قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أحفاد الجارحي ج5 (ترويض الشرس) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الأول

رواية أحفاد الجارحي ج5 (ترويض الشرس) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الأول

رواية أحفاد الجارحي ج5 (ترويض الشرس) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الأول

قاطع سكنة الليل المظلم ستار الشمس الزاهي، لتجدد مداومة عرش سلطتها ليومٍ جديد، فتدلل أحد خيوطها ليلامس قبعة القصر العتيق، فغمرته بدفئها واحتدت في كرمها حتى بات الأمر مزعج لهؤلاء الغافلون بحديقة القصر المفتوحة، حول مقاعدهم المحاطة بطاولةٍ تحمل عدد مهول من الأوراق والملفات ولكلًا منه حاسوبه الشخصي، فضمت الطاولة ثلاث حاسوب أحدهم يخص رائد الذي يحتضنه بنومٍ وإرهاق جعله لم يشعر بليلٍ أسدل جلبابه الأسود عليه وعلى من يتمدد لجواره، فلم يغلبه شبح النوم فحسب بل سيطر على ياسين و أحمد الغافل لجواره بعدما قضوا الليل معًا للعمل على صفقة هامة ومعقدة وكل عدي بها رائد، وحينما لم يستطيع أن يجد مخرج لما يقابله من معاضل وخيمة، لجأ لأبرعهم مكرًا واحترافًا في عمله، ولم تكن ظنونه خاطئة فبعد ساعات طويلة استطاع ياسين و أحمد منحه الخيارات المناسبة، والحسابات اللازمة لربح تلك الصفقة الصعبة، فقضى ليله بأكمله ينصت لتعليماتهما، حتى غفاهم صباح موحد للجميع، بدأت أشعة الشمس تحتد وخاصة مع اقتراب الهاجِرة، فقطب أحمد حاجبيه بانزعاجٍ لم يتركه الا حينما استجاب لذلك الأمر الحاسم، فبدأ بفتح عينيه تدريجيًا، وهو يقاوم صداع رأسه وإرهاق جسده لنومة لم تكن بالمريحة بالمرةٍ، أخفض ساقيه عن المقعد ثم استقام بجلسته وهو يفرك جبينه بتعبٍ، وحينما بدأ بالاستيقاظ، هز مقعد من يجاوره وهو يناديه: ياسين.

واستدار بوجهه للاتجاه الاخر وهو يرفع من صوته المنزعج: رائد.
فتح كلًا منهما عينيه بانزعاجٍ، فتراجع ياسين بجسده بعيدًا عن الطاولةٍ التي ضمها طوال الليل، وخرج صوته الناعس شبه مسموع: هي الساعة كام دلوقتي؟
حل أحمد جرفاته عن رقبته بضيقٍ، ثم حل ازرر قميصه الأسود ورفع أكمامه وهو يتفحص ساعته الفضية: تسعة!
نهض رائد باستياءٍ شديدٍ: يا خبر احنا نمنا هنا ولا أيه؟!

اتجهت نظرات ياسين الحارقة لتحيط به، أيمتلك الجرءة ليعترض على الوقت الذي كان هو السبب به، فدنا منه والأخير يتراجع بارتباكٍ للخلف وخاصة حينما رفع إصبعه وهو يحذره بعنفٍ: لو لمحتك قدامي النهاردة هزعلك، سامعني؟
رمش بعينيه مطولًا وهو يردف بحيرةٍ: طب وسهرة بليل؟
كز على أسنانه بغيظٍ: حاول تبعد عني النهاردة يا رائد أحسنلك.
تساءل ببراءةٍ مصطنعة: ليه بس أنا عملتك أيه؟!

اتجهت نظرات ياسين تجاه أحمد وكأنه يشهده على وقاحة ابن عمه، وعاد ليتطلع إليه مجددًا ثم صاح بانفعالٍ: كل يوم نرجع من المقر نص الليل نلاقي واحد فيكم مستنينا بمصيبة والمفروض اننا نحل بلاويه قبل الصبح عشان عدي ميقطعش رقبته، أما احنا بقا محدش بيفكر فينا ده أنا بقالي يومين مشوفتش مراتي وابني يا ظالمة!

تعصبه الشديد الذي لا يليق بشخصه الهادئ كان بمثابة انذار بخطرٍ عظيم، فجذب رائد، أحمد ليكون قبالته، فقال بإرهاقٍ سكن باحمرار عينيه التي لم تذق نومًا هنيئًا منذ اللحظة التي تولى بها عدي ادارة المقر: خلاص يا ياسين، اطلع غير هدومك عشان منتأخرش.
جذبته كلماته الأخيرة عما كان يعتريه، فالتفت تجاهه وهو يتساءل بجديةٍ: نتأخر على أيه!

تغاضى عن نسيانه لحدثٍ هامٍ هكذا رغم أن ذلك يخالف مكنونات شخصه المثالي، فما يمر به كلاهما يصعب على العقل البشري تحمله: أنت ناسي أن النهاردة هنروح مع عدي نراجع على المكينات اللي وصلت في شحنة الصين ولا أيه!

ضم مقدمة أنفه بيده وهو يجاهد بالتحكم بأعصابه التي تدفعه لاقتاد ثورة ستفتك بابناء عمه لا محالة، فشيعه بنظرةٍ مشتعلة قبل أن ينحني ليجذب جاكيت بذلته الرمادي، ثم حمل حاسوبه وتوجه للداخل بصمتٍ زرع القلق في نفس رائد الذي أشار لمن يقف جواره بتوترٍ: شايف بيبصلي ازاي يا أحمد؟
نفث عما بداخله وهو يردد بمللٍ: فكك من شغل الأطفال ده يا رائد.

وجذب جاكيته هو الأخر، ثم ربت على كتفيه وهو يحثه بابتسامةٍ هادئة: هطلع أغير هدومي أنا كمان، وأنت اقعد كمل الملف وأنا هخلي حد من الخدم يعملك قهوتك عشان تشتغل بمزاج.
غمز له بابتسامةٍ ماكرة: أحبك وأنت فاهمني.

اكتفى بانحناءة رأسه وكأنه يتبعه بطريق مزحه المؤقت قبل أن ينهمك كلًا منهما بعمله الشاق، فتركه أحمد واتجه للداخل، بينما جذب رائد حاسوبه ثم أخذ ينقل البيانات الهامة للملف بتركيزٍ، خشية من أن يتم نقل معلومة خاطئة قد تجني على ثماره الذي جناها بالكد والتعب.

تسلل بحذرٍ لغرفته، والابتسامة الفاترة لا تغادر شفتيه منذ أن رأى الأنوار تضيئها وكأنها هي الوحيدة التي تواجه اشراقة شمس هذا الصباح، فاقترب من الفراش بخطواتٍ حذرة فجلس لجوارها وهو يتأملها بنظراتٍ التهمتها الرغبة وجموح المشاعر الدافئة التي يخبأها لها، فابتسم رغمًا عنه وهو يراها تقبض على ريموت الضوء الإلكتروني بين راسغها، فمال عليها ياسين ثم حرر الريموت من بين أصابعها ليغلق الضوء الذي تلجأ له زوجته بغيابه، يعلم جيدًا بأنها لا تخشى الظلام بدونه فقط، بل تخشى هفوة رقيق قد تلمسها وهو ليس بجوارها، يعلم بأنه مصدر قوتها وسكينة الطمأنينة، ويحب أن يرى تعلقها الشديد به حتى وإن عنادته وفشلت أن تبدي له ذلك، فبالنهاية تحمل نفس العصب الذي يجري بعروق أخيها الشرس وأبيها الذي بدى يقلق حيال أمرهما.

أغلق ياسين الضوء ثم خلع قميصه عنه وهو يسرع للخزانة ينقي ما يناسبه حتى يستعد على الوقت المطلوب، فجذب أحد الحلى الرسمية الآنيقة، ثم وضعها على الأريكة المجاورة له، وأسرع لحمام غرفته عل حمام دافئ ينعشه قليلًا، وحينما انتهى ارتدى الحلى ووقف يصفف شعره القصير بعنايةٍ، ثم جذب البرفنيوم الخاص به ليضعه على قميصه مستهدفًا رقبته.

ألقى على ذاته نظرة أخيرة قبل أن يتجه ليغادر غرفته، فتوقف محله حينما وجدها تجلس على الفراش، تحدجه بشراسةٍ ويدها مربعة أمام صدرها وشفتيها تتدلل بطفوليةٍ عابسة، كبح شبح ابتسامة كادت بالظهور على شفتيه، وتساءل بجدية اتيعت صوته الرخيم: مليكة. أنتِ صحيتي أمته؟
أتاه ردها المغتاظ لبروده: من وقت ما حضرتك اتسحبت وطفيت عليا النور. قال يعني خايف عليا وعايزني أنام بعمق مش عشان تعرف تهرب!

ضحك رغمًا عنه، فدنا حتى بات قريبًا منها، وقال بحنان نبرته الدافئة: أنا عارف إنك مش بتحبي تنامي في الضلمة بس الشمس منورة الدنيا.
أبعدت الغطاء عنها، ونهضت عن الفراش لتكن قبالته مثلما ارادت أن تتبع تلك المعركة التي قادتها صباحًا: وأنت يفرق معاك ليل من نهار، أنت حياتك بقت كلها برة القصر وبعيد عني أنا وابنك.

ضم شفتيه معًا بقوةٍ كادت بقطعهما، فلم يكن بذاك الماكر الذي سيحارب وهو يؤكد لها بأنه لم يخطئ، بلى يعلم بأنها أول من يقصر معها ويشعر بالحرج حيال ذلك، غلب توقعاتها حينما ظنت بأنه سيحارب اتهاماتها، ولكنها وجدته يدنو حتى صار قريبًا يقطع المسافة بينهما، فجذبها إليه بيده واليد الأخرى تبعد خصلات شعرها البني عن جمال عينيها الذي اشتاق لتأملهما، تأهبت عينيها لتموج بين شواطئ خاصته، فتدفقت دقاتها تباعًا حينما ضم وجهها بين كفه: أنا عارف يا حبيبتي أني مقصر معاكم، وحاولت إمبارح إرجع بدري عن معادي عشان نخرج أنا وانتِ في مكان خاص بينا بس للأسف رجعت لقيت رائد مستنيني وكان محتاج مساعدتي في حاجة. أنتي عارفة اني مقدرش أتاخر عنه ولا عن أي حد. لكن لو عليا فأنا عايز أفضل عمري كله معاكِ. أنا بحس طول ما أنا بعيد عنك اني في غربة ولازم تعرفي أد أيه بكون متعذب عشان أرجع وأشوفك قدامي. الكام ساعة دول بيخطفوا مني كل حاجة، ابتسامتي. روحي. قلبي. بيخطفوا عمري كله.

واسند جبهته لجبهتها وهو يهمس بعشقٍ: أنتِ ملكتي قلبي ومبقاش ملكي يا مليكة!

ارتعش جسدها الذي أعلن التمرد عليها من شدة قربه وكلماته الخبيرة في السيطرة على أحاسيسها ومشاعرها، فلم تستطيع الاعتراض على دفعة عشقه الذي قدمها إليها، سمحت له بأن يخترق خصوصياتها تباعًا، حتى ملكها قلبًا وقالبًا فلم يبالي لكونه متاخرًا، شعر وبتلك اللحظة بأنه يود أن يذهب العمل والشركات والمقر للجحيم، طرد عناء مهماته الثقيلة خلف شرارة عشقه وجموح رغباته التي ذابت أخر حصون عشقهما المؤجل!

الصباح لا يحلو الا بمزيج رائحة القهوة والشاي الممزوج بالحليب الدسم، لإرضاء أذواق الجميع على المائدة التي تجمعهم، حرصت دينا و ملك على تنظيم الطاولة استعدادًا لموعد تناول الفطور بالساعة العاشرة مساءٍ، فسبقن بالتجهيزات قبلها بنصف ساعة، فوقفت كلًا منهن تشرفن على الطعام الذي يتقدم على الطاولة، وما يتم تجهيزه بداخل المطبخ، كان أحمد بطريقه لغرفته حتى يبدل ملابسه سريعًا، فانتبه لصوت ملك المتلهف لندائه: أحمد.

توقف عن صعوده الدرج، وعاد ليقف مقابلها وهو يتساءل باهتمامٍ: حضرتك ندهتيني.
أومأت برأسها وهي تسأله بقلقٍ: فين ياسين وليه مرجعتوش امبارح مع الشباب؟
رد عليها بابتسامةٍ لم تفارق وجهها البشوش: لا رجعنا بعدهم بساعة، بس كنا بره بالحديقة بنخلص شوية شغل.
منحته ابتسامة رقيقة وهي تخبره: طيب يا حبيبي. اطلع غير هدومك وانزل عشان تفطر معانا.

أومأ برأسه بخفةٍ وهو يتجه للأعلى بعدما أخبر أحد الخدم بتقدم القهوة لمدمنها الذي يترقب لحظة وصولها بالخارج، وحينما صعد للدرج وجد من يتابعه من الأعلى وهو يرتب جرفاته بانزعاجٍ أمام المرآة الموضوعة على جانبي الدرج العلوي، فما أن صعد تجاهه حتى قال ساخرًا: يا مراحب بابو جميد. راجع وش الصبح كده ولا همك حد!
ألقى جاكيته وهو يجيبه بتأففٍ: مش فايقلك على الصبح يا جاسم.

منحه نظرة متفحصة قبل أن يشير له بشفقةٍ: روح خدلك شاور كده وحصلني تحت في حاجة عملها أخوك المغفل ولازم تعرفها.
اعتصر وجهه بقبضة يده وهو يتساءل بحدةٍ: عمل أيه سي زفت!
بابتسامةٍ واسعة قال: غير وحصلني.
وكاد بالهبوط للأسفل ولكنه توقف حينما جذبه أحمد وهو يردد باستهزاءٍ: استنى بس. أنا تقريبًا عشان منمتش كويس بيتهيألي إنك نازل بدري على غير عادتك.

أبعد يده عن جاكيته، وعدله بحرصٍ على الا يتلفه، ثم قال بهدوءٍ مضحك: لا أنا بس مليت من دوشة الواد وأمه. كلوا دماغي على الصبح يا عم.
كبت احمد ضحكاته بصعوبةٍ وهو يتابع من يقترب منهما ويتلصص على مسمع الأخير، وإذ فجأة وجد ابنه الصغير موضوع بين يديه وصوت حاد يتلقفه كالصفعات التي علت رقبته مرة واحدة: بقى كده. طيب يا جاسم أنا هوريك. اتفضل ابنك اهو شوف بقى مين اللي هيربهولك أنا مجتلكش بعيال يا حبيبي.

استدار بالطفل الذي لم يكف عن استهداف وجهه ورقبته بأظافره متعمدًا غرسها بلحم وجهه، فصاح بألمٍ: آآه، لا يا داليا متسبنيش مع المتوحش ده أنا آسف.
وركض خلفها وهو يناديها بهلعٍ، ويبعد عنه الصغير وكأنه يحمل قنبلة مؤقتة: استني بس يا حبيبتي، ده أنا كنت بهزر وعهد الله بحبك ومقدرش أستغنى عنك.
وأسرع خلفها للأسفل بينما استكمل أحمد طريقه وشفتيه لم تكف عن الضحك حتى أحمر وجهه.

رحمة.
ارتعبت فور سماعها لصوت المتعصب، فحمدت الله مرتين أنها الآن بغرفة أبنائها والا كانت تواجه غضبه الذي لا تعلم سببه إلى الآن، وحينما استمعت لصوت ينادي مجددًا تركت الباب الفاصل بين الغرفتين بينما تتصنت عليه وأسرعت لفراش ابنتها، فركت أصابعها وهي تخبرها بإرتباكٍ: حبيبتي بابا بيناديكِ مش بتردي ليه؟

رفعت الصغيرة عينيها عن دفترها الصغير لتجيبها بضيقٍ رغم الابتسامة التي ترسمها، وكأنها مجبورة على رسم الود: يا مامي كل مرة حضرتك بتقوليلي كده ولما بروحله مش بلاقيه عايزني أنا.
ثم تساءلت ببراءةٍ: أنتي خايفة تروحي؟
اخفت خوفها خلف نظراتها الحانقة: هخاف ليه يعني!
ثم تركتها واتجهت بكل ثقة زائفة تجاه الباب الفاصل بين الغرفتين وفجأة على الصوت بعصبيةٍ سيئة: رحمة!

تلاشت كل ذرة شجاعة تحلت بها، فهرعت الى فراش ابنها الذي يوزع نظراته بينها وبين حاسوبه بهدوءٍ مميت، بينما تراقب هي باب الغرفة بخوفٍ وترقب، فحانت منها التفاتة جانبية إليه وحينما وجدته يتجاهل ما يحدث معها، فقالت بانفعالٍ: ولا على بالك اللي بيحصل، أنا مش عارفة انا عملت ذنب أيه في حياتي عشان ربنا يبعتلي نسخة من باباك وأنا من الأساس بعاني معاه عشان أقدر أفهمه!

ترك ياسين الصغير حاسوبه وكتبه جانبًا ثم دنا ليجلس على حافة الفراش وهو يعاتبها باستنكارٍ: محدش بيقول اني شبهه غيرك يا أمي. مع أني مش شايف فينا شيء مشترك، هو مش قادر يشوف نفسه غير الوحش قولًا ولقبًا. حقيقي أنا مش عارف حضرتك بتتعاملي معاه ازاي. لا وبتشبهيني بيه في وجود عظمة البيت ده. أكيد اني هفرح لو قولتيلي شبه جدك مثلًا لكن بابا معتقدش ده شيء يفرحني!

جحظت عينيها في دهشةٍ لحواره المرتب الذي اعتادت منه عليه ولكنه كل مرة يثير اعجابها، فقالت بتوترٍ: طب ما تروح أنت تشوفه عايز أيه وتيجي!
بثباتٍ مخالف لابتسامة مكره: مبنتفقش مع بعض أنا وهو. الأفضل أن حضرتك تروحي وتشوفيه محتاجك ليه. خصوصًا اني بتبع تعليمات ياسين باشا وبحاول أكون مسالم معاه.
بصدمة تساءلت: مسالم معاه!، أنت هتقتل أبوك يا ياسين!

ضحك بصوته كله وهو يجيبها: قتل أيه بس. زوجك المحترم اللي داخل حرب كبيرة مع الباشا واللي يدخل معاه حرب كأنه بيتعرضلي انا.
ابتلعت ريقها بصعوبةٍ بالغة: أنت عندك كام سنة يا حبيبي. أنا ساعات بخاف منك والله.

عاد لمقعده مجددًا، ثم جذب جاسوبه وهو يتابع دراسته مشيرًا لها: روحي بس شوفيه عايز أيه. لأن التأخير مش في مصلحتك هيتعصب عليكي أكتر. ومتخافيش أنا هنا لو سمعتك بتستغيثي هجيلك فورًا وكلها أربع أيام والباشا هيرجع هو وتيتا من رحلة اليخت والدنيا هترجع زي الأول.

لم تستغرب لحديثه الذي يعد متشابهًا لرجلًا ناضجًا عكس تؤامه وابنتها رحمة تعيش طفولتها بكل ما تحمله معنى الكلمة، تركته ولم تعلق حتى على جملته الأخيرة فهي تعلم بأنه على تواصل مستمر ب ياسين الجارحي، الشيء الذي لا يصدق أنه أقرب إليه من زوجها ذاته!

قاومت رعشة يدها عدة مرات قبل أن تحرر مقبض الباب، وبالنهاية أصبحت بداخل غرفتها تبحث عنه بعينين ترتجف كحال جسدها، فانحنت تبحث عنه بالغرفة الهادئة من ثورته الغاضبة، استقامت بوقفتها وبدأت تلتقط أنفاسها براحةٍ حينما لم تجده، ارتسمت ابتسامة واسعة على وجهها وهي تهمس: الحمد لله نزل.

واستدارت لتغادر غرفتها هي الأخرى، فارتطمت بشيءٍ صلب جعل أذنيها تلتمس خفقات قلبه من أسفل رأسها، ابتعدت رحمة للخلف بفزعٍ، فوجدته يقف قبالتها بمنشفةٍ تحيط به، ومنشفة أخرى تتدلى حول رقبته على صدره العاري، ناهيك عن نظرات عينيه التي كادت بافتراسها حيةٍ، ابتلعت ريقها برعبٍ وهي تحاول الحديث: آآآ، آ.
اختصر ما يتدفق بداخله من مشاعرٍ متضاربة وهو يسألها بجموح: أنا ناديتك كام مرة؟

لعقت شفتيها بتوترٍ: هو أنت نادتني!
صاح بعنفوانٍ: رحمة.
أغلقت عينيها وهي تعترف بما اخفته ببلاهةٍ: أربع مرات. بس صوتك نفسه رعبني وخوفني اني اجيلك.
ارتخت تعابيره برضا عن اعترفاتها الكاملة، أبعد المنشفة عن رقبته ثم اقترب منها فتراجعت للخلف قليلًا وهي تتساءل في خوفٍ: في أيه يا عدي؟!

رفع يده ثم جذب قبعة البيجامة التي ترتديها ودفعها بقوةٍ لداخل غرفة خزانته الخاصة، فجحظت عينيها في صدمةٍ حينما رأتها في حالة من الفوضي، وربما لأنها تذكرت ما حدث منذ ساعتين بالتحديد وكونها تعلم عاقبة ما ستنال ازداد خوفها أضعافًا، فهمست بصوتها الخافت: مش أنا لأ، أنا بطلت ألبس الجواكت بتاعتك من زمان. صدقني مقربتش من حاجتك.

ضيق عينيه وهو ينهرها بحدةٍ: حذرتك أكتر من مرة أن محدش يقرب لشيء يخصني لا أنتي ولا حد من الأولاد حصل ولا محصلش؟
هزت رأسها بتأكيدٍ: حصل وأنا شاهدة.
أشار بيده بتعصبٍ: لا مهو واضح!
ثم واجهها ببنية عينيه الحالكة: ودلوقتي هتقوليلي الحقيقة ولا أعرفها بطريقتي.

التقطت نفسًا مطولًا قبل أن تجيبه بصوتٍ منخفض للغاية: أنت عارف اننا هنخرج كلنا بليل، فكنت بحاول أنقيلك حاجة شيك تخرج بيها بليل وفي نفس الوقت تليق على الفستان اللي هلبسه.

تقوس حاجبيه بحدةٍ جعلتها تزدرد حلقها الجاف بصعوبة، فما أن جذبها من تلباب ملابسها حتى أسرعت لتنجو من براثينه: عندك قميص اسود تحفه طالع من عيني. كنت هلبسه النهاردة وفوقيه الجاكت الجملي بتاعي اللي لسه شرياه النهاردة بس للاسف بقالي ساعتين بدور عليه وملقتوش.

احتضن فكيه بين يده بقوةٍ كادت بكسره، فاقترب منها وكعادتها تراجعت حتى التصقت بالخزانة وأصبحت مقيدة من الاتجاهات الأربعة، انحنى برأسه تجاهها وردد من بين اصطكاك أسنانه: قوليلي أعمل فيكِ أيه عشان تخافي مني وتبطلي تقربي لحاجتي الشخصية!
قالت وعينيها مازالت أرضًا تخشى لقائه فتزيدها ربكة: خلاص خلاص مش هأخد منك حاجة تاني. أساسًا ذوقك مش بيعجبني.

رفع وجهها مقابله وأصابعه ملفوفة حول رقبتها، تعمقت بالتطلع بعينيه الغاضبة فوجدت ذاتها تغفو عما يصيبها من قلق وخوف حيال خناقتهما التافهة كل صباح، رفعت أصابعه لتحيط بيده التي تفرض قوتها عليها، لمستها الرقيقة بمثابة همس طائر الكروان لجوار أذن الصِّل، فإن احتجزت مشاعرها بمنزله تاه هو بموطنها وآُسر بين عينيها الفاتنة، وزع نظراته الساحرة بين عينيها تارة وبين شفتيها المرتبكة في حضرته، كأنها تحارب لنطق شيئًا لم يسعفها، دنا منها وقد ترك قلبه يلبي نداء صامت يعلم سبيله إلى مسكنها وبؤرة حبهما العتيق، دقات قلبه تتواثب كلما تشعر باقتراب دقاتها، وكأنه يبحث عن ملاذه وتميمة هذا العشق، دقائق مرت عليهما وكأنهم ثوانٍ معدودة، مازال يريد اطفاء شعلة الحب المشتعلة بداخله وقبل أن يتعمق بقربه منها استمع لصوت دقات باب الغرفة الصاخب، على ما يبدو بأن الطارق يحمل مصير الكون الآخير، ابتعد عنها عدي وهو يهمس من بين أنفاسه المتسارعة: مين اللي بيخبط بالشكل ده؟

وجذب الحلى الذي انتقاها ثم ارتداها على عجلة من أمره، وخرج ليفتح باب غرفته، فتفاجأ بابنه يقف مقابله، وعينيه تتخلل الغرفة من خلفه وكأنه يبحث عن شيئًا ما، فأتاه صوته الشرس يتساءل: في حد يخبط على حد بالطريقة الهمجية دي!

انتقلت نظراته لوالدته حينما طلت من الخلف تشير له بيدها بحذر دون أن يرأها زوجها بأنها على ما يرام، فسحب الصغير نظراته بثباتٍ عجيب ثم قال وعينيه أرضًا: أنا خبطت أكتر من مرة وحضرتك مسمعتنيش عشان كده خبطت جامد. بعتذر لأني ازعجت حضرتك.
وكاد بالمغادرة فاوقفه قائلًا: كنت عايز حاجة؟
استدار تجاهه وهو يجيبه بابتسامةٍ صغيرة: كنت بحسب رحمة مع ماما. بس شكلها تحت.
أشار له بخبث: طب استنى عايزك.

وخرج عدي من غرفته ثم أغلقها خلفه وهو يشير لابنه بالاقتراب، حك أرنبة أنفه بتوترٍ لهيبته التي لم ترضخ لرغباته قط، فقال باسلوبٍ ظنه ماكر أمام حفيد ياسين الجارحي: حبيبي أنت متعرفش جدو أخد تيتا فين بالظبط، أكيد إنه بيتصل بيك وقالك هما راحوا فين. مش كده ولا أيه يا بطل!

ضيق الصغير بنية عينيه وهو يحدجه بثباتٍ عجيب اتبع قوله الأدهى مكرًا: آه هو فعلًا قالي إنهم طلعوا رحلة باليخت. وأكيد انهم في عرض البحر لكن مكانهم جدو نفسه صعب يحدده وسط المية وحضرتك عارف كده!
دمى شفتيه بين أسنانه وهو يحاول التحكم بغيظه من ابنه الذي يصفو جوار أبيه عوضًا عن مساعدته، فقال بضيقٍ: روح يا خليفة جدك كمل دراستك.
منحه ابتسامة اتبعت سؤالًا زاد من غيظه: بجد حضرتك شايفني خليفة لياسين الجارحي!

انتصب بوقفته وهو يشير له بحدةٍ: على أوضتك.
هز رأسه بخبثٍ: زي ما تحب.

وغادر والابتسامة تتسع على محياه رويدًا رويدًا، عاد عدي لغرفته، فاتجه للمرآة دون أن ينبس بكلمة واحدة، مرر يده بين خصلات شعره ليمنحها مظهرها عشوائي بعض الشيء، ثم عقد جرفاته بانتظام بعدما تردد بارتدائها، ولكن اليوم هامًا للغاية لذا كان عليه أن يتألق بملابسه الآنيقة، عكست المرآة من أمامه نظرات الإعجاب المرسلة من خلفها، وحينما أمسك بها تتطالعه خلسة قالت بارتباكٍ وكأنها تخلق أي حديث بينهما: كنت عايز ياسين في أيه؟

تعمد التطلع لها مطولًا بنظرة أربكتها، وخاصة حينما قال: أنا فخور بذكائك أنتِ وابنك.
قطبت جبينها باستفهامٍ، فجذب حقيبته ثم وضع بداخلها حاسوبه وهاتفه الخاص وقبل أن يخرج من الباب المنصاع ليده قال: ابنك بيطمن عليكِ مني. متصور اني ممكن أرفع ايدي عليكِ!
ومنحها نظرة عدوانية مشتعلة وقولًا مشكك: يا هو اللي بيبالغ بتخيلاته يا أنتِ اللي بتخوفيه مني!
دنت منه خطوتين وهي تردد: لا آآ...

انقطعت كلماتها حينما صفق الباب بقوةٍ من خلفه، فابتلعت باقي جملتها ببسمةٍ اتسعت وهي تتخيل موقفها الاحمق منذ الصباح حتى تلك اللحظة.

مررت يدها على بطنها المنتفخ بعاطفة وحب يتغلل بأوصالها، تتمنى بأن يقترب موعد ولادتها لتقر عينيها بصغيرها، تقضي أغلب وقتها بالحديث المنفرد معه، وكأن العالم انعزل بهما، ولجوارها كانت تغفو ابنتها الصغيرة، متكأة برأسها على ساقيها، فمررت نور يدها على بطنها تارة، وتارة تلامس شعر ابنتها الذهبي، اتسعت ابتسامتها حينما بدأت الصغيرة بفتح عينيها، فضمتها لصدرها وهي تهمس لها: صباح الفل يا روح قلبي. كده تقضي الوقت ده كله بالنوم وأنا عايزة أنزل ومش هاين عليا اسيبك لوحدك.

ونهضت عن الفراش ثم جذبتها لتشير لها بابتسامةٍ واسعة: يلا نأخد شاور محترم وننزل بسرعة ننضم للحزب.

وحملتها بين ذراعيها ثم هرعت بها لحمام الغرفة دون أن تعي بصحبة من بالداخل، وضعت نور الصغيرة على حوض المياه الخشبي ثم فتحت الصنوبر وأخذت تلامس المياه، وحينما تأكدت من حصولها على دفءٍ بسيط أخذت تخلع ملابس الصغيرة التي تبتسم وهي تتطلع لمن يشير لها من خلف الستار الزجاجي الذي يعزل الدوش عن باقي الحمام، فأخبرتها بمرحٍ: تغير بسيط مش هقدر أقف عشان تاخدي الدوش على الواقف ببطني دي، فنمشيها بالحوض وأهو الحوض صغنون ويدوب يسيعك.

وحملت الصغيرة ثم وضعتها بالحوض الذي تحول لبانيو صغير مثالي لجسد الصغيرة، فوضعتها نور وأخذت تجذب المياه على جسدها الصغير، وفجأة انقطعت ابتسامتها وتحولت لدموعٍ تدفقت على وجنتها وكأن للمياه ذكرى سيئة للغاية معها، ارتعشت اصابعها التي تلامس جسد الرضيعة، حينما تعلقت بأصبعها مثلما كانت تفعل فلذة كبدها، جذب عمر ملابسه المعلقة ثم ارتداءها وهو يغمز لابنته التي تتلهف لرؤياه، وترفع ذراعها عدة مرات عله يحملها بين ذراعيه، انتهى من ارتداء قميصه وهو يتابعها بدهشةٍ لعدم شعورها به، فاقترب منها خلسة ثم مال على رقبتها وضمها لتتراجع للخلف، ظن بأنها ستفزع وستبدأ بنوبة مشاكستها اليومية، ولكنه تفاجأ بدموعها المنسدلة ببطءٍ، تراجعت نور للخلف بخوفٍ، وكأنه كمشها تفعل جريمة شنيعة، فكادت الصغيرة بالسقوط من يدها لولا أن أمسك عمر بحلا بين يديه، ارتخت تعابيرها وهي تتطلع لابنتها التي لا يتعد عمرها عامًا واحد، فوجدتها آمنة بين يده ومازالت نظراته قلقه تطاردها الى أن سألها بخوفٍ: فيكِ أيه يا نور؟!

تلعثمت وهي تشير له بالنفي: لا، لا مفيش حاجة.

وتركت الصغيرة إليه ثم هرولت لخارج غرفتها باكية، حزينة، فبات هو بصحبتها، لا يعرف ماذا ينبغي عليه فعله، ولكنه حاول أن يتعامل معها قدر المستطاع، فانتقى لها فستانًا بني صغير، وحذاء بنفس لونه، وما أن انتهى حتى صفف خصلات شعرها الصغيرة، فصفر باعجاب شديد: شوفتي لما بابي اللي أشرف على الأوت فيت بتاعك طلعتي شبه الملكات ازاي. عشان تعرفي اني عبقري طالات. لا وهطقم معاكِ. ثواني.

وجذب جاكيت باللون البني الداكن، ثم ارتدائه وهو يشير لها ببسمة جعلت الصغيرة تبتسم: ها أيه رأيك.
همست بعدة كلمات متقطعة مازال عمر يجهل كنايتها، فابتسم رغم ان عينيه مازالت تبكي، عادت كلمة اعتاد سماعها على ذكراه
«أنا أحلى منك يا بابي! ».

لمعت عينيه بالدمع رغمًا عنه، فكاد جسده بالتمايل ولكنه بقى صامدًا، قويًا، مازال حتى تلك اللحظة يعافر ويصمد لاجلها ولاجل ابنته الصغيرة، يعلم بأنه لا وجع بهذا الكون يضاهي وجع فقدان الابن، وهو فقد ابنته. أول ابنة حملها بين ذراعيه، يعلم بأن رقيقته الهاشة مازالت تحارب للتخلص من ذكريات حلا، ابنته الأولى والتي توفاها الله حينما كانت بالسادسة من العمر، وحينما رزقه الله بابنة مجددًا أصر أن يمنحها نفس الأسم مجددًا، وكلما شعر بأن قواه ستنهار حصونها صبر ذاته بأن الله عز وجل يحبه هو وزوجته لذا أراد أن يختبرهما باختبارٍ عظيمٍ، وإن اختبر نبي الله وأعظم خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم ألن يكن من المنصف أن يختبر المؤمنين في قوة ايمانهم وقوة تحملهم وصبرهم على البلاء، بلى كان عمر صابرًا على قضاء الله ولم يكن بالضعيف.

أبعد عنه تلك الدمعات ورسم الابتسامة لابنته الصغيرة التي حملها بين ذراعيه، وخرج بها ليتجه بالأسفل، فصعق حينما وجد خالد الصغير يهرول مسرعًا، وكلما حاول الابتعاد عن القاعة الخارجية سقط أرضًا ونهض مجددًا وهو يردد بطفوليةٍ: جدو هيقتل بابا، جدو هيقتل بابا.
لم يستوعب عمر جملته الا حينما وجد حازم يهرول وهو يصرخ بصوتٍ مزعج للغاية: والله عيب بعد العمر ده يا حااااج مبقناش صغيرين...

ومن خلفه يهرول حمزة حاملًا لسلاحٍ عتيق، يعود لزمن التسعينات، مازال يحتفظ به بغرفته، والأبشع من ذلك انه كان يصوب بعشوائية وهو يهدده بانفعالٍ: والله لاقتلك يا كلب.
ركض حازم تجاه ابنه فارتطم كلا منهما بالاخر، فحمله حازم بكره وردد ساخطًا وهو يكاد يخنقه: انت اللي بلغت عني يا قصير يابو عين مدورة، انت طلعتلي منين يا أخي من يوم ما شوفت خلقتك والمصايب نازلة ترف فوق قفايا.

صرخ حازم حينما تفادى طلقة كادت باختراق كتفيه، فحمل ابنه كشوال البطاطا وركض خلف الاريكة ومن خلفه حمزة الذي يصيح به بتهديد صريح: سيب حفيدي بدل ما أخلص عليك.
رفع حازم يد ابنه من خلف الاريكة وكأنه يلوح برأية بيضاء تستهدف السلام وسط حربًا غارمة وهو يهتف بتريث: يعني عايز تشرد حفيدك من بعدي يرضيك يا حاج!

وحينما لم يستمع للطلق الناري نهض بالصغير الذي يكبت انفاسه بين يديه: متخليش الواد ده يدمر العلاقة الطيبة اللي بينا، ده احنا ملناش الا بعض.
تدخل عمر على الفور وهو يمد ابنته لرحمة التي كادت بأن تلحق بعدي، فحاول التقاط السلاح منه وهو يشير له بضحكة فشل باخفائها: والله يا عمي أنا مش بدافع عن الحيوان ده ان كان عليا كنت قولتلك اتكل على الله وخلص عليه بس حرام الطفل خالد البريء.

وهمس بانزعاجٍ: استغفر الله ربنا يسامحنا على الكدب ده.
وعلت نبرته مجددًا: الولد مالوش ذنب يدفع تمن اخطاء ابوه. رصاصة طايشة كده ولا كده تجي في الولد.
مال حمزة بالبندقية على الأريكة وكأنه يعقل حديثه جيدًا وقال بعد نقاش طويل: معاك حق يا ابني...

ابتسم عمر براحة كبيرة تلاشت حينما وجد حمزة يقدم له السلاح وهو يشير بها: خلاص انت نظرك هيبقى اقوى مني، استهدف المغفل اللي هيجبلي سكتة قلبية ده وسيب الولد اهو ينفعني لما اكبر وأشيب وملقاش دار مسنين تعجبني.
رفع عمر حاجبيه باستهزاء: انت هتخرج من مسلسلات العمر الضائع دي أمته يا عمي! دار مسنين ايه اللي هتروحها!

أشار له بجدية تامة: انا مبثقش في الحيوان ده اول ما هيجيني دور تعب شديد حبتين هياخد اللي حيلتي وهيرميني في أي دار مسنين.
دنا منه حازم ثم قال بابتسامة واسعة: عيب يا حاج اوديك دار مسنين ليه بس. ما أنا ارميك في أي مستشفى حكومي أوفر!

رمش عمر بعينيه وهو يحاول تحمل الأمر، ولكن كان أقصى من طاقته، فاتاته النجدة الآلهية حينما كان يتجه أحمد بصحبة معتز للأسفل، فجذبه ودفعه تجاه أبيه وهو يشير له: عايزينك هناك، حل بقى براحتك.
وهرع عمر لغرفة ابنته التي تبعد عن غرفتهما الخاصة باحثًا عن زوجته.

انتهى رائد من الملف أخيرًا بعد ساعة كاملة قضاها لينهي أخر خطوة أضافها لحسبته الخاصة، ففرقع يديه معًا وارتخى بجلسته وهو يهمس بارهاقٍ: وأخيرًا.
ارتخى بمقعده قليلًا لينعش جسده البائس بعدما انهال من المشقة، وفجأة لمح ابنه يقترب منه فهمس بضجرٍ: يا منجي من المهالك يا ررب.
ثم رسم بسمة زائفة وهو يشاكسه بمحبة لا تمت لواقعه بصلة: صباحو الفل يا آسر يا حبيبي. أيه منزلتش النادي ليه مع يحيى ابن انكل ياسين؟

أتاه رده لاذعًا: مبحبش اروح معاه في حتة.
ثم جذب احد الاوراق يعبس بها: ده أيه!
جذب رائد منه الاوراق ثم فتح الحقيبة وهو يحاول يلملم ما تتلقفه يده ولم يمانع بتحذيره: متلعبش في حاجة يا حبيبي.
ضم الصغير حاجبيه بخبثٍ وقد اتته فكرة خبيثة، فجذب احد الاوراق ثم هرول وهو يصيح بمشاكسة: لو عايزها امسكني.

صعق رائد وهو يواجه تلك المفاجآة الصادمة التي لم تكن بالحسبان، فهرع خلفه وهو يترجاه بابتسامة صفراء: آسر بلاش قلة أدب يا حبيبي. الاوراق دي مهمة وممكن يتعمل من أبوك صباع كفتة محشية بالرز والفريك ترضهالي يا آسورة؟
رفع الصغير يده واسند ذقنه إليه وكأنه يفكر قليلًا، فعالت ابتسامته الشيطانية وهو يركض: أرضهالك يا كبير.

ركض رائد خلفه حتى انقطعت انفاسه فصرخ به بعنف: ورحمة جدي لو موقفت مكانك لاقتلك انت وامك في ساعة واحدة.
لم ينصاع اليه فركض بسرعة لم يقدر ابيه على محاذاتها، فاستند على أحد الاشجار وهو يلتقط انفاسه بصعوبةٍ بالغة، وحانت منه نظرة جانبية لمن يتابع المشهد العريق لاحد أحفاد آل الجارحي يطيح بعنجهية ذاك المغرور، فانفجر بهم رائد كالبركان: انتوا بتتفرجوا عليا، اعتقلوا ابني بسرعة!

وما أن انهى امره حتى هرع جميع الحرس ركضًا خلف الصغير الذي هرول لداخل القصر، وبالاعلى انضم اليهم خالد المحمول فوق رأس حازم الذي يحمله كوسيلة نجاة من رصاص أبيه ويهرول لاي تجاه تسوقه قدميه.

بالأعلى.
بحث عمر عنها فظنها بغرفة ابنته، وما أن فتح بابها حتى تفاجأ بها فارغة، فخرج ليبحث عنها على التراس فوجدها تجلس على حافته وبين يدها علبة من العصير ترتشفه على مهلٍ، خبأ عينيها بيده فقالت بشراهةٍ: يا دوك ده مكان تغميني فيه. عايز تتخلص مني من غير ما حد ياخد باله ولا أيه؟

جلس لجواره وهو يمنحها نظرة متفحصة تود استكشاف ما تود فعله، فوجدها تتهرب بعيدًا عن الحديث بموضوع ابنتها الذي سيزيد من جراحها، فربما ببعض الاوقات لا نود خوض تلك التجربة المريرة عن الحديث عن أمرًا لا نود النبش به مجددًا، ريثما وقتًا أخر يكون مناسبًا للنبش به ولكنها الآن تحاول الابتعاد عن أي شيء يذكرها به، هكذا شعر عمر فلم يرغب بسحبها لألمٍ تتهرب هي منه، لذا ابتسم وهو يناطحها بعند: اكيد ميهنيش لانك بتشربي العصير من غيري، ده انتي حتى مفكرتيش تقوليلي أعملك فطار بصوت كله انوثة زي الستات.

ضحكت حتى ادمعت عينيها، وبصعوبة قالت: زي أيه يعنيا!
وانتهت من ارتشاف العصير والقته ارضًا، ثم تحملت على ذراعيه وهي تشير له بارهاق: قومني بس الله يسترك عشان أعرف اسمعك الكلمتين بتوع كل صبح. حكم انت متتكيفش الا لما تسمعهم.

عاونها عمر على الوقوف وقبل أن تفتح فمها كممها جيدا وهو يهمس لها: لا وحياة مامتك مش طالبة معايا على الصبح، لسه لما هروح المقر هأخد التغفيلة التمام من عدي وياسين كفايا دول عليا النهاردة.

أشارت له بإيماءة خفيفة، فابتعد عنها وهو يشير لها بخوف: بصي الدرس الاخلاقي بتاعك مش لازم يكون ليا بس، ممكن توسعي نشاطك وتديه لرحمة مثلًا أو ممكن حد من البنات أو اقولك الواد معتز مش مظبوط بقاله كام يوم قافش مع شروق استحضري روح المصلحة الاجتماعية اللي جواكِ وحيلي اللي بينهم.
اشارت له بملل: في حاجات كتيرة هنا محتاجة ترجع زي الأول لما أولد بس وأنا هفوق ليهم.

صاح بفرحة لنجاته المحتومة من محاضراتها الاخلاقية: هو ده الكلام. يالا عشان نلحق الفطار.

الصدمة لم تكن صدمة الا حينما تفهم ذاك الأحمق مدلولها، حيث كان يظن بأن الجميع يتكاتف للفصل بينه وبين أبيه، ولكن المفجع بالأمر حينما وجدهم يخلصون الصغير عن يديه حتى إن انطلق من فوه سلاح ابيه الرصاص لا يتأذى الصغير، ولكن لا بأس ان أصابته الطلقة وكأنه سيريحهم من جحيم يحتبسهم جميعًا، فرفع خالد للاعلى ثم صاح قائلًا: انتوا مش عايزين الواد، خدوا الوااااد.

والقاه على أحمد الذي تلقفه وكأنه ينجح في صد ركلة الكرة لشباكٍ العدو، وفجأة هرع للمصعد وعبث بازرره وهو يهمس لهم بابتسامةٍ حمقاء: بالسلامة أنا.

صعد به المصعد للطابق الرابع، فخرج منه ثم ركض للمصعد الخارجي، فولج وأغلق بابه ليستعد للهرب من الخارجي، وحينما استدار الخلف لاختيار الطابق الارضي من لوحة مفاتيحه صعق حينما وجد ياسين يحول المصعد لعربة خاصة بملابسه ومتعلقاته الشخصية، فارتدى القميص فوق البنطال وعلى ما يبدو بأن الوقت قد سرقه وتناسى أمر الاجتماع الهام، افغر فاهه وهو يتابعه وهو يرتب خصلات شعره فاتجهت نظراته اليه فقال الاخير: لا خد راحتك يا حبيبي. عادي بتحصل معانا كلنا وبنكمل بقية لبسنا في الشارع، كأني هوا.

تجاهله ياسين وجذب البلطو الخاص به ليرتديه فوق قميصه الابيض ثم جذب البرفنيوم الأسود من الحقيبة المفرودة من أمامه فقال دون ان يستدير اليه: هربان من مين يا زفت؟
همس بخيبة امل: من البشر كله، ولاد عمك الاندال متفقين مع ابويا عليا. حتى اخويا الواطي واقف في اول صف وبيسلمني تسليم اهالي.
قال بسخرية وهو يرتب اوراقه: ابن حلال وتستاهل يا حازم والله.

وانتصب بوقفته بعدما انتهى من الاستعداد ليبدو أوسم من الحلى الذي ارتداها بالصباح، وقال قبل ان يصغط على الزر: هتنزل انهي دور.
علي الفور قال: ممكن التاني، لان كلهم في اول دور.
ضغط اصبع ياسين على الطابق الاول بابتسامة خبيثة، فذم الاخير شفتيه وهو يردد ساخطًا: من هم لهم يا قلبي يا تحزن.

نجح رائد بكمش ابنه من تلباب ملابسه، وكأنه يقبض على مجرمٍ هارب من العدالة، وفجأة صاح باندفاع: يا راااانيا
ظهرت من امامه وبيدها طبقين من الخبز الصغير، وضعتهم على المائدة ودنت منه تتساءل بقلق: ايه يا رائد بتزعق كده ليه؟
سلمها ابنها من تلباب ملابسه وهو يشير لها بضجرٍ: ربي ابنك السفاح اللي شبه حرمي الغسيل ده أحسن ما وربي اشردهولك. انا خلاص مبقتش باقي على حاااجة انا جبت اخري منه.

وتركها وصعد للاعلى فانحنت تعدل من ملابس الصغير وهي تعاتبه بضيق: عملت أيه تاني في بابي يا آسر؟
بابتسامةٍ واسعة قال: تحبي أبدأ بأيه؟
طرقت على صدرها بصدمةٍ: تبدأ بأيه. ليه انت عملت كام بلوة؟!

ما أن دقت الساعة العاشرة صباحًا حتى اجتمع الجميع على طاولةٍ الطعام باستثناء «رعد، أدهم، عز» لتوالى امور الشركات بايطاليا، اضافة لياسين وآية فالجميع يعلم بأن ياسين الجارحي يود قضاء بعض الوقو الخاص مع زوجته برحلة تفاجأ بها الجميع بعدما كانت بصحبة عدي لتنقية بعض المتعلقات الخاصة بولادة نور، ومنذ ذلك الحين لم تعود للمنزل.

انضم يحيى لمجلسهم، فجلس على رأس الطاولة محل ياسين ثم قال باستغراب حينما لم يجد أحدًا تناول طعامه: محدش بيأكل ليه؟
قال معتز بابتسامةٍ صغيرة: مستنين حضرتك.
منحه ابتسامة لطيفة وشرع بتناول طعامه وهو يوجه حديثه لعدي: عملت أيه يا عدي في الموضوع اللي كلمتك عنه، هناخد الصفقة ولا هنسبها؟

رفع عينيه اليه ثم قال بهدوءٍ: لو الصفقة دي مكنتش مهمة لشركاتنا مكنش حضرتك فتحت موضوعها أكتر من مرة يا عمي. فبالتالي أنا مش هقبل إنها تضيع من ايدينا.
ابتسم لدهائه رغم انه كان يدور خلف غايته الاساسية، فقال: تمام اتفق انت وياسين على التفاصيل ونشوف الدنيا هترسى على أيه.
اكتفى بايماءة بسيطة من رأسه ثم عاد الجميع للسكون مجددًا، فكسرت دور بلور الصمت حينما قالت: على معادنا بليل ولا غيرتوا رأيكم كالعادة.

تطلع الشباب لبعضهم البعض بحيرةٍ، فاضافت داليا: سيبك منهم يا نور، كل يوم بيدونا مواعيد وفي الاخر هيقولولك معلش اناخرنا النهاردة بالشغل!
قالت شروق بتذمر: احنا ملينا من الاسطوانة دي، بجد اتخنقنا ومحتاجين نخرج. صح ولا ايه يا بنات؟
اكدت آسيل على الامر وهي تضع احد اللقمات الصغيرة بفم ابنها آويس: لو مش هيقدرونا يبقى احنا كمان مش هنقدرهم وهنخرج من غيرهم.

منحها احمد نظرة جعلتها تبتلع باقي كلماتها وهي تشير بخوف: خلاص نديهم النهاردة فرصة اخيرة.
تعالت ضحكات ملك وهي تشاكسها: رجعتي ورا من نظرة يا آسيل!
رد عليها يحيى بابتسامة هادئة: متسخنيش الامور بينهم يا ملك.

ثم تطلع للجانب الايسر حيث يجلس الشباب كلا منهم جوار بعضهم، فقال: هما معاهم حق. لازم تخصصوا ليهم وقت على الاقل بالخروجة بتاعت النهاردة. اخرجوا واتعشوا باي مكان، وان كان على الشغل مش انا هنزل معاكم المقر النهاردة انا وحمزة وهنحاول نشيل عنكم شوية، مش كده ولا ايه يا حمزة؟
استدار بوجهه لاتجاه الاخر وهو يردد: لا مش كده، انا مشغول طول اليوم.
تجعد وجهه بذهول: ليه وراك ايه؟

قال بغرور وهو يعدل من قميصه: عندي جلسة مساج على شوية مسكات وآآ.
بترت كلماته حينما صاحت تالين بغضب: وراك ايه يا حبيبي.
ضحك حازم بشماتة: البس عشان خارجين.
تبدلت قسمات وجهه للخوف الشديد فاسرع بنفي تلك التهمة الباطلة عنه: لا كنت بقوله هروح الصيدلية اجبلي رباط صليبي أصل العضمة قفشة شوية بس دلوقتي بقيت احسن الحمد لله.
وترك الطعام ثم نهض وهو يشير اليه بخوف: يالا يا يحيى نروح نشوف المقر.

مسح يده بالمنشفة واتبعه وصوت ضحكاته يعلو فيزيد من حنكه، انسحب الشباب خلفهم تباعًا وكلًا يعتلي سيارته الخاصة، ولم يتبقى سوى الفتيات على الطاولة، فتوقفن كلا منهن عن تناول الطعام بحزن يسيطر عليهن، فقالت مليكة: صدقتوا ان بابا كان معاه حق، مبقوش يشوفونا غير ستات بيوت متنفعش غير لتربية الاولاد وحتى مبقوش يهتموا لخروجتنا ولا لينا زي الاول!

اكدت رحمة على حديثها: فعلا عمي كان معاه حق، حقيقي انا ندمانة اني موفقتش على اقتراحه من الاول.
قالت نور: وندمانه ليه هو ادانا وقت نفكر عما يرجع من الرحلة ونقدر بكل بساطة نقوله قرارنا.
اضافت رانيا: نور معاها حق احنا نبلغه اننا كلنا موافقين وهنعمل كل اللي هيطلبه مننا.
رددت شروق بخوف: بس يا بنات لو عرفوا هيحصل ايه؟

اجابتها داليا بسخط: ما يعرفوا يا شروق، انتي عاجبك حالنا اوي. من يوم ما انكل ياسين شال ايده من عمايلهم وهما زادوا فيها.
قالت نسرين: معاكي حق يا بت يا داليا، احنا هنعمل اللي هيقولنا عليه، هو عارف مصلحتنا فين واكيد مش هيضرنا.
قالت مليكة: خلاص انا هطلع واكلمه واقوله على اتفقنا ده.
بنبرة مشتركة رددوا: ربنا يستر.

بالمقر...

العمل يقام على قدمٍ وساق وكأنها دائرة تدور بنقطة لا نهاية لها، الجميع يعمل بجد واجتهاد، فلن يرضى ياسين الجارحي بأي موظف بامبراطوريته المهيبة، وبالرغم من الجدية التامة بالخارج الا ان الغرفة التي تشمل مكاتب الشباب كانت تضم حازم والشباب باكملهم باستثناء عدي وياسين فقد ذهبوا لمعاينة المكينات منذ الصباح، قرر حازم أن يهون عن نفسه بطريقته التي قد يجدها البعض مختلة كحاله، فوضع احد السماعات باذنيه ثم اخذ يميل لعالمه الفوصوي الذي صنعه لنفسه، وبعد دقائق ساد الصمت به بين الشباب باكملهم. والجميع منهمك بعمله الجاد اذ يستمعون لصوته المزعج وهو يعلو ويردد: من اجل أيه خسرتيني، خاتم ودبلة بعتيني، حبتها غدرت بياااااا فرجت الناااس عليااااااااااا.

تطلع الشباب لبعضهم البعض بريبة من امره فقال جاسم بتأفف: قولتلكم الواد ده ملبوس محدش صدقني. اتفضلوا.
اشار رائد لاحمد بغضب: ما تلم اخوك يا احمد لو عدي جيه هيشعلقنا كلنا.
تجاهله احمد واخذ يدون بعض الملاحظات على الحاسوب وحينما عاد رائد بتكرر حديثه قال بنفاذ صبر: انا معنديش اخوات. اطلعوا من دماغي بقا.

ضحك معتز وهو يؤيده: معاه حق والله انا لو مكانه كنت قتلته وقتلت نفسي من كتر المصايب اللي بتتحدف عليا بسببه.
اشار لهم جاسم بغرور وهو يدنو منه: خلاص يا رجالة انا اللي هحل الموضوع
ودنا منه ثم جذب السماعات بعيد عن اذنيه ليفزع من صوته الذي يشبه انشودة انثى البغبغاء، فما ان توقفت الموسيقى الشعبية حتى اخرج من اسفل قميصه الريموت المتحكم بالسماعات الاسياسية وهو يغمز بمكر: كنت حاسس بخيانه.

نهض رائد عن مكتبه وهو يحذره بجدية تامة: حازم اووووعاااااا
ما ان انتهى من حديثه حتى انطلقت الموسيقى الشعبية بالارجاء وكأن هناك حفل زفاف بين زقاق الحارة الشعبية، والابشع من ذلك حينما صعد حازم على سطح المكتب والقى بالورق وهو يغني عاليًا ويردد: مشينا صح مش عااااااجب والغلط مش سكتنا.
ردد عمر من اسفله: انت الغلط بذات نفسه يا حبيبي، هات الريموت ده هتفضحنا ربنا يخدك.

رفض حازم تسليمه الريموت والقاه من نافذة المكتب، فصعق معتز حينما وجد جاسم يصعد اعلى المكتب في محاولة لقتل هذا النذل من وجهة نظره، فأمسك حازم يديه واجبره على الرقص معه وللعجب انسجم جاسم خلفه واخذ يرقص بصحبته، ضحك معتز وجذب عمر ورائد اللذان استجابا سريعًا لتلك الاجواء الدرامية...

انهمك عدي و ياسين، بتفحص المكينات المستوردة حديثًا من الصين، وحينما انتهوا توجهوا للغرفة المشتركة بالشباب معًا، لتوقيع العقود الجماعية استعدادًا لتلك الصفقة الهامة التي ستهدم الاحطبة فوق عدد مهيب من أسماء كبار رجال الأعمال، التي تشملهم جملة شهيرة (حيتان السوق) كما يلقبون. ، صعدوا معًا للمقر ومنه لغرفة المكتب الجماعية، فشهق ياسين من فرط الصدمة بينما ربع عدي يديه امام صدره وأخذ يتابع ما يحدث بنظراتٍ شرسة تسجل كل رد فعل بذاكرته لوقتٍ سيفسره حسابًا عتيق.

كان الوضع لا يرثى له، حازم وجاسم يتراقصون اعلى المكتب، ولجوارهم عمر الذي يحرك يده وكأنه في نزاع عنيف، بينما يرقص معتز ويده تحيط بكتف رائد المستمتع بتقليد خطواته المحترفة أكثر منه، بينما بالزواية المنفردة كان يغوص أحمد بعدد مهول من الاوراق متناسيًا وجود هولاء الحمقى وكأنه بعالم منعزل لا يسمع، لا يرى، لا يتحدث.

توقف الجميع عن الرقص حينما تحرك ياسين المصعوق وفصل الفيشة عن السماعات العملاقة، فاتجهت النظرات المصعوقة اليه، فسيطر الخوف والقلق عليهم حيال امر تواجده المرهون بتواجد الأكثر خطورة لذا اتجهت جميع الانظار تجاه باب المكتب وخاصة تجاه الوحش الشرس الذي قابلهم بابتسامة شيطانية وجملة تعبيرية لا تخلو من جمال النص ورونقه: بالنسبة للناس اللي مستنية توقيع المدراء دول نقولهم وراهم مشغولين عندهم نمرة ولا في الانعاش ومحتاجين عمرة!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة