رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثامن عشر
يكفيك هروبًا من ذنبٍ لستَ بفاعله، يكفيكَ بُكاءًا على الذين رحلوا، يكفيكَ تألُمًا على مُنافقٍ قد خان، أتشكو من رحيلِ الأحبةِ، أم من مكانةِ الفاعل؟ أتُحارب أخًا أم تُحارب هواءً؟ أتُجازف وحدك أم مع عذابك؟ فيا نفس تأدبي فالقلب يبكي، ويا روح لا تخنعي فالعمرُ فانٍ.
الألم، كل ما يشعر به في تلك الأثناء هو الألم الحارق في كفِ يده، يكادُ يُقسم بأنه غرز سِن ماديته حتى أخرجها من الناحية الأخرى، جز بدران على أسنانه بقوة نتيجة لتألمه، رفع أنظاره يُطالع الآخر؛ فوجد عيناه كنيران مُتقدة تشتعل قاسمة على الدمار، كان سيُقاومه ويدفعه بعيدًا، لكن الآخر باغته بوضع نصل ماديته على رقبته!
ابتلع بدران ريقه بريبة وهو يُطالعه بحذر، لا يعلم سبب تلك الحالة التي عليها الآن، يُهاجمه بكل قوته وكأنه عدوه اللدود، وإن كان هُناك معنى لِمَ يمر به الآن، فلا يوجد سوى الجنون، حاول بدران استجماع رباطة جأشه وقوته الواهية، ثم تحدث بصوتٍ خفيض يُغلفه الحذر:
ابعد اللي في إيدك دا عني يا مازن وبطَّل جنان.
وكأنه لم يسمعه من الأساس، بل ظل مُوجهًا أنظاره إليه بحرقة وكأنه تسبب في فقدان عزيزٍ على قلبه، ارتعشت يدي مازن عندما استمع لنداء بدران الخافت مرة أخرى، تزعزع ثباته واهتزت أنظاره، نظر حوله على بغتة فانتفض مُبتعدًا وكأنه وعى لِمَ كان سيُقدم على فِعله، تحرك صدره صعودًا وهبوطًا بنهيج كمُصارع خرج من حَلبة المُلاكمة للتو، وحينما هدأ رمى ماديته وعاد لفراشه مرة أخرى بصمت، لكن عبراته كانت لها النصيب الأكبر في احتواء مشاعره.
كان بدران يُطالعه بعينين مُبثقتين يدرس بهما ردات فعله وانفعالاته الغريبة، ومن تشخيصه المبدأي لحالته، توصل بأنه يُعاني من الإنفصام!
لا يعلم إن كان تشخيصًا صحيحًا أم لا، لكن هذا ما توصل إليه نظرًا بأنه ولأول مرة يُبدي أي ردة فعل منذ أن وصل إلى هنا، انتبه إلى جُرح يده الذي اشتد ألمه، جز على أسنانه بوجع واتجه نحو الخزانة الموضوعة على جانب أحد الحوائط وفتحها ببطئٍ، ثم أخرج منها شاش وقطن وبدأ بلف يده بتمهل بعد أن طهرها، انقضت الدقائق وانتهى من تضميد جرحه، وبعدها استدار لذلك المتكور على الفراش يبكي بصمت.
اتجه بدران جهة مازن وسار إليه عدة خطوات حتى توقف بجانب فراشه، لم يستدير له مازن، وإنما ظل على نفس حالته تلك وهو يبكي بصمت، جذب بدران مقعدًا وجلس أمام وجهه، وبعدها تحدث بنبرة هادئة: مازن بُصلي.
لم يُعيره أي انتباه وظل مُتخشبًا كيفما كان، كان الصمت رفيقهما لعدة دقائق حتى قاطعه بدران قائلًا بابتسامة صغيرة: تعرف إن فيك شبه من أخويا بادر أوي!
ظل على حالته تلك، فأكمل بدران الحديث بقوله: كان دايمًا عُدواني وبيكسر في أي حاجة من لما صحابه ماتوا قدام عينيه.
انتبه مازن لِمَ يُقال واستطاع بدران بذكائه أن يلفت انتباهه، لم يعكس فرحته للنتيجة التي وصل إليها، وإنما استطرد حديثه مُتشدقًا: حاولنا معاه بكل الطُرق إنه يتعالج بس النتيجة كانت ضعيفة، ما أصل الصدمة كانت قوية عليه لما يشوف صحابوا بيموتوا وهو مش عارف يعملهم حاجة، لكن مع الوقت عِرف إنه مش هيقدر يرجعهم من تاني و...
كان يتحدث بأعين شاردة، حتى صُدِمَ ب مازن الذي تحدث وأخيرًا، لكن بألمٍ نبع من أعمق نقطة في فؤاده، تحدث بوجدانٍ يُقطر ألمًا وقلب مفطور: وأنا كمان مش هقدر أرجعهم من تاني.
انتبهت كل حواس بدران لحديثه، وأنصت جيدًا لحديثه الذي استطرده بوجعٍ مُضاعف: سابوني في الدنيا لوحدي تايه وشريد زي الغريب.
مد بدران يده ليُمسك بكفه، ثم ضغط عليه وحثه على الإكمال رغم إيقانه بالإجابة: راحوا فين؟
قتلوهم.
قالها بهجومٍ قبل أن تنتفض حواسه من جديد ويندفع الإدرالين بقوة، هاج جسده وهب من مكانه سريعًا، ليبدأ بتحطيم كل ما تطاله يده وهو يصرخ باهتياج مُصاحبًا لدموع عينه:
ولاد ال قتلوهم، قتلوهم، وديني وما أبعد لهقتلهم كلهم، هقتلهم.
اتجه بدران ركوضًا لالتقاط إبرة المُهدئات، وضعها بجيب معطفه الطبي ثم اتجه ناحية مازن الذي ظل يُدافعه بكلِ هجوم، لكن جسده كان هزيلًا بسبب ما مر به، فاستطاع بدران تكبيله بعد صعوبة كبيرة ثم دس محلول الإبرة بذراعه، ولم تمر سوى ثوانٍ وهمد جسد مازن من جديد.
ساعده بدران في التسطح على الفراش مُجددًا، ثم وقف قبالته يُطالعه بغموض، حديثه مُبهم لكنه مُبطن بالكثير من المخاطر، يبدو أن خلف ذلك الشخص الجاثم أمامه لُغزًا كبيرًا، والإحتمالية الكُبرى بأن ذلك اللغز خلف الحالة التي عليها الآن، تنهد بدران بثقل قبل أن يهمس بحيرة: دا أنت شكل حكايتك حكاية.
كل المُحاولات التي تفتعلها لإخفاء عيوبك سيأتي يوم وتظهر، ارتدائك لرداء النُقي سيتسخ يومًا ما نتيجة لأفعالك، تلك البُقعة السوداء التي بداخلك ستنتشر بالتدريج مهما حاولت الإخفاء، بشاعتك ستظهر، وجهك القبيح سيتكوَّن، وحقدك سيُرى يومًا، كُف عن إدّعاء المثالية.
جلس فادي بغرفته الشاسعة وعيناه مُثبتة على بقعةٍ ما في الفراغ، حاول بشتى الطُرق الوصول إلى ذكرى عبر الهاتف لكنها لا تُجيب بتاتًا، يبدو بأنها قد محته من حياتها كما قالت، لكن كيف ذلك وجميع أوقاتهم مازالت مُترسخة برأسه حتى الآن، تلك الغرفة شهدت حُبًا عظيمًا لا يُمكن نسيانه، لا ينسى ذكرياته معها خاصةً في ذلك اليوم الذي اعترف به لها...
عودة للماضي.
كانا جالسان في حديقة ال يلا التي تضم ثلاثة طوابق لأبناء العائلة، وكعادتهما كانت ضحكاتهما ترن صداها في الأرجاء، هي تقص له عن يومها تحت أذانه الصاغية لها بانتباه، وهو كذلك يفعل المثل لكن بطريقة مُمازحة تتسبب في انطلاق الضحكات.
لكن فجأة بترت ذكرى ضحكاتها عندما انتقل بالحديث عن إحدى صديقاته بالعمل، حينها ظهرت غيرتها الواضحة خاصةً عندما سألته بعصبية: أنت لسه بتتعامل مع بنات يا فادي؟
برر لها بسرعة وهو ينفي: لأ والله أنا مليش علاقة بيها، هي دايمًا بتحاول معايا بس أنا بصدها.
قطبت ذكرى جبينها بضيق وتحاشت النظر إلى عينيه، ف فادي معروف عنه بعلاقاته المُتعددة مع النساء وسط أفراد عائلته، وهي التي كانت تخفي حبًا كبيرًا خلف قناع وجهها الجامد، وأثناء شرودها عنه، شعرت به يُمسك بكف يدها وقربه من فمه ثم قبَّله برقة تحت أنظارها المُعاتبة، فصعد صوته مُتأسفًا:.
والله ما ليا أي علاقة بيها، لا هي ولا غيرها، أنا قطعت علاقتي مع كل البنات من وقت ما بقيت قريب منك.
حديثه أصابها بالتوتر وسرت رعشة طفيفة داخل جسدها، فسألته بحذر وهي تتمنى لو تنال إجابتها التي تُريدها: ليه؟
وجدته يقف من مكانه، ثم سحبها لتقف هي الأخرى أمامه، أمسك بها من ذراعيه ثم نطق بأعين لامعة: ذكرى أنا بحبك.
ومنذ ذلك اليوم قد بدأت علاقاتهما بالتوسع واقتربا أكثر وأكثر، حُبهما كان ظاهرًا للجميع، حتى تلك الغرفة، قد شهدت ذلك الحب هي أيضًا!
عودة للوقت الحالي
فاق من شروده على صوت الخادمة التي نادته من الخارج: فادي بيه! خيري باشا مستني حضرتك تحت في المكتب.
أجابها فادي بعد أن تنهد بسخط: ماشي روحي يا سامية وأنا جاي.
قالها ثم التقط الهاتف من على الكومود وهبط لوالده لرؤية ما يُريد، قابل في طريقه ابنة عمه تالين التي ما إن رآها حتى تأفف بضجر وقرر تجاهلها، لكنها لم تجعله ينعم بذلك، وإنما توقفت أمامه وقالت بنبرة بشوبها الإصرار: فادي أنا عايزة أتكلم معاك.
تخطاها قائلًا بلامبالاة: مش فاضي.
كان في نية لتجاهلها، لكن قولها الأخير جعله يتصنم في مكانه بذهول حينما قالت بقوة: أنا حامل.
إنه لشيءٍ مؤلم أن يجتمع ماضيك وحاضرك معًا، أن تتجسد كل مخاوفك أمام ناظريك وأنت عاجز عن الدفاع، تقف كالصنم وليس لديك رفاهية للحديث، مجبورٌ أن تتقبل الواقع الذي وُضعت به رغمًا عنك، عليك فقط أن تتأقلم.
الساعة الآن العاشرة مساءًا، خرجت جنة من منزلها بعد أن استأذنت من أخيها لتشتم بعض من الهواء، وافق بعد أن يأس بإقناعها بأن يذهب معها ليُخفف من حزنها الذي أخفته ببراعة، مُتحججة بحاجتها بالإختلاء بذاتها قليلًا، خرجت من المنطقة بأكملها حتى وصلت إلى مكان يتوسطه نهر بطول الطريق، نظرت للمكان من حولها فوجدته خالٍ إلا من بعض الأشخاص القليلة، يبدو بأن كُلٌ منهم يبحث عن الهدوء كذلك!
جلست على إحدى للمقاعد الخشبية الموضوعة أمام النهر وشردت به، عميق ومُظلم كحالِ قلبها، حالك كما حياتها، ومُتهالك مثل صحتها، لكن يتوسطه دائرة بيضاء مُنيرة انعكست من ضوء القمر اللامع، وذلك الفارق الوحيد، لا يوجد ما يُنير حياتها المُنطفئة.
استفاقت على صوت حمحمة رجولية أتت من جانبها، لتشهق بخضة أثر تلك الفعلة التي أتت على مُباغتة، لكن ثوانٍ ما هدأت عندما أبصرت حدقتاها عمران الذي يُطالعها بابتسامة هادئة، وضعت كفها موضع قلبها وتسائلت باستغراب:
أستاذ عمران؟
رد عليها مُؤكدًا بنفسِ ابتسامته: أيوا أنا، كنت راجع البيت بس لقيتك قاعدة لوحدك هنا، فيه حاجة ولا إيه؟
هزت رأسها بالنفي وهي تُبرر له بخجل: لأ مفيش، أنا بس كنت عايزة أتمشى لوحدي شوية وبعد كدا جيت قعدت هنا.
أومأ لها مُبتسمًا براحة قبل أن يصمت، هو بالأساس رآها أثناء خروجها من المنزل، تعجب من سيرها في هذا الوقت فقرر اتباعها، حتى وجدها تجلس هُنا وحدها، لذلك قرر أن يتصنع بأنه قد رآها صُدفةً حتى لا يدخل الشك إلى قلبها، لم يكن يعي بأنه يُحدق بها إلا بعد أن أخفضت رأسها خجلًا، حمحم بحرج وهو يقول بابتسامة متوترة: بس صدفة حلوة إني ألاقيكِ هنا.
ابتسمت وهي تُوميء له وتحدثت بخفوت: أيوا فعلًا، تعالى اقعد معايا شوية!
نظر إليها مُفكرًا لبضعة ثوان، لو علم أبيه سيقلب المدينة فوق رأسه، كما أن شعوره بالذنب بدأ يتزايد تدريجيًا عندما أقدم على فعلته تلك، هذه ليست التربية التي نشأ عليها أو الدين الذي علمه له أبيه، لذلك ردع ذاته عن الموافقة ورفض بأدب قائلًا: لأ معلش لازم أمشي عشان اتأخرت، عن إذنك.
سددت له ابتسامة هادئة وهو تحاشى النظر إليها ورحل مُسرعًا، وأثناء سيره مُتجهًا نحو منزله، كان يُتمتم مع ذاته بندم: إيه اللي أنت عملته يا عمران دا بس؟ استغفر الله العظيم، سامحني يارب.
الإنسان يُخطيء ويخطيء ولا بأس من ذلك، لكن عليه تأديب نفسه عقب كل ذنب حتى لا يقع به مرة أخرى.
كانت عينيّ جنة تُتابع ابتعاده بأعين مُترقبة، وحينما اختفى من أمامه عادت لتجلس مكانها مُجددًا وتقول بابتسامة هادئة: يخربيتك عسل!
ليلٌ هاديء، وسكونٌ مُريب، عِتمة قاتلة، وخوفٌ سديد، ضجيجٌ بالداخل، وبالخارج سراب، فمتى الخلاص من كهف الذئاب؟
انقضى الليل بطوله، كان طويلًا للحد الذي جعل الباكون يشكون طوله، والخائفون يرجون رحيله، وأخيرًا قرر الليل الرحيل، وحل بدلًا عنه النور، فأصبحت الأجواء مُبتهجة، لكن الفؤاد مازال معتوم، وها هو يوم الجمعة قد أتى بعد انقضاء شهران تقريبًا من قدوم الفتيات.
جلس هارون كعادته على الأريكة التي بالصالون، ينتظر خروج ابنه حمزة ليبدأ بطرح أسئلته عليه، وكأنه تجسد ليُصبِح أمامه، وذلك حينما خرج من غرفته يتثائب بكسلٍ بان، كانت أنظار والده تُحيطه، وظلت تتبعه حتى دلف إلى المرحاض، وقف حمزة أمام مرآة المرحاض فيما تمتم بريبة:
هو أبويا بيبصلي كدا ليه؟
خشى في البداية من نظراته تلك، لكنه استكمل اغتسال وجهه بالمياه الباردة وتوضأ ثم خرج، وما إن قدماه الصالون، حتى استمع إلى صوت أبيه يأمره بصرامة: صلي وتعالالي أنت وإخواتك.
اعترض قائلًا: بس هما لسه مصحيوش.
تصحيهم، عشرة بالدقيقة لو ملقتكوش قدامي هجيبكم أنا بطريقتي.
لم يود حمزة أن يُجادل والده، خاصةً وهو يرى إمارات الغضب مُرتسمة بوضوح على وجهه، لذلك أومأ له دون أن يتحدث، ثم ذهب ليقضي صلاته ويقوم بإيقاظ أخواته.
مرت الدقائق حتى انتهى من فريضته، وبعدها اتجه إلى غرفة عمران وبدران لإيقاظهما، توجه في البداية إلى فراش عمران وهز كتفه برفق مُناديًا عليه:
عمران. عمران؟ أنت يالا!
تململ عمران في نومته بضيق ولم يُجيبه، ثم مال على الجهة الأخرى فأصبح ظهره مُقابلًا له، تأفف حمزة بضيق واتجه ناحية فراش بدران وفعل المثل معه، لتأتيه الإجابة بصوتٍ خافت منه وهو يُتمتم بلاوعي:
إديله الحُقنة يا سهام وهو هيبقى كويس.
تشنج وجه حمزة باشمئزاز وعاد ليناديهما من جديد، لكنه لم يجد سوى الصمت، غادر الغرفة بغضب وتوجه ناحية غرفته التي تجمعه مع شقيقه مصعب وناداه بنزق بعد أن ناداه عدة مرات هو الآخر:.
أنت يا نيلة اصحى أنت كمان بقى!
لكنه لم يتحرك أو يهتز حتى لو لإنشٍ واحد، مما جعل حمزة يسبه هو وجميع وأخواته، ترك الغرفة ومن ثَم اتجه ناحية الغرفة التي تجمع بادر وبدير، والنتيجة كانت ذاتها، لم يتزحزحوا، لكن بدير نطق بابتسامة واسعة أثناء ضمه للوسادة بين أحضانه:
هاتي بوسة بقى!
التوى ثُغر حمزة بابتسامة مُتهكمة وهو يقول: أبوك لو سمعك مش هيخلي في وش أمك حِتة سليمة.
قالها قبل أن يتجه إلى أبيه مُجددًا ويقول بضيق: ولادك مش راضيين يصحوا يا حَج، لو فضلت 100 سنة تصحيهم مش هيصحوا.
طالعه هارون بصمتٍ، قبل أن يقف من مجلسه ويتجه بتروٍ ناحية غُرف أولاده، جلس حمزة مكانه وتمتم بيأس: مش هتعرف تصحيهم يا حج صدقن.
قطع حديثه خروج جميع أخواته من غُرفهم وملامح الفزع والخوف مُرتسمة على وجوههم ببراعة، فرغ حمزة فاهه بذهول عندما أبصر أخواته يهرعون واحدًا تلو الآخر كالفئران حتى خرجوا جميعًا، وبعدها استدار بوجهه ل عمران التي قال ببلاهة:
مش كنت تقول يا جدع إن أبوك هو اللي عايزنا؟
وعقب حديثه هذا، خرج أبيهم وهو يجذب بيده بدير ثم دفعه ناحيتهم وهو يقول بسخط: وأنت اترزع هنا، مش كل ما أدخل عليك الأوضة ألاقيك عايز تبوس المخدة.
نظر جميع الإخوة لبعضهم البعض بريبة وانتظروا حديث والدهم في الأمر الهام الذي دعاهم من أجله، لكنه ظل صامتًا لعدة دقائق دون أن يتحدث بكلمةٍ واحدة، وهُنا تحدث مصعب ساخرًا وهو يلوي فاهه بامتعاض:
هو أنت جايبنا يا حَج عشان نلعب تماثيل اسكندرية ولا إيه النظام؟
نظرة حارقة سددها هارون له جعلته يبتلع بقية حديثه ولم يردف لكلمة أخرى، فقاطعهم دخول يعقوب هو الآخر، والذي ما إن رآهم حتى جاورهم وأردف بتهكم:
متجمعين في محكمة الأسرة دايمًا يا غوالي.
انتقلت أبصار هارون عليهم جميعًا وكأنه يتأكد من عددهم أو ما شابه، حتى قرر الحديث بنبرة أخفت خلفها الكثير: وأخرة اللي انتوا فيه دا إيه يا ولاد هارون؟
حديثه كان مُبهمًا وغير مفهومًا، فتسائل بدران بعدم فهم: مش فاهمين يا حَج.
وانتوا من إمتى بتفهموا من الأساس؟
دلك يعقوب مؤخرة عنقه وهو يهمس بضجر ل بادر الذي يُجاوره: هو أبوك مجمعنا هنا عشان يهزقنا ولا إيه؟
حرك بادر كتفيه دلالة على جهله وقال: المفروض يوم التهزيق يكون التلات، شكله بقى الجمعة وأبوك غيَّره على خوانة.
ضحك يعقوب بخفة وشاركه بادر مُتخفيًا، فيما انتفض الجميع على صوت العصا التي يستند عليها أبيهم تصتطدم بالأرض بقوة، تبعه صوته الغاضب قائلًا:.
أنا الحال المايع دا ميعجبنيش، مبحبش قلة الأدب والمياصة بتاعة شباب اليومين دول، كل واحد سارحلي في دُنيته ومفكرين إني نايم على وداني مش عارف حاجة، مفكرين إني مُغفل وانتوا خلاص كبرتوا عليا وأنا مبقاش ليا كلمة عليكوا.
تعجبوا من حديثه بقوة، فخرج حمزة عن صمته وهو يسأله باستغراب: إيه لزومه الكلام دا يا بابا؟
انتقلت أنظار هارون إليه وسأله بحدة: تقدر تقولي أنت كنت فين إمبارح؟
اهتزت نظرات حمزة قبل أن يُجيبه: ما. ما مصعب قالك يا بابا.
رد عليه هارون بغلظة: مصعب قالي إنك اتخطفت، لكن مفيش حد بيتخطف يوم وبيرجع يا روح أبوك، مش واخدينك المُنتزه يفسحوك ويرجعوك ليا تاني.
حاول حمزة روعه عن تفكيره الصحيح بقوله: يا بابا ما أنا...
قاطعه هارون بصرامة: مين اللي هربك إمبارح؟
رفع حمزة أنظاره المدهوشة لأبيه لا يصدق كيفية علمه بما حدث، وكل ذلك تحت أنظار جميع أخواته المُنتبهة، طال اندهاشه، فأعاد هارون حديثه بابتسامة باردة: مين اللي هربك إمبارح يا حمزة؟
لا مجال للهروب، فيبدو من نبرة هارون الواثقة بأنه يعلم كل شيء، لذلك أجابه بدون مراوغة: رضوى.
ومن بعدها بدأ هارون سرد كل ما حدث بسلاسة وكأنه كان في الأمر نفسه: هربتك بموتوسيكل وطبعًا ركبت معاها صح!
صمت حمزة غير مُبديًا أي ردة فعل، فصعد غضب هارون إلى رأسه الذي صاح به بعصبية: أنت حيوان وقليل الأدب، سواء أنت أو البشوات إخواتك، كل واحد بقى يتصرف على كيفه ونسيتوا تربيتكوا وحياتكوا اللي كنتوا عليها قبل كدا.
لم يستطع حمزة الصمت أكثر من ذلك، بل تحدث بوجوم وغضب رغم انخفاض صوته: يابا إحنا مبقناش صغيرين عشان تعاملنا بالطريقة دي.
ضرب هارون بعصاه على الأرض بعصبية أشد وأجابه صارخًا بغضب: لأ عيال، طالما وصلتوا للمرحلة دي تبقوا عيال، أنت سارحلي ورا واحدة، و مصعب باشا سارحلي ورا التانية، و بدران بيه سارح ورا التالتة، والعاقل الرزين عمران باشا في طريقه لإنه يسرح ورا الرابعة، ما هو أنا لو قصرت في تربيتكم قولولي، فهموني لو كان الغلط مني.
وجم وجه حمزة وصمت، لا يريد أن يرفع صوته على أبيه، لذلك فضَّل السكوت، فتحدث مصعب بدلًا عنه قائلًا بهدوء: والله يا حج إحنا كنا مستنيين الوقت المُناسب عشان نفاتحك في الموضوع، لحد ما موضوع يعقوب يهدى شوية مش أكتر.
جز يعقوب على أسنانه بسخط أثناء مُطالعته لشقيقه بغيظ، ثم همس لذاته بضيق: يعني هو مجابش سيرتي تقوم أنت مفكره؟ دا أنت عيل حيوان.
وموضوع إيه اللي انتوا عايزين تفاتحوني فيه إن شاء الله؟
كان سؤالًا صاعدًا من هارون، فرد عليه مصعب مُسرعًا: عايزين نستقر يا حَج ونتجوز؟
ومن بعدها ساد الصمت على المكان، لا يُسمع سوى صوت أنفاسهم المُتأهبة، كُلٌ مُترقب وعيناهم لا تُفارق أبيهم الذي لم يتحدث، حتى قرر أخيرًا الرِفق بهم وقال بابتسامة صفراء: مفيش جواز لحد ما تتظبطوا؟
احتل الاستنكار وجه الجميع، فتسائل بدران تلك المرة بضيق: يعني إيه الكلام دا يا حَج؟
حوّل هارون أنظاره له وتحدث بسخرية: بعيدًا عن إن البت مش معبراك ومش مدياك وِش من الأساس، بس مفيش جواز لحد ما أحس إن انتوا بقيتوا رجالة محترمة.
تشنج وجه بدران من جُملة أبيه الأولى، وهُنا أدرك جُملة يتعافى المرء بعائلته.
بينما البقية لم يُعجبهم الجزء الثاني من الحديث إطلاقًا، فحمحم بادر قائلًا باحترام: اللي تشوفه يا حَج أكيد هو اللي هيحصل.
لم يكن الأمر فارق بحد كبير على بادر، الذي كان يُحاول الابتعاد بقدر الإمكان عن سارة حتى لا يرتكب ذنبًا يُحاسب عليه، لذلك استرعى حديث أبيه إعجابه وبشدة.
تركهم هارون في موجة غضبهم ثم اتجه ليعود إلى غرفته، فتح بابها وقبل أن يُغلقه استدار لهم وتحدث باصرار: البنات هيمشوا من البيت دا النهاردة، وأجرتلهم بيت تاني جنبنا عشان ياخدوا راحتهم أكتر بعيد عن أشكالكم اللي تسد النِفس.
أنهى حديثه ثم أغلق باب الغرفة بوجوههم جميعًا، تاركًا كل منهم ينظر للآخر بعدم رضا، وبعدها صعد صوت بدير الساخط يقول: طب وعرايسي؟
في مثل تلك الأيام، عليك حماية فؤادك، فالمُهلِك الأول للفؤاد هو ذاتك.
كانت رحمة تجلس بغرفتها تُحاول الوصول إلى مروان عبر الهاتف منذ ليلة أمس، لقد رحل من منزلهم واجم وحزين، حتى أنها لم تستطيع ملاحقته لمعرفة ما به، لذلك حسمت أمرها للصعود إليه.
أخذت هاتفها، وأحكمت ربط حجاب رأسها، ثم اتجهت إلى الأعلى حيث شقته التي يقطن بها، قطبت جبينها بتعجب حينما رأت باب منزله مفتوحًا، تقدمت بريبة حتى وقفت على أعتابه، لكنها شهقت بصدمة بسبب ما رأت.
فالمشهد كان كالتالي، مروان يجلس على الأرض وأمامه تجلس عبير خطيبته حاليًا وصديقتها مُسبقًا، تحتضنه دون أدنى خجل أو حياء!
لكن الشيء الوحيد الذي استمعت إلى هي صوت شهقاته الخافتة والذي ظهر بوضوح، و عبير تهتف بأسى: خلاص بقى يا مروان عشان خاطري، كفاية عياط يا حبيبي.
توقفت عبير عن الحديث عندما لمحت رحمة تقف عند أعتاب الباب بطرف عينها، ارتسمت ابتسامة خبيثة على ثغرها قبل أن تُشدد من احتضانه وتقول بنبرة ماكرة: أنا بحبك ودا كفاية بالنسبالي، مش أنت برضه بتحبني؟
صمت مروان ولم يُجيبها، حتى خرج من أحضانها وأومأ لها بابتسامة هادئة وهو يقول بتحشرج أثر البكاء: أيوا بحبك.
لن تُبالغ إن قالت بأنها استمعت إلى صوت تفتت قلبها وبعثرته إلى أشلاء، هي الآن في أوج ضعفها، صعدت لتُخفف من ألامه فزاد هو من ألامها، كتمت شهقتها الباكية بكفها وعادت خطوتين للخلف قبل أن تركض مُبتعدة عن المكان بأكمله، هرولت من أمامه لكن كيف ستهرول من فؤادها؟ فؤادها اللعين الذي لم يتعلق بأحدٍ سواه.
وبالداخل؛ ابتسمت عبير بخبثٍ قبل أن تقف مع مروان الذي وقف هو كذلك، ذهب إلى المرحاض لغسل وجهه من الدموع التي غزته، لكنه فوجيء بها تأتي خلفه وتقف على أعتابه، تعجب من فعلتها تلك لكنه لم يُعقب، بل انتهى سريعًا من غسل وجهه وخرج.
تبعته بعد أن جفف وجهه بالمنشفة، فارتمى على الأريكة مُغمضًا عينيه بانهاك، لازال حديث عمه يتردد صداه داخل أذنه، فلم يعي بنفسه إلا وهو ينفجر باكيًا رغمًا عنه، حينها دُهش من وجود خطيبته عبير أمامه، بث لها شكواه وسبب حزنه، فبادرت باحتضانه حتى تُخفف من ألمه.
فاق على كفها الذي وضع على ذراعه برقة، وصوتها يصعد قائلًا: خلاص يا مروان علشاني، وبعدين أنت مش قولت إن باباك كتبلك كل حاجة قبل ما يموت؟ أنت زعلان ليه بقى؟
استنكر حديثها واعتدل في جلسته ليُطالعها بانتباه، ثم تشدق بسخط: قصدك إيه يا عبير؟ بقولك أبويا مات وخبى علينا إنه مريض بالسرطان الرئوي تقوليلي أنت زعلان ليه؟
أسرعت تُبرر موقفها بسرعة حتى لا يُكشف أمرها: لأ. لأ طبعًا مش قصدي. بس يعني أنت دلوقتي عندك فلوس تكفيك لخمسين سنة قدام.
نفى برأسه قائلًا بقوة: لأ، الفلوس دي مش ليا لوحدي، الفلوس دي لأختي ولأمي قبل ما تكون ليا.
بس باباك كاتبلك كل حاجة باسمك.
هكذا تفوهت باعتراضٍ على حديثه، ليُجيبها باستغراب: أبويا كاتبلي كل حاجة باسمي عشان أحافظ عليها، لإن أخوالي لو شموا خبر إن كل حاجة في إيد أمي هيستغلوها وهياخدوا كل الفلوس، وأمي علشان بتحبهم مش هتقول لأ ليهم.
ظهر الامتعاض على وجه الأخرى التي أردفت بضيق: بس أنت أولى بالفلوس دي مش مامتك ولا أختك.
ضحك وهو يُطالعها بعدم تصديق، وكأنه في تلك الأثناء يكتشف شخصية أخرى غير التي عرفها في البداية، تُدافع باستماتة حتى تظل الأموال معه هو لا مع والدته وشقيقته، وازداد اندهاشه أكثر حينما بررت قائلة:
أنت اشتغلت واتغربت وسافرت وتعبت، وهما قعدوا وعايشين على الفلوس اللي كنت بتبعتها ليهم كل شهر، يعني الفلوس اللي باباك كاتبها ليك من حقك أنت وبس.
ازداد سخطه وتحدث بوجوم يشوبه الحدة: هو أنتِ إيه اللي حصلك يا عبير؟ مالك مش على بعضك من ساعة ما قولتلك إن أبويا كتب كل حاجة باسمي؟ عمالة تفركي من الصبح وتقنعيني إن أمي وأختي ملهمش حق ليه؟ أنت عايزة توصلي لإيه بالظبط أنا عايز أفهم؟
توترت من الداخل وسبت نفسها على إيقاع ذاتها في ذلك المأزق، اقتربت منه راسمة ابتسامة صغيرة على ثُغرها، قبل أن تتحدث بحبٍ في محاولة لإصلاح ما أفسدته: والله يا حبيبي أنا ما قصدي حاجة، أنا تهمني مصلحتك عشان كدا قولت الكلام دا، متزعلش مني أنا أسفة.
زفر باختناق وفؤاده لا يُصدق حديثها ذلك، اغتصب ابتسامة على فمه وتحدث بإيجاز: محصلش حاجة، يلا اجهزي عشان أوصلك.
حاولت الحديث، فقاطعها قائلًا وهو يلتقط مفاتيحه من على الطاولة: يلا بقولك يا عبير.
سبقها بعدة خطوات، بينما هي نظرت لظهره بسخط ثم اتبعته للخارج.
انتقل جميع الفتيات إلى المنزل الذي استأجره لهم هارون حتى يكونوا بعيدين عن أبنائه الوقحين، وقفت تسنيم أمامه وتحدثت بحرج: لو حضرتك حاسس إننا تُقال على حضرتك يا عمو ممكن نم...
قاطع حديثها نبرته الصارمة والمُغلفة بالحنان: عيب الكلام اللي أنتِ بتقوليه دا على فكرة، أنا بس جيبتكم هنا علشان تبقوا على راحتكم أكتر بعيد عن ولادي، وكمان الشقة هنا أوسع وأربع أوض.
ابتسمت له بامتنان، بينما تقدمت منه روان التي تحدثت بابتسامة واسعة وحماس: الشقة دي تحفة يا عمو، إن شاء الله لما أورث بابا هاجي أشتريها.
علت ضحكات هارون بقوة على حديثها، وتحدث بعدم تصديق: أنتِ بتقُري على أبوكِ؟
نفت مُسرعة وهي تقول بلهفة: لأ بابا ربنا يديله الصحة، أنا مستنية عمي هو اللي يموت.
وتلك المرة شاركته تسنيم في الضحك و روان ابتسمت بحرج على اندفاعها، قرر هارون تركهم بمفردهم، لكن لاحظ تلك الحزينة الشاردة التي جلست على الأريكة، تقدم منها بهدوء فاسترعى وقوفه أمامها انتباهها، لذلك رفعت أنظارها إليه تُطالعه باستغراب، فيما تحدث هو بابتسامة هادئة:
قومي يا بنتي صليلك ركعتين وادعي ربنا يفرج همك.
تفوه بها ثم تركهم وغادر، ولم يلحظ دموعها التي هبطت عقب حديثه، كلماته كانت بسيطة لكنها فعلت بها الكثير، زعزعزت ثباتها الواهي وجمادها المؤقت، وبالفعل قررت أن تُصلي بعد فترة انقطاع كبيرة للغاية.
تقدمت تسنيم من شقيقتها حتى جلست جوارها، ثم عانقتها برقة وهي تبثها الإطمئنان: متخافيش، كل حاجة هتعدي والله وحياتنا هترجع أحسن من الأول.
تفتكري حسن لسه عايش ولا مات؟
سؤالٌ يشغلها ويشغل تفكيرها حتى الآن، تخاف أن يموت بسببها هي، لكن نُزِعَت كل ذرَّة حب بداخلها تجاهه، ليحل محله القنوط والكُره، استفاقت على صوت تسنيم التي طمأنتها بقولها الهاديء: أنا هعرف بنفسي إذا كان مات ولا لأ، وبعدين متخافيش، اللي زي حسن دا بسبع أرواح مبيموتش بسهولة.
خرجت ياسمين من أحضانها وكفكفت دموعها بحزنٍ وهي تقول: مكانش كدا، أنا مش عارفة إيه اللي حصله!
جلدتها تسنيم بسوط الحقيقة المُرة التي تنكرها: لأ حسن طول عمره كدا، متجادليش يا ياسمين، خصوصًا وأنتِ عارفة إن أغلب خناقاتنا زمان كانت بسببه، وطنط أسمهان ماتت بسبب طارق عاشور ولبسني أنا التُهمة.
حدجتها ياسمين بعينين دامعتين وهمست بوجع: أبوه هو السبب في كل حاجة حصلت، هو اللي وسخه وإيده طالته، بقى شبهه بالظبط.
ربتت تسنيم على ظهرها برفقٍ حتى تُهدأها، ثم رفعت أنظارها جهة روان فوجدتها تبكي هي الأخرى، قطبت تسنيم جبينها بذهول ثم سألتها بقلق: مالك يا روان بتعيطي ليه؟
ردت عليها بما أثار استنكارها: مبحبش أشوف حد بيعيط لوحده.
قالتها ثم اقتربت من ياسمين وقالت بتأثر وبصوت مبحوح: قومي كُلي، أنا لما أبقى زعلانة باكل فبزعل أكتر، بس الأكل بيطبق فوق نفسي فبنام.
استطاعت بحديثها إضحاك الفتاتين، لكن لم تمر سوى ثوانٍ واستمعوا إلى صوت الباب يدق، ذهبت روان لفتحه، فوجدت رجل الدلي ري يمد يده إليها بحقيبة المأكولات التي طلبتها، أعطته حقه وأغلقت الباب خلفه، ثم استدارت لهما وتحدثت بحماس تحت أنظارهما المذهولة: وأدي الأكل وصل أهو.
وكأن ليومِ الجمعة مذاق آخر، تشعر به بالراحة والسكينة، أصوات القرآن والابتهالات من حولك تُجبرك على الإطمئنان، رائحة العطور التي تتسلل للأنوف، وخطبة الجمعة التي يستمع إليها جميع مَن في الأرجاء، تَجمُّع الأقارب والأصدقاء في جوٍ مليء بالأُلفة، صوت الضحكات الذي ينتشر فجأةً، صرخات وبكاء الأطفال وشجاراتهم المعهودة، كل ذلك يحدث روتينيًا في هذا اليوم تحديدًا.
فقرة بادر المُميزة، الصلاة في وضعِ الإمام كما اعتاد أن يفعل سابقًا، صوته به بحة رجولية مُميزة، يرغمك على الاستماع إلى تأويله من القرآن والخشوع، رعشة طفيفة أصابت أفئدة المُصلين من حلاوة كلمات القرآن الكريم، خاصةً في تلك السورة التي كانت عبارة عن دعاءٍ:.
{ لَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَه دِينِ وَ لَّذِي هُوَ يُط عِمُنِي وَيَس قِينِ وَإِذَا مَرِض تُ فَهُوَ يَش فِينِ وَ لَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُح يِينِ وَ لَّذِي أَط مَعُ أَن يَغ فِرَ لِي خَطِي َتِي يَو مَ لدِّينِ رَبِّ هَب لِي حُك م ا وَأَل حِق نِي بِ لصَّ لِحِينَ وَ ج عَل لِّي لِسَانَ صِد ق فِي ل أ خِرِينَ وَ ج عَل نِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ لنَّعِيمِ وَ غ فِر لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ لضَّا لِّينَ وَلَا تُخ زِنِي يَو مَ يُب عَثُونَ يَو مَ لَا يَنفَعُ مَال وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَن أَتَى للَّهَ بِقَل ب سَلِيم }.
الله أكبر.
استكمل صلاته وهُم خلفه، منهم من استشعر كلماته، ومنهم من أدمعت عينه تأثرًا، مرت الدقائق حتى انتهوا من الصلاة بأكملها، حينها جلس بادر مكانه ولم يتحرك، فوجد شيخ المسجد يقترب منه حتى جلس بجانبه مُبتسمًا، بادله بادر ابتسامته التي اتسعت تدريجيًا حينما قال بتمجيد:
طول عمري كان نفسي في ابن زيك يكون ليا عمل صالح في الدنيا، لكن ربنا مأردتش، شوفتك قدامي بتحسسني إنك ابني اللي أنا مخلفتهوش.
مد بادر يده ليُربت بها على قدم الآخر وهو يقول بود: اعتبرني ابنك يا شيخ إمام، أنت اللي معلمني أصول الصلاة وأنا مش ناسي فضلك عليا.
تقدم منهم في تلك الأثناء هارون الذي صافح إمام بود وهو يقول ضاحكًا: الشيخ إمام؟ واحشنا يا راجل، فينك بقالك فترة مش ظاهر!
ظل الأحاديث تدور بين ثلاثتهم وهم جالسون أسفل سقف المنزل، بينما خرج يعقوب وأتبعه أخواته والذين وقفوا أمام المنزل يتبادلون أطراف الحديث، تثائب يعقوب بكسل الذي تحدث باستمتاع في نية لإغاظتهم:
أنا هطلع لمراتي بقى يا شباب، إنجوي.
قالها واستدار ليرحل، لكنه وجد مصعب يُمسكه من تلابيبه ويتحدث بغيظ: أنت رايح فين؟ أنت مش ماشي من هنا غير لما تقنع أبوك يوافق إننا نتقدم للبنات.
نفض يعقوب يده بعيدًا وتحدث بابتسامة صفراء: وهو أنا اللي قولتلكم تروحوا تقلوا أدبكم معاهم؟
وعقب حديثه؛ استمع إلى سهقة سوقية من عمران الذي تشدق بسوقية: لأ حوش يالا الإحترام اللي بينقط منك! يا برميل الأدب والجدعنة.
نظر إليه يعقوب بحاجبين مرفوعين وهو يُهدده: كلمة كمان وهقول لأبوك إنك مشيت ورا أحدهم ليلة إمبارح ويا عالم روحتوا فين.
شهق عمران بذهول وتقدم ناحيته حتى وقف قبالته وهو يقول بعدم تصديق: أنت عرفت إزاي؟
عدَّل يعقوب من ياقة ثيابه بمكر، ثم أعاد خصلاته الثائرة للخلف بكل برود وأريحية، وكل ذلك تحت أنظار أخواته المُترقبة ونظرات عمران المُغتاظة، تأوه يعقوب بألم حينما باغته عمران بضربة قوية على صدره وهو يصرخ به: ما تنطق يا عم عرفت إزاي؟
طالعه يعقوب بضجر قبل أن يُجيبه: شوفتك وأنا واقف في البلكونة.
كان حمزة يُراقب الوضع بأكمله بملل، حتى تأفف بضيق وتمتم وهو يستعد للرحيل: أنا ماشي.
أوقفه يعقوب من كتفه، ثم أداره له وتحدث بجدية تلك المرة: طبعًا أنت مش محتاج أقولك إن طريقة كلامك مع أبوك وزعيقك قدامه كان غلط، مش كدا؟
اختار حمزة الصمت وظهر الوجوم واضحًا على وجهه، استكمل يعقوب مُعاتبته بلينٍ: هو في الأول وفي الآخر معاه حق وإحنا اللي بقالنا كام يوم سايقين العوق بس بنعمل نفسنا عُمي ومش شايفين حاجة.
برر حمزة بجبينٍ مُقطب: بس أنا مكنتش أقصد وهو.
قاطعه يعقوب بجدية: حتى لو مكنتش تقصد، بس برضه اللي أنت عملته غلط ومش صح.
زفر حمزة بضيقٍ طبق فوق أنفاسه، يُزعجه ما آلت إليه الأمور وتجاهل أبيه له منذ الصباح، حاول لفت أنظاره على أي شيء يفعله كطفلٍ صغير حتى يتحدث معه، لكن قابل كل هذا باللامبالاة، وانتهى حينما ذهب المسجد ليُصلي، تنهد بيأسٍ ثم رفع أنظار نحو شقيقه وقال بابتسامة هادئة:.
خلاص أنا هصالحه متقلقش أنت.
سعد يعقوب بحديثه، لكنه تصنع اللامبالاة حينما أردف بعبث: لأ أنا مش قلقان، المفروض أنت اللي تقلق، عشان أنت لو معملتش كدا مش هتتجوز أبدًا.
دفعه حمزة بغيظ وهو يُصيخ ساخطًا: غور يالا من هنا، هو أنت هتذل اللي جابونا عشان اتجوزت بقى!
علت ضحكات يعقوب عاليًا، فهتف من بين ضحكاته بحديثٍ أثار غيظهم أكثر: أما الجواز دا طلع حلو بشكل!
صعدت ضحكة ساخرة من بين شفتي بدران الذي تحدث ناقمًا: ما هو أنا لو اسمي يعقوب! كان زمان الحظ بيلعب معايا دلوقتي.
ضربه يعقوب بمزاح وهو يقول: قُر بقى يخربيت نيتك.
تركهم بدير وصعد للأعلى أثناء حديثه المُتحمس: أنا شامم ريحة رز بالكبسة وأنا إحساسي لا يمكن يخيب أبدًا.
نظر جميع أخواته لأثره بسخط، قبل أن يقرروا اتباعه نحو الأعلى.
وفي نفس الوقت.
وضع مروان حقيبة الملابس الخاصة بوالدته على الأرض بعد أن ذهب لجلبهم إلى المنزل، نظرت صابرين حولها بتمعن وكأنها تحفر حوائط المنزل داخل ذهنها، لقد تركته فترة كبيرة للغاية وها هي تعود له مرة أخرى بعد غياب دام طويلًا.
مشاهد مُتكررة، توسلات كثيرة، بكاءٌ مُتواصل، وأخيرًا عزاء! كل ذلك داهم رأسها حينما وقعت عيناها على غرفة نوم زوجها القديمة، وصوتها يتردد بهمسٍ داخل عقلها وكأن ما تتذكره حدث أمس:.
هتقول إن سبب الوفاة قضاء وقدر.
انتفضت من مكانها على صوت مروان الذي ناداها بصوتٍ عالٍ نسبيًا: روحتي فين يا ماما؟
طالعته صابرين بتوتر رامشة بأهدابها عدة مرات حتى تُعيد ثباتها، لتُتمتم بخفوتٍ بعد أن التقطت أنفاسها الهاربة: ها؟ لأ مفيش حاجة.
رسم ابتسامة صغيرة على فمه قبل أن يُحيط بها من كتفها، ويميل عليها مُقبلًا رأسها بحب، قبل أن يقول بود: طيب ادخلي ارتاحي في أوضتك يا حبيبتي.
أومأت له بشرود، واتجهت نحو الغرفة بتعب لتُريح جسدها من طول الطريق المُنهك، بينما مروان استدار نحو شقيقته التي تمددت على الأريكة على الفور وتحدث ضاحكًا: يا عيني على الحلو لما تبهدله الأيام.
رفعت إليه فاطمة ناظريها وهي تتثائب بكسل، ثم تحدثت ضاجرة: والله ما حد مبهدلني غيرك.
دفعها بيده ليجلس مما جعلها تُطالعه بغيظ، بينما هو تحدث باستمتاع: بس قوليلي إيه الحلاوة دي! أسيبك سنة ونص أرجع ألاقيكِ شيكولاتة كدا؟
اتسعت ابتسامتها بخجل وهي تضربه على صدره بقوة لتُخفي حرجها، وبعدها تشدقت بضحك: الله يسترك يارب.
علت ضحكاته عاليًا، فقربها منه ثم عانقها باشتياقٍ خالص وهو يُتمتم بحب: وحشتيني يا قردة، مكنتش أعرف إن غلاوتك غالية عندي أوي كدا.
بادلته العناق وهي تبتسم بأريحية، ثم أجابته بنبرة مُتغنجة: عشان تعرف بس إن الحياة من غير فاطمة زي السُفرة من غير بطة.
تشنج وجهه باشمئزاز تزامنًا مع دفعه لها، قهقهت عاليًا على ردة فعله، بينما هو أردف بسخرية: دا أنتِ كائن معفن.
قالها ثم اتجه إلى المرحاض ليتحمم ويُزيل عنه تعب الطريق، تاركًا إياها تنظر لأثره بضحكة مرحة، انتبهت إلى هاتفها الذي أضاء برسالة نصية، لتلتمع عيناها بحماس ويطرق فؤادها بقوة بين جنبات صدرها قبل أن تعتدل وتُجيب على صاحب الرسالة برسالة نصية مُشابهة له!
مرت نصف ساعة على صلاة الجمعة ولم يعود يعقوب حتى الآن، تأففت ذكرى بضجر من مكوثها وحدها بين جدران المنزل الشاسع، لتنتبه حواسها فجأة لصوت الباب الذي فُتِح ثم أُغلق مرة أخرى.
كانت في تلك الأثناء جالسة في شرفتها، تشكو همها وحزنها إلى أزهارها الجميلة، وبرغم جمالها إلا أن أطرافها ذابلة، لكم هي تُشبهها بحدٍ كبير! دلف يعقوب إليها حاملًا لحقيبة صغيرة انتبهت لها، جاورها مُتحدثًا بابتسامة واسعة:.
جيبتلك هدية حِلوة.
ضحكت بعدم تصديق وهي تسأله: بمناسبة إيه؟
أجابها بهدوء وهو يهم بفتحها: شوفتك إمبارح وأنتِ بتعيطي فقولت لازم أجيبلك حاجة تفرحك.
حكت عنقها بحرج، هي بالفعل قضت ليلتها تبكي بعد مُراسلة فادي ابن عمها لها ليلة أمس، نظرت لِمَ جلبه لها بانتباه، فاتسعت ابتسامتها بذهول وهي ترى محتويات الحقيبة متوسطة الحجم، لقد جلب لها جميع منتجات العناية بالبشرة والجسم التي تحلم بها أي فتاة، أتى بكل شيء تحتاجه بالمعنى الحرفي، رفعت أنظارها له تُطالعه بعدم تصديق، فتحدث ضاحكًا:
اتعورت في مبلغ محترم بس فداكِ.
رمشت بأهدابها عدة مرات وتحدث قائلة بابتسامة واسعة: أنت عرفت الحاجات دي إزاي؟
أجابها بجهلٍ وهو يُوضح لها: والله أنا عارف إن البنات بتحب الحاجات دي أكتر من الأكل والشُرب، عشلن كدا خليت البنت اللي واقفة هناك تختارلي كل حاجة.
أنهى حديثه وأمسك بغسول البشرة يرفعه أمام وجهها، ثم تحدث مُستنكرًا: طيب بالله عليكِ أنا راضي ذمتك، ليه أجيب دا ب600 جنيه؟
ضحكت على ملامح وجهه المُتشنجة، فيما أكمل وهو يرفع أمام وجهه زجاجة صغيرة تحتوي على سائل شفاف: ودي ليه أجيبها ب 500؟ بأمانة ربنا ليه والله؟
وضعت يدها على فاهها لتكتم صوت ضحكاتها التي علت بالرغم عنها، وبعد أن هدأت قليلًا، بررت له من بين ضحكاتها: دا سيروم فيتامين C، فيه أرخص على فكرة بس أنت اللي جايبه غالي.
مصمص على شفتيه باستنكار وهو يُتمتم بضجر: البنت زمان كانت تغسل وشها بالصابون وتبقى بدر منور، لكن والله ما حد جايبكم ورا غير الحاجات اللي انتوا بتجيبوها دي.
سألته ضاحكة: طيب طالما هما غاليين أوي كدا جيبتهم ليه؟
توقف عن إظهار سخطه وأجابه مُبتسمًا: علشانك.
ارتوى ظمأ قلبها وجعلها من كلمة واحدة أن تشعر بخفقاتها التي تزداد تدريجيًا، ابتسمت بامتنانٍ وجازفت هي تلك المرة بأخذ خطوة فارقة، مدت يدها لتُمسك بكف يده تحت دهشته، ثم ضغطت عليه وهي تقول بنبرة آسرته:
شكرًا يا يعقوب، شكرًا على وجودك اللي بيخفف حاجات كتير أوي مش عارفة كانت هتمر إزاي من غيرك.
وجدت عيناه تحتضن خاصتها وابتسامته لا تُفارق شفتيه، لتجده يقول بما جمدها: حِبيني.
إيه؟
سؤالٌ تفوهت به بصدمة، لتتبدل الأدوار ويُصبح هو المُحيط بكفها، ثم أعاد كلمته بإصرارٍ أشد: حِبيني.
رفع كفه يضعه على جانب وجهها وهي مازالت مصدومة، فتحدث ضاحكًا ليُقلل من صدمتها: وغلاوة الحاجات اللي لسه جايبهالك دي هتحبيني وأنا واثق من كدا.
توتر وجهها وحاولت الابتعاد، لكنه ثبتها وأكمل الحديث قائلًا: عارفة ليه؟ عشان أنا أتحب أصلًا.
عقب حديثه قُبلة رقيقة وُضِعت على وجنتها، ثم وقف وقال قبل أن يبتعد عنها: هنزل أشوف أبويا وهطلعلك تاني.
صمت عله يجد أي ردة فعل منها، لكنها ظلت كما هي، مما دفعه إلى الضحك وهو يقول: سلام يا حِلو.
النيران هي ما تشتعل برأسه الآن، وذلك عندما هاتفه أحد الرجال القاطنين بالعمارة يُخبره بنقل ابنه إلى إحدى المشافي الكُبرى عقب تعرضه لمحاولة قتل باتت مقصودة، وقف طارق أمام ضابط الشرطة الذي لاينفك عن تركه وشأنه، بل يُزاحم رأسه بآلاف الأسئلة التي لا يملك إجابتها، وحينما ضجر منه صاح مُستنكرًا:.
يا حضرة الظابط أنا زيي زيك لسه عارف إن ابني بقاله يومين مرمي في مستشفى حكومي، ولما عرفت اللي حصله نقلته هنا على المستشفى الخاصة، وأديه في أوضة العناية معرفش عنه حاجة.
تنهد الضابط بنزق وقال بلهجة آمرة أغضبت الماثل أمامه: طيب بعد إذنك يا باشا لو عِرفت أي حاجة تبلغني، دا لأجل مصلحتك ومصلحة ابنك، عن إذنك.
قال حديثه ثم تركه وغادر، بينما طارق عاد بأنظاره جهة غرفة العناية المُحتجز بها ابنه، والآن فقط علم سبب عدم مجيء حسن للصفقة المُتفق عليها، لقد ظن بأنه أهملها وثارت ثائرته وازداد غضبه عندما أُلقيَ القبض على الشُحنة وبعض الرجال، ولسوء حظه استطاع الهرب بأعجوبة.
استمع إلى رنين هاتفه، فأجاب على الفور حينما لمح اسم المتصل: أيوا يا باشا؟
استمع إلى الطرف الآخر بانتباه، لتتحول معالم وجهه إلى الهلع فأجاب مُسرعًا: يا باشا ما أنت عارف إن اللي حصل مش بإيدينا، فيه خاين وسطنا وأنا هوصله متقلقش.
صمت قليلًا ليستمع إلى تهديده الصريح، وما كاد أن يُبرر، حتى قام الآخر بإغلاق الهاتف بوجهه دون أن يستمع لإجابته، وهنا شعر طارق بمدى الخطر المُحيط به، هو الآن تحت التهديد ولا مجال للهرب.
جلس عمران بجانب أبيه في غرفته الخاصة وقال بإلحاح: ها يا حَج قولت إيه؟
رد عليه هارون بابتسامة صفراء: قولت لا إله إلا الله يا حبيبي، مفيش جواز إلا لما تتلموا.
امتعض وجه عمران ناقمًا وهو يُصيح بضيق: يا بابا البت متقدملها عريس وهتروح مني، عشان خاطري وافق ومتكسرش بخاطري بقى.
صمت هارون مُدعيًا الانشغال في عصاته، ليستكمل عمران حديثه ساخطًا: والله لو ما وافقت لهروح أنحرف وما هتعرف تلمني من المناطق المشبوهة ها.
طالعه هارون بحاجبين مرفوعين وهو يسأله بتحذير: قد كلامك دا؟
اقترب منه عمران يُقبل وجهه وهو يلح فوق أذنه أكثر: لأ مش قده، وافق بقى الله يكرمك، ربنا يرزقك يارب بالذرية الصالحة كمان مرة.
قهقه هارون عاليًا الذي حاول كتم ضحكته بقدر الإمكان، لكن أمام حديثه لم يستطيع، رأى اللهفة مُرتسمة داخل عيني ابنه، فعانقه بحب وهو يقول:
خلاص ماشي موافق، بس لو عرفت إن عملت أي تصرف مش...
قاطعه عمران مُتلهفًا: عيب عليك يا حَج أنا إنسان متربي وعارف الأصول، ها قولي بقى هنروح إمتى؟
أجابه هارون بعد أن فكر قليلًا: بينا نروح دلوقتي نتفق مع أبوها.
صرخ عمران بعدم تصديق، ومن ثَم هجم على أبيه يُغرقه بالقبلات تحت ضحكاته العالية، مَن يرى عمران الآن يظن بأنه حقق أعظم انتصار على الإطلاق!
جلست ريناد شقيقة عادل بجانب بدور التي تجلس بغرفتها، تبكي بصمتٍ منذ أن نشب عِراك بينها وبين عادل الذي انتهى بصفعه لها بقوة، وذلك بعد أن رفضت قربه منها.
احتضنتها ريناد بأسى على حالتها وتحدثت بلين لطمئنتها: خلاص يا بدور علشان خاطري، كفاية عياط يا بنتي حرام عليكِ عينك.
خرجت بدور من أحضانها وتحدثت من بين شهقاتها: وأخوكِ مش حرام اللي هو بيعمله فيا؟
صمتت ريناد بقلة حيلة لعلمها بجبروب شقيقها وقسوته، فيما أكملت بدور تصرخ بحدة: أنا لو قولت لحد من إخواتي مش هيخلوا فيه حِتة سليمة، مش بعيد يقتلوه، لكن أنا مش هوديهم في داهية بسبب كلب زي أخوكِ.
زفرت ريناد وقالت بمقط: هو أنتِ مش كنتِ مشيتي؟ إيه اللي رجعك ليه بس!
ابتسمت بسخرية من بين دموعها ولم تستطيع أن تُصرح عن السبب، لذلك لجأت إلى البكاء بصمت، انحنت ريناد بجسدها قليلًا، ثم التقطت كوب العصير الطازج من على الكومود ومدته إليها وهي تقول بحنو: خُدي يا حبيبتي اشربي العصير دا عشان تهدي.
كان ريقها جافًا للغاية، لذلك التقطت الكوب من بين يديها وارتشفته على مهل حتى انتهت منه، تنهدت ببطئ وشعرت بأنها قد هدأت قليلًا، لكن لم يدوم هدوئها عندما دخل عليهم عادل بملامح وجهه الواجمة، وتحدث مُوجهًا حديثه لشقيقته:
سيبينا لوحدنا وانزلي تحت.
جاءت لتعترض، فقاطعها بنبرة أكثر حدة يردعها: قولتلك انزلي.
وبالفعل انصاعت لرغبته قبل أن تنظر ل بدور بيأس، ثم خرجت من المنزل بأكمله لتركهم وحدهم، اقترب عادل من بدور التي هبت من مكانها رامية إليه نظراتٍ مُتحدية قابلها بالسخرية، وقف قبالتها وما كاد أن يفتح فاهه ليتحدث، حتى باغتته بصفعة مُشابهة للتي أعطاها لها منذ قليل!
احتدمت عيني عادل بغضب مُبالغ، فيما تحدثت بدور بحقدٍ وهي ترميه بنظراتٍ كارهة: أبويا قالي الكلب اللي يعض إيدك؛ ربيه.
لم تُبالي بشرارات الغضب التي يرميها لها وإنما أكملت باشمئزاز وهي تُطالعه: وأنت حتى محصلتش تكون في مكانة الكلب، الراجل اللي يصور مراته وهي معاه دا يستاهل الرجم، يبقى ديوث، حقير وملهوش قيمة، لأ وزعلان أوي إني رفضتك! يا جدع دا أنا مشوفتش في بجاحة أهلك.
وبعد أن أنهت حديثها مُباشرةً؛ شعرت بصفعة قوية تهبط على وجهها، صفعة جعلت مكان أصابعه توشم على خدها الأبيض، وقعت على الفراش أثر الدفعة القوية، وما كاد أن يُكمل ما انتوى فعله، حتى هرولت من بين مخالبه واتجهت إلى السكين الذي وضعته للاحتياط، ثم وجهته إلى وجهه وهي تصرخ به بعنف:
لو قربتلي يا عادل هقتلك، قسمًا بالله هقتلك وما هخاف.
لن يُنكر بأنه خشى جنونها وتهورها في تلك الأثناء، هي ليست بحالتها الطبيعية، بل أن غضبها يُعميها، استمع كلاهما إلى صوت طرقات عنيفة على الباب، نظر إليها بحدة ثم تحدث بصوتٍ متوعد: حسابك تِقل معايا أوي يا بدور، بس وديني وما أعبد لهربيكِ من أول وجديد.
ذهب تجاه باب المنزل ليفتحه، ليُفاجأ بوجود أفراد كثيرة من الشرطة وعلى رأسهم مصعب الذي تحدث بوعيدٍ وهو ينظر تجاه عادل: ادخل يابني فتشلي الشقة دي حِتة حِتة.
طالعه عادل بصدمة والذي سأله باستنكار: شقة إيه اللي هتتفتش؟ أنت عايز مني إيه؟
رد عليه مصعب بتهكم: مش أنا اللي عايز يا روح أمك، دي الحكومة اللي عايزة.
قالها ثم دخل إلى غرفة شقيقته ليجدها تقف حاملة للسكين بين يديها ودموعها تهبط بعنف على صفحات وجهها، صُدم من تلك الحالة التي عليها، ثم هرول تجاهها وتسائل بقلق: مالك يا بدور، إيه اللي عامل فيكِ كدا؟
لم يحتاج إلى ردها، لفت انتباهه أصابع حمراء تُطبع على وجهها، ليثور ويهيج فجأة ثم انطلق إلى الخارج وسدد لكمة قاتلة إلى عادل أصابت أنفه مُباشرةً، تبعها سبابه عليه وهو يمسكه من تلابيبه يهزه بعنف: يابن ال وحياة أمك لهوريك يا زبالة.
صرخت هالة والدة عادل التي صعدت لتوها ورأت ابنها بتلك الحالة، دفعت مصعب عنه ثم صرخت به وهي تُساعد عادل على الوقوف: ابعد عنه حرام عليك، عايزين منه إيه تاني؟
طالعهما مصعب بحقد ومظهر شقيقته لا يذهب عن باله، قاطع حديثهم قدوم أحد العساكر وبيده كيس بيلاستيكي صغير وشفاف به مادة بيضاء غريبة، ثم مد يده به إلى مصعب وقال برسمية: لقينا دا جوا في دولابه يا فندم.
انتشله مصعب منه يُقلبه بين يديه بتدقيق، وذلك تحت أنظار عادل المصدومة كُليًا، فيبدو أنه وقع في شر أعماله، أخرج مصعب ضحكة ساخرة من بين شفتيه قبل أن يهتف بفحيح: كوكايين؟ دا أنت ليلة اللي خلفوك سودة النهاردة.