قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الخامس والعشرون

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الخامس والعشرون

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الخامس والعشرون

يُقال أن لهفة اللقاء تُبدد جزع الشعور، خاصةً لو كان ذاك الشعور هو الشعور بالخوف، فبرغم مُحاولتك المُستميتة لتنحي كل هذه السلبيات جانبًا، إلا أن هناك غصة تظل عالقة بين دهاليز وحنايا فؤادك اليتيم، تُخبرك بفشلك بعد تجربتك للنسيان، فتغدو تُحارب سرابًا على وشك القضاء على الجزء المُتبقي من عقلك.

يُنفرها ذاك التخبط الذي هي عليها الآن أثناء وقوفها أمام فادي بنظراتٍ فضحت كُرهها ومقتها لوجوده، مُجرد رؤيته أمامها تُزيد من اشمئزازها منه، وللعجب تشمئز من ذاتها هي الأخرى، خاصةً عندما يقفز يعقوب أمام عيناها التائهتان فجأةً، بضحكته الآسرة، حنانه الآخذ، أُبوته العتيقة، وإحتوائه لُحزنها، حتى نظرته التي تفضح عشقًا خفيًا لم ينطقه لسانه، كل هذا يُثير الندم داخلها وهي تتيقن بأنها تُخفي عليه كارثة بالمعنى الحرفي! لذلك اصطبغت نبرتها بالسخط حينما ثبتت أنظارها على فادي وهي تقول:.

أنت مبتزهقش؟ قولتلك مش هعمل اللي أنت عايزه ومش هخون ثقة يعقوب فيا أبدًا.
صوتًا ساخرًا خرج من بين شفتيه أتبعه قوله المُتهكم: بجد والله؟ وأنا المفروض بقى أصدقك وأبعد عنك وأقول نزوة وخلصت! لأ يا ذكرى أنا مبنساش حاجة تخصني أبدًا، وأنتِ تخصيني.
كنت.

تفوهت بها بانفعالٍ جَلي انعكس على تنفُسها العنيف واحمرار عينها بدموعٍ احتبست الأسى داخلها، لكن النيران الهائجة اندلعت داخل فؤادها بحريقٍ هائل لم يُرى، وذلك بعد أن تعمّد تذكيرها بماضيها المُرتبط بخاصته، وصمة عار ستظل تُلاحقها إلى الأبد في تاريخ حياتها إن لم تتخلص من تلك الذكرى، وأمام ثورتها تلك تحدث بلامبالاة ردًا على حديثها:
دا بالنسبالك أنتِ، لكن بالنسبالي أنا فحكايتنا لسه مخلصتش لحد هنا.

أغمضت عيناها بقوة بمزيجٍ من السخط والحسرة، قبل أن تفتحهما مُجددًا وهي تقول بنبرة حافظت على قوتها المعهودة: خِلصت، كل حاجة ربطتنا خلصت وانتهت، كل اللي حصل صفحة سودة وقطعتها من حياتي، مش هسمحلك تبوظ حياتي يا فادي، صدقني هدمرك.

لطالما أثارته شعلة تمردها قديمًا، وها هي الآن تجذبه مُجددًا بنفس طريقتها المسبقة، ورغم ذلك. فتهديدها الصريح له جعله يُطالعها بغضبٍ قابلته بشماتة ونمرود، قبل أن تجده يقول بما زعزع نظراتها الصلبة: لو عليا أنا مش هتكلم، بس هيجي يوم وجوزك المُغفل هيعرف إنك واخداه كوبري عشان تداري على فضيحة زمان، شوفي بقى هتواجهي إزاي، ردة فِعله هتبقى مُتوقعة وكلنا عارفينها، وقتها بيتي هيبقى مفتوحلك في أي وقت يا زوزو، سلام يا حياتي.

قال جُملته الأخيرة بعبثٍ ماكر قبل أن يتركها ويرحل من أمامها ليتجه إلى الجمع الذي تركوه منذ دقائق، يعلم بأن حديثه أصاب نقطة سوداء داخل وجدانها، وهو يلعب الآن على نقط ضعفها ليُعيدها له من جديد.

بينما هي كانت في وادٍ آخر، كانت تطير فرحًا قبل مجيئه حتى حلَّقت إلى أعلى سماءٍ، ليأتي هو بحديثه ويصعقها بالحقيقة التي تهرب منها دائمًا فتخبطت في أعمق منطقة بالأرض لتتفتت ويتبعثر أملها إلى أشلاء! غريبٌ هو الإنسان عندما يوقن بهروبه من مُعتقلٍ قاسٍ، فيُصدم بأنه دلف إلى سجنٍ أكبر بخضم إرادته!

شعرت بخط رفيع يسيل من بين جفنيها مخلوط بالحرقة، وجَّهت أنظارها إلى إحدى البقاع وتحديدًا على وجهه الباسم، يعقوب ببساطته استطاع أن يحتل جزءًا لا بأس به من فؤادها، هذا إن لم يحتل الفؤاد كاملًا! تراهُ لا يستحق كذبتها تلك! تراهُ يستحق الأفضل دائمًا، لذلك رفعت كفها لتمسح وجهها ببعضٍ من العُنف وهي تهمس بإصرار: لازم يعرف. لازم يعرف الحقيقة كلها والليلة.

وها قد عادت إليها قوتها الواهية مُجددًا، ليأتي فؤادها ويتحدث برجاء: لا تفعليها، سنخسره للأبد بعدها.
فيأتي دور «العقل» ليلجم صوت «القلب» ويقول بسخرية: إن عَلِمَ وحده فالعواقب ستكون وخيمة يا مُغفل.
فيعود «القلب» ويهمس بكلماتٍ تُقطّر ألمًا: على الأقل سنحظى ببعضِ الوقت معه، سنشعر بالأمان لبضعة أيامٍ أخرى قبل أن يُسلَب للأبد.

ووسط هذا التشتت والضياع ظهر هو أمامه، وكأنه يأتي ليلتقفها في أكثر أوقاتها شدة ليعدو بها إلى بر الأمان، عيناه كانت تلتهم وجهها بقلق وهو يتسائل: مالِك يا ذكرى بتعيطي ليه؟
هزت رأسها نفيًا وهي تتصنع الابتسام، ثم أجابته بجوابٍ مُقنع إلى حدٍ ما: دي دموع الفرحة، فرحانة أوي إن ربنا عوَّض جنة بعد صبر أيام كتيرة قضتها في تعب وعياط.

توقفت للحظاتٍ عن الحديث، قبل أن تُعانق عيناها بخاصته وهي تهمس بصوتٍ مليء بالشجن: زي ما ربنا عوضني بيك.
إجابتها أثلجت صدره، وبل وجعلت فؤاده يرقص كالأبله وهو أسيرًا لتلك النظرة التي سجنته لعددٍ من الدقائق لا يعلم عددها، هو الآن مسحور القلب والعين، يشعر بأنه في حُلمٍ جميل ولا يُريد الاستيقاظ منه أبدًا، لذلك قرر جعل الحُلم أكثر جمالًا ويكُمِل تلك اللوحة الفنية باحتضانه الشديد لها!

أحاطت بخصره بقوة مُشددة على خصره بذراعيها، الاطمئنان الذي يغمرها بوجوده فريد من نوعه، لذلك قررت استغلال الفرصة لربما لا تأتي مُجددًا! أطلقت تنهيدتها الحارة قبل أن تعقد ما بين حاجبيها بتعجب وتسائلت بمشاكسة وهي تبتعد عنه: ريحتك حلوة.
اتسعت ابتسامة بحماسٍ وهو يسألها: بجد؟
ضحكت بخفة وهي توميء له مُؤكدة، قبل أن تُتمتم بتفكير أثناء تحديجها له: حاسة إني شميت الريحة دي قبل كدا بس مش فاكرة فين.

رد عليها بزهوٍ وهو يُعدّل من ياقة قميصه الأبيض: دا الشامبو بتاعك اللي في الحمام.
تجمدت ابتسامتها وتشنج وجهها رافضًا إصدار أي ردة فعل طبيعية، أثارت ريبته مُطالعًا إياها بقلق، قبل أن يسألها بنبرة حذرة: إيه مالِك!
ابتعدت عنه خطوة حتى تسنح لها رؤية وجهه كاملًا، قبل أن تتشدق مُرتابة: الشامبو دا كان موجود فين؟
علي رخامة الحوض من فوق، كان لونه أزرق بس ريحته حكاية يا كوكا.

ظلت تقاسيمها جامدة لكن يشوبها السخط والاستنكار الشديد، مما جعله يُعاود سؤالها مُجددًا: إوعي تكوني زعلتي إني استخدمته! دا أنا اللي جايبهولك.
حديثه كان مُغلفًا بالغرور، فدفعته وهي تصرخ به بحنق: أنت استحميت بالغسول بتاعي؟ أنت بتهزر يا يعقوب؟
زوى يعقوب ما بين حاجبيه باستغراب وهو يُردد تعجبًا: إيه الغسول دا؟ مش دا بتاع السنان تقريبًا.

أغمضت عيناها بقوة في محاولةٍ منها لتملُّك أعصابها المُتلفة، قبل أن تفتحهما مُجددًا أثناء قولها الناقم: عقابًا ليك بقى هتجيبلي واحد تاني، ولو قولت لأ يا يعقوب هاخد حاجتي وأروح عند أمي، أنا ماشية.
تابع أثرها الغاضب بعدم فهم، قبل أن يهمس لذاته مُتمتمًا بخفوت: أيوا مقالتليش الغسول دا بيستخدم في إيه برضه!
كانت المُنافسة هي الحرب، فهُزِمَ كليهما ووقعا في الحُب.

وقف حمزة بجانب رضوى التي تُراقب الجميع بأعيُن لامعة راضية، تتبع أثر شقيقتها التي رحلت مع عمران ليستمتعا قليلًا بعيدًا عن الجمع، فكرة أن تعود الحياة تبتسم في وجه شقيقتها مُجددًا تجعل فؤادها ضاحكًا مُنتشيًا بسعادة، تلك الفرحة التي منعتها عن ذاتها خوفًا من تكرير خطأ والدتها في اختيار شريك غير مُناسب، وعِند ذلك الخاطر أطلقت تنهيدة حارة أتت من أعمق نقطة مُتألمة من فؤادها، لتنتفض بخضة حينما استمعت إلى صوت حمزة المُفاجيء يهمس بجانب أذنها:.

عينيكِ كانت حلوة أوي وهي بتلمع. متطفيهاش.
المُفاجئة كانت ظاهرة بوضوح على وجهها، لتهدأ ضربات قلبها تدريجيًا أثناء همسها لاسمه براحة: حمزة!
تتجوزيني؟

ومثلما أتى فجأة، قال حديثه أيضًا فجاة، لتجحظ عيناها فجأة وتكتم أنفاسها داخل رئتيها باندهاش، ناهيك عن انتفاض فؤادها بثورة عارمة وكأنها تُقاوم رغبة عقلها الخائف بالرفض، أطلقت العنان لأنفاسها بالصعود فتحرك صدرها صعودًا وهبوطًا تأثرًا بنظراته التي تُحتويها! عناقٌ دافيء استطاع إيصاله لها بسهولة دون أن يمسَّها، فعاد ليقول بنفس الهمس الدافيء:.

وافقي، وأوعدك همحيلك كل خوفك، هثبتلك إني قد المسؤولية وإني فعلًا أستاهلك.

تراهُ لا يكف عن محاولة إسعادها، لكن تلك الغصة التي تحكمت بحلقها منعتها من الحديث، كيف تخبره للمرة التي لا تعرف عددها بأنها تخشى الخوض في تلك التجربة؟ ليس خوفًا منه، وإنما من المحاولة بعينها، أخفضت رأسها للأسفل لتخفي دمعة خانتها وهبطت رغمًا عنها، هل تُحبه؟ نعم، لن تُنكر، تخشاه؟ لأ، بل تخشى التجربة، تُريد المُحاولة؟ نعم، لكن ماذا إن كُسِرت؟ وعِند الخاطر الأخير تسائلت بتحشرج:.

أنت عارف إني خايفة مش كدا؟
هطمنك.
كلمته ورغم بساطتها إلا أنها أثلجت قلبها الخائف وبشدة، رفعت أنظارها إليه فالتقطها بابتسامة هادئة وهو يقول بتشجيع: ها إيه رأيك؟ أروح أكلم الحج أبويا عشان يكلم الحج أبوكِ وبدل الفرحة تبقى فرحتين؟ ولا هتفضلي بومة على طول كدا؟
ضحكت بخفة وهي تسبل أنظارها للأسفل، فيما هو هتف بابتسامة وبحماسٍ صارخ جلب أنظار الجميع: السكوت علامة الرضا، يابا! يا حج هارون، وافقت يا حج.

صرخ وهلل بسعادة جلية، فأخفت وجهها بخجل في كتف ذكرى التي تقدمت منها ضاحكة بقوة، فيما طالع الجميع حمزة ببلاهة عدا هارون الذي هز رأسه بيأسٍ من أفعال ابنه الجنونية، ليأتي تساؤل عوض المُتعجب والجالس بجانب شقيقه:
هي مين دي اللي وافقت يابني؟ ووافقت على إيه؟

لم تأتيه الإجابة من حمزة، وإنما من هارون الذي طالع رؤوف المُتعجب من الوضع مثل الآخرين، والذي هتف برزانة: بما إنك اتعودت على وضع المفاجاة دا يا رؤوف، فأنا المرادي طالب إيد بنتك رضوى لابني حمزة على سُنة الله ورسوله.

اتسعت الأفواه بابتسامة رغم صدمتهم، وامتلأت القلوب بجللٍ سعيد وانتظروا على أحر من الجمر إجابة رؤوف الحاسمة، لكن قاطع تفكيرهم المتوتر صراخ إلياس الذي هتف باعتراض: لأ. لأ. لأ. انتوا عايزين تاخدوا إخواتي كلهم مرة واحدة؟ أنا لا يمكن أسمح للمهزلة دي إنها تحصل أبدًا، سامعين؟ لن أسمح!

طالعه حمزة باشمئزاز قبل أن يدفعه بكفه من وجهه ليُجلسه مكانه مرة أخرى، فيما توقف إلياس في مكانه مُجددًا وهو يُصيح بهم: هو انتوا عايزين مني إيه؟ هو إحنا هربانين من شوية تيران هناك عشان آجي ألاقيهم بيتجوزوا هنا؟

كان يقصد بحديثه الأخير كُلًا من فادي وحازم اللذان طالعانه بتهجم، فيما وقف أبيهم خيري يُراقب الوضع بمللٍ ظاهر، لقد أتى هُنا مُجبرًا بعد أن دعاه أخيه رؤوف، يعلم بأنه يُحاول كسب تعاطفه مُجددًا لاستعادة أمواله، لكن المُغفل لا يعلم بأن ذلك لن يحدث إلا بشق الأنفس.
تجاهل هارون كل الصخب من حوله وعاد ليتسائل مرة أخرى وهو يُسدد ل روؤف نظرات ذات مغزى بعد أن طال صمته: ها قولت إيه يا رؤوف؟

وأخيرًا خرج رؤوف عن صمته وتمتم مُبديًا موافقته المبدئية بصوتٍ بارد: نشوف رأي العروسة الأول.
زفرت رضوى بسعادة وابتسامتها تشق كامل وجهها، فيما أطلقت رحمة زغرودة عالية تُبدي عن فرحتها، وشاركتها تسنيم كذلك التي سعدت كثيرًا من أجل رضوى، فانهالت التهنئات والمُباركات على كُلًا من حمزة ورضوى، و ذكرى اتجهت نحو المطبخ لتأتي بالمشروبات الغازية بمناسبة تلك المُفاجئة السعيدة.

وعلى الجانب الآخر. مالت نرجس على رائف وتمتمت بنبرة خافتة: هروح أتطمن على بابا وهاجي تاني.
نظر إليها رائف بعدم رضا لطلبها، لكن أمام نظراتها الراجية لم يجد مفرًا من الموافقة، لذلك هز رأسه بموافقة تزامنًا مع قوله المُحذر: بس عشر دقايق وهاجي أخدك، أنا لولا إني عارف إن الزفت اللي اسمه رشدي دا مش هناك أنا ماكنتش هسمح ليكِ أبدًا تخطي البيت دا أبدًا.

تحولت نظراتها من راجية إلى مُمتنة قبل أن تهتف بمشاكسة: بحبك يا عسلية.

قالتها ثم هرعت من أمامها راكضة إلى منزل أبيها لعلمها بتأثير تلك الكلمات عليه، تنهد بحب وهو يُتابع أثرها الراحل، قبل أن يدور بعينيه على الحاضرين ليبحث عن رأفت الذي أتى معه رغمًا عنه، ليعود بذاكرته لِمَ حدث منذ يومين، وذلك عندما هاتفه عمران وأكد عليه أهمية حضوره معهم في مثل ذلك اليوم تحديدًا، نبرة عمران الجادة والمُتلهفة أشعرته بأهمية وجوده بينهم، ومازالت كلماته تتردد داخل أذنيه حينما أردف الأخير بحسم:.

أنت مش بس صاحبنا، أنت أخونا.

تلك الكلمات التي اخترقت روحه بحبٍ وامتنان لهؤلاء الرجال، يتذكر حينما هاتفه بقية الإخوة ليُأكدوا عليه القدوم، وما أدهشه حقًا؛ هو مُهاتفة هارون بنفسه له، ليُقرر أن يأتي كما أرادوا، وبالفعل تجهَّز هو و نرجس صبيحة اليوم استعدادًا للسفر، واستقلوا سيارتهم للانطلاق، لكن ما كادوا أن يفعلوا، حتى وجدوا رأفت يصعد في المقعد الخلفي بعد ان وضع حقيبة صغيرة بجانبه، وتحدث بابتسامة مُتسعة بلهاء:
يلّا أنا كمان جاهز.

وضعت نرجس يدها على فمها تكتم ضحكتها التي كادت أن تدوي عاليًا، خاصةً عندما أبصرت تقاسيم وجه رائف التي تشنجت باستنكار، تلاه هتافه الساخط وهو يدفعه للخروج من السيارة: جاهز لإيه يا حبيبي هي زريبة! غور يالا من هنا وروح لأمك.
طالعه رأفت ببرود قبل أن ينظر لساعة معصمه، ومن ثَم أردف باستفزاز: هنتأخر والفرح هيروح علينا يا رائف يا حبيبي.

طالعه الأخير بسخط وتسائل صارخًا به: أنت مش فرح أختك بعد بكرة يالا! إيه اللي هيجيبك معانا؟
ما أنا سامعتك وأنت بتقول لمراتك إنكم هترجعوا بكرة، so، no problem.
قال الأخيرة بلمحة من العنهجية، ليتشنج معالم وجه رائف الذي ردد خلفه: هه! no problem! أمك لو سمعتك بتقول كدا هتفكر إنك ألحدت.

علت ضحكات رأفت بصخب تزامنًا مع استدارة رائف للأمام وهو ينفخ باستسلام، قبل أن يقول ناقمًا: دا انتوا عيلة فقر، حتى أختك لما قررت تتجوز؛ جِد العريس مات وأجلوا الفرح شهرين.
استفاق رائف من شروده حينما رأى رأفت من بعيد يقف مع إحداهن التي يظهر على وجهها الغضب الشديد، لذلك زفر بضجر قبل أن يستمع إلى ضحكة خافتة تأتي من جانبه وكان مصدرها بدران الذي أردف بضحك:
قوم شوف ابن عمك عشان لو الحج هارون شافه هيشقلبه.

ليرد عليه رائف بحنق وهو يهب من مكانه ليذهب إليه: يا شيخ يا ريت يشقلبه ونخلص.
وعلى الجانب الآخر، وقف رأفت أمام ياسمين المُشتعلة وتحدث بوداعة لم تليق به: يا أنسة سامية اسمعيني أرجوكِ!

اشتعلت عيناها بغضبٍ أكثر جِراء نُطقه لاسمها خاطئًا، منذ أن أتى هذا الكائن المُزعج وهو يُضايقها بنظراته التي يرمقها بها، وكأنه لم يرى نساءًا من قبل، نظراته كانت تترنح ما بين الإعجاب والعبث، حتى تجرأ وتقدم للحديث معها، وكعادتها صدته وردت عليه بوجوم، لكنه أراد أن يتحدث أكثر ويأخذ فرصته للتعرف عليها.
سامية مين يا بني آدم؟

نطقت بها بذهول مُغلف بالاستنكار، ليُعاود التفكير في اسمٍ يليق على مظهرها قائلًا: عفاف مثلًا؟
فتحت عيناها تُطالعه بدهشة فاستنبط خطأه، فأضاف مُجددًا بعد تفكير لحظي: حسنات طيب!
نفخت بسخطٍ وقررت إجابته علَّه يرحل ويحل عن رأسها: اسمي ياسمين، لو سمحت امشي بقى هي مش ناقصة غتاتة.
تجاهل رأفت الجزء الأخير من حديثها، وعلَّق على اسمها قائلًا بعدم رضا: إيه ياسمين دا؟ مش حلو على فكرة، حسنات أحسن.

ومازال الاستنكار يُزين وجهها بسبب هذا الكائن الذي تدخل لعالمها رغمًا عنها، لتلوي شفتيها بقرف قبل ان تُغادره وترحل، تاركة إياه يقول بتشنج: مالك ياختي بتبصيلي كدا ليه؟ أومال لو كان اسمك نبوية كنتِ عملتي إيه؟
شعر بمن يُمسكه من تلابيبه من الخلف، والذي لم يكن سوى رائف الذي وقف يستمع لكامل الحديث الذي كان مُثيرًا للضحك بحق، وبصعوبة بالغة تحكم بذاته قبل أن يتصنع الجدية بقوله الحازم: مش هتحترم نفسك بقى؟

أجابه الأخير ببؤسٍ وكأنه يقف مُذنبًا أمام أبيه: البت عينيها خضرا، وأنا نقطة ضعفي خضار المحشي.
خضار المحشي؟
رددها رائف بنفور، ثم أضاف قائلًا: تصدق وتؤمن بالله! هي غلطانة إنها ملفعتكش بالقلم على وشك!
وقبل أن يُجيبه رأفت، سحبه الثاني معه وهو يقول بضجر: تعالى معايا يخربيتك، دا أنا لو جايب ابن أختي معايا كان زمانه قاعد أعقل منك.

حينما تصنع لك الحياة مُعجزات، عليك إذًا استغلالها، لا إفلاتها، وهذا بالضبط ما حدث معه، بعد أن كتب له المولى عُمرًا جديدًا من المفترض أن يقضيه في إصلاح ما أفسدته يداه، لكن كل هذا انعكس على حدقتاه التي ازدادتا سوادًا يُنذِر عن جحيمٍ آتٍ، وانتقامٍ محسوم، وغِلٍ يتزايد بطريقة مُخيفة، أقسم على أخذ حقه من كل شخصٍ ساهم في أذيته، حتى الفتاة التي أحبها؛ خدعته كما الجميع!

استفاق حسن من شروده على دخول شقيقه لقمان وهو يقول بابتسامة واسعة: لأ دا إحنا بقينا زي الفُل وأكتر أهو، خاف على نفسك لأحسدك بقى!

وكأن القسوة التي كانت مُرتسمة عليه تبددت تدريجيًا وقد لان وجهه تمامًا، ثبَّت أنظاره على شقيقه الذي يُثرثر أثناء انهماكه في فتح أكياس الطعام التي أتى بها خصيصًا لأجله، لقمان هو النقطة البيضاء الوحيدة في حياته، يخشى عليه أن يُلوَث كما لُوِّث هو قبله، لكنه سيفعل ما بوسعه لإبعاده عن مجال عمله هو وأبيه تمامًا، لن يُلطخه أبدًا، حتى لو انغرس هو في مستنقعه أكثر!

انتبه لأخيه أخيرًا الذي وضع الطعام على طاولة صغيرة أمامه، ثم قال بهمسٍ وهو يقترب منه ليجلس أمامه: الدكتور موصي إنك متاكلش أكل من برا، بس أنا عارف إنك بتحب التلوث دا عشان كدا جبتهولك.
ارتسمت ابتسامة صادقة على ثُغر حسن الذي شرع في تناول الطعام معه قبل أن يقول: أفهم من كدا إنك مش خايف على صحتي!

دسَّ لقمان الكثير من أصابع البطاطس المقلية داخل فمه مُصدرًا صوتًا يعكس مدى تلذذه بالطعم، ومن ثَم أجابه: أنت هتخرج من المستشفى النهاردة، الحوار مش خطير يعني.

ضحك حسن بخفة وهو يهز رأسه بيأس، واستمر الحديث بينهم لدقائق كثيرة حتى انتهوا من تناول الطعام، حمل لقمان الطاولة ووضعها جانبًا، ثم اقترب منه مُجددًا فيما تسائل بقلق: متعرفش حاجة عن بنات عمك؟ بقالهم كتير أوي متصلوش بينا وكمان مش بيردوا على تليفوناتهم، أنا قلقان يكون حصلهم حاجة.

رغم سِنه الذي لم يتعدي الثامنة عشر، إلا أنه يشعر بحِمية غريبة تجاه فتيات عمه المُختفيين، لقد مثَّلوا له شقيقات بحق، لذلك زاد قلقه مبلغه بغيابهم المُبالغ فيه، ولم يشعر بتشنج وجه أخيه أمامه، ولا بضغطه على أسنانه الذي ظهر واضحًا على فكه، ولا قبضة يده التي تكورت ليضغط عليها بقوة ابيضت لها أوردته، فانفرجت شفتي حسن في نية لإجابته، لكنه أغلقهما مُجددًا حينما دلف أبيهم إلى الغرفة بملامح مُتهجمة، وقبل أن يتحدث بكلمة واحدة، استدار إلى لقمان يطلب منه بلهجة آمرة:.

اخرج أنت يا لقمان دلوقتي وسيبني مع أخوك شوية.
نقل لقمان أبصاره بينهما بقلق، قبل أن يتركهما ويرحل من الغرفة غالقًا الباب خلفه وفؤاده يطرق بعدم ارتياح، ربما ليس بالكبير للدرجة الكافية، لكنه ليس صغيرًا أيضًا حتى لا يفهم الصراع الدائر بين شقيقه وأبيه، لذلك قرر الوقوف بجانب الباب علَّه يعلم السبب.

وبالداخل، استقرت عينيْ طارق الحادة على حسن الذي طالعه بجمودٍ جَلي، قبل أن يتحدث طارق أخيرًا بعد فترة من الصمت المشحون: مين البنت اللي كانت معاك في شقتك؟
بنت مين؟
قالها حسن مُراوغًا إياه في إجابته، ليجز طارق على أسنانه بغضبٍ بالغ قبل أن يُعاود سؤاله بأعيُن مُتقدة: كانت ياسمين صح؟

سؤاله كان يحمل بين طياته الإجابة أكثر من كونه سؤالًا، مما جعل نظرات حسن الجامدة تتحول في ثوانٍ لتُصبح كالجحيم في خطورتها، في حين جاوبه هو بغضبٍ يحمل بين طياته التهديد ومُغلف بالوقاحة: ملكش دعوة، متدخلش في حياتي، أنت مش وَصي عليا.

والخطوة التالية من أبيه كانت اقترابه منه وإمساكه من تلابيبه وهو يهزه بعنف، في حين صرخ: مقتلتهاش ليه؟ نسيت اللي عملته هي وأختها في أمك؟ نسيت إن هما اللي اتفقوا يموتوها عشان طمعانين فيك وفيها؟ نسيت كل دا عشان بس بتحبها؟

هُنا وقد بلغ الغضب مبلغه من حسن الذي دفعه للخلف بقوة كادت أن تُسقطه أرضًا، لولا أن الآخر استند على المقعد المُجاور له ونظراته تُطالع ابنه الذي تجرأ عليه بذهول، بينما حسن صاح به بصراخ:.

وأنت كمان السبب، وزي ما هنتقم منهم هنتقم منك أنت كمان، أنت اللي شغلتني معاك، وأنت برضه اللي ورطتني في قضايا أنا كنت بعيد عنها، أنت اللي مليت قلب كُره وحقد لكل اللي حواليا، أنت اللي خسَّرت أمي صحتها وهي بتجري وراك من مكان لمكان عشان تنضفك، أنت السبب في مرضها، أنت اللي جرتني للسكك المشبوهة، أنت السبب في كل اللي بيحصل في حياتنا.

وقع تلك الكلمات على المُستمع الواقف في الخارج كان كالصاعقة التي ضربت رأسه فجعلته يتوقف عن التنفس لدقائق، مع كل إعتراف، كان يهز رأسه بعدم تصديق، علَّ هذا كابوسًا مُرعب وسيستيقظ منه الآن، لكن الشيء الأشد مرارة، بأن هذا واقعًا ملموسًا ومحسوسًا حقًا! هو الآن يقف أمام غرفة شقيقه، فاستمع أولًا لصراخ أبيه عليه، وبعدها اعترافات شقيقه المُتوالية، الصدمة ألجمته، شَلته، زلزلته، ضربت بمفاتيح تعقله، فلم يشعر بشيء سوى دموعه الحارة التي تهبط على بشرة وجهه البرونزية، دموعٌ تُشبه قسوة السياط في ضربتها، لكن الفارق الوحيد بأنها لم تترك أثرًا على جسده، بل على فؤاده!

رفع كف يده ليمسح دموعه التي أغرقت وجهه، ليُلاحظ الآن ارتعاشتها التي تُشبه ارتعاشة جسده، والشيء الوحيد الذي دار بعقله الآن؛ هو تصميمه على البحث على ابنتيّ عمه حتى يصل إلى الحقيقة!
الفرحة تعم المكان، والسعادة تملأ الصدور، القلوب تتهادى بلحنٍ جميل، والعيون تُرسِل امتنانًا مخفي، لكن الخوف مازال مسيطرًا على تلك العلاقة المُعقدة بالنسبة لها، والجميلة بالنسبة له!

اقترب مروان من رحمة وهو يحمل «باكيتة المشروبات الغازية» ليوزعها على الجميع، ثم مدَّ يده لها بواحدة أثناء قوله المُشاكس: حاجة سقعة مشبرة ليك يا جميل.
التقطتها منه رحمة بابتسامة مُتسعة في مُحاولة منها لإيقاف طنين فؤادها الذي ينبض باسترسال، ومن ثَم تحدثت بضحكة مُشاكسة: تعيش وتديني يا بيضة.

لكن ضحكتها الهادئة تحولت لأخرى عالية بانطلاق حينما عبس بوجهه وعيناه تُطالعها باستنكار، لطالما كان يكره هذا اللقب الذي أطلقه عليه كُلًا من هارون وعوض من صغره، وذلك لبشرته البيضاء التي يُزينها النمش التي ورثها عن والدته، ابن أجانب كما أُطلِق عليه، لكنه طالما كان ينجذب للسمراوات مثلها تمامًا، لذلك تشدق بنبرة مُستنكرة:
افضلي خبَّطي في الكلام كدا لحد ما أخبط دماغك في الحيطة.

حاولت السيطرة على ضحكاتها حتى لا تُزعجه أكثر، كم كان لذيذًا وشهيًا خاصةً احمرَّ خَديّه بانفعال! لهذا تحدثت بعد ثوانٍ قائلة بدون وعي: والله متزعلش أنت عسول أوي.

والآن انتبهت لما قالته عندما تحولت نظراته لأخرى خبيثة، لكنها لم تتراجع، وإنما تحدثت مُبتسمة بشجن: أنا مش عارفة أنت عندك عقدة الخواجة من صُغرك ليه! أومال لو كان شعرك أصفر وعيونك خضرا كُنت هتعمل إيه؟ هتنتحر؟ ملامحك مميزة وصعب تلاقي زيها، يعني عيونك سمرا وواسعة، رموشك تقيلة، وشعرك ناعم وأسود، وبشرتك بيضا عكس سمار عينيك وشعرك، بذمتك دا شكل تتضايق منه؟ دا أنا ياريتني حلوة زيك.

أنتِ فعلًا حلوة، أحلى مني مليون مرة كمان.
كلماته رغم بساطتها إلا أنها أشعرتها بكونها جميلة بحق، اعترافًا كهذا من شخصٍ آخر كانت لتظنه مُجاملة في حقها، لكن هو! اعترافه أثلج قلبها ويُزيد من طربه، لهذا أخفضت رأسها خجلًا ولم تعرف بما تُجيبه، لتستمع إلى ضحكته العابثة المُغلفة بصوته الماكر: ما أنتِ كمان عاكستيني الله! كدا خالصين.
خالصين في إيه؟

تسائلت بها بُثينة والدة مروان بنظراتٍ غامضة، قبل أن تتجعد معالم مروان بوجوم وهو يتجاهل سؤالها، ومن ثَم نظر إلى رحمة وقال بنبرة عكست الضيق الذي يجتاحه: هروح أنا أشوف باقي المعازيم.

قالها ثم عدَّل من وضعية حمله للمشروبات الغازية وتركهم وغادر، لتنظر بثينة لأثره الراحل بغبطة مُتذكرة شجارهم العنيف صباحًا بعدما تهرَّب كعادته من سؤالها عن وِرث أبيه، لتزفر بسخط قبل أن تترك رحمة تقف مكانها وتعود إلى المنزل بعيدًا عن هُنا.
طالعتها رحمة بتعجب وقد استشفت بحدسها عن وجود خطبٍ ما بين كليهما، لذلك قررت سؤال مروان عما حدث بينهم بعد أن ينتهي.
بدران عايزة أتكلم معاك بعد إذنك.

تمتمت بها زهراء بنبرتها الحانقة لتجاهله لها طيلة الأيام السابقة، كان قد أنهى مكالمة هامة أتته من المشفى للتو، ليُفاجأ بها تقف خلفه في حديقة منزل رؤوف، حاول السيطرة على تقاسيم وجهه ليجعلها ثابتة غير مُتأثرة بوجوده، لكن نظراته قد اهتزت حينما لمح تجمع الدموع داخل مقلتيها وصوتها يصعد بتهدج باك:.

أنت ليه بتتجاهلني؟ أنت صارحتني باللي جواك من ناحيتي وأنا كمان صارحتك، ليه بعدت عني فجأة؟ أنت عارف إنك كنت صاحبي قبل ما تكون ابن عمي، كنت دايمًا بحكيلك عن مشاكلي واللي مضايقني، دلوقتي أنت كمان بعدت وبقيت من ضمن الحاجات اللي مضايقاني.

أتظن ابتعاده عنها بهذه السهولة؟ هل تعلم بأن دموعه قد خانته بعد أن صرَّحت له عن حُبها لشقيقه؟ هل تعلم عدد المرات التي خاصم فيها الليل جفناه؟ هل تعلم عن مُعاناتها لطردها من عقله؟ هل تعلم كم مرة دقَّ فيها القلب لأجلها؟ ولأول مرة يجتمع العقل والقلب في شيء، اجتمعا على حُبها وعشقها اللامحدود، هو فقط أراد هُدنة ليُريح بها أفكاره، ليبتعد عن النزاعات والصراعات التي أنهكته، والآن هي تُزلزل كامل كيانه بدمعة واحدة منها! اللعنة عليك وعلى ضعفك بدران.

كل مشاعره تلك ترجمها لسانه بجُملة واحدة جعلتها تُطالعه باندهاش، وذلك حينما أردف هو باقتراح:
تيجي أخليكِ مريضة نفسية وأنا اللي أعالجك؟
إيه؟
أسببلك عُقدة وأجيبلك تروما وأبقى أنا الجلاد!
أنت اتجننت يا بدران؟
وهو اللي يحبك ميتجننش إزاي بس يا زهراء؟

هتف الأخيرة بمزيجٍ من اليأس والحسرة، اليأس من كونه فشل في مُحاولته معها، والحسرة من عدم شعورها بعشقه، وبين هذا وذاك، هو يترنح بين كبرياؤه تارةً، وحُبه لها تارةً أخرى.
لم تشعر سوى بابتسامتها تُزين ثُغرها، لم يكن الإعتراف الأول منه، لكنه كان ذات وقع خاص على مسامعها، رفع عيناه لها لتُدهشه تلك الابتسامة التي تبينها من وَسط الظلام، لتزداد دهشته أكثر حينما تمتمت على بغتة: موافقة.
وببلاهة تسائل: على إيه؟

إني أتعالج عندك، بس مش هتبقى الجلاد، هتبقى العلاج.
رددتها ببساطة ووجهها مازال مُتمسكًا بابتسامتها، ولو أقسم بأن هذه أفضل ابتسامة قد رآها طيلة حياته لن يُبالغ، استغلت صدمته وهي تضحك بخفة، ومن ثَم أضافت بمشاكسة قبل أن تذهب من أمامه مُسرعة:
هبدأ علاجي معاك من بُكرة، سمعت إنك دكتور شاطر، بس أنا اللي هحكُم عليك بنفسي، سلام يا دكتور.

تفوهت بكلماتها ورحلت تاركة إياه ينظر لأثرها بدهشة، دهشة يصحبها نبضات قلب عنيفة وكأن فؤاده يرقص طربًا لذلك القُرب الذي بدأته هي ولأول مرة، وبدون أن يشعر ارتسمت ابتسامة واسعة على ثُغره، ثوانٍ ما خفتت حينما عاد هاتفه يرن مُجددًا، ليزفر بهدوء قبل أن يدلف لهم للداخل لاستئذان والده بالذهاب إلى المشفى لحالة مهمة للغاية.
البُغض! كلمة بسيطة تحمل بين طيات حروفها الكثير من الحروب،.

ف الباء تُوحي بال بعثرة ؛ بعثرة مشاعر تتوارى خلف قناع الجمود،
و الغين تُوحي بال غضب ؛ غضب مخفي بين أحاسيس تُقطِّر سُمًا،
و الضاد تُوحي بال ضغينة ؛ ضغينة تتأهب لها الحواس قبل الجسد،
كل تلك المشاعر كانت توازي شعور فتحية حينما رأت نرجس تقف أمام ناظريها تُطالعها بكل تحدٍ، وكأن زيجتها المُستحدثة أضفت لها المزيد من التنمر والجموح، وكيف لها وقد تزوجت من رجل يرى كل أفعالها إيجابية مهما فعلت من سلبيات!

حنت كل ذلك جانبًا وهي تقترب منها لتُواجهها بعينيها المُشتعلة بغضب، لا تتذكر اهتياجها حينما اكتشفت اختفاء الأوراق التي تضمن لها ملكية هذا المنزل، حينها ثارت ثورتها هي وابنها وقلبوا المنزل رأسًا على عقب، لكن النتيجة واحدة كانت واحدة، الأوراق ليس لها أي وجود وكأنها لم تكن موجودة من قبل!
إيه اللي جابك هنا؟
ارتمت نرجس على الأريكة بارتياح وتحدثت مُتجاهلة سؤالها الأخير: ياه يا مرات أبويا! أنتِ لسه عايشة؟

حديثها أشعل عينيّ الأخرى التي لمحت لمعة انتصار لن تُخيبها داخل مقلتيها، يبدو أن اللعبة على المكشوف كما يُقال، لذلك اتجهت إليها بخطوات سريعة كادت أن تأكل الأرض من أسفلها حتى توقف قبالتها، فأوقفتها مُرغمة غارزة أظافرها في لحم ذراعها، ومن ثَم تسائلت بفحيح عكس الكُره القابع بفؤادها:
ورق البيت اللي كان موجود في الدُرج فين؟

ورغم الألم الذي اعتصر ذراعها من قوة ضغطتها؛ إلا أنها ادَّعت البرود وهي تتسائل بابتسامة باردة: أي ورق يا مرات أبويا وضّحي؟
وما كادت فتحية أن تُجيبها، حتى هتفت نرجس بتذكر واهٍ: آه. قصدك ورق البيت اللي كنتِ عايزة تسرقية؟
ضغطت فتحية على أسنانها بحقد وهتفت من بينهم قائلة: أنا لحد دلوقتي مش عايزة أأذيكِ، صدقيني أنتِ مش قدي.

نظرات نرجس كانت باردة، برغم من ذلك الإشتعال المبعوث من داخلها، لا تعلم كيف استطاعت تلك المقيتة أن تضحك على والدها ليتزوجها، فبالرغم من بشاعتها داخليًا، إلا أنها بشعة أيضًا من الخارج! هذا الخاطر جعلها تضحك بعبث تحت أنظار فتحية المُتقدة ظنًا منها بأنها تسخر من حديثها، قاطع نظراتهم تلك قدوم والد نرجس من الخارج، والذي ما إن رآها حتى تهللت أساريره بفرحة عارمة وهو يُردد اسمها باشتياق:
نرجس!
بابا.

تمتمت بها بسعادة قبل أن تدفع يد فتحية بعيدًا وتتجه لأحضان أبيها لتنعم بدفئها، لقد اشتاقته حد اللعنة، بالرغم من أنها كانت تمقطه لوقوفه بجانب تلك اللعينة زوجته، لكن مؤخرًا علمت السبب الحقيقي خلف كل هذا، لذلك اختفي ذلك الشعور تدريجيًا مع عودة معاملته الحميدة لها.
أخرجها من أحضانها وهو يتسائل بذهول: جيتي إمتى؟ ومقولتيش إنك جاية ليه كنت عملت حسابي!

أردف بجملته الأخيرة بعتابٍ رقيق وهو يحيط بكتفها مُتجهًا بها نحو الداخل، فيما ضحكت هي بمرح وهي تُجيبه مازحة: قولت أعملك كبسة.
احلى كبسة والله يا حبيبتي.
قالها وهو يُقبل جبينها بحنوٍ بالغ طُبِع أثره داخل فؤادها، غافلين تمامًا عن فتحية التي ذهبت من أمامهم لكي تُنفذ خطة للتخلص منهما معًا!

كانت روان مُنهكة مع الفتيات لتقديم العصائر، وضعت الصينية من يدها ثم أمسكت بكوب من عصير المانجو الطازج، واتجهت به نحو مصعب الذي كان يُراقب حركتها وعفويتها دون ملل، حدقتاها المُلتمعتين وابتسامتها انتقلت إليه وكأنها عدوى مُزمنة، وطرب قلبيهما تعالى وارتفع في تواصل مخفي وغير مرئي، وكأن فؤاديهما تعانقا دون تلامس!
التقط مصعب منها الكوب وتحدث بوداعة: تسلميلي، مانحرمش من طلتك البهية عليا.

أسبلت جفنيها بخجلٍ وصوتها أبى أن يصعد بحرج، فيما أضاف هو بجدية بعد أن ارتشف القليل من العصير: أنا كلمت بابا عشان يكلم والدك.
رفعت أنظارها إليه تُطالعه بعدم استيعاب، وبغباء غير جديد عليه تسائلت بحيرة: هيكلمه في إيه؟

هو اعتاد غبائها لذلك لا ضرر منه، فرد عليها بجدية مُفرطة: هيفتحوا مشروع كتاكيت، أنتِ عارفة إن مشروع الجزارة مبقاش جايب همه، وكمان جريدة والدك بركتها قلت من ساعة ما بطلتي تنشري أخبارك المُهمة فيها، فالكتاكيت هي الحل الأسلم للاتنين.
مطت روان شفتيها باستياء وهي تُجيبه: بس أنا مش بحب الكتاكيت، بخاف منهم، خليهم يفتحوا مشروع أرانب أحسن.

اقتراحها الأخير قالته بحماسٍ مُبهر، مما جعله يرفع إصبع سبابته ويضرب به على جانب رأسها السميك هاتفًا من بين أسنانه: أنا نفسي تشغلي دماغك شوية وتبطلي غبائك دا!
تأوهت بخفة وهي تبتعد عن مرمى يده، ثم تسائلت بحنق: يوه هو أنا عملت حاجة دلوقتي؟
حك مصعب وجهه بغيظ وعاد ليرسم ابتسامة صفراء على وجهه موضحًا: أنا كلمت بابا يكلم والدك عشان أتقدملك يا روان.

وضعت كفها على شفتيها تمنع شهقتها المُنصدمة، مشاعر مُبعثرة تكدست داخل ذهنها الآن ولم تجد مهربًا منها، توتر، خوف، سعادة، فرح، تلعثم، خجل، وأخيرًا حب! لذلك انطلقت الدماء تضرب وجهها بقوة ليعكس خجلها الشديد، لكن حديثها جاء مُنافيًا لكل هذا، وذلك عندما سألته بحماس زاد من لذتها:
هيكلمه إمتى؟
تعالت ضحكات مصعب بانطلاق وهو يُجيبها: احتمال كبير بكرة أو بعده، يعني قُريب أوي متقلقيش.

اتسعت ابتسامتها بسعادة فباتت كثمرة شهية أراد بشدة أن يقتطفها الآن ليتذوقها، لكن مهلًا مصعب كُلها أيام وستتم خطبتك لها، وبعد سيكون عقد قرانكما، حينما ستُكتب على اسمه للأبد، ولن يُخرجها من داخل احتضانه حتى ولو احترق العالم بأكمله، فليحترق العالم وتظل هي!

كانت النسمات العليلة تضرب أجسادهم المُتلاصقة بتناغم شديد، وكأنها لحن يطرب أذانهم الصماء، أحاط عمران بكتف جنة التي كانت تستند برأسها على صدره براحة، وتحديدًا موضع قلبه، مما سنح لها الاستماع إلى صوت دقاته التي تعزف على أوتار عشقها الخفي، لقد اختار أبعد مكان مُختفي عن أنظار المارة، أنظارهم مُثبتة على النيل أمامهم، وبرغم من حِلكته وسواد الأجواء؛ إلا أن القمر جاء ليحتضن أمواجه بدلال، وكأنه يفرض سيطرته المُيهمنة على الظلام!

استمع إلى تنهيدة جنة التي عكست شعورها بالراحة، ولم يتصور أن تبدأ هي بالحديث أبدًا، وذلك عندما أردفت بشرود: تعرف إنك عامل زي القمر في حياتي!
زوى ما بين حاجبيه بتعجب، وانتظر لتُكمل بقية حديثها، وبالفعل استكملت حينما أخرجت تنهيدة أخرى من أعماقها لكن أكثر سوادًا:.

جيت تفرض نفسك على حياتي السودة عشان تنورها من جديد، ريحتك حواليا زي شُعاع القمر بيديني القوة إني أكمَّل، دايمًا وجودك كان مفروض عليا من غير إرادتي، وواحدة واحدة بقيت أحس إن وجودك بيفرق معايا، بيفرق أوي، لدرجة إني كنت بنام عشان أستنى الليل يمشي ويجي الصبح بسرعة عشان أشوفك، وواحدة واحدة مبقتش قادرة أسيطر على قلبي اللي بيتعلق بيك وباهتمامك كل يوم عن التاني، يمكن لسانك مكانش بينطق، لكن عينيك كانت بتحكي كل حاجة أنت كاتمها، كنت بحس قلبك بيحضني، وعينيك بتعتذر ليا عن كُل المُر اللي جوايا.

لأول مرة يستمع منها، ولأول مرة لا يقدر على الحديث! لقد أخبرته بطريقة غير مُباشرة بأنه يُمثل لها الأمان! هل تراه هكذا حقًا أم أنه يتوهم؟ هل تراه طوق النجاة في ساحة غرق؟ أم أن عقله المُتيم بها ترجم حديثها لمعنى آخر؟ كانت مازالت تقبع بين أحضانه، فرفع كفها إلى ثُغره ثم قبَّل باطنه برقة أودع فيها كل مشاعره، ومن ثَم همس بعاطفة لم يُخفيها:.

هكدب عليكِ لو قولتلك إني حبيتك من أول مرة شوفتك فيها والكلام الفاضي دا، بس أنا كنت برتاحلك وحابب وجودك، وشك فيه قبول غير طبيعي مخليني حابب أبص فيه طول الوقت، لحد ما بقيت متعلق بيكِ طول الوقت، أماني بقى مُرتبط بوجودك معايا وحواليا طول الوقت، كنت خايف أعمل فيكِ ذنب وربنا يحرمني منك، عشان كدا طلبت إني أتجوزك على طول، أفضل معاكِ وأسندك في علاجك، وطالما أنا معاكِ مش هخلي ضهرك يتحني أبدًا.

أحاطت خصره بذراعيها وشددت من الضغط عليه، لقد وشمت كلماته أثرًا بليغًا في فؤادها، فتكونت الدموع داخل مقلتيها خشيةً من القادم، اقترب ليطبع قُبلة صغيرة على جبينها قبل أن يقول بقوة:
أنا مش عايزك تخافي من اللي جاي، أنا صممت نكتب كتابنا عشان نكون مع بعض خطوة بخطوة، نحارب ونعدي كل الصعب سوا، عشان لو واحد فينا ضِعف التاني يقويه، الرحلة دي هتبقى زي حرب هنخوضها بكل قوتنا، عشان لما نكسب فيها؛ نحكي لولادنا.

تراقصت ابتسامة صغيرة على شفتيها تزامنًا مع قولها الشغوف: أنت جميل أوي.
وأنتِ حلوة أوي أوي، هاتي بوسة.
هتف بالأخيرة وهو يُخرجها من أحضانه ليطبع قُبلة قوية على وجنتها وجدت الأثر في وجدانها، لتضحك بقوة حينما هجم على وجهها يُقبله بقبلات مُبعثرة، فأبعدته بصعوبة وهي تهتف من بين ضحكاتها: خلاص يا عمران هنتمسك بفعل فاضح.

توقف ضاحكًا وعيناه تلمع بسعادة غريبة لم يُجربها من قبل، أمسك بكفها ثم سارا معًا بطول الكورنيش يتبادلان أطراف الحديث بثرثرة مُتحمسة، فتوقفا فجأةً حينما ذهب عمران لشراء «حمص الشام» لهما، راقبته بعينين سعيدتين حتى أتى لها مُمسكًا بيده كوبًا لها وكوبًا له، فمد يده لها بواحدٍ قائلًا:
خُدي يا جنتي.

التقطته منه وأذناها تستمع إلى لقبها الأكثر من مميز من بين شفتيه كسوفينيه لذيذة، قبل أن تشكره بخفوت.
بعض الوعود المنطوقة لا تُنفذ، لكن وعود القلوب تكون أكثر وفاءً.
انتهى اليوم بأكمله وتبدد الليل آخذًا معه كل الذكريات السعيدة والحزينة، لتصدح الشمس بخفة تتدلل في الصعود، لكنها ما تلبث أن تختفي خلف الغيوم التي تظهر فجأة وتختفي فجأة.

نظرت ذكرى من شرفة غرفتها وتحدثت بنبرة حماسية ل يعقوب الذي يرتدي ثيابه: الجو مغيم وحلو أوي.
أغلق يعقوب أزرار قميصه ونظر إلى السماء ليجدها غائمة بالفعل، قبل أن ترتسم ابتسامة راضية على شفتيه وهو يقول: عارفة الجو دا ناقصه إيه؟
انتبهت لحديثه وانتظرت ما سيقول، فيما أكمل هو حديثه وهو يُحيط بكتفها نحو خزانتها: إنك تلبسي وتنزلي معايا دلوقتي عشان تفتحي المحل بتاعك اللي أنا جهزتهولك من أول وجديد.

اتسعت عيناها باندهاش سائلة إياه بعدم تصديق: إيه؟ جهزتهولي؟

أومأ لها بابتسامة واسعة فيما قال بزهوٍ وضحكته الراضية تُزين معالمه: أيوا جهزتهولك، جيبتلك ورد جديد بكل أنواعه، وأقفاص العصافير مالية للمحل تحت، وعلقتلك زينة في السقف، وجبتلك جهاز تسجيل عليه شرايط أم كلثوم وفيروز ووردة والمُغنيين اللي أنتِ بتحبيهم، وفُرن جديد وحديث غير الصغير التاني، فاضل المخبوزات اللي هتعمليها بإيديكِ الحلوين دول عشان الصورة تكتمل.

كانت تستمع إليه بانبهارٍ حقيقي، ثوانٍ ما تحول إلى عناقٍ دافيء تبثه فيه شكرها الصامت، أو لربما كان عناقًا قويًا لتُخبره بطريقةٍ ما أنها تُحبه، ضمها إليه بمشاعر لم يستطع السيطرة عليها، يُقسم بأن حُبه لها قد تحول لعشق، بل بات مُتيمًا بها! لثم وجنتها بخفة وأبعدها قليلًا ليُتمتم بصوتٍ عاشق:
ربنا يقدرني وأفرحك على طول يا ذكرى.

حديثه، أفعاله، مشاعره، جميعهم يزيدون فوق جرحها المُخزي وكذبها عليه، لماذا يُصر بأن يكون بكل تلك المثالية؟ لمَ هو جميل لهذا الحد؟ لهذا لم تجد مهربًا من أفكاره سوى أن تعود لاحتضانه وهي تقول بصوتٍ مُتهدج:
شكرًا يا عسلية.
ضحك بخفة فأبعدها بعد أن قبَّل وجنتها مُجددًا وقال بمزاح: لأ أنا مبحبش الدراما، يلا بسرعة خمس دقايق هنزل فيهم تحت أتطمن فيهم على أبويا وأمي وإخواتي تكوني أنت جهزتي، اتفقنا؟

ابتسمت وهي توميء له بالإيجاب، فغمزها قائلًا بمشاكسة قبل أن يرحل: سلام يا حِلو.
هبط يعقوب للأسفل، فوجد مصعب وحمزة قد ذهبوا إلى الإدارة باكرًا، كذلك تبعهم بادر إلى المدرسة، و بدران مازال يبيت منذ ليلة أمس في المشفى، عمران يأخذ حمامًا دافئًا قبل أن يهبط معه إلى محله، وأبويه نائمان إنهاكًا من تعب الليلة الماضية، فلم يجد سوى بدير أمامه، لذلك تحدث بصوتٍ مازح:.

يابني هو أنت على طول صايع كدا وملكش شُغلة ولا مشغلة؟
وعلى عكس العادة لم يُجاريه بدير في مزاحه، وإنما ظل واجمًا وعلى وجهه يظهر الغضب بوضوح، مما دفع يعقوب ليسأله بتعجب: مالك كدا؟

رفع الأخر أنظاره إليها يطالعه بسخط قبل أن يتشدق مُستنكرًا: بدور راحت بيت عادل عشان تلم هدومها، ولما عارضتها وقولتلها مش هتخطي البيت دا وأنا معاها قالتلي إنك أنت وابويا سمحتوا ليها تروح لوحدها، إزاي أصلًا تقبلوا إنها تروح تاني بعد كل المصايب اللي حصلت؟

كان يتحدث بانفعالٍ زائد و يعقوب يستمع له فقط تاركًا إياه يُخرج ما في جبعته، وحينما انتهى، تقدم منه وجلس بجانبه على الأريكة ومن ثَم بدأ بشرح وجهة نظره:.

بدور أختك مش صغيرة يا بدير عشان نمشي عليها كلمتنا بالعافية، هي جربت وخاضت تجربة كانت قاسية عليها أوي، مرت بجواز فاشل وهكلها أيام وهتتحرر منه، دا غير الحوار اللي حصل معاها من كام يوم مخليها خايفة تخطي البيت اللي هناك دا تاني، وإصرارها على إنها تروح وترجع فدا عشان تكسر حاجز الخوف دا، بدور مش ضعيفة، هي عنيدة، والصفة دي فينا كلنا مش فيها هي بس، عشان كدا مكانش ينفع نجبرها على حاجة.

زفر بدير بسخط وهو يقول: أنا مقولتش نجبرها، بس مينفعش نسيبها لوحدها!
أنت مفكر إن هي لما جت قالتلنا أنا وأبوك إمبارح إحنا وافقنا بالساهل! دي فضلت ساعة تقنع فينا لحد ما وافقنا، وخصوصًا أبوك وأنت عارف إن روحه فيها، وعلى العموم متقلقش، كلها نص ساعة لو ماجتش أنا اللي هروحلها بنفسي.

لم يجد بدير حلًا سوى أن يستسلم، لذلك تنهد قبل أن يوميء له بالإيجاب ومازال فؤاده غير راضٍ على فعلة شقيقته المُتسرعة تلك، نكزه يعقوب في جانبه وأخرجه من شروده بقوله المشاكس:
بس قولي مالك اليومين دول! بقيت بتذاكر وبتحضر محاضرات ومُلتزم، أنت اتهورت!
رفع بدير رأسه بغرور وهو يُجيبه: أصل أبوك قالي لو نجحت هيجوزني.
علت ضحكات يعقوب بانطلاق قبل أن يهز رأسه بيأس وهو يُردد: مفيش فايدة فيك، هتبيض وتتجوز.

قاطع حديثهم قدوم ذكرى التي ارتدت بنطالًا واسعًا أسود اللون، تعلوه سُترة من اللون الأصفر ومُزرقشة بنقوش زيتية صغيرة، وحجابًا بنفس لون تلك النقوش، ومن ثَم قالت: أنا جاهزة.
طالع يعقوب هيئتها برضا، قبل أن يهم من مكانه مُودعًا شقيقه: همشي أنا بقى، وركز أنت في مذاكرتك يمكن نحسك يتفك.
ليرد عليه بدير بغرور وتباهي: متقلقش عليا، كله تحت السيطرة.

وقف يعقوب يُتابع عمله مع العمال في تلبية طلبات الزبائن التي لا تنتهي، وعلى مرمى بصره يرى ذكرى بكل حيويتها تصنع عجين المخبوزات، حماستها الآن تُناقض اليأس الذي تملّك منها منذ عدة أيام، وروحها المشبعة بالحب تغدقها في صنع مُعجنات السينابون، الدوناتس، والكرواسون، رائحة الورد مع رائحة المخبوزات وصوت زقزقة العصافير يجعلها تُحلق عاليًا في السماء لتحيا في عالم بعيد عن البشر، إضافة إلى صوت جهاز التسجيل الذي يعلو بغناءٍ آسر يعكس حالة حُبها النادرة:.

وقابلتك إنت لقيتك بتغير كل حياتي، ما عرفش إزاي حبيتك، ما عرفش إزاي يا حياتي، وقابلتك إنت لقيتك بتغير كل حياتي، ما عرفش إزاي حبيتك، ما عرفش إزاي يا حياتي، من همسة حب لقيتني بحب، لقيتني بحب وأدوب في الحب، من همسة حب لقيتني بحب، لقيتني بحب وأدوب في الحب، وأدوب في الحب وصبح وليل، وليل على بابه.

كانت تُدندها وتتفاعل معها كل حواسها، بالفعل لقد تغيرت، أحبت، وذابت، وهو فقط القادر على فعل العجائب بها دون ادنى مجهود منه!
وعلى الجانب الآخر، كان يُتابعها بعاطفة جياشة، لا يعلم إلى اي مدى سيصل حبه درجة، هل يوجد خطورة أكثر من تلك المرحلة التي وصل إليها؟

قاطع أفكاره صوت رنين الهاتف الذي زُين باسم بدور، فتح الهاتف وما كاد أن يتحدث، حتى وصله صوت شهقاتها العالية بارتياع وهي تصرخ لتستنجد به: إلحقني يا يعقوب! عادل حابسني في البيت هنا بعد ما ضربني علقة موت لما طلبت منه الطلاق وحالف ما هو مخرجني.

كانت تنتظر حديثًا منه ليُطمأنها، لكن ما أتاها عكس هذا كُليًا، وإنما رد عليها بفحيح أرعب كل خلية بخلايا جسدها: لو جيت مالقتكيش جايبة حقك منه بإيدك هسوَّد عيشتك يا بدور.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة