا سبحانه وتعالى استجاب لدعواتي، بس مش ليكم انتوا الاتنين.
ضيق عينيه بعدم فهم، فتابع قائلًا: عدي طالعلي وأنت طلعت لآية بطيبتها وقلبها وكل الحلو اللي فيها.

ورفع يده ليحيط به وجهه وهو يتابع بنبرة ساكنة ببسمته: كل ما ببصلك مش بشوف فيك غير الطيب والخير اللي عملته آية في دنيتها، وبحمد ربنا انك طلعتلها، يمكن يحيى أقرب حد ليا ويعرف عني كل حاجه بس أنت كمان صديقي اللي مبقدرش أخبي عنه شيء، وأنا واثق انه هيفهمني وهيقدر اللي بعمله بدون ما حتى ما أشرحله أنا عملت كده ليه؟

وابتسم وهو يتابع بسخرية: أوقات بحس انك بعقلك ده أكبر من أخوك بسنين مش هو الأكبر منك بدقايق لا تحسب.
وتابع بحنان: مش عايزك تخسر طيبتك دي مهما شوفت يا عمر ولا تخسر حنيتك على الناس وعقلك، عشان كده أنا عايزك ترجع تتابع شغلك يا دكتور. عايز أرجع أفتخر بيك وأنت بتداري الخير اللي بتعمله عني ومتعرفش اني شريك معاك النص بالنص، لحد ما تتعود ولما أموت تشارك بينا الأجر ومتنساش تكونلي الأبن الصالح!

لمعت عينيه بالدمع، فقبل يد ياسين وهو يردد: الف بعد الشر على حضرتك، ربنا يديك طولة العمر ويباركلنا في صحتك.
ثم قال بصوت شبه باكي: أنا مش عايز ارجع. عايز أكون هنا جنب حضرتك.
ضمه ياسين اليه بقوةٍ، وهو يهمس له براحة: خلاص يا عمر النهاردة حاسس بالراحة ولأول مرة، لاني وأخيرًا قدرت أكسر عناد أخوك.
ابتعد عنه وهو يتطلع له بشكٍ: الوحش مش بيتراوض يا ياسين باشا. صدقني.
ضحك بصوت مسموع وهو يغمز له: اعتبرني رواضته.

وتابع وهو يتعمق بالتطلع إليه: أنا خايف أكون ظلمتك لما أجبرتك تكون هنا وعدي هو اللي كان هدفي.
اعترض على حديثه حينما قال: لو أنا اللي كنت مكان عدي وهو اللي كان مكاني مكنش هيتردد يعمل نفس الشيء، أنا مبفكرش غير باللي عدناه يا بابا، الحمد لله عدي بخير وحضرتك كمان بخير ده بالنسبالي كافي.

طبع قبلة على جبينه وهو يخبره: وانت كمان خرجت منها بخير أنت وأختك. ربنا النهاردة كان بيختبرني أصعب اختبار عدى عليا، اختبار فيكم انتوا التلاتة، والحمد لله انه فداكم وقادر أشوفكم قدامي بخير.
استقام ياسين بوقفته عن الفراش، وتنحنح وهو يستعيد ثباته مشيرًا له: يلا نادي لاحمد وانزل عشان هنرجع القصر.

بمكتب معتز.
مازالت محاولاتهم لن تجدي بالنفع، فبالرغم من أن المبرد يجتاح درجاته الا أن مازن مازال يصرخ بهما: حران يا بشر حران أنتوا أيه مش بتحسوا!
تطلع جاسم لمعتز بتفكيرٍ، ثم التقط الملفات المبعثرة على مكتبه وأشار له بالاقتراب مرددًا: مروحة صناعية قد توفي بالغرض، لو مبقاش كويس بعدها طفي التكيف وسيبه يتكل على الله العملية مش ناقصة فرهدة!

التقط منه معتز الملف، ثم أخذ يحركه تجاهه ليحصل على الهواء، فأغلق مازن عينيه ثم حاول فتحهما، وكل مرة كان يحاول بها فتحهما كانت تزداد دهشته ليختمها بقوله: أنتوا كام!
استدار معتز لجاسم ثم صاح بغضب وهو يلقي الملف: يا عم ده بيودع مفيش منه أمل.
جذبه ليقف جواره ويستكمل ما يفعله محذرًا: نحاول عشان أحمد على أخره مننا. صدقني ده في مصلحتنا!

جذب الملف بسخطٍ وهوى بغيظٍ فوق وجهه، فاحتك الملف باصابة رأسه، فصرخ بوجعٍ قابض، أتى حازم من الخارج مسرعًا على أثره، ليتساءل باستغرابٍ: مات؟!
جذب مازن المصباح الكهربائي المنبعث من الأباجورة، ثم ألقاها تجاهه وهو يصرخ بعنفوان: الملافظ سعد يا فقري!

تفادى حازم الضربة ثم قال بسخرية: بتتشطر عليا يا اخي كنت اتشطر على اللي نزل عليك بالشومة لحد ما علم عليك، والمصيبة انك كنت ظابط بوليس، يعني لو مكنتش عملت فيها صاحب صاحبك وفضلت بالشرطة ومسبتهاش وفاءًا لعدي كان زمانك مكسر مغارة الاشباح دي فوق دماغهم بس تقول أيه غبي ومعندكش عقل تفكر فيه!

احتقن تنفسه، وشعر بقبضة قوية تزيد من ختق رقبته، فحاول الاستدارة للخلف، ليتفاجئ بعدي من أمامه، فقال ببسمة مغتاظة: أنت مش ناوي تجبها لبر يا حازم!
هز رأسه وهو يشير له: هجبها للشط مش للبر.
أبعد يده عنه ثم قال: روح جهز العربية عشان هنمشي. بدل ما أنت واقف تشد في خناق البشر كده!
أشار بأصبعه على عينيه: بس كده عيوني. أنت تؤمر يا وحش.

وتركهم وهرول للأسفل، فلحق به معتز وجاسم، ليبقى مازن بصحبة عدي الذي كبت بسمته بصعوبة، لتظهر بقوله الرجولي الثابت: أيه اللي وصلك لكده؟
أجابه ساخرًا وهو يحرك رأسه بعنف جعله يصرخ ألمًا: كنت حاسس بملل فقولت ألعب البخت على وشي. آآآه.
واعتدل بجلسته وهو يسترسل باندفاع: أنا من يوم ما شوفت خلقتك والمصايب بتلاحقني، وكل مرة بإصابة شكل مش عارف المرة الجاية وضعي هيكون أيه!

حك أرنفة أنفه وهو يخفي ابتسامته الخبيثة، فقال بجمود مصطنع: أنا كنت جاي أقولك على خبر بس حاليًا أشك انه هيعجبك!
ابتلع ريقه بتوترٍ وهو يتساءل: خبر أيه اتحفني!
أجابه بنظرة متفحصة: بابا سمحلي أرجع الشغل.
جحظت عينيه صدمة، فنهض عن الفراش ببطءٍ جعل الأخير يتابعه باستغرابٍ، وخاصة حينما انحنى وحمل حذائه، ليتوجه للخروج، فاتبعه عدي وهو يتساءل بحيرةٍ: أيوه أنا كده فهمت أيه؟ يا مازن أقف هنا بكلمك!

هبط الدرج ثم استدار إليه وهو يصيح به: مش راجعين يا عدي. أنت عايز تضحي بيا كيف الفروجة!
تمردت ضحكاته الرجولية، فاتبعه وهو يردد بصعوبة بالحديث من بين ضحكاته: فروجة أيه يا مازن أنت عندي أغلى من كده يا جدع!
وقف قبل انحنائه للدرج القادم، ليصيح به: انت مش مكفيك اللي حصل فيا، ثم انك محتاجالي في أيه أنت عندك امكانيات تخليك تستغنى عن أي حد، سيب الغلابة اللي زينا يعيشوا ياكلوا عيش.

هرول للأسفل من خلفه وهو يتحكم بضحكاته بسيطرة تامة، وبجدية تامة أخبره: هتتخلى عني يا مازن بعد العمر ده كله؟
كز على أسنانه بغيظٍ وهو يشير له: سبني في حالي الله يكرمك أنا عندي عيال وعايز أربيهم!
أشار له بإستنكارٍ: وأنا يعني اللي عندي أرانب!

احتضن رأسه بتعبٍ وهو يشير له: وهل ده بيعنيك مثلا، أنت مش بتختار غير المهمات المستحيلة بتحسسني انك بتحلل لقمة عيشك، فتمامك الجوكر والاسطورة هما وش اجرام زيك، أنا مش سكتك!
تعالت ضحكات عدي فهرول للدرج من خلفه وهو يردد بصوته العذب: خلاص يا ميزو هنختار ونتشاور مع بعض، المهم انك متسبش الطريق اللي بدأناه سوا أمال ليه عملتلي فيها صاحب صاحبك وسبت الشغل والدنيا عشانك كنت بتشتغلني ولا أيه؟

لوى فمه بحنقٍ، فهمس بازدراء: افهمه ازاي ده. أطلق بنت عمه ونخلص من النسب الاسود ده ولا أعمل أيه عشان يقتنع!
وتابع ركضه للأسفل حتى وصل لخارج المقر، فاصطدم برائد وزوجته، فسأله بريبة وهو يوزع نظراته بينه وبين من يلحق به: في أيه؟
أشار له بسخطٍ: ابن عمك عايز يرجع للشغلانة بعد ما إعتزل!
ابتسم رائد بفرحة، فترك باب سيارته مفتوح، واحتضن عدي وهو يهنئه بسعادة: بجد يا عدي. عمي وافق؟

أشار له بتأكيدٍ فضمه بفرحةٍ، ومازن يوزع نظراته بينهما بصدمة، ارتفع ضوء مصباح سيارة تقترب منهم، فهبط منها عز ورعد وأدهم بعد عودتهم صباح هذا اليوم، فتساءل رعد بقلق: في أيه يا ولاد مرجعتوش القصر لسه ليه لحد دلوقتي، البنات قالبين الدنيا عليكم!
أجابه رائد ببسمة مشاكسة
كنا جميعًا بنشارك في بطولة جماعية لتحرير مصر من الادغال.
رفع ادهم حاجبيه بذهول: ادغال مين وبطولة أيه؟

فتح رائد باب سيارته الخلفية وهو يشير لهما: اتفضلوا وأنا هحكيلكم كل حاجة، الطريق طويل وهنتسلى!
كاد عز بتتابعهم بسيارته فأوقفه مازن حينما قال: عمي.
استدار عز تجاهه، فصعق مما رأه وتساءل بدهشة: أيه اللي عمل فيك كده؟!
أجابه مازن بضيق: انا عايز نفض النسب ده بالمعروف زي ما دخلاناه عشان ولاد اخواتك يحلوا عني بالذات حازم.

ضحك عز بصوته كله، ففتح باب سيارته وهو يشير له بتسليةٍ: واضح انها حكاية مسلية فعلا اركب اركب.
لوى فمه بتهكمٍ وهو يراه يقلب الامور بمزحٍ بالرغم من رؤية ما حدث بوجهه من أضرار، لذا انصاع اليه بهدوءٍ وصعد جواره.

بالقصر.
كانت تجتمع الفتيات بأكملهن حول حمزة الذي عاد مسرعًا بعد محادثته مع آسيل، فطرح وجهة نظره بالأمر حينما قال: الغريبة ان ياسين معاهم، لو مكنش معاهم كنت أقسمت انهم بيعملوا بلوة.
وأجاب على ذاته مرددًا: يكونش ياسين بيتجوز وواخدهم شهود!

جحظت عين آية بصدمة فتحررت عن طور هدوئها وردائها الملائكي: حرام عليك يا حمزة، أنت جاي تخفف عننا ولا تجلطني. ياسين عمره ما رفع عينه في عين واحدة هيجي يعملها بعد العمر ده كله!
ضحك وهو يخبرها: بحاول ألطف الاجواء يام عدي.
قالت تالين بحنقٍ: بلاش يا حمزة الموضوع مش متحمل.
اضافت ملك: أنا عارفة أخويا مفيش فايدة فيه هيفضل زي مهو.
ضحكت شذا وأضافت: بلاش تظلموه بيحاول يخفف عننا.

ردت دينا بضيق: يخفف أيه بس انا قلقانه على الولاد أول مرة يعملوها، دول من امبارح لحد الآن مظهروش.
تساءلت يارا بقلق: محدش رد عليكم يا بنات.
أشاروا جمعهن بالنفي، فقالت آسيل: أحمد رد عليا وقالي انهم راجعين.

انتبهوا جميعًا لصوت أبواق السيارات، فأسرعوا للتراس، ليراقبون ما يحدث، وأول ما جذب انتباههم اصابة مازن ومليكة البادية للجميع، وبعض الخدوش المتروك أثرها على الوجوه، هموا سريعًا اليهم، فالتفت الفتيات حول مليكة، وتساءلت آية بلهفة: في أيه، ايه اللي، حصل؟

لم يجيبها أحدٌ، حتى مروج اتجهت لمازن تتساءل عما أصابه، التقطت عين رحمة اصابة ذراع عدي بعدما استرد عافيته فاتقبض قلبها وغارت عينيها بالدموع، الصمت حال الجميع والترقب يعلو مؤشراته تمعنًا بياسين، الذي خرج عن سكونه حينما قال: حضروا الفطار.

لم يجرأ أحدٌ على الاعتراض، فجلسوا جميعًا على الطاولة بصمت قاتل، بدأ الرجال بتناول طعامهم والفتيات تراقبهم بقلق نخر قلوبهم، فكسرت ملك صمتهم هذا حينما تساءلت بقلق: فهمونا في أيه؟!
أجابها يحيى ببسمة هادئة: مفيش حاجه يا حبيبتي.
اعترضت يارا على حديثه: مفيش حاجه ازاي وكلكم راجعين بكدمات!
الصمت سيطر مجددًا، فقالت آية بخوف: اتكلم يا ياسين في أيه؟!

منحها نظرة هادئة فعلمت بأنه سيخبرها بمفردهما، لذا صمت الجميع باستسلام لعلمهن بأن الامر متعلق بأمر ياسين الجارحي لذا لن يجرأ أحدٌ عن الحديث، فقال رعد في محاولة لتلطيف الاجواء: اللي المفروض نعرفه اننا عندنا أبطال يترفع ليهم الرأس.
تطلع أحمد لياسين ومن ثم لعدي وعمر، وانتقلت النظرات بين الشباب، فهمس حازم بصوت منخفض: بلطجية يتباهى بيهم.

فور نطقه لتلك الكلمة حتى انفجر الشباب ضاحكين، وكلا منهم يحاول جاهدًا السيطرة على ضحكاته بحضور ياسين، والصادم بالأمر بأنه لم يقوى على ضبط انفعالاته وشاركهم الضحك، تعالت ضحكات يحيى وهو يجيب رعد: لو حد محتاجنا في أي خناقة احنا في الخدمة، وأهو كله بثوابه.
أضاف ادهم: فاتنا الليلة دي بس تتعوض.
قال عز ساخرًا: سبها تفوتنا احنا العضمة كبرت ومبقاش ده زمانا.
تساءلت دينا بغضب: طب فهمونا طيب بتتكلموا عن أيه؟!

أجابها يحيى: عن بطولات الشباب، والله ما قصروا ورفعوا رأسنا وكله كوم وابني كوم تاني، ما شاء الله واخدها تشريح!
أخفى ياسين ضحكاته، فهمس عمر له: هحتاجك وردية بليل بالمستشفى هتفعنا أوي.
دعس قدمه بحذائه، فتلوى ألمًا، ابعدهما أحمد عن بعضهما وهو يهمس بصدمة: عمي قاعد احترموا وجوده.
رد عليه ياسين باستهزاء: ما احنا بلطجية بقا!
انتهت الاحاديث الجانبية حينما ردد ياسين بحزمٍ: اطلعوا أوضكم كلكم محتاجين للراحة.

فور انتهائه لحديثه صعد الجميع تباعًا، ولم يظل على الطاولةٍ الا هي، راقبت الطريق من حولها، فما أن خلت بهما القاعة، حتى هرعت بالجلوس جواره، فتمسكت بذراعه الحامل لقهوته، لتتساءل بلهفة: طمني يا ياسين، أيه اللي حصل؟
منحها ابتسامة تبعد عنها ذاك التوتر القاتل، ثم طبطب على يدها بيده وهو يخبرها: الكابوس انتهى يا آية، والمجرم مبقاش له وجود!

بغرفة عمر.
أغلقت الباب من خلفها، وهرعت من خلفه، فوجدته يتمدد على الفراش بتعبٍ شديد، دون أن ينزع ملابسه أو يعتدل بمنامته، حركته نور بعصبية بالغة: أنت هتنام وتسبني بحط افتراضات كده يا عمر. قوم كلمني!
همس لها بنومٍ: انا تعبان يا نور. هريح شوية وهقوم احكيلك على كل حاجة.

أشفقت عليه، فتركته وحملت عنه جاكيته الثقيل، ثم اتحنت وخلعت عنه حذائه فاعتدل بمنامته، ليجدها تجذب الغطاء لتداثره به، جذب يدها فطبع قبلة رقيقة على أصابعها وهو يهمس بعشقٍ: حبيبتي.
ابتسمت نور وانصاعت ليده التي تجذبها، فمالت برأسها على صدره وغفت بهدوءٍ مفروض عليها تلك المرة.

بغرفة ياسين.
وضعها على الفراش، ثم اتجه لسرير الصغيرة فوجدها هائمة بنومٍ مريحٍ، بعد أن قامت والدته بالاعتناء بها، فجذب ملابسه واتجه لحمام غرفته، ابدل ثيابه أولًا ثم تمدد جوارها على الفراش، فسألها بلهفةٍ: لسه حاسة بوجع؟

أشارت له بالنفي، وحاولت الاستدارة تجاهه فقابلت عناء بما ترتديه برقبتها، ساعدها ياسين، فتطلعت لعينيه بصمتٍ قاتل، صمت يغلب على شفتيها وما يدور بعينيها يعاكسه، لم يكن بالأحمق يومًا ليفشل بقراءة ما تفكر به، عقله ميزه بالمنصب الهام الذي يديره بالمقر من البداية لذا الحمق والغباء بعيدان كل البعد عنه، قرب ياسين يده من خدها، فمررها على وجهها بحنانٍ، ثم قال: بتفكري في أيه يا حبيبتي؟

نفت ذلك حينما قالت: مش بفكر في حاجة.
مازحها حينما غمز بمشاكسة: على بابا!
زمت شفتيها بضيقٍ جعله يضحك بصوته كله، فاعتدل بمنامته، حتى استقر يغفو على ظهره، فحملق بسقف الغرفة وهو يردد بثباتٍ: أمممم، خليني أخمن. أكيد حازم نقلك اللي حصل فاترعبتي مني وفكرتيني قتال قتلة صح؟

اتكأت على معصمها حتى زحفت بجسدها ويده تحتضن ما يلف رقبتها بانزعاجٍ، فحاولت وضع رأسها على صدره لتستكين بنومتها، وحينما فشلت جلست بتأففٍ وهي تخبره: لا مزعلتش عشان الحيوان ده مد ايده على عدي وكان هيقتلني!
التفت اليها فضمها بحنانٍ، ابتسمت بانتصار حينما شعرت بقربها منه دون أن تحيل رباطة عنقها بينهما، فأغلق عينيه باستسلام لنومٍ قاتل وهو يردد بنعسٍ: مفيش مخلوق هيمسك طول ما أنا جنبك يا ملاكي.

ابتسمت وهي تراقبه، فوجدته غفى بنومٍ عميق ومازالت يدها تحتضن جسدها إليه، اشرأبت بعنقها قليلًا، فطبعت قبلة على جبينه وهي تهمس بحبٍ: ربنا ميحرمني منك ياحبيبي.
ارتسمت بسمة صغيرة على شفتيه، وكأنه يشعر بوجودها، فاستسلم لنومه ولحقت به بإرهاقٍ هي الاخرى.

بغرفة آسيل.

جابت الغرفة ذهابًا وايابًا، وعينيها تراقب الفراش بغيظٍ، استمعت لخطبته الطويلة بالا تزعجه لارهاقه الشديد وبوعده القاطع لها بأنه سيقص كل شيء بمجرد استيقاظه، حاولت تهدئة ذاتها لتنتظر استيقاظه ولكنها لم تستطيع، فأخذت تراقبه بحنقٍ شديد، زفرت آسيل بغيظٍ جعلها تكاد تبتلع ذاتها، فرفع أحمد الغطاء عنه، ثم مال بجسده ففتح مصابحه الجانبي وقال بابتسامة ساخرة: عايزة تعرفي أيه يا آسيل عشان يجيلك نوم وتسبيني أرتاح أنا كمان!

تهللت تعابيرها، فركضت اليه وصعدت فوق الفراش بعشوائيةٍ كادت باسقاطها، تعالت ضحكاته وهو يساندها مرددًا بعدم تصديق: طب براحة هو أنا ههرب. أمال لو كنت من الرجالة القفوشة اللي مش بتتكلم مع زوجاتها كنتي هتعملي أيه؟
جلست جواره واجابته: كنت هقتلك يا حبيبي، أنا بحب الرغي وطول عمرك بترغي معايا وبتحب تسمعني ولا اتغيرت.

تلاشت معالم مزحه تدريجيًا وقال ببسمةٍ عاشقة: ولأخر حياتي هفضل أسمعك وعمري ما همل حتى لو كان كلامك أغلبه تافهة، هحاول أشاركلك كل تفاصيلك وهجتهد في ده.
ابتسمت برضا، وتناست كلماته حينما صوبت له سؤال مباشر: قولي كنتوا فين بقا؟
ضيق عينيه بمكر: مش عمي قالكم كنا بنحارب!
جاهدت انغلاق عينيها للنوم بعدما قضت ليلها بانتظاره، فقالت وهي تقاوم: حرب أيه. اديني تفاصيل!

جذب أحمد الوسادة فوضعها خلف ظهرها ثم بدأ بقص ما حدث عليها، وحينما انتهى واستدار تجاهها وجدها تغفو بنومٍ عميق، تعالت ضحكاته الرجولية، وردد ساخرًا: هو أنا بحكيلك حدوتة قبل النوم!
ثم تمدد جوارها وجذب الغطاء فوقهما وهو يهمس بنومٍ: المهم انها هتسبيني أنام في سلام!

خرج من حمامه الخاص فاتجه لخزانته لينقي ما سيرتديه بعد حمامه الساخن، فوقفت رحمة بالخارج وهي تردد: كنت فين كل ده يا عدي، وليه مكنتش بترد على موبيلك أنا قلقت عليك!
جذب بنطال أسود فارتداه وهو يجيبها: أنا كويس وده المهم.
لحقت به للداخل بعدما أيقظ كل طاقة غضب اختبأت خلف وجهها الرقيق، فصاحت به: يعني أيه كويس! انا بسألك كنت فين دي مش اجابة لسؤالي يا عدي، وايدك أيه اللي حصلها!

قالت جملتها وهي تشير ليده، فجحظت عينيها في صدمة حقيقية جعلت فمها ينفتح على مصراعيه، ضمت يدها على فمها وهي تراقب أثار الاحمرار العميق على صدره وظهره، وبعض الخدوش السطحية، رفعت عينيها المغرقتان بالدموع وهي تشير له: ده أيه؟
ارتدى التيشرت الخاص به، ثم دنى منها وهو يضمها اليه: رحمة أنا كويس والله. ده موضوع صغير واتحل الحمد لله.
ابعدته عنها وهي تردد برهبةٍ: المجرم ده اتعرضلك صح.

ضيق عينيه بذهولٍ، وقد باتت الخزانة ضيقة تخنقه رويدًا رويدًا، فعادت كلمات ذاك الأرعن تتشكل من أمامه حينما أخبره بأمر مصطفى وما فعله بزوجته، استجمع الآن كل الخيوط، فتطلع لها مطولًا قبل أن يردد بدهشة: ده السر اللي كان بينك وبين بابا؟ مصطفى مش كده!
برقت بدهشةٍ، فهزت رأسها نافية بخوف وبكاء، جعلها تردد بارتباك: مصطفى مين، أنت بتقول أيه يا عدي أنا معرفش أنت بتتكلم عن أيه؟

تألم للغاية وهو يحاول تخيل ما مرت به بدونه، ما واجهته لأجله، دون أن تطالب سنده ومأمنه بعيدًا عن هذا اللعين، ضمها اليه بقوةٍ جعلتها تنهار باكية بين ذراعيه، فربت عليها بحنان وهو يخبرها: كل شيء انتهى يا رحمة، ومصطفى أخد جزاته اللي يستاهلها.

فاضت اليه بما خبأته طوال تلك المدة، فوجدته يضمها ويحتوي جروحها، يكفيها حالة الهلع التي خاضتها دونه، أبى لها البعد بتلك اللحظة العظيمة من المشاعر والعواطف، فاقتبس من رحيقها وتركها تغدو منه، لتصبح رغباتهما محرمة للأعين التلصص عليها!

لم تكن بحاجة لسماع مبرراته، تعبه كان بادي على وجهه وضوح الشمس، لذا تركته نسرين يرتاح، وحملت ثوب نومها ثم اتجهت لحمامها الخاص، علها تشعر بالتحسن قليلًا لما يهاجمها بالفترة الاخيرة من وجعٍ حاد، خاصة بعدما باتت بمنتصف الشهر التاسع من حملها، فاستندت على الحائط حتى ولجت للحمام، فضغطت على مكبس الدوش، ثم انغمرت أسفل المياه لدقائقٍ شعرت بها بتحسن ملحوظ، فجذبت قميصها القطني الطويل، وارتدته بهبوطٍ شديد أصابها فجأة، فشعرت بأن الحوائط الأربعة تلتف بها، ووجعًا عظيمًا يطعن أسفل بطنها، تمايل جسد نسرين للخلف حتى استسلمت لجلوسها أرضًا خشية من أن تسقط فيتأذى جنينها، وحينما بات ألمها غير محتمل، صرخت باكية: حازم!

اعادت تكرار اسمه ببكاءٍ مرة تلو الاخرى، حتى انزعج بمنامته، فانتفض بالفراش وهو يردد بهلعٍ لسماع بكائها: نسرين!
أشغل اضواء الجناح بأكمله وبحث عنها بخوفٍ، حتى تسلل صوتها اليه، فطرق على الباب عدة مرات وهو يتساءل: نسرين أنتي جوه؟!
أتاه صوتها الخافت تستغيث به: الحقني يا حازم. مش قادرة هموت!
سماعه لبكائها جعله يكاد يفقد صوابه فتساءل بقلق: ابعدي من ورا الباب!

كانت بالفعل بعيدة عنه، فاندفع تجاهه بجسده بكل قوته، عدة مرات حتى انصاع خضوعًا إليه، فأسرع حازم للداخل فوجدها تجلس أرضًا وملابسها ممزوجة بالمياه والدماء، سقط قلبه بين قدميه، فحملها بين ذراعيه ثم جذب اسدالها ومفاتيح سيارته وهبط بها لسيارته وهو يخبرها: متخافيش أنا جانبك!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة