رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الخامس عشر
كل ما أريده هو الإطمئنان، أن تأخذني بعيدًا عن هذا العالم وتحتبسني داخل أحضانك؛ لأسكُن.
الخوف، الهلع، الإشمئزاز، والرعب، جميعها مشاعر مبُعثر تتملكها الآن أثناء وقوفها معه ومُحاصرته لها بتلك الطريقة المُبالغة، كانت أوردتها ترتعش برعب، لكنها تملكت ذاتها ودفعته بعيدًا بكل قوتها، ارتسمت ابتسامة واسعة على ثُغره تزامنًا مع سؤالها الصارخ: أنت إيه اللي جابك هنا؟
مط شفتيه للأمام مُتصنعًا عدم الرضا عن حديثها، ليقول بنبرة أشعرتها بتهديده الخفي: لأ يا زوزو مش دي إجابة السؤال اللي أنا عايزه.
ضمت كفها على هيئة قبضة تضغط عليها لتُقلل من توترها، فيما أكمل هو مُتلذذًا بنظرات الخوف التي تحوم داخل عينيها: عريس الغفلة عارف إن الحلوة كانت مقضياها ولا مستغفلاه؟
ملكش دعوة.
أجابته بذلك وصدرها يعلو ويهبط بنهيجٍ مُتوتر وأعصابٍ تالفة، ومن ثَم أكملت حديثها بقولها المُهين: أنت بني آدم زبالة وملكش أي حق تدَّخل في حياتي بأي شكل من الأشكال، يا إما...
كانت ستُكمل حديثها، لكن باغتها باقترابه المُفاجيء ومحاصرته لها مرة أخرى وهو يقول بشيطانية: احترمي نفسك ولسانك الحلو دا حافظي عليه عشان هتحتاجيه كتير الفترة الجاية...
لم تعلم معنى حديثه المُبهم إلا عندما شرح لها مقصده بقوله الخبيث: وأنتِ بتبرريله لما يعرف حقيقة صاحبة الصون والعفاف.
قال جُملته ثم ابتعد عنها فجأة مثلما اقترب فجأة، لوى شفتيه بابتسامة جانبية قبل أن يرفع كفه ويشير لها بأصابعه وكأنه يُحييها، ومن بعدها تركها وغادر، غادر جاعلًا إياها ترتعش بخوفٍ يكفي لتوزيعه على الجميع!
اتجهت بخُطى وئيدة نحو منزلها وقدماها تكادان تحملانها بصعوبة، تستند بكفها على الحائط لتمنع سقوطها، ووتيرة تنفسها تزداد بفزع، دخلت إلى المرحاض وأغلقت الباب خلفها، ثم اتجهت إلى المرآة المُستندة على الحوض ووقفت أمامها تنظر لشحوب وجهها بأنفاسٍ لاهثة، فتحت صنبور المياه ثم قامت بملء كفيها وبعدها صدمت به وجهها عدة مرات، وهُنا اختلطت دموعها بقطرات المياه رغمًا عنها وما حدث معها سابقًا لا ينفك أن يترك عقلها.
لا تنسى تلك الليلة حينما استيقظت ووجدت ذاتها تنام جواره بعد أن خسرت عفتها، هزت رأسها لطرد تلك المشاهد من رأسها وحاولت جاهدة أن تعود لطبيعتها، لا تريد ل يعقوب أن يعلم أي شيء الآن، لا أحد يعلم بسرها هذا سوى هي وهو فقط.
حاولت التخلي بثباتها قدر الإمكان وعدم تزييف سعادتها في ليلة مثل هذه، لا تُنكر انجذابها الشديد نحو يعقوب، خاصةً برجولته الجذابة وهيبته الطاغية، لكن أتى ابن عمها الحقير ليُنغص عليها فرحتها، عزمت على التحلي بالقوة وإظهار الثبات حتى لا يتخذها كدُمية يُحركها كيفما يشاء، لذلك سحبت نفسًا عميقًا ثم زفرته على مهل، والتقطت مُلمع شفاهها ثم وضعته لتصليح وجهها الذي خربته بالمياه واتجهت لهم نحو الخارج بعينين يظهر داخلهما التحدي.
انفض الجمع وذهب المدعوون إلى منازلهم ولم يبقى سوى أفراد العائلتين، جلست ذِكرى بجانب يعقوب مُجددًا، والذي ما إن جاورها حتى مال عليها هامسًا بقلقٍ على حالتها التي كانت عليها منذ قليل: أنتِ كويسة؟
رسمت ابتسامة صغيرة على ثُغرها وأجابته بامتنان: أنا كويسة متقلقش، أنا بس اتوترت شوية.
يعني اتوترتي من شوية ناس في كتب الكتاب؟ أومال هتعملي إيه يوم الفرح؟
اتسعت حدقتاها بصدمة جلية من إجابته التي لم تتوقعها بتاتًا، لم تتوقع وقاحته في الحديث هكذا، بل لم تتوقع أنه وقح من الأساس!
لاحظ صدمتها، فدار بوجهه للناحية الأخرى ليُخفي ضحكاته تحت أنظارها المصدومة، بالطبع لم تتوقعه هكذا، لكن هو يخفي خلف ستار شهامته الكثير والكثير من العبث القادر على إحراقها من الخجل.
انتبه جميع الجالسين نحو هارون الذي بدأ الحديث بوقار مُوجهًا مقصده نحو رؤوف الواجم: كدا بنتك بقت مرات ابني رسمي يا رؤوف، وفرحهم آخر الأسبوع عليا وأنا متكفل بكل حاجة.
ابتسامة هازئة ارتسمت على فمِ رؤوف الذي تحدث بنبرة ساخرة نحرت فؤاد تلك المُسماة بابنته: فرح؟ فرح دا إيه؟ مفيش أفراح معمولة بعد الفضيحة دي، الحارة كلها عارفة إن ابنك اتجوز البت تصليح غلطة لا أكتر ولا أقل.
كانت معالم الصدمة مُرتسمة ببراعة على أوجه الجميع، وتلك المرة اقترب إلياس من والده بخُطى رتيبة وهو يتسائل بحذر: يعني إيه الكلام دا؟
احتدت عيني رؤوف أثناء مُطالعته لابنه، ثم صاح به بغضب أثناء مُطالعته لاقترابه: أنت بتقرَّب هتضربني ولا إيه؟ وبعدين الكلام اللي قولته واضح، المحروسة أختك هتمشي مع جوزها النهاردة ومش بايتة فيها الليلة دي.
أنت بتطردني يا بابا؟
كان سؤالًا يصعد منها ببحة يظهر بها كتمانها لبكاؤها، طالعته بنظراتٍ راجية أن ينفي سؤالها، لكن إجابته حطمت كل أمالها واستمعت معها لصوت تفتُت فؤادها: آه بطردك، مش كفاية استحملتك بعد فضيحتك وسُمعتك اللي بقت على كل لسان؟ وفوق دا كله رفضتي جوازك من حازم ابن عمك عشان تعانديني.
وقف يعقوب من مكانه مُسرعًا يسند ذكرى بعد أن خانتها قدماها وأوشكت على السقوط، ثم وجَّه أنظاره الحادة نحو رؤوف وصاح به بتبجح: وأنا هاخدها معايا، وجودها معاك خسارة فيك ومش هينوبها من وراه غير وجع القلب.
نظر هارون لابنه نظرة مُحذرة وهو يُصيح به: استنى أنت يا يعقوب.
قال كلماته ثم استدار نحو رؤوف واقترب منه حتى وقف قبالته، عيناه كانت تروي الكثير والكثير من الحديث الذي رفض لسانه النطق به، وبالرغم ما يحمله من ضغينة بدأت تتشكل من ناحيته، حتى تحدث بكلمة واحدة اختصرت الكثير وقال:
هناخدها.
وهُنا ثارت ثائرة إلياس الذي صاح في الجميع بغضبٍ أعمي: هو إيه اللي هتاخدوها، أختي هتروح على بيت جوزها بزفة وفرح زي كل البنات، هي مش قليلة ولا ناقصة عقل علشان تتجوز بالطريقة دي!
وهُنا اقتربت جنة تُجاور شقيقها وتدعمه في حديثه وهي تُوجه حديثها لأبيها بعد أن شعرت بالحقد تجاهه: هو أنت هتفضل لحد إمتى كدا؟ مهتم بالفلوس ومش هامك مراتك ولا عيالك، هتفضل لحد إمتى طماع و...
إخرسي.
أصمتها بصفعة قوية هبطت على وجهها على بغتة، شعرت بعدها بالإهانة أمام الجميع، تشكلت الدموع داخل مقلتاها تزامنًا مع وقوف أخيها أمامها كالسد المنيع ليمنع من وصول أبيها إليها.
كذلك اقترب بادر لإبعاد رؤوف عن أبنائه وهو يُصيح بضيق وبكلماتٍ وصلت معناها جيدًا إلى جميع الواقفين: مينفعش اللي أنت بتعمله دا يا عم رؤوف، محدش هيقول إن أنت راجل محترم وبيمشي أهل بيته على مزاجه لو مديت إيدك على حد من بناتك، فيه طُرق أحسن من كدا للكلام.
وهذا هو بادر، ينتقي كلماته بعناية حتى يُوصل مغزاها للواقف أمامه، وقد نجح في ذلك عندما صمت رؤوف كُليًا، لكن نظراته مازالت حادة وغاضبة.
كان كُلًا من حازم وفادي يُطالعون ما يحدث باستمتاع، وخاصةً فادي الذي يُثبت أنظاره على ذِكرى المُتصنمة مكانها، لكن احتدت عيناه بغضب عندما رأى يعقوب يقترب من أذنها هامسًا لها ببضعة كلمات، ثم أمسك بكفها ورحل بها للخارج بشموخٍ أمام أنظار الجميع.
اهدني عناق، وقُل فليحترق العالم ولتسعدني أنتِ.
طرقاتٌ عنيفة على باب الغرفة أدت إلى إنزعاج رائف النائم بغرفته بجانب نرجس، ظن بأنها ستتململ أو تنزعج مثلما فعل، لكنه وجدها تنام كالقتيلة، إلتوى ثغره بابتسامة صغيرة هامسًا بضحك:
شكل نومك تقيل يا وردتي.
عادت الطرقات مرة أخرى بقوة أشد على باب الغرفة، فهب من مكانه عاري الصدر ويرتدي بنطاله فقط، فتح الباب بملامح مُنزعجة وهو يهتف بضيق: هو مفيش أي احترام للناس المخمودة جوا دي.
رد عليه عتمان بغضب أثناء صراخه في وجهه: أنت عارف أنا بقالي كام ساعة بخبط عليك؟
أجابه رائف بابتسامة صفراء وبنبرة مُراوغة: ساعتين ونص.
صمت جده يُطالعه بأعين مُشتعلة كالجمرات وصدرٍ يتحرك بعنف من شدة الغضب، مرت ثوانٍ تحت نظرات رائف الجامدة له واللامبالية، ليتحدث بعدها عتمان بغضبٍ مكتوم: تدخل تلبس وتيجي معايا دلوقتي حالًا عشان تتنازل عن المحضر بتاع عمك.
استند رائف بكتفه على الباب مُتسائلًا بحذر: تدفع كام؟
إيه؟
نطق بها عتمان بذهول، فيما ازدادت ابتسامة رائف الذي تصنَّع اليأس وأردف بعد أن استدار مُعطيًا إياه ظهره: شكلك مش عايز ابنك يطلع.
سار عدة خطوات نحو الداخل، وقبل أن يخطو أخرى، وجد جده يسحبه من ذراعه نحو الخارج وهو يهتف بغضب: طالما مش عايز تيجي معايا بالزوق، يبقى هتيجي معايا كدا وبالعافية.
أفعال جده لم تُعجبه بتاتًا، بل زادت من غضبه أضعافًا، حتى كاد أن يتحدث له بطريقة وقحة، لكنه صمت عندما استمع إلى صوت شهقة أنثوية تأتي من جانبه، وصوت نور يصعد مُنصدمًا: أنت خارج كدا ليه من الأوضة؟
توقف رائف مع جده وتحدث لها بلذاعة: وحياة أمك يا بت؟ أنتِ هتعمليلي فيها محترمة؟
تنغض وجه نور بسخطٍ من وقاحته، فتأفف عتمان ودفعه مُتحدثًا بضيق: روح يا رائف إلبس هدومك وحصلني على تحت.
ولو منزلتش؟
تسائل بها بتحدٍ، لينظر عتمان إليه بنظرة ثاقبة قبل أن يقول بثقة: هتنزل.
وبعدها استند على عصاه الخشبية واتجه نحو الخارج لينتظره، امتعض وجه رائف بنذق، وازداد حينما لاحظ وجود نور أمامه، لوى شفتيه باشمئزاز وهو يهمس بصوتٍ سمعته: جتك البلا، بومة زي أمك.
تمتم بها ثم دخل لغرفته وأغلق الباب في وجهها، مما جعلها تستشيط غضبًا وتقول بتوعد وغل: أنا هوريك يا رائف.
وبالداخل، اتجه رائف نحو نرجس وتمدد بجانبها مُستندًا برأسه على كفه، عيناه تلتهم كل إنشٍ بوجهها، وجهٌ أبيض جميل مع خدين مُمتلئين، شفاه جميلة تُشبهها تمامًا، ويعلوها شامة تبدو كالنجم وسط عتمة الليل، وطابع الحُسن الذي يُزين وجهها، وأهداب كثيفة تنغلق كالستار وتخفي ورائها عيناها، عينان سوداويتان كعتمة البدر، عينان يشعر بهما قلقتان طوال الوقت ولا تهدأ حيرتهما إلا بوجوده.
ضحك بخفة حينما تذكر أول لقاء بينهما في حارة هارون، حينما حاول مغازلتها على أنها فتاة بريئة لن تُعطيه أي إهتمام، لكنها واجهته كقطة شرسة وجعلته يعود أدراجه حين سبته، ومن هُنا بدأت رحلته معها، رحلة بدأت بشجارٍ معها وانتهت بزواجٍ منها.
مال على وجهها يُقبله برقة وهو يُناديها بخفوت حتى لا يتسبب في إزعاجها: نرجس؟ وردتي اصحي! يا صفرا؟
فزعت مع صراخه الأخير في أذنها فهبت من مكانها مُنتفضة، نظرت إليه بعينين ضيقتين وهي تقول بكسل: فيه إيه يا رائف حد يصحي حد كدا؟
لم يُبالِ بحديثها، وإنما تشدق قائلًا وهو يقترب منها: أنا رايح مع جدي مشوار، هاتي بوسة قبل ما أمشي.
ابتعدت بسرعة تُطالعة بعدم تصديق ثم قالت بشهقة غير مُصدقة: أنت بتقول إيه؟ ما تحترم نفسك يا جدع أنت! أنت اتجننت؟
رفع جانب شفتيه وهو يقول باستنكار: هو إيه اللي أحترم نفسي؟ أنتِ مراتي يا بت ومش ماشي غير ما أبوسك.
عادت للخلف ونظراتها المُرتابة مُثبتة عليه، فيما تشدقت هي بحسم: لو سمحت يا رائف أنا مبحبش كدا، مينفعش.
تخلى عن مكانه وأقترب منها أثناء قوله الخبيث: طب لو خليته ينفع؟
راقبت اقترابه بأعين مزعورة وحلقٍ جاف، هي تعود الخطوات التي يتقدمها وكم تتمنى في تلك اللحظة أن ينقذها أحدهم، وأتتها المساعدة على الفور حينما استمع كلاهما إلى صوت عتمان الصارخ بغضب:
يلا يا رائف.
توقف رائف مكانه وامتعض وجهه باغتياظ، حدجته نرجس بنظرات شامتة أخفتها سريعًا قبل أن يُلاحظها ويُنفذ ما برأسه، لكن نظراتها تحولت للقلق حينما وجدت الضيق مُرتسم بوضوح على وجهه، ارتمى على الفراش جالسًا عليه ونظراته باتت شاردة عكس ما كانت عليه منذ قليل، طالعته بتردد من الاقتراب، لكنها حسمت أمرها وتقدمت جالسة جانبه، ثم سألته بقلق:
مالك يا رائف؟
أجابها دون مراوغة: جدي عايزني أتنازل عن المحضر اللي مقدمه ضد عمي.
طب ما تتنازل!
رفع أنظاره يُطالعها بحدة، فبررت هي بحُسن نية: طالما إن الأرض بتاعتك سليمة ومفيش حاجة اتضررت منها غير جُزء صغير زي ما قولت، هو حُر في الأرض بتاعته اللي بوظها، لكن أنت كدا بتفتري عليه ودا ميرضيش ربنا.
طب اسكتي يا نرجس، اسكتي الله يكرمك.
قالها بضيق وهو يقوم من جانبها ويتجه نحو خزانته لانتقاء ثياب مُناسبة، نظرت لأثره بسخط، ثم هبت من مكانها وتحدثت بنذق: فيه إيه يا رائف؟ مش عاجبك كلامي ولا يكون كنت عايزني أقف معاك في الغلط؟
حاول تملُّك أعصابه وعدم إخراج غضبه بها، لذلك تحدث بصوتٍ مكتوم: قولتلك خلاص اسكتي يا نرجس مش وقته.
طالعته بغضب، فتركته واتجهت بعيدًا عنه لتتلاشى الحديث معه، وضعت حجابها أعلى رأسها ثم اتجهت إلى الشرفة للجلوس بها، وتركته هو ينفخ بغيظ ويتآكل في الداخل.
مرت الدقائق فوجدته يدخل لها بعد أن أنهى ارتداء جميع ثيابه، حولت أنظارها عنه ونظرت حيث البقعة الخضراء من الأراضي الزراعية، كانت واجمة ووجومها ينتج عن حزنها، وقف أمامها ثم مال على رأسها يُقبله بحنوٍ وهو يهمس لها باعتذار:.
متزعليش مني يا وردتي، أنا مش قاصد أتعصب عليكِ بس أنا كنت متضايق بس.
لم تُجيبه، بل ظلت على حالتها نفسها، استمعت إلى زفرته المُختنقة وحديثه الذي تبعها بضيق: يا نرجس عشان خاطري متضغطيش عليا أنتِ كمان، أنا بجد فيا اللي مكفيني.
رفعت أنظارها إليه تُطالعه بخرزتين تُعاتبه، تتذكر ليلة أمس حينما طلبت منه أن يُعرفها عن ذاته، لكنه طلب منها تأجيل هذا الحديث لوقتٍ لاحق، وحين اشتد ضيقه تسائلت بحزن:.
قولتلك إني عايزة أعرفك وأعرف السبب اللي مخليك تكره عيلتك بس أنت رافض، احكيلي يمكن أعذرك وأقف معاك، لكن أنت بتعاملني على إني غريبة عنك.
تنهد بعمقٍ ورسم ابتسامة صغيرة على ثغره، وذلك قبل أن يقترب منها مُجددًا ويُقبل رأسها بحنانٍ بالغ، ثم قال بابتسامة هادئة: أوعدك لما أرجع هحكيلك كل حاجة، اتفقنا؟
طالعته بحذر علها تستشف كذبه، لكنها لم تجد سوى نظراته الآسرة التي تخصه وحدها، وبدون وعي تمتمت خلفه قائلة: اتفقنا.
اتسعت ابتسامته أكثر وابتعد عنها للذهاب إلى جده الذي ناداه آلاف المرات، فتح باب الغرفة وقبل أن يخرج استدار لها مُتسائلًا: اللي هيكلمك هتعملي فيه إيه؟
أجابته بضحك كتلميذة نجيبة تعلمت على يدِ مُعلمها: هشقه.
ألقى لها قُبلة عابثة في الهواء ضحكت على أثرها، فيما أكمل حديثه بما جعل وجهها يتشنج من السخط: سلام يا صفرا.
توترت الأجواء أكثر بعد أخذ يعقوب ل ذكرى إلى منزله، وكذلك تشتت الأبناء كُلٌ ذهب إلى مصيره.
كان إلياس يقف على بُعد مُناسب من أبيه يُطالعه بنظراتٍ تحمل من البغض ما تحرقه حيًا، لكنه فُوجيء عندما شعر بأحدهم يجذبه من تلابيبه بعنف نحو الخارج بعيد عن الجميع، ولم يكن هذا سوى بادر الذي همس بفحيح مجرد ما إن بقيا وحدهما:
دلوقتي تحكيلي كل حاجة تعرفها عن بدور أختي من أول ما جتلك عشان تساعدها لحد اللحظة دي.
كانت حالة إلياس لا تتحمل حديثًا، خاصةً مع شرارات الغضب المُتقدة داخل صدره الآن، لذلك صاح به بعنف وهو يدفع يده بعيدًا: مش ناقصك دلوقتي يا بادر، بعدين أبقى أحكيلك.
الاثنان يسعيان لمصلحة شقيقاتهما، أوقفه بادر عن الذهاب وأمسك به ليمنعه، ثم صرخ به بحدة: هو إيه اللي بعدين؟ بقولك عايز أعرف كل حاجة دلوقتي!
صرخ إلياس بوجهه بحدة مُماثلة: وأنا قولتلك مش فايقلك دلوقتي، حِل عن نفوخي بقى.
قالها ثم ابتعد عنه وفؤاده يصرخ من كثرة الإنهاك، من ناحية شقيقته، ومن الناحية الأخرى بدور الذي وعدها بمساعدتها، ومن الناحية الثالثة عمله الذي لا يعلم هل سيُقبل به أم لا، جميع الأطراف مُتحدة ضده وهو عالق بالمنتصف عاجز عن الحركة.
وفي تلك اللحظة أحس بادر بالغضب، وقرر أن يذهب إلى عادل وتفتيت رأسه اللعينة تلك، التهم الأرض بقدميه حتى خرج من المنطقة بأكملها، انفعالاته تظهر بوضوح على وجهه، والخطر مُرتسم داخل عيناه، توقفت قدماه عندما استمع إلى رنين هاتفه، احتل التعجب عيناه عندما رأى اسم سارة يُزين شاشته، لكنه لم يطول طويلًا حينما أجابها بهدوء:
السلام عليكم؟
أتاه صوتها من الناحية الأخرى تقول بنبرة غلبتها اليأس: وعليكم السلام يا أستاذ بارد، أسفة لو أزعجت حضرتك أو عطلتك.
أجابها نافيًا: لأ بالعكس مفيش حاجة، خير مال صوتك؟
استطاع أن يستمع إلى زفرتها المُختنقة بوضوح من على الناحية الأخرى، فأجابته بعد ثوانٍ من الصمت حينما سيطرت على ذاتها: لو معندكش مانع ممكن أقابل حضرتك بعد نص ساعة؟ أوعدك إني مش هعطلك بس أنا محتاجاك في موضوع ضروري أوي.
وافقها على الفور وتحدث بنبرة هادئة بثت الطمأنينة داخلها: حاضر أكيد هقابلك حضرتك، بس خليها بعد صلاة العصر أفضل، وبعدها ابعتيلي اللوكيشن وهتلاقيني قدامك على طول.
ابتسمت بامتنانٍ وكأنه يراها، ثم أردفت بشكرٍ خالص ودموع سعيدة: تسلم أوي حقيقي، تمام أنا هقفل دلوقتي، عن إذنك.
أغلق معها ووجد ذاته يُفكر بها وسبب غصتها الباكية تلك، استفاق لذاته وللحالة التي كان عليها منذ قليل، يُقسِم إن لم تُهاتفه في الوقت المُناسب لكان قد ذهب وقتل زوج اخته الحقير، وللحقيقة هو مُمتن لاتصالها هذا كثيرًا.
استمع إلى صوت الآذان يصدح في الأرجاء، يُنادي الله عباده لصلاة فروضهم، فيذهب البائع والتاجر وابن السبيل إلى المسجد ليُصلي، ومن ثَم يبدأ العباد لمُناجاة مولاهم، يطلبون من الرزق والصحة والجِنان العُليا، ولا تعود كف عبدٍ يُصلي خائبة، إنما تُصاب دعواهم وتتحقق في الوقتِ المُناسب، حين يختبر الله عبده وصبره.
وتلك المرة قرر بادر أن يتولى دور الإمام عله يعود لصوابه المفقود مرة أخرى!
ورغم اتساع الأماكن من حَولي، إلا أني مازلتُ أشعر بالإختناق.
دلفت ذِكرى مع يعقوب إلى شقة الضيوف الموجودة أعلى شقة عمه مُباشرة، كانت يشوبها بعض الغبار لطول فترة إغلاقها، لكن لا بأس، خطواتها كانت بطيئة ونظراتها تنظر لما حولها بتيهة، وكأنها تُحاول استيعاب ما يحدث الآن وما حدث فجأة.
جلست على الأريكة دون أن تتحدث، ثم دفنت وجهها داخل كفيها وشرعت في البكاء بصمت، استمعت إلى صوت جرس الباب لكنها ظلت على وضعيتها، بينما يعقوب هو الذي ذهب لفتحه وظل يتحدث مع الطارق لمدة دقيقة تقريبًا، وبعدها استمعت إلى صوت إغلاق الباب مُجددًا.
شعرت بخطواته تتقدم منها بتروٍ حتى جلس بجانبها، وبكفه هدهدها واضعًا إياه على ظهرها وهو يُناديها برفق: ست ذِكرى ؟
توترت من قُربه، لذلك توقفت عن البكاء ورفعت عيناها السوداء تُطالع عسليتاه التي تُحدجانها بضيقٍ لحُزنها، رسم ابتسامة صغيرة على ثُغره قبل أن يميل قليلًا ويلتقط الكوب من على الطاولة، ثم مد يده إليها وأردف بلطف: خُدي اشربي العصير دا عشان تهدي.
ظهر الإعتراض على وجهها وهي تُجيبه رافضة: لأ مليش نفس، أنا عايزة أنام بس.
استمعت إلى قوله المُعترض بقوة حينما قال بحسم: مفيش نوم وأنتِ زعلانة.
انكمش وجهها باستغراب، فيما أكمل هو حديثه مُبررًا: افرضي مُوتي أو جالك أزمة قلبية من الزعل! يقولوا عليا فقر وعروسته ماتت يوم كتب الكتاب؟ واللهِ عيب.
لحظة إدراك أن هذا كل ما يخشاه، لذلك اعتدلت في جلستها بعد أن توقفت عن البكاء وتحدثت بتشنج: يعني دا هو اللي هَمك؟ دا بدل ما تهون عليا والذي منه؟
أجابه مُبررًا على الفور بنظراتٍ غير بريئة بالمرة: لأ ما أنا ههون عليكِ بس بعد ما تشربي العصير دا عشان متقعيش مني.
فتحت فاهها للإعتراض، لكنه فاجئها بإمساكه بها من وجهها لتثبيته، ثم وضع طرف الكوب على فاهها لتتجرع كل ما به وسط اعتراضها العنيف، ولسوء حظها كل محاولتها بائت بالفشل.
أنهت الكوب كاملًا فوضعه على الطاولة الزجاجية واستدار يُطالعها بابتسامة مُتسعة وانتصار، التقطت عدة مناديل ورقية بغضب لتُجفف بها وجهها المُتسخ أثر هجومه العنيف، ثم هتفت بحدة: إيه الجنان اللي أنت عملته دا يا يعقوب؟ شايفني عيلة صغيرة قدامك.
لم يُبالِ بصراخها، إنما هب من مكانه والتقط كفها بلطفٍ ثم دخلا إلى إحدى الغرف المُغلقة، شعرت بالريبة حيال ما يفعل وهدأ غضبها تمامًا، لكن حل محله الخوف بدلًا من ذلك حينما خلع أمامها چاكيت بذلته، عادت للخلف خطوتين وهي تسأله بنبرة يشوبها البكاء: أنت هتعمل إيه؟
أجابها ببساطة لتبديد خوفها الظاهر: هقلع الجاكيت الجو حر.
قالها ثم فك أزرار ساعديه وشمر قميصه، ثم اتجه إليها مُجددًا وأمسك بها سائرين نحو الشرفة.
تُطالعه باستغراب شديد، كيف لرجلٍ أن يحمل القوة والحنان معًا؟ تشعر بأنك تقف أمام شخص يحمل من الهيبة والوقار ما يجعلك تحترمه رغمًا عنك، وشخصٌ آخر حنون يجذبك تجاهه بأفعاله.
دخلت معه إلى الشُرفة فوجدتها بحجم غرفة كبيرة تقريبًا، الحوائط من اللون البُني العتيق، مصنوعة من الطراز الفرنسي القديم، والزرع والورود مُرتصة على أسوارها، كما يوجد عدة مقاعد من اللون الكريمي موضوعة في الجانب الأيمن، وعلى الجانب الأيسر يوجد جلسة عربية تُشبه مجالس البدو، وبالمنتصف طاولة خشبية موضوع عليها تسجيل قديم وبجانبه عدة شرائط لمُغنيين قُدماء.
نظرت للمكان بانبهار، فتركها وذهب لغلق الستائر المُحاطة بالشرفة حتى يجلسا على راحتهما، ثم اتجه إلى جهاز التسجيل وقام بتشغيل إحدى الأغاني القديمة، ثم حثها على التقدم والجلوس بجانبه على الأرض حيث ضجع.
تقدمت منه بتروٍ وخلعت نعلها حتى لا يُلوث سجاد الشُرفة، ثم جلست وتربعت جانبه، رائحة البخور التي أشعلها تغلغلت إلى أنفها، عبيرها بث الطمأنينة إلى فؤادها المكلوم، فابتسمت بخفة وبدأت بالحديث قائلة: البلكونة دي فاضيلها كام قفص عصافير وكوبايتين شاي بالبنعناع.
استند بذراعه على أحد الوسائد الموجودة بجانبه، ثم أجابها ضاحكًا: معاكِ حق، هبقى أجيبهملك.
استدارت له بوجهها وتسائلت بتعجب: شقة مين دي؟
رد عليها مُوضحًا: دي شقتنا، لما يجي لينا ضيف أو أي حد من قرايبنا بيقعد هنا، بس تقدري تقولي كدا إن أنا اللي مظبطها، بحب الحاجات القديمة والكلاسيك، بحس بالهدوء والراحة اللي مش بحسهم في أماكن تانية.
نظرت حولها تُطالع المكان بابتسامة هادئة، ثم هزت رأسها مُؤكدة على حديثه: معاك حق، المكان هنا هادي ومُريح أوي.
أومأ لها بابتسامة هادئة ثم صمت، السكوت كان حليفهم لعدة دقائق، كلاهما شارد فيما حدث، لكن يعقوب قرر قطع ذلك الصمت بقوله الهاديء حينما احتضنت عيناه ملامح وجهها:
عارف إن اللي حصل النهاردة صعب ومش من السهل تنسيه، والدك غِلط وغلطه كبير أنا عارف، بس مش عايزك تزعلي أو تشيلي جواكِ، جوازنا جِه فجأة آه بس مش بالغصب، لإني كنت ناوي الخطوة دي بس كنت مأجلها شوية.
حديثه جعل ذكرى تُطالعه باندهاش، فيما أكمل هو ضاحكًا بسبب ردة فعلها:
كنت مُعجب بيكِ أوي من ساعة ما اتعاملت معاكِ، حسيت إن جواكِ كمية حِنية كانت بتجبر عيني إنها تبصلك أكتر، كنت بحس بإحساس غريب في وجودك، مش عارف هو إيه، بس هو حلو.
صمت لثوانٍ ثم أكمل بعينين عكست ما يشعر به: حِلو زيك يا حِلو.
إحمرت وجنتيها خجلًا وشعرت بالحرارة تسري داخل جسدها، هبت من مكانها واقفة بأعصابٍ تالفة من حديثه المعسول، ثم أردفت بتلجلج:
أنا. أنا مبحبش الكلام دا لو سمحت يا يعقوب.
ظل جالسًا مكانه ليترك لها مساحتها الحرة، فيما تسائل بانتباهٍ وهو يرى توترها: ليه؟
لم يتوقع أن تُجيبه بسهولة، لكنه وجدها تُخبره بصوتٍ ممزوج بالخوف والريبة: عشان الحِلو مبيكملش، دايمًا بتوقع الأحسن لكن مفيش حاجة بتحصلي غير الأسوأ، الأسوأ وبس.
تركها على راحتها تتحدث، فوقف من مكانه واتجه إلى أحد المقاعد وجلس عليها، ثم جذبها هي الأخرى لتكون بجانبه وتسائل بصوتٍ هاديء: مش يمكن أنتِ اللي بتتوقعي الأحسن من الشخص الغلط؟
رفعت أنظاره تُطالعه بعينين يظهر بهما الحيرة والتيهة، لكن ما أشعره بالضيق هي تلك الدموع التي زينت عيناها، وبحديثٍ مليءٍ بالخيبة أجابته: كل اللي في حياتي كانوا غلط، بس أنا كنت بحبهم.
مد يده ليمسح بها عبراتها التي هبطت رغمًا عنها، هُناك رسالة مخفية خلف ما ترويه ولا يعلم مقصدها إلا هي، ابتلعت ريقها بصعوبة حينما رد عليها بإجابةٍ رممت شرخ فؤادها: اعتبريني بداية محطة جديدة هتكون بداية الصح، في طريق مفيهوش غير أنا وأنتِ وبس.
اهتز ثباتها عقب حديثه، وازداد توترها حينما جذبها لعناقٍ لطيف وأردف: أمي كانت بتقولي لو لقيت حد زعلان احضنه، وأنا علشان ولد شاطر ومؤدب هسمع كلامها.
ابتعدت كمن لدغتها أفعى وهي تردف بتوتر: يعقوب لأ.
لم يهتم لمحاولتها، وإنما جذبها ناحيته مرة أخرى وهو يقول ضاحكًا: متخافيش، حضني كبير ويساع من الحبايب ألف.
حاولت الخروج من أحضانه وهي يتنطق باستنكار: ألف؟
علت ضحكاته عاليًا، فيما ارتسمت ابتسامة على ثغرها لم يراها لمُحاصرته لها، لكن ابتسامتها اتسعت أكثر حينما أردف بمكر: أنتِ بالألف.
غزا الخجل محياها، والأصح. غزا الدفيء عيناها.
وهُنا صعد صوت أم كلثوم من جهاز التسجيل تُغني بشغف:
يا ما عيون شاغلوني، لكن ولا شغلوني، إلا عيونك أنت دول بس اللي خدوني، وبِحُبك أمروني.
اتجه حمزة إلى عمله بعد أن طلب العميد التحدث معه على انفراد دون معرفة أخيه مصعب، في البداية دُهِشَ لطلبه، وتسائل عن سر مُقابلته تلك، وها هو الآن يجلس أمامه لمعرفة ما يُريد.
وقف العميد من مكانه واستدار للجلوس على المقعد المُقابل له، ثم أردف بهدوءٍ وهو يُشبك كفيه معًا: طبعًا أنت بتسأل سبب طلبي ليك دلوقتي، مش كدا؟
أومأ له حمزة بصمت، فوضع العميد أمامه فلاشة صغيرة على الطاولة التي تفصل بين كليهما، نظر إليها الأخير بتعجب، ومن ثَم حوَّل أنظاره إليها وهو يتسائل بتعجب: إيه دا يا فندم؟
نظر إليه العميد بصمت لعدة ثوانٍ، قبل أن يردف بما أدخل الشك داخل فؤاد حمزة: خُدها واتفرج عليها أنت بنفسك.
اعترض حمزة بحيرة: بس يا فندم...
قاطعه على الفور وهز يقول بصرامة: نفذ الأوامر يا حضرة الظابط، ودلوقتي على مكتبك.
لم يُعجب هذا الحديث حمزة على الإطلاق، لكنه لم يعترض بالطبع، لاحظ الورقة المطوية الموضوعة بجانب الفلاشة، فانتظر تفسيرًا منطقيًا منه، لكن الأخير أمره بحسم: خُدها.
التقطها حمزة هي الأخرى، وبعدها انطلق خارجًا من مكتب العميد وهو يُفكر في غرابة تصرفه، دخل إلى مكتبه وفتح الورقة على مهل، قرأ المُدون بها بعينيه دون أن ينطقه بشفتيه، وبعدها ارتسمت ابتسامة خبيثة على ثُغره قبل أن يُتمتم بعبس: دي باينها هتحلو ولا إيه؟
طلبت منه برجاء أن تُقابله، وهو لم يتردد لثانية واحدة للموافقة، جلست سارة أمام بادر بتوتر تُحاول انتقاء كلماتها المُناسبة، هي على تلك الحالة منذ نصف ساعة تقريبًا، لا تفعل شيء سوى قول أحاديث مُبهمة لا يفهم منها شيء، لذلك قرر التحدث بنبرة لينة:
إهدي بس يا آنسة سارة وقولي حضرتك عايزة إيه بالظبط عشان أقدر أساعدك.
رفعت سارة كفها لمسح قطرات العرق التي تكونت على جبينها، ثم تمتمت بتوتر: بس أوعدني إنك متفهمنيش غلط، أنا والله مش قصدي حاجة و...
قاطعها بهدوءٍ وهو يقول بنبرة هادئة: مش هفهمك غلط أوعدك، بس قولي السبب اللي طلبتي تقابليني عشانه.
سحبت سارة نفسًا عميقًا ثم زفرته على مهل لتُخفف من توترها، وبعدها قررت الحديث قائلة: أنا. أنا كنت محتاجة من حضرتك يعني. كنت محتاجة فلوس وأوعدك والله العظيم إني هرجعهملك في أقرب وقت.
لاحظت تعجبه، فبررت مُسرعة والإرتباك والحرج ظهر جليًا على وجهها: لو حضرتك مش موافق أنا معنديش أي مشكلة ودا حقك، بس. بس صدقني أنا مجيتش ليك غير لما كل الأبواب اتقفلت في وشي وملاقتش غيرك.
رفع كفيه أمام وجهه ليحثها على الهدوء، وبصوتٍ هاديء أمرها بود: طيب طيب إهدي وخُدي نفسك أنتِ بس وهعملك اللي أنتِ عايزاه.
تجمعت الدموع داخل مقلتاها تلقائيًا، لم تتخيل أن تُوضع في هذا الموقف الحرج ومعه هو خصيصًا، وبعدها وجدت نفسها تنفجر في البكاء بعد أن شعرت بإهانتها لذاتها.
طالعها بصدمة وعينين يظهر فيهما الحيرة، فهب من مكانه ووقف بجانبها وهو يتسائل بتيهة: طيب المفروض أعمل إيه أنا دلوقتي؟
نظر حوله حتى لمح النادل يقف على مسافة مُناسبة منه، فطلب منه عصير من الليمون الطازج حتى تهدأ، عاد بأنظاره لها مرة أخرى وتحدث بصوتٍ حنون:
يا بنتي والله أنا معترضتش أو قولت حاجة، أنا حتى ملحقتش أفتح بوقي عشان تعيطي بالطريقة دي! وبعدين مفيهاش حاجة يعني لو طلبتي مني فلوس، كلنا شحاتين إلا من رحم ربي.
يظن أنه يُهدأها بتلك الطريقة! حسنًا بادر، فالصمت في تلك الحالة هو الأفضل، جاء النادل بعدها يضع ما طلبه بادر على الطاولة، فالتقطها على الفور ثم مد يده لها بكوب العصير وهو يقول بود:
طيب كفاية عياط طيب وخُدي اشربي عشان تهدي ونعرف نتكلم.
التقطت من يده المحارم الورقية لتجفيف وجهها، وهمست بصوتٍ مبحوح: مش عطشانة.
تجرع هو كوب الليمون بأكمله بعد أن تمتم بضيق: أنا عطشان، أنتِ وترتيني وأنا لما بتوتر تصرفاتي بتبقى مش تمام.
ابتسمت رغمًا عنها بخفة وظلت صامتة حتى تحدث هو بعد أن جلس مكانه مرة أخرى: طبعًا الفلوس اللي أنتِ محتاجاها أكيد هديهالك، بس لو معندكيش مانع ممكن تقوليلي إيه اللي حصل؟
ابتلعت غصتها المريرة وتحدثت بنبرة ساخرة جمعت بين الكره والألم: هبعد عن البيت أنا وأختي وهنروح بيت لوحدنا.
مِلك ولا إيجار؟
تسائل بها بحذر، لتُجيبه هي بحيرة امتزجت بالضيق: مش عارفة لسه، صعب ألاقي بيت مِلك بسعر كويس دلوقتي، وأنا حاليًا مش معايا جنيه.
من المُفترض أنها مُعلمة ومعها مال كافٍ، إذن أين ذهبت أموالها، فأكملت هي حديثها وكأنها قرأت ما يدور بعقله: بعد ما الفلوس اتسرقت.
الصمت هو الشيء الوحيد المُسيطر على تلك الجلسة، خاصةً بتلك النظرات التي ترميها صفاء إلى زوجها الجالس بوجوم، بينما رضوى لم تستطيع الصمت أكثر من ذلك وهي تقول بنبرة كارهة:
أنا طول عمري كنت أتوقع منك أي حاجة، إلا إنك تعمل كدا في واحدة من بناتك.
رفع رؤوف عيناه الحادة يُطالع بها ابنته، وبعدها صعد صوته حادًا مُحذرًا: هتسكتي ولا أقوم أجيبك من شعرك أنتِ كمان؟
لوت جانب فمها بسخرية ولم تُبالي بنظرات والدتها المُحذرة لها، وإنما أكملت بحقد: ما هو دا اللي أنت فالح فيه، تيجي علينا وتثبت إنك راجل بالضرب والإهانة، إنما تجيب حقنا من اللي ظلمونا؟ بتخاف وبتسكت وبعدها تيجي تتهمنا إن إحنا اللي مش متربيين، وإحنا هنجيب التربية منين؟ ما إحنا تربيتك.
وإلى هُنا لم يتحمل رؤوف صراخها عليه وطريقتها الوقحة معه في الحديث، لذلك انتفض من مكانه وهجم عليها جاذبًا إياها من خصلاتها، واليد الأخرى هبطت فوق وجنتها بعنف أدى إلى إصابتها بالدوار، لم يهتم لصراخها أو لصراخ زوجته وابنته الأخرى، وإنما قرَّب وجهه من رضوى وتحدث بفحيح:
قسمًا بالله لو ما سكتي لهقتلك يا بنت ال وأخلص من قرفك أنتِ كمان.
نطق بها ثم دفعها بعيدًا وطالع جنة التي كانت ترتعد في مكانها بخوف، وهُنا قرر ضرب قُنبلته الأخرى بحديثه، حديثه الذي جعل فؤادها يتفتت لأشلاء وعيناها تُطلق الدموع كالشلالات:
سألت دكتور صاحبي عن حالتك وقالي إنها هتكلف كتير دا إذا اتعالجت أصلًا، والحل الوحيد المناسب لحالتنا وفلوسنا هو عملية هيبتر (هيقطع) فيها رجلك مكان الورم.
مدت رحمة كوب المياه إلى زهراء، ثم جلست بجانبها تتشدق بقلق على حالتها: يا زهراء اخرجي من الحالة اللي أنتِ فيها دي بقى!
كانت زهراء صامتة منذ أن تم عقد قِران يعقوب على ذكرى، لا تبكي أو تتحدث، لا تعلم هل هي سعيدة أم حزينة، لكن ما تشعر به هو ذلك الألم القابع داخل صدرها.
تركتها رحمة واتجهت إلى باب المنزل لفتحه بعدما استمعت إلى رنين جرسه، وما إن فتحته حتى وجدت بدران أمامها بابتسامته الهادئة، والذي ما إن رآها حتى تسائل بشغف: زهراء هنا؟
استطاعت قراءة الحب داخل عيناه بوضوح، هو يعشقها وشقيقتها الغبية لا تهتم لأمره، ومع ذلك أومأت له مُبتسمة قائلة وهي تُفسح له الطريق: آه قاعدة في البلكونة جوا.
دلف إلى المنزل وتسائل خلال سيره: أومال فين عمي؟
بيريح شوية في أوضته.
و مروان؟ من ساعة ما جِه من السفر وأنا مشوفتوش غير مرة واحدة.
ردت عليه بشفاه مُلتوية: مخمود، كل ما أكلمه ألاقيه نايم، وكأنهم كانوا ببعذبوه هناك مش بيشغلوه.
ضحك على قولها حتى وصل إلى الشرفة، فوجد زهراء تجلس على أحد المقاعد تشرد بما أمامها، نظر إلى رحمة ثم طلب منها: ما تطرقينا وروحي اعملي كوبايتين شاي!
ردت عليه باستفزاز: معندناش شاي.
اقترب منها قليلًا وهمس بصوتٍ خافت: روحي وهظبطك مع مروان.
اتسعت عيناها ي تسأله بلهفة: بجد؟
آه بس غوري بقى ومتجيش تاني.
وما إن قالها حتى وجدها اختفت مُهرولة من أمامه، بينما هو اقترب من تلك الصامتة الحزينة وجلس على المقعد المجاور لها، ثم قال بابتسامة واسعة: إزيك يا زغلولة؟
استفاقت لوجوده فسألته باستغراب: أنت جيت إمتى؟
لم يُجب على هذا السؤال، إنما داهمها بسؤالٍ آخر جعل جسدها يتصنم من الصدمة: سِكة ودوغري ومن غير كلام كتير، تتجوزيني يا بنت عمي؟
دخل رائف إلى بهو المنزل وخلفه جده وعمه وابن عمه، وما إن خطت أقدامهم مدخل المنزل حتى صاح به صبري بعنف واهتياج: بتحبسني يا رائف؟ بتحبسني يابن سعيد؟ وديني وما أعبد لهندمك وهخليك تقول حقي برقبتي.
استدار له رائف بابتسامته المُستفزة وقال بضحك: كفارة يا عمي.
قالها ثم استكمل حديثه نحو الداخل تاركًا عمه يشتعل في الخارج ويُطلق سلسلة من السباب اللاذع، لكن الإشتعال لم يكن بالخارج فقط! إنما بالداخل أيضًا، حيث تقبع نرجس فوق ابنة عمه نور تجذبها من خصلاتها بكل غِلٍ حتى كادت أن تقتلعها بين أصابعها!
هرول إليها رائف مسرعًا وجذبها من تحت يد بثينة التي كادت أن تهجم عليها للدفاع عن ابنتها، وفي تلك الأثناء دخل عتمان وصبري ورأفت إلى الداخل ورأوا حالة الفوضوى التي على الجميع، اقترب عتمان منهم ثم تسائل بحدة: إيه اللي بيحصل هنا دا؟
ردت عليه بثينة بغضبٍ عارم وهي تحتضن ابنتها الباكية: الحيوانة اللي جايبها هي اللي عملت فيها كدا، ما نقول إيه؟ الغيرة والحقد يعمل أكتر من كدا.
ردت عليها نرجس بغضب وعينين مُشتعلتين: حقد وغيرة إيه من بنتك المعفنة المصدية؟ دا صدق اللي قال القرد في عين أمه غزال.
وهُنا فقد عتمان كل ذرة صبر داخله، ونظر صارخًا في وجه رائف وهو يقول بصراخ ونفاذ صبر: عاجبك كدا اللي مراتك عملته؟ تضرب بنت عمك لحد ما تبهدلها؟
وعلى غير المُتوقع، مال رائف على خد نرجس يُقبله برقة، قبل أن يقول بنبرة مُعاتبة: حاسس إن أدائك المرادي مش ولا بُد، المرة الجاية نشفي إيدك شوية.
تمتم بها ثم أمسك بكفها واتجه بها نحو الدرج للصعود إلى غرفته، لكنه توقف مُستديرًا لابنة عمه ثم قال: سمعت إن فرحك بعد يومين، مجهزلك مفاجأة هتعجبك أوي أنتِ والحَج أبوكِ، تشاو يا بيبي.
مُلاحقة كوابيسك لك يجعلك تشعر بأنك في متاهة مُغلقة وسط حفنة من الأسود القاتلة، وذلك هو الشعور الذي أحسته حينما استمعت له يتفق على قتل شقيقتها مع أحد الأشخاص في الهاتف، حينها ثارت ثورتها ونعتته بأبشع الألفاظ، ليهجم عليها بالضرب والسباب اللاذع حتى فقدت وعيها تمامًا.
تحركت ياسمين من مكانها بصعوبة وهي تتأوه بألم، كل إنشٍ في جسدها يؤلمها كما لم يؤلمها من قبل، اتجهت نحو باب الغرفة بخطى رتيبة ومدت يدها لفتحه لكنها وجدته مُغلقًا، الحقير يحتجزها منذ يومين ولا يريد إخراجها، فقط يكتفي بجلب الطعام لها والذهاب مُجددًا.
التمعت شرارة الحقد داخل عينيها، لم تعهد ذلك الكُره تجاهه، وهو بيده قضى على كل ذرَّة حب موجودة داخلها، التقطت عيناها سكينًا حادًا موضوعًا على الطاولة، ذهبت إليه سريعًا وأمسكته حينما استمعت إلى صوت فتح الباب من الخارج، وبعدها اتجهت مُهرولة للإختباء خلف باب الغرفة، وما إن فُتِحَ ودخل حسن منه يبحث عنها بأنظاره، لم تتردد للحظة في طعنه عدة طعنات للتخلص منه!