قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أترصد عشقك الجزء الثاني للكاتبة ميار عبد الله الفصل الرابع والأربعون

رواية أترصد عشقك الجزء الثاني للكاتبة ميار عبد الله الفصل الرابع والأربعون

رواية أترصد عشقك الجزء الثاني للكاتبة ميار عبد الله الفصل الرابع والأربعون

في حي عاصي،.

تدور تحية في أرجاء الشقة تبخر كل ركن من أركان المنزل، داعية بأن تطرد العين الحاسدة، صوت القرآن من المذياع يصدح بصوت مرتفع، غير مكترثة بالنميمة التي ستحدث لاجتماع النساء، حفيدها وقرة عينها كان على وشك أن يلقى حتفة ولولا ستر الله لكان وافته المنية، وضعت المبخرة في الصالة وانفرطت الدموع تخرج من مآقيها، عاصي فلذة كبدها، وابنها الذي ربته حتى أصبح رجلا تستطيع أن تعتمد عليه، رجلا في زمن انقرض به الرجال، رأته يخرج من غرفة نومه مستندا بالعكاز وأخذ يسعل من الدخان الناتج من البخور لتقترب منه قارئة المعوذتين، تمرر يديها المجعدة على صدره الصلب وذراعه الأيسر الملفوف بالجبس، انفجرت تبكي بلوع.

- والله كنتي عارفة عين وهتصيبك، يا حبيبي يا ابني
سعل عاصي لعدة مرات ومال مقبلا جبين جدته قائلا بصوت واهن
- يا توحة الله يكرمك قربت اتخنق من ريحة البخور
شرست ملامح توحة لتضربه على صدره مما جعل عاصي يتوجع، رقت ملامح توحة إلا أنها قالت بحدة
- اسكت يا واد، لازم ابخرك يا حبيبي دي عين وصابتك، ولو اني عارفة مين صاحبة العين اللي هروح افقعهالها عشان تبص عليك.

هز عاصي رأسه يائسا، الا يكفي انها قامت بعمل حظر تجوال عليه في المستشفي ومنعت بعض رجال الحي ليزورونه بمن فيهم عادل، معللة انه السبب وان خطبته التعسة حلت على سماؤه ايضا، قال بتهاون وهو ينظر إلى ساقه التي أصابها التواء على عكس ذراعه الأيسر المكسور
- يا توحة قضاء وقدر، انت هتعترضي على امر ربنا.

اومأت برأسها قائلة بجدية شديدة وعقلها يفكر أي من النسوة اللاتي حسدن صغيرها، لطالما اخبرته ان يتوقف عن يعتلي السلم العالي لتزين المصابيح، لكن من كان يستمع!
- ونعم بالله يا بني، لكن هو عين والحسد مذكور في القران، لازم أرقيك.

هز عاصي رأسه يائسا عالما ان لا فائدة ترجي لتغيير رأس جدته اليابسة، مكوثه لأربعة أيام دون رؤية اميرته جننته، خصوصا ان اخر لقاء بينهم لم يقدر على سيطرة ذلك الغضب المستفحل بفؤاده، يخشى أن تتسرب من أنامله، ويكون ذلك الناعم أعلن امتلاكه عليها قبله، سيجن، يقسم انه سيجن ان لم يراها، قال بنبرة هادئة وهو يراها تهذر بصوت خفيض
- انا رايح استحمي، هنزل اشوف عادل، كفاية انه أجل الخطوبة علشاني.

مصمصت توحة شفتيها لتجلس على مقعدها قائلة بسخرية
- تستاهل اسماء، هي قعدت تزمزق من وقت لما قولنا هتتخطب، انا غلطانة اني بعبرها اصلا خلي المدرسة تنفعها
نظر اليها محذرا بعينيه الشبيهة بعيني زوجها الراحل، رقت ملامح وجهها المتجهمة، نسخة مصغرة من زوجها رحمه الله، اختنقت انفاسها والوحشة انفجرت تسري في اوردتها لتسمعه يقول محذرا
- توحة، هاخد دش مطلعش الاقيكي ماسكة خناق في حد.

تنبهت انه يريد الخروج من المنزل، أجن هو، حتى تصيبه عين ترقده على الفراش، هبت من مقعدها قائلة بخشونة
- يووه، تنزل تروح فين انت اتجننت، ده لسه الجبس متفكش
ابتسم نحوها بوهن وهو يشعر بالألم الذي يسري في ساقه المصابة ليقول بابتسامة شاحبة
- جت بسيطة يا توحة، ساعة زمن وهجيلك وتشربيني شوربة الخضار
قلبت توحة عينيها بملل قائلة بتهكم
- وانت الصادق، عملالك شوربة عدس.

اتسعت عينا عاصي بصدمة، الشئ المسمى بالعدس، لا يستطيع أن يضع به لقمه في فمه اطلاقا، اشمأزت ملامح وجهه قائلا باعتراض
- عدس يا توحة، انتي عرفاني مبحبهوش
مصمصت توحة شفتيها ممتعضة من عدم حبه للعدس، رغم انها كانت سابقا لا تطيقه، لكن المرحوم حسين هو من أحببها في جميع ما كرهته، رفعت رأسها بأنفة قائلة
- دي الحارة كلها تشهد بشوربة العدس بتاعتي، يا واد بتتبطر على النعمة هاا، قولي بتتبطر على النعمة.

لوي عاصي شفتيه ساخرا، محاولا تهذيب رده ليقول بنبرة خاصة
- تسلم ايدك يا توحة هانم يا بنت الذوات
ثم استدار متوجها نحو الحمام، ظلت توحة تنظر إلى أثره قائلة بامتعاض من عدم حبه للعدس
- مالها شوربة العدس، طب ده المعلم حببني فيها، الله يرحمه ويغفرله.

استقامت من مجلسها لترتب غرفة ذلك الكارهة لشوربة العدس، اخذت الغطاء عازمة ان تضعه على سور الشرفة، الا ان استوقفها قدميها نتيجة تصاعد رنين هاتفه، رفعت صوتها عاليا قائلة بحدة
- يا واااد تلفونك بيرن
انتظرت ان يرد عليها، الا انه بكل صبيانية لم يلقي بالا للرد
- شوف الواد ولا بيرد عليا.

زفرت بحدة و رنين هاتفه أصابها بالانزعاج لتلقي الغطاء آخذة هاتفه من على الكومود محاولة التعرف على اسم المتصل، لكن نتيجة علامات تقدم العمر لا تستطيع قراءة شئ دون نظارتها، خرجت نحو الصالة باحثة عن نضارتها، وحينما لم تجدها توقف رنين هاتفه لتتوقف عن البحث وتترك هاتفه على طاولة السفرة، همت بالعودة لغرفته لترتيبها الا ان الرنين تصاعد مرة اخرى، زفرت بحدة قائلة بحنق وهي تبحث عن نظارتها.

- هي فين النضارة دي كمان.

انشرحت أساريره حينما وجدت نضارتها، ارتدتها وهي تمسك هاتفه لتنظر الى اسم المتصل، متوعدة أشد الوعيد للمدعو عادل هذا ان كان المتصل، إلا أن الصاعقة شطرتها نصفين حينما رأت أن اسم المتصل مكتوب وجدي ، دارت تحاليل كثيرة محاولة معرفة اسم تلك المرأة المميز وأي علاقة قد تربطهما معا دون علمها، وهي التي ظنته ذلك الذئب المخادع في علاقة عمل، وهو أبعد ما يكون في عمل، هل اشتاق لمراهقته لتلك الدرجة، اجابت على الاتصال دون ان تصدر صوتا لتسمع صوت انثوي به لهفة ونبرة قلق لم تستطيع انكارها.

- عاصي، انت كويس، طمني عليك ارجوك
شتمته، بكل شتيمة تعلمها توحة شتمته، المرأة فتاة صغيرة السن، كلاهما ناعم به نبرة دلال غير مصطنعة، ياويله، يا ويله ذلك العاصي، هل يعربد خارج أرجاء منزلها، هي التي علمته كل تلك السنين تأتي تلك المرأة لتذهب بكل مبادئه..
اذنيها المترصدتين استمعت الى شهقة مؤلمة لتهمس توحة بتوعد
- انا قلبي حاسس فيه بنت من موضوع شغله
زفير ثم شهقة وصوت انثوي مرتبك منادية اسمه
- عاصي، الو، عاصي.

الفتى ضاع، ابنها ضاع من تلك المرأة، حمحمت جدته وهي تبتعد عن الصالة لتقول بصوت هادئ
- ايوا يا حبيبتي، انا جدته
لفهما الصمت لعدة ثواني، ثم تبعه صوت ناعم جدا ونبرة معتذرة
- اسفه بجد يا طنط، قوليلي عاصي كويس، اسفه سمعت ان عاصي في المستشفى حبيت اطمن عنه
نبرة الارتباك الحقيقية الغير مصطنعة كما تفعل بنات اليوم جعلتها تستشف معدن تلك الفتاة، انفجرت توحة تبكي بحرقة وبين الفينة والاخرى تنظر الى باب الحمام.

- عاصي، ده يا حسرة عيني رقدوه في المستشفى جاله كسر في الرجل والايد وربنا ستر، حالته تصعب على الكافر، انا مش عارفة كان مستخبلنا من فين
ارتسمت ابتسامة خبيثة على شفتيها حينما استمعت الى صوت الفتاة وردها الذي جعلها تفخر بما حققته
- قوليلي من فضلك انتوا من مستشفي ايه
صمتت توحة قليلا ثم قالت بمكر خادع وهي تمثل الألم في صوتها
- لا يا حبيبتي احنا رجعنا البيت، مقدرتش استحمل المستشفيات وريحتها.

لفهما الصمت لثواني، كانت تعلم أن الفتاة لن تجرؤ على القدوم الى منزله الا اذا كان الامر جدي بينهما، لو كانت لا تكن له شيئا لاكتفت باتصال فقط، انشرحت أساريرها حينما جاءها صوت الفتاة الجاد
- طب يا طنط ممكن تقوليلي عنوان بيتكم، عشان ازوره
قالت بابتسامة خبيثة مضيفة بعض البهارات
- خدي يا حبيبتي العنوان بالتفصيل، يا حبيبي يا ابني حالك ده يصعب على الكافر.

اغلقت الاتصال الهاتفي حينما اخبرتها انها خلال فترة قصيرة وستأتي لمنزلهما، احتدت عينيها بشراسة لحفيدها، لتقول بوعيد
- بتخبي عليا يا ابن صفاء، طب والله لاربيك من اول وجديد، شكلك كدا وحشتك عزيزة بتاعتي
لكن أولا يجب معرفة تلك الأنثى وصلة التي بينهما، ليعطي لها حفيدها المحترم، البرئ اسما خاصا!

يتوارى الجميع خلف الظلام
خشية من عيون الناس
يتخذون بقعة من الأرض، لفعل كل ما يشتهي لهم عقلهم وغريزتهم..
يتوارى الجميع خلف الظلام
حتى تنكشف اقنعتهم المزيفة الخادعة
والبراءة هي منبع الشيطانية في قلوبهم
والرقة هي بذرة القسوة في أفعالهم
ولسانهم المعسول هو السم الزعاف الذي يسير في أوردتهم.
يتوارى الجميع خلف الظلام
عالمين بخطيئتهم
وذنوبهم الملطخة بالعار
غير قادرين على التخلص من معاصيهم.

تنهد لؤي زافرا بسخط، الجميع بارعون حقا في ايلامه
وجعله هو الجاني، والمعذب الأول، وما هو سوى أداة انتقام بسيط بين الطرفين
يتخبط هو بينهما، غير عالما مصيره النهائي
أو يعلم لكنه منكر
الإنكار في بعض الأحيان مفيد، رغم انه لا يؤخر الأمر المحتوم
لكنه مفيد في بعض الأحيان...

من بين جده وامرأته المغموسة في حقدها وانتقامها الأهوج حتى أطرافها، يشعر بنزاع يكاد يقتله، كلاهما يتلذذان بعذابه وجعله الرجل السيئ في الساحة، من ناحية جده الذي ابتعد عن العائلة نهائيا مقررا أن يكون في محرابه الخاص، متعاشيا مع ذكرياته الخاصة.

ومن ناحية أخرى تلك الشيطانة التي اعتزلت الطعام، قررت الصيام حتى يوم افراجها، يتعجب لامرأة مثلها بالكاد تتناول الفتاة والمياه دون الاكتراث لباقي الطعام الذي يلقي بالنهاية في القمامة...
تركها لأيام، تختبر طعم الوحدة، يذيقها كأسا مرير كما جعلته يتجرع كؤوسا مثلها، لا يصدق امرأة مثلها تمتلك كل ذلك الجبروت وانتزع منها الحب الذي تتغنى به في سنوات تعارفهم وزواجهم، لتعامله كغريب، بل عدو تأمن مكره..

من منهما المخطئ؟ ومن منهما المظلوم؟ ومن منهما الجاني؟ ومن الضحية
هي في طفولتها
أم هو حينما كبلته بقيود عشق لم يقدر على التخلص منه
أم الجد الذي ندم بعد سنين من جبروته، كأن على وشك أن يغادر ذلك العالم ملتمس المسامحة من كل الخصوم..
يريد هو الراحة، التخلص من كل شئ والتحرر من القيود وتتحرر هي، تعطي لنفسها فرصة كما قلبه الميت في عشقها يعطيها فرصة أخيرة، سألها بجفاء شديد وهو يقتحم غرفتها
- فكرتي.

انقشعت من عالمها الساكن، لتبدأ الاستقرار في ضجيج الارض، عينيها بهما نظرة ناعسة ثم بريق يعمله جيدا، تلك اللمعة التي كانت في لحظاتهما الخاصة، لتنفرج عن شفتيها ابتسامة ساخرة لتقول ببرود وهي تلف خصلة حول اصبعها
- كرم اخلاق منك يا لؤي انك تديني مهلة افكر فيها.

أمر ايام ذاقتها هنا، وهو حريص أشد الحرص على تحطيمها نفسيا، دون داعم نفسي، يضعها في أشد الاختبارات صعوبا، حتى كانت على وشك الجنون، استقامت من رقدتها لتقترب منه، تتأمل ضخامة جسده المرعبة، عينيه التي رغما عنها اشتاقتها، من تلك القبلة المجنونة، كلاهما يهذبان من طباعهم الجامحة كي لا يفقدوا سيطرتهم تاركين للقلب العنان للتحدث...

كلاهما يقفان على جمرات متقدة، منتظر من سيجر أذيال خيبته للخروج من ذلك التحدي الخاسر، نطق بنبرة اجشة وعينيه انسابت لتأمل تفاصيلها الأنثوية التي يحفظها عن ظهر قلب
- هتخسري كتير
أطلقت ضحكة مرتفعة مجنونة، ليشتعل فتيل الغضب في عينيها وهي تقول بحدة
- اكتر من اللي خسرته
مال برأسه واضعا كفيه في جيب بنطاله، جبانة
هذا ما تقوم به، قلبها جلمود لا يستجيب لنداءته
تصر وضع نفسها في الوحل
وجره معها.

- انتي ليه مصرة تحطي نفسك ضحية
قالها بصراخ حاد، ونفاذ صبر وهو يسحب عضدها ليرتطم جسدها الرقيق بجسده المفتول العضلات، تشعر انه كمصارع أكثر من كونه رجل أعمال مهندم
بل رجل أعمال خطر، كالمافيا!
ارتجفت بين جنبات صدره ورائحة عطره التي تحفظها اضعفتها وجعلت مقاومتها هينة، لتهمس بهدوء شديد وهي ترفع ذراعها لتداعب مؤخرة عنقه
- صوتك عالي.

اختلجت عضلة في فكه، لتحتد عينيه وهو يراها تغويه، زوجته تغويه، ومشتاقة بجنون لوصاله، نزع ذراعها بحدة قائلا
- انتي ليه مصممة تطلعي اسوأ ما فيا
ابتسمت بهدوء وهي تقول ببرود شديد رغم عنفه الغليظ معها
- لأن الأسوأ ما فيك هو وشك الحقيقي يا لؤي، واحد اول ما عرف بجوازة حفيده كان عايز يقتلني، انت بقى ايه هتجلدني
ثم رفعت رأسها ووجها الفاتن كان محتقن بالغضب لتصرخ في وجهه.

- انا قرفت منكم، قرفت منكم كلكم، طلعتوا ليه في حياتي، اوعي تفتكر انك لما تحبسني في المكان ده انك منعتني عن اللي بخططله في دماغي، ليا عيون في كل حته
ابتسم ببرود محافظا على هدوئه المستفز، لتتوتر اعصابها، وتتشنج ملامحها حينما استمعت انه يلصق اسم العائلة بأسمها
- بس ملكيش عيون هنا يا آسيا المالكي
انتفضت صارخة، كحية لدغتها وبثت سمومها
- عزام، اسمي آسيا عزام، واللي قريبين اووي يقولولي سيا.

لانت نبرة صوتها للمكر والخبث الشديد وهي تضع بذرة الغيرة في رجلها الذي انتفض من مكانه مقتربا منها قائلا بتهديد مرعب يكاد يجف الدماء
- ويا تري يا مدام اسيا القريبين دول من جنسك
رفرفت باهدابها و زرقة عينيها تموج بالاغواء والهاوية لتهمس بنعومة لذيذة
- مش بحب ازعل الجنس التانى، وكله يستفاد يا هركليز
كرر قائلا بنبرة بها الخشونة والضيق
- كله بيستفيد.

هزت رأسها موافقة، منتظرة شعلته وغيرته التي تدفئ قلبها الجليدي مشعلا نيرانا في جسدها
- بأكتر الطرق اللي تتخيلها ومتتخليهاش
ملامح وجهه الساكنة جعلتها ترفع حاجبها بسخرية واستهزاء من عدم رد الفعل التي ترضيها، لتتفاجئ به يمسكها من مقدمة جلبابها لتشهق حينما جذبها بكل خشونة محكما ذراعه على خصرها النحيل ليقول بجنون
- نفسك تموتي على ايدي مش كدا.

ابتسمت، لترفع عينيها ترى الغضب الأعمى المظللة حدقتيه لتهمس باستفزاز
- متقدرش تقرب شعرة مني يا لؤي، افتكر انا هنا بمزاجي ولو عايزة امشي من هنا صدقني مفيش حاجه تقدر تقف في وشي، شكلك متعرفش وش آسيا عزام يا لؤي.

يتخيل قذرون يحيطون بفاتنته، يقتربون منها بشهوة، وهي تسمح لهم بنظرة ولمسة، ونعيم في عينيها، ثم حرمانهم من نعيمها، يعلمها جبارة في جعل أعتى الرجال تشعل جذوة التوق في أحشائه ثم تلفظه من نعيم جنتها، قبض بكفه الغليظ على عنقها غير مكترثا باتساع عينيها من الصدمة
- مش مهتم اني اعرفه.

قالها بفظاظة شديدة وهو يحاول خنقها، بل صفعها بحدة على وجهها، يعلم انها تجعله يتلظى بنيران الغيرة، لكنه للأسف يستجيب لندائها دائما، نزعها عنه والقاها بتلفظ وهو ينظر إليها بدونية ليشتعل الجنون في عينيها قائلة
- هتندم
نظر نحوها باستخفاف ولسانه حاد كالبتر.

- انتي بالنهاية الوحيدة الخسرانة، خليكي في دوامة الانتقام لحد لما تبلعك وحدك، تبقي لوحدك لا ليكي قريب ولا ليكي حد يهتم بيكي، مش بعيد انك تروحي العباسية تقضي بقية حياتك لحد لما تتعفني
رأي اتساع عينيها، ثم الشحوب الذي بدأ يتاكل وجهها المشتعل بغضب، نظر بظفر شديد إلى ما حققه ل يتابع بجمود
- وانا والباقي هنعيش حياتنا، هتكوني بالنسبالنا صفحة قديمة قطعناها من دفتر حياتنا.

اسودت الدنيا من حولها، سواد، سواد يبتلعها من كل جانب ويقتات منها، زمجرت بغضب
- حيوااااان
لم يكلف نفسه عناء للرد عليها بل غمغم بجمود شديد
- وراكي اخر فرصة، لو جيتلك تاني والعناد راكبك يا آسيا، انتي اللي هتشوفي من لؤي المالكي وش عمرك ما هتشوفيه، انا بس بحذرك.

الألم محفور في حدقتيها، والضياع هي كل ما تشعره، وحيدة، مهمشة، لا وجود لشخص لرعايتها والاهتمام من شأنها، منبوذة من قبل الجميع، اختنقت انفاسها لتشيح رأسها للجهة الأخرى
تتمني الوصول للسلام الذي يناشده، رغم حبها العميق له، لكنها موجوعة منه شخصيا، غيرت قادرة على اعطائه الفرصة ثانية، الثقة في محل اضطراب
تخشى أن يخذلها، صاحت بجمود
- سكة السلامة يا هركليز.

ثم استكان الصخب من حولها، والقلب العليل يبحث عن من يداويه، ويطمئنه ان سيكون بخير
أحدا حقا يهتم و يكترث من أجلها، ليس من أجل مصالحه الخاصة، تراخت ساقيها لتجلس ارضا مستشعرة البرودة لتمر قشعريرة باردة سرت في أطراف جسدها، نكست رأسها أرضا لتخرج صرخة مكلومة لتنهار الملكة أرضا، لفت ذراعيها حول نفسها بحماية، تنكر ما قاله، تنكر انها ستكون شخص منبوذ من الجميع، لن يحدث ابدا، لن يحدث!

في حي عاصي،
نظرت وجد بعينيها إلى الحي الشعبي الذي يقطنه عاصي، لن تنكر انها تخيلته أسوأ بكثير مما تتوقعه، ترجلت من سيارة الأجرة التي أخذتها من بوابة المؤسسة لعدم معرفتها تحديدا لموقع المنطقة بعد ان اخذت العنوان من جدته، تمسكت بباقة الورد بيديها وهي ترفع نظارة الشمس فوق رأسها لتنظر نحو الحي الصخب ببعض التوتر، وما زاد توترها سماعها لتعليق أحد الشباب المارين.

- اوباااااا، هو القمر بيطلع في النهار ولا ايه
انكمشت حول نفسها وهي تلتصق بجذعها على جسد السيارة ونظرت بقلق الى الرجل الذي يغمزها بوقاحة شديدة جعل وجهها يحتقن بغضب وحرج، هبطت بجذعها إلى سائق الاجرة متسائلة بخوف
- انت متأكد من العنوان
هز الرجل العجوز رأسه قائلا
- ايوا يا استاذة هو ده الحي
نقدته ثم شكرته قائلة بهمس
- طب شكرا.

نظرت بتيه إلى الحي الواسع وهي تشعر أنها لا تعلم ما هي بفاعله، اندفعت لسانها قبل عقلها لتطمئن عليه، وتشكر الله أن من اجابتها جدته، لو رد هو لا تعلم ماذا كانت على وشك قوله، لقد ظهرت كحمقاء غرة لا تتمتع بلياقة في الحديث، أبصرت مقهى على ناصية الشارع لتتوجه بعزم تسأل أحد رواد المقهى خصوصا ان المتاجر داخل الحي...

كان عادل يرتشف شايه بملل شديد، يستغفر و يحوقل وهو يشعر بالجنون مما تفعله جدة عاصي، لولا أنه يعلم أن ما تفعله خوفا على حفيدها وفلذة كبدها لما صمت مضطرا لرفع حظرها الخاص، هو من كان لا يريد خطبة بل زواج كي تكون اسماء تحت طوعه، تلك الغبية ماذا تظن أنها ستستفيد من عملها في المدرسة، بالنهاية يعلم ان المدرسات يأخذن حصصها متعللين بأنه يوجد تراكمات في مناهج دراستهم وحصة الالعاب مجرد ترفيه على الفتيات،.

لوى شفتيه ساخرا ثم انتبه إلى همهمات الجميع وعيونهم محدقة نحو شخص واحد، رفع عينيه ليرى من هو صاحب الجلسة النميمة ليجد امرأة خرجت خصيصا من احدي المجلات النسائية، ثم ماذا تحمل؟! باقة! آخر مرة شاهد باقة ورد حينما كانت أسماء تستأجر باقة ورد صناعية، صاح بحدة مزجرا
- هيماااااااا
انتبه هيما من وقفته البلهاء وهو يحدق إلى تلك المرأة الهيفاء المتقدمة نحوهم بثيابها الباهظة ليقترب نحو عادل الذي عاجله قائلا بحدة.

- مين دي
هز هيما رأسه ببلاهة قائلا وشفتيه فاغرة بانبهار إلى الفاتنة التي سقطت على أرض حيهم
- معرفش يا استاذ عادل، تحب اروح اشوفها
صرفه قائلا بحدة
- روح، انت ما بتصدق اصلا
انطلق هيما فورا نحو الفاتنة التي سقطت على أرض حيهم، يقسم ان تلك الفاتنة ستكون حديث الحي لأيام بل لشهور قادمة، اقترب منها قائلا بصوت سعيد وهو يحدق بها ببلاهة
- أؤمريني يا ست الكل، تحبي اوديكي فين.

ذعرت وجد وارتدت خطوة للخلف حينما تفاجأت بقطار صغير على وشك سقوطها، وضعت يدها على صدرها تهدأ من خفقات نبضاتها الهاربة، نظرت نحو بتشكك وقلق شديد، ليسارع هيما قائلا بجدية
- متقلقيش يا انسه مني، انا هيما صبي قهوة وعارف شبر شبر وشقة شقة في المنطقة.

رغم عدم ثقتها كثيرا في ذلك الطفل، خصوصا أن حوادث الاغتصاب والخطف منتشرة بكثرة في المدينة، الا انها قالت قررت أن تغامر، فالذي جعلها تقطع نصف الطريق سيجعلها تكمل طريقها لأخره
- تعرف بيت دكتور عاصي
سألته بتشكك وهي تراقب ملامحه بترقب شديد، لترى اتساع ابتسامة الصبي ولمعة آعجاب ممتنة ليقول بفخر شديد وهو يتقدمها قائلا
- طبعا، ده أشهر بيت في المنطقة، اتفضلي يا انسه اوصلك.

نظرت إلى المقهي لترى الرجال يشاهدون يكادون يلتهمونها بعيونهم لتهمس بقلق
- طب مش هأخرك على شغلك
هز رأسه نافيا، وداخله قلق من تلك الكيكة الهشة حينما تقابل جدة عاصي، ستأكلها بأسنانها، يشعر أنها ستقوم بأكلها حية، قال بتعجل
- متقلقيش يا استاذة، اتفضلي من هنا.

سارت خلفه وهي تنظر بريبة إلى الجميع الذين توقفوا على متابعة عملهم ليروها إلى أي أين مكان هي ذاهبة اليه، بلعت غصة في حلقها وتابعت طريقها غير مكترثة بنظراتهم ليقف الطفل أمام إحدى العمارات العتيقة التي جارها الزمن ليقول بحماس
- هي دي العمارة، تاني دور البيت على ايدك اليمين.

ابتسمت بهدوء ورفعت عينيها تنظر إلى كل ركن خاص بالعمارة، ثم التفت برأسها نتيجة صياح بعض أطفال الحي وهم يلعبون بالكرة في الشارع الجانبي بين العمارتين، ابتسمت برقة وهي تري حماسة الطفل الذي سجل هدفا كما لو أنه حقق هدفا في مباراة عالمية هل كانت هذه طفولته؟! لقد حظي ذلك العاصي بالكثير من المرح هنا لا تشك، التفتت نحو الطفل الصغير تشكره
- شكرا يا
وضع هيما يده على صدره قائلا
- محسوبك هيما يا ست الكل.

رغم تعجبها من اسم ست الكل التي كررها مرتين، إلا أنها لها وقع خاص عندها جعل شفتيها تتسع بعذوبة شديدة جعل هيما يقف فاغرة شفتيه ببلاهة
- شكرا يا هيما
تنحنح هيما بحرج، المرأة تخص قدوته وقائده، اخفض نظراته حرجا وقال
- العفو يا ست الكل، لو احتجتي أي حاجه، القهوة على الشارع تنادي اسمي واجيلك جري.

هزت رأسها موافقة ثم التفتت مرة اخرى تنظر إلى مدخل العمارة، تقدمت الى الداخل لتشعر بالتوتر الذي يسري في اطراف جسدها، ماذا تفعل هي؟، لما قررت برعونة أن تأتي إليه؟، لما لم تأخذ روفيدا وتأتي؟!، عصفت الاسئلة في عقلها لتهز رأسها يائسة وهي تضع أول قدم على درج السلم ثم رفعت عينيها لتراه واقفا أمامها.

كان الذهول والصدمة ارتسمت ملامح وجهه، حتى ظن هو أصاب بالخرف انها امامه، هبطت عينيه متأملا ملامحها الناعمة وتغزلت عينيه قائلا
أنتِ خلاصة كل الشعر
الأنوثة تكمن داخل عينيكِ
والرقة تذوب من شفتيكِ
ذاب قلبي هاويًا على قدميكِ
دون شعور يا، أميرتي
الخاطرة بقلم الأميرة أميرة مدحت .

توردت وجنتيها نتيجة نظراته التي اخترقت ضلوعها، تشعر بقوة مشاعره التي جعلت تقف امامه مصدومة مما هي قادرة على قراءته من عينيه، كيف! كيف يحمل كل تلك المشاعر ويكنها لها؟!، وقفت امامه كامرأة عذراء خجولة بعد اعتراف حبيبها بعشقه...

هبطت عيناه متأملا إياها من خصلات شعرها المعقودة في كعكة مهملة ثم إلى بلوزتها البيضاء القطنية الناعمة، َ ضاقت عينيه بعبوس حينما رأى أن بلوزتها شفافة مبرزا الحمالات التي ترتديها بالاسفل لتندلع غيرة عمياء في قلبه وهو يرى بنطالها الجينز الملتصق بساقيها الرشيقتين، والمصيبة الأكبر، باقة ورد يتخيلها تحمل باقة الورد أمام من في الحي لتقدمها له، الجميع علم بالطبع من صاحب تلك الباقة، استمع إلى همسها القلق.

- عاصي
رفع عينيه ليقول بحدة قائلا
- بتعملي ايه هنا
شهقت من وقاحته وشعرت بالندم الشديد انها جاءت إليه، ظلل الحزن عينيها الداكنتين لتهمس بقلق شديد وعينيها تنظر إلى العكاز المستند عليه والي حامل الكتف بألم
- اتصلت بيك وردت عليا طنط وقالتلي انك تعبان جدا
شعر انه في عداد الموتي، جدته من جلبت الفاتنة إلى حي منطقته، بالطبع ضافت البهارات لتجلب تلك البريئة هنا، زم شفتيه بقسوة ليقول بجمود.

- ملهوش لزوم التعب كل ده، كنت يومين وهنزل المؤسسة تاني
لم تمنع نفسها من سؤاله وقلبها تشعر انه يتمزق انها تراه مصابا بتلك الدرجة
- الف سلامة عليك، حصلك ايه
ابتسم عاصي قائلا بنبرة هادئة غير مكترثة
- عادي اصابات ملاعب، كنت على السلم بعلق اللمض وفيه ولد كان بيعدي الشارع كانت عربية هتخبطه، مخدتش بالي ان السلم مش متوازن فوقعت.

اطلقت وجد صرخة مفزعة ثم كتمتها سريعا بشفتيها وهي تتخيل بعينيها أحداث ما وقع، بلعت ريقها بتوتر، ثم اختنقت انفاسها وهي تشعر أن ذلك الرجل كانت على وشك فقدانه، الرجل كان على بعد شعرة من الموت وهي لم تعلم، ولم تهاتفه ظنته غاضبا منذ يوم المؤسسة، ترقرقت الدموع من عينيها لترق ملامح عاصي وهو يقترب منها قائلا بحنان
- متتخضيش، انا سليم قدامك.

رفعت عينيها تتأكد انه معافي أمامها، الرجل واقفا امامها لكنها تشعر أن يتألم ويخفي، هطلت الدموع من عينيها لا اراديا لتهمس برعب
- وليه تتشعلق في السلم يا عاصي، ده خطر جدا
ابتسم عاصي، لغرابة الموقف ابتسم وانتعش قلبه وهو يراها تخص مشاعر خاصة له فقط، دونا عن الجميع، متأثرة بمرضه حتى قدمت اليه، يعترف انها خطوة جريئة منها لكنها بدون علم مهدت طريقا له للوصول إلى قلبها الذي يشعر أن بات يمتلكه.

- بتخافى عليا يا وجد
سألها بنبرة اجشة وهو يرى وجهها الفاتن ينظر إلى وجهه لتجيبه بعفوية تقتله تدريجيا
- طبعا يا عاصي، بخاف عليك، متعملهاش تاني يا عاصي
كاد أن يجيب عليها الا انه استمع الى صوت نشاز من خلفه
- انت هتسيب الضيفة قاعدة برا ياواااد
رفع عيناه ينظر الى السقف بصبر، ليدير برأسه نحوها بتحذير شديد ان لا تتمادى، لم تكترث توحة بشدة لكن لقائها بزوجة حفيدها ومعرفة تفاصيلها هو الأهم..

افسح لها عاصي مجالا للصعود، لكن ضخامة جسده آكل المسافة لذا اصطدمت بعفوية بكتفها مرفقه، أخفي عاصي تأثير تلك اللمسة العارضة وهو يعرف وجد للمرأة العجوز النحيفة قائلا
- جدتي، توحة
اشتعل وجنتي وجد حرجا وهي تشعر بكفها مشتعل كالجمرات المتقدة أثر تلك اللمسة، رفعت عينيها تهمس بخجل
- اهلا بيكي يا طنط.

تفرستها توحة لثواني ثم انشرحت اساريرها حينما رأت ان الفتاة ليست وقحة ولا مصطنعة الخجل، دخلت قلبها فوريا وهي تعلم ان بملابسها المهندمة انها من عائلة مترفة خصوصا لفتة الباقة، لوت شفتيها قائلة بنزق
- طنط، طنط ايه بس يا بنتي، عايزة اهل الحتة تاكل وشي، والله لانتى داخلة وهتاكلي معانا
صعد عاصي عدة درجات ليميل هامسا قائلا
- توحة، انتي عاملة عدس ناوية تأكلي البنت عدس دي هتروح فيها.

نظرت إلى الفتاة التي تقف امامها بخجل ثم قالت ببرود شديد
- وماله يا ولا، العدس مش عاجبك ولا لأ
اتسعت عينا عاصي وهو يشعر انه فضح امام تلك الفاتنة، مال هامسا مذكرا اصلها العريق البعيد كل البعد عن الفتاة الشعبية
- ايه يا توحة، ده انتي اصلك مش من هنا
قلبت عينيها بملل ثم صاحت بحدة دافعة إياه للحركة لتهبط تمسك بساعد وجد قائلة
- ولااااا، امشي من وشي روح جيب كباب وكفتة وسيب ضيفتك معايا.

ابتسمت توحة للفاتنة لتلمس ذراعها اللين وعظامها الرقيقة، لم تأتي وجد بكلمة وهي تشعر انها محاصرة بين يدي تلك العجوز الهرمة ذات صحة امرأة ثلاثينية، زمجر عاصي بغضب شديد وهو يعلم ما تقوم بفعله تلك العجوز
- توحااا
فسرت وجد صوت عاصي الحانق انها غير مرحبة لتهمس قائلة بعذر
- ملهوش لزوم تتعبي حضرتك، انا مضطرة
قاطعتها توحة معارضة بحدة
- بت انا حلفت انتي داخلة وهتاكلي، وحلفاني مش هينزل الارض ابدا.

همست وجد باعتراض واهن وهي ترفع رأسها تنظر إلى عاصي المتجهم الوجه
- بس مش عايزة اتعب حضرتك
فتحت توحة باب شقتها قائلة بابتسامة مرحبة
- تعالي يا حبيبتي، شكلك جيتي من مسافة بعيدة
دلفت وجد بحرج شديد إلى شقته لتمسك توحة عاصي من كفه قائلة بهمس خافت
- هو ده الشغل يا عاصي، من امتي بتشتغل في بسكوت ومولتو
ضيق عينيه عالما مغزى كلامها الوقح ليقول
- توحا
همست بحدة وهي تنظر إلى وجد المرتبكة امامهما.

- توحة هتعلقك يا ابن بنتي، بس لما اشوف مرات حفيدي
نظر اليها محذرا من أن تفسد الأمر ليقول اسمها بتحذير
- توحة
لكزته في خاصرته ليتأوه عاصي بألم مستندا بعكازه وهي تمتم بحدة
- اخرس يا ولد، روح جيب الأكل ومتتاخرش
ثم اقتربت من وجد ببشاشة وترحيب حار من عينيها
- قولتيلي اسمك ايه يا بنتي.

نظرت وجد بارتباك شديد بعد ان تفحصت الشقة من نظرة سريعة، الاثاث حديث والحوائط مدهونة بألوان هادئة، ثم رائحة الشقة المعبقة بالبخور جعلتها تشعر براحة غريبة تتسلل أوردتها لتقول
- وجد يا طنط
امتعضت ملامح توحة بيأس شديد وقالت
- طنط ايه دي، قوليلي توحة زي حفيدي الشحط
احمرت وجنتيها حرجا وهي تراه يحدج جدته بنفاذ صبر، انسلت ضحكة من شفتيها لتتسع ابتسامة توحة قائلة.

- اللهم صلي وسلم على سيدنا محمد، لا لازم ارقيكي، العين وحشة يا بنتي.

دارت برأسها لتنظر إلى عاصي بحدة، تأمره بالخروج، حوقل وهو يغادر المنزل غير مطمئنا أن تظل توحة وديعة حين عودته، اجلستها توحة على الاريكة وذهبت إلى المطبخ لتنظر وجد بانبهار شديد إلى كل ركن من اركان المنزل، رغم اتساعه كونه من البيوت القديمة لكنه بها لمسات عصرية استقامت من مجلسها حينما رأت عدة حائط به العديد من الشهادات المعلقة، أخذت جولة سريعة عن شهادات تقدير لتفوقه خلال مراحل عمره، حتى الشهادة الثانوية والجامعة الخاصة، اتسعت عيناها بذهول، هل درس في نفس جامعتها؟!

انتبهت على صوت تحية وهي تقدم صينية بها كوب من العصير وطبق من الحلويات، سارعت وجد بمساعدتها حينما لاحظت المجهود الذي تبذله، ربتت توحة على ظهرها لترسم وجد ابتسامة رقيقة على شفتيها و تجلس على الاريكة...
تفحصتها توحة بعينين ثاقبتين، خصلات شعرها معقودة، تريد ان تعلم ان تلك الفتاة هي اميرة حفيدها، همست ببشاشة شديدة
-بتشتغلي في مؤسسة روفيدا مش كدا.

جملتها لم تكن محل سؤالا، هزت وجد رأسها وهي ترتشف العصير ثم اتخذت وضعية مهذبة وهي تحاورها قائلة
- بدرب الاطفال التنس يا طنط توحة
تفحصت توحة حركات جسدها العفوية التي تدل على منشأ الفتاة الراقي، ثم زاد عينيها انبهارا حينما علمت أنها مدربة تنس، هذا يفسر جسدها النحيل، قالت توحة بنفاذ صبر
- توحة، توحة يا بنتي، متتعبنيش، انا صحتي على قدي
تلجلجت وجد لثانيتين سرعان ما قالت وهي تحاول تدريب لسانها على نطق اسمها.

- ربنا يديكي الصحة يا ط، توحة
هزت توحة رأسها باستحسان وهي تنظر الى يديها و اناملها الرقيقة، هل تعزف على آلة؟!، تساءلت سرا ثم تابعت بفضول عفوي
- وليكي وظيفة يا بنتي
صمتت وجد للحظات ثم سرعان ما تذكرت فستانها الاول، اتسعت ابتسامتها تدريجيا قائلة
- كنت بصمم فساتين وعملت ورشة وفيه محل ماسكة ادارته ببيع فيه براندات وجزء من ورشتي.

أميرة، هي الأميرة المنشودة، مرهفة الحس، ذات مواهب متعددة، تشكل ثنائي رائعا مع حفيدها، هي بطولها الممشوق ونحافتها وهو بقامة طوله وعضلات جسده الرياضية، شتمته في سرها لأنه اخفي عليها أمر تلك الفتاة لتهمس من بين شفتيها
- والله وعرفت تنقي يا ولد.

القت نظرة على باقة الورد الموضوعة على الطاولة الصغيرة، ترى كيف استقبل الحي وجود امرأة حاملة باقة ورد في سابقة يشهد لها التاريخ؟!، تخشى أن يصيب الفتاة أمرا من أول زيارة، اتسعت ابتسامة توحة وهي تلتقط النظارة بجوار مقعدها قائلة
- بحب اشوف الفساتين، وريني بقي يابنتي.

لفظ ابنتي كان له وقعا خاصا في اثر وجد التي هزت رأسها دون تردد تخرج من حقيبتها الهاتف، تريها صور التصاميم التي كانت ترتديها بعد انهائها من اللمسات الاخيرة
- طبعا
لا تعلم لما حبت ان تريها فستانها الاول، استقامت من مقعدها بعد ان وضعت الكوب في الصينية لتقترب منها قائلة مشيرة إلى الصورة
- ده اول فستان صممته ايه رأيك فيه يا توحة
ضاقت عينا توحة وهي تنظر إلى الفستان الاحمر، اتسعت عيناها بإعجاب شديد لتهمس.

- الاحمر حلو عليكي يا بنتي
ابتسمت وجد بفخر وهي تنتقل من صورة لأخرى قائلة
- وده تاني فستان عملته
كانت توحة تلقي محاسن تصاميمها ثم بعض التعديلات البسيطة من خلال نظرتها الخاصة لتهز وجد رأسها تسجل بعض النقاط في فساتينها القادمة، قالت وجد بحماس شديد
- وده اخر فستان ربيعي قررت اعمله
هزت توحة رأسها لتمتم بحرج شديد
- متأخذنيش في السؤال يا بنتي، هو كله كده مكشوف من فوق ومن تحت
هزت وجد رأسها قائلة بهدوء.

- لا يا توحة، على حسب الزبونة اللي بتطلبه، اقدر اقفل الفستان
زفرت توحة مغمغة براحة
- ايوا ريحتي قلبي، اصلي عارفاه مجنون ويحلف عليكي متنزليش من البيت لمدة شهر زي المعلم الله يرحمه
لم تفهم معظم كلام توحة، الا ان كلمة معلم جعلت عينا وجد تتسع بانبهار حقيقي قائلة
- المعلم
ابتسمت توحة بشجن وهمست بنبرة عاشقة
- المعلم ده كان حياتي ومثلي الاعلي، ربنا يرحمه
حدقت بها وجد منبهرة لتهمس باندفاع
- عيشتي قصة حب يا توحة.

شعرت حينها بالحرج من سؤالها، ابتسمت توحة بشجن شديد وهي تسبح في ذكريات الماضي
- قصة حبنا مبدأتش الا بعد الجواز، كنت افتكر زمان ان ابوه وابويا جيران ولما كبر كل واحد فيهم، بابا راح في مكان وابوه كبر في شغله، ولما جيت وكبرت لقيته كان شاب، راجل مش زي دلوقتي الولد عنده عشرين سنة ومش شايل مسؤولية نفسه، كان راجل وشهم، كتير كان بيتقدمولي بس رفضتهم.

حدقت توحة نحو وجد الناظرة نحوها بانبهار شديد وشغف لتقترب منها هامسة
- اقولك على سر
هزت وجد رأسها لتهمس توحة قائلة
- كنت برفضهم عشان اديله رسالة ان مكانه محجوز ومحدش يقدر ياخد مكانه، بس هو كان متخوف خصوصا ان علاقة الصحبة تتأثر، كان فيه شوية غباء، كل الرجالة كده، الله يرحمه
ثم استرسلت بمرح.

- لا كان بيلقط الاشارة ولا كان بيحاول يلقطها، بس اخر ما جبت اخري جيتله مكان شغله وقولتله يا تكون راجل وتتقدملي يا اما هاخد ابن سفير اللي اتقدملي
اتسعت عينا وجد ونظرت نحوها بترقب شديد لتسمع توحة وهي تقول
- طبعا الكلمة دي خلته شايط، وخصوصا اني كنت جريئة واخدت الخطوة الاولي في وقت البنت مكنتش بترفض الراجل اللي بيتقدملها وابوها يرتاحله
سألتها قائلة بترقب شديد
- وجيه
ضاقت عينا توحة لتقول بنبرة ذات مغزى.

- ولو مكنش جيه مكنتش هكون هنا
اتسعت عينا وجد بانبهار شديد، لا تصدق ان امرأة مثلها من عائلة قررت ان تتزوج رجلا من حي شعبي، وطوال تلك السنوات ظلت هنا ولم تغادر. اذلك هو الحب الحقيقي؟!
كم تتمني، بل تتوسل أن يكون رجلها مثل ما حظته توحة، ارتفعت عيناها لا اراديا على صوت أجش حانق
- جبت الاكل يا توحة.

رغما عنها كانت تتخيله هو، رجلها الخاص والأوحد، تعلقت عيونهم للحظات ليعطيها أروع وادفء ابتسامة حظتها قبلا، انتبهت على صوت توحة التي قالت بوهن شديد
- جهز السفرة مش قادرة اقوم اسخن الاكل
استقامت وجد تمد يد المساعدة لها
- خليني اساعدك يا توحة
صاح عاصي نافيا وهو يمسك بكيس الغذاء متوجها به ناحية المطبخ لتسخينه رغم انه لا داعي، لكن يعلم توحة واصرارها العقيم
- لا ملهو.

قاطعته توحة قائلة بوهن شديد واضعة يدها على ركبتيها مشيرة برأسها لوجد ناحية المطبخ
- المطبخ امشي اخر الطرقة، معلش يا بنتي هتعبك، زي ما انتي شايفة رجلي مش قادرة امشي عليها
نظرت وجد اليها بقلق متساءلة
- تحبي اكلملك الدكتور
قلب عاصي عينيه بملل شديد، لن تنتهي جدته من تلك التمثيلات اللانهائية على الفتاة المسكينة، استمع إلى صوتها الواهن
- تسلمي يا بنتي، ادي الكيس للبنت.

كان صوتها امرا وهي تأمره ليقول بنظرة جادة وهو ينظر إلى كلتاهما، غير مصدقا أنه لم يحدث أي كارثة بينهما
- ارتاحي انتي، هسخنه
قاطعته وجد قائلة بحدة شديدة
- انت شايفني مش هعرف أسخن يعني، هات الكيس
تقدمت نحوه تسحب الكيس من يديه ثم اندفعت تتوجه نحو المطبخ، اتسعت عينا عاصي وتوحة تكاد تخرج من شفتيها زغروطة تعبر عن فرحها، جلس عاصي على مقعد السفرة مريحا قدمه بعد أن بذل مجهودا في الصعود للسلالم.

- ايه ده يا توحة، الضيفة تدخليها المطبخ
اشاحت بيدها قائلة بنبرة غير مكترثة لعبوسه وحنقه اللامبرر
- لازم تعرف بيتها يا خويا، روح اتلحلح كدا عشان جعانة
استقام من مقعده عاقدا النية لمساعدتها الا ان صوت توحة الحاد جعله يتجمد من نبرة الوعيد في صوتها
- تعالي يا واد، انت فاكر انى هسيبك تدخلها، والله هبلغ عليك البوليس، وهخلي اللي ما يشتري يتفرج عليك
مسح على وجهه بنفاذ صبر وقال بحدة.

- يا توحة، مينفعش كدا دي ضيفة
برمت شفتيها وصاحت تهذر بحدة لتقول بجدية
- اسكت يا ولا، انت لو قعدت سنة والله ما كنت هتقولي عليها ولا تجيب سيرتها، انت مش كنت نازل روح شوف مشوارك
عاد يجلس على مقعد السابق قائلا بجمود
- قاعد
عادت وجد تقول بنبرة حماسية شديدة وهي تنظر إلى عاصي بنظرات جعلت قلبه يخفق من اجلها وهي تهمس بخجل
- سخنت الاكل
استقامت توحة من مقعدها وهي تتخذ مقعدا لها على الطاولة، قائلة.

- تسلم ايديك يا حبيبتي
تحمد الله ان جهاز المايكرويف في منزله والا كان ستكون فضيحة، همت بجلب الاطباق الا ان عاصي حدجها بنظرة مميتة جعلتها تنكمش وتجلس في مقعدها بأدب، رأت توحة المحادثات التي تجري بعيونهم لترفع رأسها داعية أن يحقق الله ما يبتغيه حفيدها، وتكون الفتاة سبب سعادته في الحياة.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة