قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل العشرون

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل العشرون

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل العشرون

لا أملك من ذاتي سوى فُتات، رمادٌ طار بفعل الهواء، وأشلاءٌ بقيَّت بعد عناء، دموعٌ حارقة تُؤلم عيني، وحاضرٌ مجهول يخاف لأثره قلبي، خوفٌ يزداد داخل فؤادي، وحياةٌ مُبهمة يخافها وجداني، حبٌ ينتظر الإشارة، وعقلٌ حالك يمنع الإنارة، فمتى يأتي الجبر لفؤادي؟ وأي طريقٍ سأسلكه من البداية؟

لم تشعر رضوى بذاتها سوى إلتفاف قبضة حمزة على رسغها وسحبه لها نحو الخارج، رأت في عينيه شرر يتطاير قبل أن يُدير لها ظهره ويسبقها بعدة خطوات وهو يجذبها معه، سارا معًا لمدة عشر دقائق تقريبًا، وهي تصرخ به وتضربه على ذراعه ليتركها، لكنه لم يهتم لأمرها، وإنما كان يُحاول السيطرة على ذاته حتى لا يستدير لها ويفتك برأسها اللعين هذا.

وصلا إلى طريقٍ مُنير مُفعم بالحياة غير المظلم الداكن الذي كانا به منذ قليل، دفعها بعيدًا عنه بعنف حتى كادت أن تقع، لكنها سيطرت على توازنها قبل أن يرتطم جسدها بالأرض الأسفلتية من تحتها وطالعته بغضب وهي تصرخ به: أنت غبي؟
صوتًا ساخرًا صعد من بين شفتيه وعيناه مُثبتة على وجهها الشاحب، ثم رد عليها بقسوة وهو يشملها بعينيه: أنا غبي؟ مفيش أغبى منك يا شمامة.

قال كلمته الأخيرة باشمئزاز قاصدًا إهانتها، لتأتيه إجابتها على الفور بنفس القسوة: ملكش دعوة بيا يا حشَّاش يا خمورجي.
التهم الأسفلت بخطوات واقترب منها حتى توقف قبالتها، وبقوة أمسك بها من ذراعها بعنفٍ ضاغطًا عليه بقسوة وهو يهتف من بين أسنانه: على الأقل الحشاش الخمورجي دا كان مُضطر يعمل كدا وإلا كنت هتقتل.

لاحظ نظراته التائهة ودموعها التي بدأت بالتسلل إلى مقلتيها، فاستكمل حديثه وكأنه يؤنبه بقوة على فعلتها: مش بروح مناطق مشبوهة عشان أضرب حقن ومخدرات.
دفعت يده بعيدًا عنها بعد أن شعرت بذراعها يكاد يُفتك أسفل ضغطه عليه، ثم همست بصوتٍ مبحوح وهي تتلاشى النظر إليه: ملكش دعوة بيا، امشي وسيبني في حالي.

زفر بضيق أثناء مُطالعته لها بنظراتٍ حانقة، لذلك وقف قبالتها مرة أخرى وسألها بوجوم: بقالك قد إيه بتضربي الزفت دا؟
لم تُجيبه، وإنما اختارت تجاهله علَّه ييأس منها ويرحل، لكنها انتفضت بفزع حينما صرخ بها بغضب: انطقي!
رفع كفها ومسحت دموعها بظهر يدها قبل أن تُجيبه بثبات زائف: دي تاني مرة.

ورغم الإطمئنان الذي سرى بفؤاده لكونها لم تُدمنه، إلا أنه صاح باستنكار شديد وهو يسألها: وعلى كدا ناوية تكملي وتبقي شمامة ولا هتعقلي وتترزعي في بيتكوا مُعززة مُكرمة لحد ما أتنيل على عيني وآجي أتقدملك؟
احتدت عيناها غضبًا وصاحت بحدة: أنا مش هتجوزك، مش هتجوزك ولا هتجوز غيرك.
تشنج وجهه وعاد ليتسائل بتهكم: أومال طول المدة دي كنت بتتسلي بيا؟

حكت وجهها وقاومت نفسها ألا تُهشم وجهه بأظافرها، لكنها معالمها قد لانت عندما استمعت إلى نبرة صوته التي باتت خافتة حينما قال بلُطف: ليه وصلتي للمرحلة دي يا رضوى؟
تزعزع ثباتها وسرت الرعشة من جديد داخل أوردتها، فأكمل بما جعلها تشعر بالقهرة حِيال حديثه: مش عايزاني تقوليلي، مش تروحي ترمي نفسك في النار بإيدك.

أخفضت وجهها في محاولة فاشلة منها لإخفاء دموعها التي رآها حمزة على الفور، استمعت إلى تنهيدته الحارة، وكأنه يسعى في طريقٍ آخره مُغلق وأوله هي، وبعد أن يأس من فكرة تحدُثها، استمع إلى حديثها المُغلف بالبكاء:
أنا مش عايزة أتجوز.
ليه؟
كان سؤالًا هادئًا عكس النيران التي كانت تنبش بفؤاده من الداخل ولهفته، لتُجيبه هي بحرقة: خايفة تطلع زي بابا.

وما إن انتهت من قول ما يؤرقها، انفجرت في البكاء، كان بكاءً مريرًا يعكس الخوف الذي تشعر به، الرهبة من فكرة الزواج بأكملها تتزايد شيئًا فشيئًا حينما يصدر أي فعل مشين من والدها تجاههم أو تجاه والدتها، لن تُنكر بأنها تُحِب حمزة، لكن والدها أيضًا كان يحب والدتها، وبعد الزواج؛ تبدد ذلك الحب ليحل محله القسوة والكُره.

إجابتها كانت غريبة له بعض الشيء، لقد نُشيء في بيئة غير التي ولدت بها، تربى بين أب حنون وأم دافئة، لم يُجرب القسوة من قبل، لكنه شعر بها في المرات القليلة التي رأى بها رؤوف، حاول تهدأتها بشتى الطرق لكنه لم يفلح، لذلك تحدث بابتسامة هادئة وهو يختم حديثه قائلًا: خلاص متعيطيش مش هتجوزك خلاص.

توقفت عن البكاء على بغتة، ورفعت وجهها المُمتليء بالدموع مُطالعة إياه بصدمة، ورغم أنها مَن اختارت طريقها؛ إلا أنها تسائلت بعدم تصديق: هتتجوز غيري؟
أومأ لها حمزة بالإيجاب وهو يهز كتفيه بلامبالاة مُصطنعة: أيوا، مش أنتِ اللي عايزة!
وفي اللحظة التي تلتها، كانت قبضتها ترتطم بصدره وهي تصرخ به ببكاء: يا حيوان يا حقير، روح ربنا ينتقم منك.

دُهِشَ من هجومها المُفاجيء وحاول تلاشيها لكنه لم يستطع، لذلك استخدم يده لتثبيتها، وبعد أن نجح في أبعادها كانت هي تشهق ببكاء عنيف وألم أثناء تمتمتها ببعض الكلمات الغير مفهومة، لكنه أدرك بأنها تسبه.
طالعها بحاجبين مرفوعين حينما أكملت البكاء بحرقة، زفر بيأس ثم أردف بصوتٍ هاديء: خلاص إهدي طيب عشان نعرف نتكلم.

مرت دقائق معدودة إلا أن سيطرت على بكاؤها، وحينما توقفت اتجه حمزة إلى السور العريض المُطل على النيل ثم جلس عليه، تقدمت منه ببطئٍ لكنها ظلت واقفة تنظر للمياه المُضاربة بشرود، حتى استفاقت على صوت حمزة المُعاتب:.

طبعًا أنتِ مش محتاجة أقولك إن اللي أنتِ عملتيه دا غلط، وغلط كبير كمان كان ممكن يضيع مُستقبلك، مش كل واحد فينا هيقابله مشكلة هتتحل لما يشرب، الطريق دا صعب وأخرته مش حلوة وبتنتهي بطريقة مأساوية، إحنا بنتحط في صعوبات واختبارات عشان ربنا يشوف قوة صبرنا وحمدنا على ابتلاءاته، مش علشان نضيَّع نفسنا بإيدينا تحت مُسمى إننا مبقناش مستحملين البلاء.

ومع كل كلمة يتفوه بها؛ كانت تشعر بفداحة فعلتها ودموعها تهبط بغزارة، لكنه لم يُبالي وقرر مُواجهتها حتى يردعها عن تفكيرها:
تقدري تقوليلي لو حصلك حاجة بسبب الزفت اللي أنتِ بتشربيه ردة فعل عيلتك هتكون إيه؟ هيحسوا بإيه لما يلاقوكِ مرمية في أي مقلب زبالة قاطعة النفس؟ عارفة قهرتهم هتكون عاملة إزاي وهما شايفينك في الوضع دا؟ فكرتي فيهم ولا مهمكيش غير نفسك؟

هزت رأسها بلهفة وهي تشهق عاليًا من البكاء: لأ أنا بحبهم، بس أنا خايفة يا حمزة، خايفة والله ومحدش حاسس باللي جوايا، خايفة يجي اليوم اللي أبويا يجبرني فيه أبعد عنك وأتجوز حد أنا مش عايزاه، خايفة من واحد يطلع نسخة منه في تصرفاته، خايفة أعيش في ذُل وضرب وإهانة، خايفة من كل حاجة حواليا والله العظيم بسببه.

كان ينوي أن يقسو عليها بحديثه، لكن رؤية انهيارها جعل فؤاده يثور ويُعنفه بقسوة، تألم وجدانه لرؤيتها تتألم، لذلك تحدث بحنان وهو يقف قبالتها بعد أن هبط من على السور:
مش هتتجوزي غصب عنك متخافيش، أنا اللي هتجوزك، وصدقيني أنا عمري ما هجبرك على حاجة أنتِ مش عايزاها، أنا مش هتجوزك عشان تبقي خدامة ليا أو عشان دي سُنة الحياة، أنا هتجوزك عشان أنا عايزك في حياتي، وحياة حمزة مش هتكمل غير بوجود رضوى معاه.

طرق فؤادها بعنفٍ عقب حديثه، لأول مرة تشعر بأنها مرغوبة مِمَن تُحب، لأول مرة يختارها شخص ما ويجعلها في مقدمة اختياراته، وهُنا شعرت بفداحة فعلتها، لم تُفكر بالعواقب الوخيمة التي كانت ستهل عليها، وإنما أرادت الفِرار من حاضر ومستقبلها بواسطة العقاقير المُخدرة.
شعر حمزة بثورتها الداخلية، فناداها بصوتٍ خفيض انتبهت له، ثم أردف بابتسامة هادئة: يلا نمشي؟

أومأت له على الفور وسارت بجانبه، كلاهما يُفكر في حياته، وكلاهما حياة للآخر!
وصلا إلى منزليهما بعد عدة دقائق من السير الصامت، توقفا معًا ليقول حمزة بنبرة صارمة: المرة الجاية لو عِرفت إنك عملتي حاجة كدا أو كدا؛ هلبس وشك في الحيطة.
تشنج وجهها بسخط، بينما هو تركها بعد أن قال بمراوغة: سلام يا شمامة.
لتُجيبه بضجر قبل أن تدلف إلى منزلها هي الأخرى: سلام يا حشَّاش يا خمورجي.

أن تتعايش وتتأقلم في وضعٍ غير مُستحب؛ لهو من أكثر الأشياء تقززًا، خاصةً وإن أُجبِرتَ للعيش وسط أشخاص غير مُلائمين لشخصك.
انتهى الليل، وطُويَت معه صفحة باتت في الماضي، لتبدأ صفحة جديدة بيضاء مع أول شعاع من الشمس الذهبية المُتدللة.

استيقظت بدور من نومتها الهادئة على صوت طرقاتٍ عنيفة على باب منزلها، تململت بانزعاج وقررت عدم الإجابة على الطارق الوقح وعادت إلى سكونها من جديد، لكنها تأففت بنزقٍ حينما عادت الطرقات بقوة أكبر، حكت وجهها وخصلاتها ثم هبت من مكانها واتجهت نحو المرحاض ببرودٍ ولامبالاة ثم اغتسلت، وبعدها ارتدت إسدال صلاتها واتجهت لفتح باب المنزل.

لكنها فُزعت عندما هاجمتها والدة زوجها هالة تُمسك بها من ذراعها وتغرز أظافرها في لحمها، تأوهت وهي تُطالعها بحدة، وما كادت أن تتسائل عن سبب وقاحتها تلك، حتى باغتتها هالة بوقاحة وهي تُصيح بغضب: أنتِ قاعدة هنا ونايمة ولا هامك اللي أخوكِ ال عمله في جوزك؟ ما هقول إيه ما أنتِ قليلة الأدب وغدارة وهان عليكِ العِشرة زي الكلاب.

في البداية عذرتها لأن المسجون هو ابنها لا أكثر، لكن تصاعدت الدماء إلى وجهها بغضب حينما تطاولت بالسباب اللاذع عليها وعلى أخيها، لذلك دفعت ذراعها بعنفٍ وصاحت بها بحدة: الكلاب دول أشباه ابنك وأمثاله، أنا أخويا معملش حاجة غير شغله وبس، والدور والباقي على ابنك الصايع اللي بيشرب القرف اللي لقوه معاه دا.

بادرت هالة بالهجوم عليها، لكن وجدت مَن يعوق طريقها، والتي لم تكن سوى ريناد التي تحدثت برجاء: إهدي يا ماما أنتِ بتعملي إيه!
صعد صدر هالة بانفعال أثناء مُطالعتها ل بدور بنظراتٍ حارقة، كارهة، ثم دفعت ابنتها جانبًا وتقدمت خطوتين من بدور، وتشدقت بفحيح مُبطن بالشر: أنا حسابي هيكون معاكِ بعدين، أتطمن بس على ابني وهخلي حياتك كلها جحيم.

لم تتزعزع الأخرى، وإنما طالعتها ببرودٍ راسمة على ثغرها ابتسامة مُتهكمة وهي تُجيبها: دا لما يبقى يطلع إن شاء الله، منورتيناش يا حماتي.
قالت جملتها الأخيرة باشمئزاز قاصدة كل كلمة بها، لترميها هالة بنظراتٍ كارهة قبل أن تتركها وتهبط إلى منزلها، بينما ريناد نظرت لها بعتاب قبل أن تتبع والدتها إلى شقتهم، أغلقت بدور باب المنزل خلفهم بعنفٍ وهي تهمس بسخط: دا انتوا عالم تعبانة في دماغكم جتكم البلا.

لم تكن تلك هي النهاية، بل هي البداية لكل شيء، بداية للحزن، للألم، للبكاء، للخذلان، وفي اللحظة التي تظن بها أنك أغلقت جميع الأبواب، تكتشف بأنك قد نسيت بابًا، لكنه الأكثر وجعًا، حين تُدرك بأن جميع الحلقات من حولك ما هي إلا نيران تتهافت لنهش جسدك الحي، ودخانها لا يفعل شيء سوى خنقك!

عاد بدران إلى منزله بعد أمسية صعبة قضاها مع مازن في المصحة، شاهد انهياره وبكائه، ولأول مرة يشهد. مثل تلك الواقعة، حينما واجهه بمقتل عائلته في حريقٍ هائل خُطِطَ له من البداية، عوقب بجريمة لم يُريد فعلها فقتلوا عائلته!
عودة لِمَ حدث ليلة أمس
والدك. والدتك. مراتك. ابنك. كلهم ماتوا في حريق بيتك مش كدا؟

وكأن تلك الكلمات كانت بمثابة أسواط حادة تضرب جسده ومسامعه بعنفٍ، عَلى تنفس مازن بطريقة مُبالغة وصدره يعلو ويهبط من فرط الإنفعال، عيناه جاحظتان تُطالعان بدران الجالس أمام فِراشه يُتابع بعينين مُتمرستين ردات أفعاله التي يصدرها، وبجيب معطفه الطبي وضع إبرة المُهديء تجنبًا لأي فعل أهوج يصدر منه.

وبحذرٍ تسائل بدران وجسده مُتأهب لِمَ سيحدث في اللحظة التالية: عشان كدا كنت بتفضل تكرر رقم 4 كتير، اللي هما عدد أفراد عيلتك!

دموعٌ غزيرة شقت طريقها إلى وجه مازن التي يُسدد إليه نظراتٍ مذهولة، وكأنه يعرف وللمرة الأولى موت عائلته، هز رأسه بنفي ونظراته الحارقة تكاد تقتل بدران، قبل أن يصرخ به باهتياج: مماتوش. أنت فاهم! هما لسه عايشين. أنت كداب. هما. هما كانوا معايا هنا إمبارح. هما الأربعة كانوا معايا إمبارح. الأربعة. الأربعة.

حاول بدران أن يمتص غضبه حتى لا ينعكس تأثير علاجه بطريقة سلبية على صحته، لذلك هاوده بحديثه: أنا عارف إنهم كانوا معاك، قالولك حاجة؟
داهية. أقل وصف يُقال على تفكير بدران، أحيانًا يصدمه بالحقيقة المُرة، وأحيانًا أخرى يوافقه الرأي، ثم يُباغته فجأةً بسؤالٍ تعجيزي!

كفَّ مازن عن الصراخ، ونظر ل بدران بعينين تائهتين شعر بحيرتهما، أشفق على حالته لذلك وقف من مكانه تاركًا مقعده، وجلس أمامه على الفراش وهو يتحدث بلين:
هقولك حاجة بعيدة عن الطب النفسي وكلام الدكاترة المُمل دا.
كانت رؤية مازن له ضبابية بسبب دموع الحيرة التي تكونت بحدقتيه، لكن مسامعه مازالت مُنتبهة لِمَ سيُقال، فبدأ بدران حديثه بابتسامة ودودة قادرة على إمتصاص الحزن:.

زمان لما جدي رضوان مات أنا وإخواتي كُنا عاملين زي اليتامى بالظبط، لإنه كان أبونا، بنحبه أكتر من أي حاجة في الدنيا، لكن ربنا حَب يسترد أمانته وتوفى، كلنا اتأثرنا بموته وأولنا أبونا، طول عمرنا متعودين عليه قوي، لكن إحنا شوفناه في لحظة إنهيار كانت غريبة علينا كُلنا، لأول مرة نشوفه بيعيط زي العيال الصغيرة، طفل خسر أغلى ما يملك وبقى يتيم، ورغم كدا كان بيصلي ومأثرش مع ربنا أبدًا، أول كلمة قالها بعد خبر وفاة جدي كانت إن لله وإنا إليه راجعون، وبعدها عيَّط، طبيعي أي إنسان فينا يزعل وينهار على حاجة بيحبها وراحت منه، لكن اللي مش طبيعي إن حياتك تقف بسبب موقف زي دا، موت عيلتك بالنسبالك كانت زي القشة اللي قسمت ضهرك وخلتك حاسس بالضعف، ضعف من إنك مش عارف تنقذهم وأنت شايف البيت بيتحرق قدامك وأنت عاجز مش قادر تعمل حاجة، لكن نهاية الطريق كانت إيه؟ اتحجزت في مصحة نفسية بتتعالج من موت أحب الأشخاص على قلبك بعد ما استسلمت، وفي الوقت اللي أنت المفروض تسعى فيه عشان تجيب حق عيلتك من اللي قتلوهم، أنت قاعد هنا وبتتعالج من صدمة مش قادر تتخطاها، لازم تتخطى عشان تعيش، ولو عايز تعيش يبقى لازم تحارب، ولما تحارب لازم تكون بكل قوتك، مش ضعيف!

يُنصت بقلبه قبل أذنه، عيناه تعكس مدى النيران المُشتعلة داخل فؤاده، لم يكن الألم بهيّن، لو كان حجر لبكى من قهرته التي تظهر على محياه الآن، هبطت دموعه بغزارة أثناء همسه المُتحسر: أنا خسرت كل حاجة في حياتي، كل حاجة، حتى بقيت مجنون، مجنون.

صرخ بكل قوته بكلمته الأخيرة وهو يُطيح بما أمامه، انتفض بدران فجأة ليُسيطر على نوبته في بدايتها، كان مازن يُقاومه بكل عنفوان، بل ويسدد له الضربات واللكمات الموجعة إلى وجهه وجسده، وأخيرًا تمكَّن منه بدران وهدأ بعد أن سرى سائل المحلول بين أوردته.
عودة للوقت الحالي
زفر بدران بإرهاق وقرر أن يرتاح قليلًا حتى يعود للمشفى ليلًا مرة أخرى، عقله مُنشغلًا بعدة اتجاهات، ووجهته الغالبة هي زهراء!

وبعدين إيه اللي حصل يا بدير؟
كان بدير في تلك الأثناء جالسًا على رُخام المطبخ ووالدته تذهب يمينًا ويسارًا لتحضير طعام الفطور، ليُجيبها بعد أن قضم قطعة من الخيار: أم بخيت قالت ل مصعب الرجالة اللي زيك هي دي اللي تفتح النِفس، طول بعرض بجمال وحلاوة، قامت العربية جت وخبطته في نفس الثانية.

ضربت حنان على صدرها بهلع بعد أن توقفت مكانها، ثم اقتربت منه بخطواتها وضربته على ذراعه بقوة وهي تصرخ برعب: يا وقعتك المهببة! وقاعد قدامي وسايب أخوك اللي العربية خبطته وكمان مقولتلناش؟
انكمش وجه بدير بألم من ضربتها وبرر لها بعقلانية: ياما ما هو قاعد تحت أهو وزي الفل، وبعدين وأنا مالي هو أنا اللي حسدته؟

سددت له حنان نظرة نارية قبل أن تدفعه باشمئزاز وتهبط لرؤية ابنها المُصاب بالأسفل، أكمل بدير تناول ما بيده وتمتم مع ذاته بتهكم: زي ما يكون معندكيش غير مصعب ويعقوب، دي خِلفة تعر.
وبالأسفل.

كان مصعب جالسًا على الدرج أمام المنزل يُمسك بقدمه يُدلكها برفقٍ ليُخفف من ألامها، لا يعلم من هي تلك أم بخيت التي ظهرت أمامه فجأة، كل ما يعرفه أنها انتقلت إلى هُنا مؤخرًا، وجدها توقفه وتسأله عن أحد الأماكن ليُجيبها هو باحترام، فبدأت تُثرثر وتُثرثر حتى أصبحت تُمني على أخلاقه وصحته وشبابه، فلم يشعر بذاته إلا والسيارة قادمة تجاهه بسرعة هائلة، ولولا أنه تفاداها لأصبح في خير كان الآن، لكن قدمه أصابها بعض الكدمات الخفيفة.

في تلك الأثناء كانت روان تسير في طريقها نحو منزل هارون، فوجدت مصعب يجلس على الدرج الخارجي وملامحه مُنكمشة بألم أثناء إمساكه لقدمه، ورغم ذلك تسائلت بطريقة بانت غبية بعض الشيء: أنت رجلك بتوجعك؟
تفاجئ من وجودها وسعد في البداية، لكن ما إن استمع إلى سؤالها حتى تشنج وجهه بسخط وهو يُجيبها بتهكم: لأ عطلانة.
اتسعت ابتسامتها وهي تُوميء له براحة، ثم تخطه وصعدت للأعلى!

صرخ مصعب صرخة مكتومة من غبائها الذي يكاد أن يقتله، ثم همس بغيظٍ ساحق: دا يخربيت التخلف والغباء اللي موجودين عندك، الناس بتقع واقفة، وأنا واقع زاحف مع واحدة تجلط.
حاول التنفس بعمقٍ والسيطرة على غيظه قدر المُستطاع، ولم يُطيل جلوسه وحده وذلك عندما أتت إليه أم بخيت شاهقة في وجهه بفزع أثناء قولها المُتحسر: يا عيني عليك يابني! أنت إيه اللي جرالك؟

طالعها مصعب بانزعاج وأجابها على مضض: بعد ما مشيتي العربية كانت هتخبطي، بس الحمد لله ربنا نجاني.
مصمصت أم بخيت بشفتيها بحزنٍ قائلة: يا حبيبي؟ يلا الحمد لله، المهم إن أنت بصحتك.

في نفس التوقيت، كان يعقوب يقف بالأعلى في الطابق الرابع على سور شرفته يُحاول تعليق عصا الستائر التي وقعت فجأة، لكن انزلقت منه وانفلتت من بين يديه واقعة إلى الأسفل، حينها كان يقف مصعب مع أم بخيت، والذي خشى من قولها الأخير، وما كاد أن يُجيبها، حتى شعر بشيءٍ حاد يقع على رأسه ويرتطم بها بقوة، ولم يشعر بشيءٍ بعدها سوى بصراخ والدته قبل أن تسيل الدماء من رأسه ويفقد الوعي!

علت صرخات حنان التي كانت تهبط لرؤية ابنها، هرولت إليه مسرعة وكذلك فعل جميع المارة المثل وحملوا مصعب الجاثم بلا حراك ليضعوه على مكانٍ مُرتفع، وبعلوٍ نادت حنان على ابنها يعقوب الذي اصفرَّ وجهه عقب رؤية ما فعله بأخيه:
إلحق أخوك يا يعقوب.

لا يعلم كيف ومتي وصل للأسفل، فلقد ارتطمت ركبتاه ببعضهما البعض بفزع بعد ما حدث، ساند أخيه وأوقف إحدى السيارات التي أتى بها جار من سُكان المنطقة، ثم وضعه داخلها وصعد معه هو و حنان التي لم تكف عن البكاء، وبعدها انطلقوا إلى أقرب مشفى.

بعد رحيلهم؛ أتى هارون مُهرولًا والذي كان يجلس بمحلِ جزارته يتابع الأعمال بعد أن ناداه صبي القهوة وأخبره بما حدث مع ابنه، فوجد في وجهه عمران الذي استمع لما حدث مع شقيقه وسأل والده برعب: إيه اللي حصل يابا؟ وفين مصعب؟
طالعه هارون الذي كان فؤاده يطرق بفزع ولا يعلم بما يُجيبه، لتأتيهم الإجابة على الفور من أم بخيت التي ظلت واقفة وأردفت بحزن: نقلوه على المستشفى، ربنا يطمنكم عليه إن شاء الله.

تتحدث وكأنها لم تفعل شيء، والحزن الواضح بعينيها يُجبرك على تصديقها، عجبًا!
هبط بدير من الأعلى مُسرعًا بعد أن استمع لصوت الصراخ حينما دخل لأخذ حمامٍ دافيء، ولأن نوم بدران ثقيل دخل لإيقاظه بطريقته الخاصة وهبط معه، ليتسائل بدران بقلق وإمارات التعب بادية على وجهه: إيه اللي حصل يا حج؟
ليُجيبه هارون الذي كان يُتابع بعينه عمران الذي ذهب لجلب السيارة بسرعة: معرفش، بيقولوا أخوك مصعب نقلوه للمستشفى.

ردد بدير بفزع: إيه مستشفى؟ إيه اللي حصله؟
رد عليه هارون بعصبية نتجت عن تعب أعصابه: معرفش. معرفش.
تبعتهم ذكرى إلى الأسفل ومعها روان ثم أردفت بقلقٍ بالغ: أنا هاجي معاك يا عمو.
نظر إليها هارون وحاول تهدأة نفسه وهو يُجيبها: لأ يا بنتي ملهوش لزوم، اطلعي أنتِ استني جوزك فوق وأنا هطمنك أول ما نوصل على طول.

طالعته بتردد، لكنه لم يترك لها الفرصة للإعتراض وصعد بالسيارة التي أتى بها عمران، وكذلك فعل كل من بدير وبدران، نظرت روان لأثر ذهابهم بقلق وفؤادها يتآكل خوفًا على مصعب، تكاد أن تبكي لكنها تُحاول الثبات أمام ذكرى حتى لا تنفجر على بغتة، لكن الأخرى لاحظت الدموع التي تكونت داخل حدقتيها، فأمسكتها برفقٍ من ذراعها وتحدثت قائلة وهي تسحبها معها:
تعالي اقعدي معايا لحد ما يتصلوا ويطمنونا.

سارت معها روان وطالعتها بخوفٍ وهي تسألها: هو هيكون كويس صح؟
سددت لها ابتسامة صغيرة وهي تقول: إن شاء الله هيكون بخير، متقلقيش.
قبل ما حدث منذ قليل.

هاتفت سارة. بادر وطلبت مُقابلته، في البداية تعجب لطلبها هذا خاصةً بأنه في الصباح الباكر، لكنه قرر الذهاب لها ورؤية ما تُريد، فارتدى ثيابه والتي تكونت من قميص رصاصي اللون وبنطال أسود من الجينز، ثم انطلق إلى المنزل الذي استأجره لها أبيه هي وبقية الفتيات، وعقب وصوله، وجدها تقف على أعتابه ويظهر على وجهها التوتر الشديد، لذلك سألها بقلق:
خير يا أستاذة سارة إيه اللي موقفك كدا؟

نظرت إليه بلهفة وكأنه مُنقذها الوحيد، نظراتها كانت تُعبر عن الإمتنان والشُكر، لكن لسانها نطق بما يُخيفها ويُنغص معيشتها: ممكن تيجي معايا يا أستاذ بادر؟
استرعى حديثها انتباهه واستمعت إليها جميع حواسه وهو يسألها: آجي معاكِ فين؟
تنفست بعمقٍ أثناء مُحاولتها لتقليل توترها، قررت مُحاربة الخوف الماكث داخلها وهي تُجيبه بشجاعة زائفة: البيت.

صمتت لتأخذ تنفسها وعادت لتُعاود الحديث، لكنها استمعت إلى شهقته المصدومة وابتعاده للخلف خطوتين وهو يُطالعها بصدمة، ثم تحدث بصوت ظهر فيه الخيبة: البيت؟ آخر حاجة توقعتها منك يا أستاذة سارة، طبعًا شوفتيني طيب وعلى نياتي فقولتي إما تستدرجيني، أنا الحقيقة مصدوم فيكِ، لكن لأ يا أستاذة، أنا صحيح اسمي بادر آه بس مش سهل لأ، ومحدش بيختار اسمه.

جحظت عيناها بعدم تصديق وفرغت فاهها بصدمة، والسؤال الوحيد الذي يدور بخاطرها هو؛ ماذا وسوست له عقله؟
حاولت إصلاح سوء التفاهم الذي حدث بينهما، فرفعت كفها أمام وجهها تُحاول الشرح له: يا أستاذ بادر اسمعني أرجوك، أنت بتقول إيه بس؟
أمسك بمقدمة ثيابه يضمها أكثر، ثم أردف بإتهام وعينين يحوم بهما الشك: وكمان عايزة تفهميني كلامك المُنكر وأفعالك الفاحشة؟ خسئتِ.

حاولت التبرير له فقالت بسخط وهي تنفخ بضيق: أفعال فاحشة إيه هو أنا بقولك هعتدي عليك؟ ما تتنيل تسكت بقى وتسمعني عشان أنا فيا اللي مكفيني وعلى أخري.
اعتدل في وقفته وتحدث بجدية ساخرة وهو يشملها بنظراته: وهو أنا لازم أعمل العرض الخسيس دا عشان تبطلي توتر وخوف؟
رمشت بأهدابها عدة مرات تُحاول استيعاب حديثه، فاستطرد مُكملًا: ودا ميمنعش إني خايف على نفسي منك، أنتِ عايزة تستدرجيني لبيتكم ودا شيء لا يجوز.

زفرت بسخط وقالت حانقة: ممكن بعد إذنك تسمعني؟ ومتخافش أنا مش هعمل فيك حاجة، أنت مش زوقي المفضل أصلًا.
اعتادته هادئًا رزينًا مُتحضرًا، لكنه ضرب بكل هذا عرض الحائط عندما رفع طرف شفتيه بحركة مُستنكرة ثم تمتم: لأ حوشي وأنا اللي هموت عليكِ، بقولك إيه أنا مش فاضي، قوليلي أنتِ عايزاني ليه عشان أرجع أفطر في بيتي.

تسلل لها التوتر من جديد لكن بنسبة أقل ثم قالت: عايزة أجيب هدومي أنا وأختي من البيت عندي، فكنت عايزاك تيجي معايا.
استشعر قلقها الواضح والذي لم يقل، لذلك تسائل بحذر وعيناه تُحاول أن تستشف ما تُخفيه: وأنتِ خايفة تروحي لوحدك ليه؟
بان التوتر على محياها قبل أن تُجيبه بتردد: ممكن جوز أمي يكون هناك، وأنا وهو يعني مش بنرتاح سوا وممكن نشد في الكلام قصاد بعض.

حاولت الكذب لمُداراة خجلها، ورغم علمه بعدم صدقها؛ إلا أنه وافقها وهو يقول: طيب تمام، جاهزة نروح دلوقتي!
أومأت له وأنفاسها تعلو بالرغم عنها، ذهب هو لجلب السيارة بينما هي نظرت لأثره وفؤادها يطرق بعنف، تخاف! بل ترتعب من فكرة عودتها لذلك المنزل في وجود زوج والدتها به، لذلك قررت اللجوء إلى بادر، في البداية فكرت في أخذ إحدى الفتيات، لكن وجود فتاتان معًا أمامه سيُزيد من مطمعه أكثر.

استفاقت من شرودها على توقف سيارة بادر أمامها، فصعدت بجانبه وانطلق هو بهما بعد أن أملته العنوان، وطيلة الطريق لاحظ تعرُّق وارتعاش كفيها، كما أن وجهها قد شحب كثيرًا كما لو كانت على وشك دخول معركة آخرها الخسارة! قطب جبينه بتعجب ثم نظر إليها بنصف وجهه مُتسائلًا بريبة: أنتِ كويسة؟
حمحمت وهي تُوميء له بثبات زائف: أيوا.

قاد السيارة لمسافة عشرون دقيقة أخرى، حتى توقفا أسفل منزل مُنفصل صغير بعض الشيء وواجهته من الأسمنت الرمادي، هبطت سارة من السيارة وتبعها هو الآخر، ثم اتجهت بتروٍ نحو الداخل، خطت قدماها مدخل المنزل ونظرت إليه لتتحدث، فوجدته ينظر إليها بريبة وشك، منزلها يقع على بُعد مُنفصل من المنازل الأخرى، ويبدو عليه أنه فارغ، وهما هنا وحدهما، يبدو بأنها تُريد الإختلاء به حقًا!

زفرت سارة بسخط وتحدثت بعصبية: شكل محدش موجود هنا، خليك واقف وأنا هطلع أجيب هدومي وهدوم أختي وهنزل على طول.
ما أنا هستنى هنا طبعًا، مفكراني هطلع معاكِ!

وبالفعل صعدت وحدها وظل هو واقفًا ينظر حوله يُراقب المكان، مرت الدقائق القليلة حتى شقت صوت صرخاتها الأرجاء، لينتفض من مكانه بفزع قبل أن يلتهم الدرجات بسرعة مُخيفة ثم دلف إلى منزلها، ليشهد أبشع مشهد قد يراه إنسان، وهو مُحاولة إعتداء زوج والدتها على جسدها قِصرًا وهي تُجازف لتُبعده وتمنع انتهاكه لشرفها!

علم رؤوف وعائلته ما حدث مع مصعب بواسطة ذكرى التي هاتفت والدتها وأخبرتها بما حدث، والتي بدورها أخبرت زوجها، لذلك قام بمهاتفة هارون رغم نزاعهم الأخير، في المرة الأولى لم يُجيب، والثانية كذلك، وفي الثالثة أتاه صوت هارون مُتعبًا وكأنه هو المريض لا ابنه:
السلام عليكم.
رد عليه رؤوف بهدوء وبعدها تسائل: وعليكم السلام، ابنك عامل إيه دلوقتي يا هارون؟

كان هارون يقف في طُرقة المشفى، فجلس بعد أن تعبت قدماه وهو يُجيبه: الحمد لله ربنا نجاه، الدكتور قالنا إن الجرح سطحي بس مستحملش الخبطة وأغمى عليه، وأدينا راجعين بيه أهو.
زفر الجميع براحة عقب حديث هارون، فلقد فعَّل رؤوف وضع السماعة الخارجية حتى يستمع الجميع، وبعدها تحدث بقوله: طيب الحمد لله، ألف سلامة عليه.
الله يسلمك، سلام دلوقتي عشان خارجين من المستشفى أهو.

وبالفعل أغلق معه هارون واتجه إلى الغرفة المُحتجز بها ابنه، عاش دقائق مُروعة ظن بها بأن سوءًا قد حدث، حينما وصل للمشفى ووجد يعقوب وحنان يقفان أمام إحدى الغرف والطبيب بالداخل يقوم بفحص مصعب المغشي عليه، ليتقدم مُنهم مُتسائلًا بقلق: إيه اللي حصل يا يعقوب؟

ولم تأتيه الإجابة من يعقوب، بل من الطبيب الذي خرج من غرفته وطمأنهم جميعًا بقوله الهاديء: اتطمنوا يا جماعة هو جرح بسيط خالص بس اتخبط في راسه جامد شويتين تلاتة، والحمد لله مش محتاج خياطة ولا حاجة، المهم بس يتجنب ملامسة أي حاجة لراسه لحد ما تروق خالص.

حلّت الراحة على الجميع، وخاصةً حنان التي لم تكف عن البكاء، وما كاد الطبيب أن يذهب، حتى استوقفته بقولها وهي تُجفف دموعها: استنى شوف رجله يا دكتور وشوف إذا كانت هتتجبس ولا لأ بالمرة.
طالعها الطبيب بتعجب، ليُوضح له بدير: أصل العربية خبطته في رجله ومكانش قادر يدوس عليه، وبما إننا جينا هنا فنكشف على كله مرة واحدة بقى.

ابتسم الطبيب بخفة، وبالفعل نادى المُمرضين ليروا قدم مصعب، والتي احتاجت إلى جبيرة بالفعل!
حينما يتصاعد الغضب ويُصبح في أقصى ذروته، وتغلي الدماء وكأنها بأعلى درجات حرارتها، ويرتفع الإدرينالين بجسدك كما لو كنت تُهرول خلف فرائسك للقضاء عليها، هذا ما شعر به بادر حينما أبصر زوج والد سارة يُحاول الإعتداء عليها وهي تُقاومه بكل قوتها.

تقدم منه راكضًا وأمسكه من تلابيبه يُبعده بعنف، وما كاد الآخر أن يعي لِمَ يحدث؛ حتى باغته بادر بلكمة قوية وقع على أثرها، طالعه علاء بفزع ولم يترك له بادر الفرصة للاستيعاب، حتى هاجمه بكل قوته يركله في معدته وهو يسبه بغلظة، و سارة اعتدلت بسرعة تُلملم شتاتها وهي تبكي بعنف.

صرخ علاء بعلو صوته وحاول أن يُدافع عن ذاته، لكن بادر كان كالوحش الثائر، رؤيته له وهو يُحاول معها لسلب عِفتها جعلت الدماء تتصاعد إلى رأسه وعيناه ثُبتت على جسده الذي يُحاول تحطيمه، وأثناء ذلك تحدث بغضبٍ هائل:
يا حيوان يا زبالة. وربي وما أعبد لهطلع عين اللي خلفوك النهاردة يا.

تمالكت سارة نفسها، ونظرت إلى بادر الذي كاد أن يقتل علاء، فاتجهت إليه مُسرعة وحاولت إبعاده وسحبه من ذراعه، لكنه لم يُبالي بمحاولتها، وإنما أكمل فيما يفعله، لقد اعتبره كيس مُلاكمة وسيصب عليه كل غضبه الآن، هبطت دموع سارة خوفًا وصرخت به أثناء سحبها له بكل قوته:
كفاية بقى يا بادر كفاية.

توقف بادر بعد أن استمع لنبرة صوتها الجريحة، وقرر بالفعل الإبتعاد، لكنه ركله بعنف لآخر مرة وبصق عليه باشمئزاز، قبل أن يستدير لها ويسألها بنظراتٍ نارية: جيبتي هدومك؟
أومأت له مُسرعة واتجهت إلى الرُكن المرمي به حقيبة الثياب ثم التقطتها، جعلها تسير أمامه وسار خلفها تاركين من المنزل بأكمله وصعدوا إلى السيارة، وما إن انطلقوا بها حتى همس بادر بشر:.

هنطلع دلوقتي على القسم وهتقدمي فيه بلاغ إنه حاول يتهجم عليكِ.
طالعته برعبٍ وهي تهمس: إيه؟
رد عليه بقسوة وهو يُزيد من سرعته: اللي سمعتيه يتنفذ، يا إما يمين بالله هرجع أقتله دلوقتي حالًا وما هيهمني مخلوق.

خشت من تنفيذ تهديده وأومأت له بصمت، وطيلة الطريق كانت دموعها تهبط بصمت تارةً، وتتعالى شهقاتها تارةً أخرى حُزنًا على حالها، مما يُزيد من غضب الجالس بجانبها، والذي ودَّ العودة والفتك بذلك الحقير مُجددًا حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة.
لن تكون جميلًا بين ليلة وضحاها، فالحقير يظل حقيرًا إلى الممات.

جُملة ترددت داخل ذهن رائف الذي كان يُتابع مُعاملة عمه له باشمئزاز، يدَّعي المثالية أمام جده وحين يرحل يظهر قناع وجهه الحقيقي.
كان الجميع حينها يجلس على طاولات السُفرة مُتجمعين حول الطعام، وعلى رأسهم يجلس عتمان الذي يُتابع الجميع بسعادة عارمة لوجودهم حوله، هُم متجمعون بالفعل، لكن كُلٌ منهم يحمل ضغينة تجاه الآخر، كُرهٌ يُغرِق البلاد ويُشتت العائلة، قلوبهم مُعبقة بالحقد، ونظراتهم تُشبه السهام.

توقف الطعام بحلق نرجس فسعلت على بغتة، ليهب رائف من مكانه مُنتشلًا كوب المياه من على الطاولة، ثم وضعه على فاهها لترتشفه على مهل، كان كل ذلك تحت أنظار بُثينة ونور المُستنكرة، وبالطبع لن تُضيع نور فرصة مثل تلك للسخرية، لذلك تشدقت بتهكم صريح مُغلف بالإهانة:
أنت اشتغلت عندها تابع ولا إيه يا رائف؟

ظنته سيغضب أو ستنجح في إغاظته، لكن رده كان مُهينًا للحد الذي جعلها تبتلع لسانها بغضب بعد أن قال بابتسامة صفراء: أصل اللي متعود على معاملة البهايم زي حلاتك طبيعي يقول كدا.
صمتت نور، لكن والدها لم يصمت، وإنما صاح بغضب: ما تحترم نفسك يا رائف بدل ما أقل منك!

وضع رائف الكوب على الطاولة محله ورفع أنظاره جهة عمه فوجده غاضب للحد الذي جعله يشعر بالانتشاء، لذلك رد عليه ببرود قبل أن يضع ملعقة من الطعام يلوكها داخل فمه:
والله يا عمي الناس هي اللي بتجيب لنفسها قلة القيمة، أنت عارف لو كل واحد خلاه في حاله؟ الدنيا دي هتنضف من الأشكال دي والله.

كان يقصد بحديثه ابنة عمه نور التي تتعمد التدخل فيما لا يُعنيها، وما كاد صبري أن يرد عليه، حتى قاطعه عتمان بصرامة: خلاص يا صبري وكفاية أوي لحد كدا.
تفوه بحديثه لابنه، ثم انتقل بأبصاره نحو نور التي تُطالع نرجس ورائف بحقد وتحدث بغلظة: وأنتِ كمان. خليكِ في حالك وملكيش دعوة بمرات ابن عمك، مش في الراحة والجاية عايزة تضايقيها.

تحدث رائف باستفزاز: لأ متقلقش هي متقدرش تضايقها، آخر مرة ضايقتها جابتها من شعرها، لكن الإنسان مُهزق وشكله بيحب يتهان كتير.
طالعه عتمان بغضب وتحدث بحدة: قولت خلاص يا رائف أنا مش عاجبك ولا إيه؟
لتأتيها الإجابة من نور التي تحدثت بصوتٍ مُتحشرج وأعين دامعة: عاجبك كدا يا جدو؟
إلتوى ثُغر رائف بابتسامة ساخرة وهو يُردد: جدو! الله يرحم.

تمتم بها ثم التقط يد نرجس التي كفت عن الحديث وبقيت تُتابع الحوار باستمتاع ورؤية قُدرة زوجها على استفزاز مَن أمامه بصعوبة، وبعدها اختفوا من أمام ناظريهم واتجهوا نحو الخارج.
كان رأفت مُتابعًا للحوار لكنه لم يتدخل، وإنما أكمل تناول طعامه بصمت ونظراته تشمل الجميع بلامبالاة قاتلة، تشنج وجهه بغيظ عندما شعر بوالدته بثينة تضربه على ذراعه بقوة ثم تحدثت بغيظ:
شكلك حلو وأنت عامل شبه الأباچورة كدا.

رسم على ثغره ابتسامة صفراء وهو يُجيبها: الله يكرمك.
هب عتمان من مكانه ونظر نحو بُثينة مُحذرًا إياها: بطلي تشيَّلي الواد من ابن عمه واكبري بقى.
نظرت بُثينة لأثره الراحل بسخط، ثم أعادتها إلى ابنها الذي استكمل تناول طعامه وكأن شيء لم يكن، وبعدها أردفت تُعاتبه بقسوة: مخلي ابن عمك يهزق أختك بالطريقة دي وأنت قاعد ساكت؟

نظر إليها رأفت بضجر وتحدث بصراحة وقحة: أختي هي اللي قليلة الأدب، وأنا لو مكانه وحد كلم مراتي بالطريقة دي همسح بكرامته الأرض.
لطالما كانت علاقة رأفت و نور مُتوترة للغاية بسبب وقاحتها، وعقب حديثه تحدثت بغل: ما أنت دلدول.
طالعها باشمئزاز وأجابها بغضب يخفي حُزنه: وأنتِ حيوانة متربتيش.

تفوه بها ثم ترك لهم الطاولة وغادر المكان بأكمله، بينما بثينة لم تهتم لحزن ابنها أو تُعيره أي اهتمام، وإنما نظرت نحو صبري وتحدثت بغلظة: أنت تشوفلي حل في اللي اسمه رائف دا.
شردت نظرات صبري وأجابها بوعيد: صبرك عليا بس وأنا مش ههنيه بأي حاجة.

عاد هارون مع مصعب وبقية أبنائه إلى المنزل، ثم أدخلوه إلى غرفته، وكالعادة التي لا تتغير ذهبت حنان إلى المطبخ لتقوم بتجهيز الطعام ل مصعب حتى يتعافى، جلس يعقوب أمامه وتحدث باعتذار:
أنا أسف والله مكونتش أقصد.
عانقه مصعب بلين وهو يردف بمزاح: يا عم والله العظيم مش أنت السبب دا نصيب، وبعدين دي عين الست أم بخيت هي اللي جابت أجلي.
قطب يعقوب جبينه باستغراب وهو يتسائل: مين أم بخيت؟

ليرد عليه مصعب مُتحسرًا: دي الست اللي هتجيب أجلنا واحد ورا التاني بعون الله.
تعجب الجميع من حديثه عدا بدير الذي كان يعلم كل شيء، خرجوا من دهشتهم عندما نادى أبيهم يعقوب من الخارج بصوتٍ ظهر عليه العصبية، فخرجوا من الغرفة تاركين مصعب الذي تحدث بسخط: انتوا خارجين وسايبني لوحدي ليه؟

خرج يعقوب من الغرفة ووجدوا حامد العوضي والد عُمير يقف أمام هارون، وعلى محياه يرتسم الرجاء، تقدم من أبيه ثم تسائل بتعجب وعيناه لا تترك الآخر:
خير يا حَج إيه اللي حصل؟
أشار هارون جهة حامد وتحدث بكلماتٍ ذات مغزى: الحج حامد جاي بيمد إيده لينا ويستسمحنا نخرَّج ابنه من السجن.

نظر يعقوب إلى حامد باستنكار وتقدم منه حتى توقف قبالته قائلًا: تستسمحنا؟ هو ابنك داسلي على صباع رجلي يا حَج؟ دا خاض في شرفي وشرف بنت تانية ملهاش ذنب باللي ما بيننا.
تحدث حامد بنظراتٍ راجية مُنكسرة: الله يخليك يابني اعتبرني زي أبوك، أنا عارف إن عُمير ابني غلطان ويستاهل أكتر من كدا كمان، بس دا في الآخر ابني الوحيد ومليش غيره في الدنيا، من ساعة ما دخل السجن وأنا حاسس إن ضهري متني ومش قادر أصلب طولي.

لم يُشفق يعقوب على عمير ولو بدرجة مئوية واحدة، وإنما أشفق على أبيه الذي اضطر إلى التذلل إليهم حتى يُحرره من سجنه، وبالرغم من ذلك أردف بتصميم: أنا أسف يا حَج، بس أنا مش هقدر أسيب حقي وحق مراتي بالسهولة دي.
وهُنا تحدث حامد بلهفة: أنا مستعد أخليه يعتذرلك أنت ومراتك قدام الحارة كلها، بس أنت متحرمنيش منه الله يخليك.

تكونت الدموع داخل مقلتاه من كم الإهانة التي شعر بها بسبب ابنه، وعلى بُعدٍ منهم كانت تقف ذكرى التي هبطت فور أن استمعت إلى أصواتهم بالأسفل ومعهم روان، فرفع يعقوب أنظاره إليها وتحدث بحسم:
اللي ذكرى هتقول عليه هو اللي هيمشي.

وضعها في مأزق الآن، هذا ما تمتمت به حينما نطق بحديثه، توجهت جميع الأنظار نحو ذكرى واتجه إليها حامد بخطواته راجيًا: عشان خاطري يا بنتي سامحيه المرادي، المرة دي بس وأوعدك إنه مش هيجي ناحيتكوا تاني.
كادت ذكرى أن تعترض، لكنها شهقت بصدمة حينما وجدته ينحني على كفها يُريد تقبيله وهو يهتف برجاء: أبوس إيدك وافقي.
أبعدت كفها على الفور ونطقت بسرعة وحزن عليه: خلاص يا عمو حاضر أنا هتنازل.

نزلت دموعه بسعادة وهو يسألها بلهفة: بجد هتتنازلي؟
ابتسمت بتوتر وهي تُوميء له، فأمطرها بوابل من الدعوات المُفرحة ثم شكرها وشكر يعقوب وهارون كذلك، ثم رحل بصدرٍ رحب.
ومن وسط كل هذا، خرج حمزة من غرفته بنعاسٍ وهو يتمطع بكسل، ثم تسائل: متجمعين ليه كدا؟
طالعه هارون بقرف وتمتم ساخطًا قبل أن يتجه لغرفته: جتك البلا أنت وإخواتك.

استنكر الجميع حديثه، بينما روان تسللت إلى غرفة مصعب الذي تعجب من وجودها، اتسعت ابتسامتها براحة أثناء اقترابها منه ثم تمتمت وهي تمد يدها بهديتها: ألف سلامة عليك.
التقط مصعب ما جلبته بذهول وهو يُردد: إيه دا؟
أجابته بابتسامة واسعة: بوكيه ورد.
جايبالي كُرنبة وتقوليلي بوكيه ورد؟

أتى الليل وتجهزت جنة بمساعدة كلتا شقيقتيها لمقابلة العريس المُنتظر، فلقد أصرت ذكرى على القدوم مبكرًا حتى تكون معها خطوة بخطوة، ارتدت جنة فستانًا من الحرير كُحلي اللون، ويُزينه حزام من اللأليء عند الخصر وأطراف الأكمام كذلك، وارتدت حجاب من اللون البيچ الذي لاق كثيرًا على بشرتها الخمرية.
طالعت رضوى بحنق ثم تمتمت بعدم رضا: إيه لزومه الفستان دا بس يا رضوى؟ ما كنت لبست أي نيلة وخلاص!

ثبتت رضوى وجهها رغمًا عنها ووضعت مُلمع شفاه رقيق على شفتيها، ثم قالت بابتسامة هادئة: اسكتي يا بت وسيبيني أشوف شغلي.
وبالفعل تجهز الجميع بعد دقائق ومن ضمنهم إلياس، وأتت عائلة هارون كذلك بدعوة من رؤوف، كل شيءٍ جاهز الآن عدا العريس الذي تأخر على غير المُعتاد!

مرت نصف ساعة أخرى حتى هتف إلياس بضجر وهو ينظر لساعة معصمه: إيه قلة الزوق دي؟ هو إحنا مش متفقين على تمانية؟ الساعة بقت تسعة إلا ربع وعريس الغفلة لسه مجاش.
قلق رؤوف من تأخره خوفًا من تضليله في الطريق، لذلك وقف من مكانه وأخرج هاتفه لمُهاتفته، بينما عمران استغل الوضع وتحدث بابتسامة مُستمتعة: إيه التسيب والاستهتار دا؟ هما بنات الناس لعبة ولا إيه؟

طالعه جميع أخواته بشك خاصةً وأن الابتسامة لم تُمحى من على وجهه منذ أن دخل، فمال عليه يعقوب هامسًا من بين أسنانه: أنت هببت إيه؟
أجابه عمران بمراوغة: عارف فيلم أمير البحار؟ عملت زيه.
عملت إيه؟
تسائل بها يعقوب بصدمة، ليُجيبه عمران بضحك: طفشته.
وهُنا عاد بذاكرته لساعة ونصف قد مضت، حينما اعترض طريق العريس ووالدته وأخرج ماديته مُوجهًا إياها في وجههم وتحدث ببلطجة: أنت بقى عريس الغفلة؟

عاد الشاب للخلف بفزع وتحدث خائفًا: أنت عايز مني إيه؟
اختبأت والدته خلفه، بينما اقترب منه عمران أكثر وتحدث بفحيح أمام وجهه: إسرح.
إيه؟
نطقها الشاب بذهول، ليصرخ عمران بوجهه بحدة: إسرح من هنا ومش عايز أشوف وشك قُريب من المنطقة دي يا إما هشرحك.
وبفزع هرول الشاب من أمامه وهو يقول بخوف: يلا نمشي يا مامي.
عاد عمران من شروده على صوت رؤوف الذي أردف بضيق: مبيردش.

استغل عمران الوضع وحمحم بجدية وهو يُعدل من ياقة قميصه الأبيض وقال: حيث كدا يا عمي أنا طالب منك إيد الآنسة جنة على سنة الله ورسوله.

الفصل التالي
بعد 16 ساعة و 50 دقيقة.
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة