نوفيلا نيران في خيوط الغرام للكاتبة دينا ابراهيم الفصل الثاني
مشطت شروق خصلات فريدة لتتابع حديثهم العميق بمقدار عمق طفلة لا تزال في الخامسة من العمر:
-يعني أنا صح، هو كان المفروض ميستسلمش، بالعكس ده زي اللي ما صدق نغضب كام يوم!
هزت فريدة رأسها بنعم مؤكدة:
-ده حتى ماجابليش دوبي لما نسيته او فكر يطلعهولي!
زمت شروق شفتيها و هزت رأسها بموافقة قائلة:
-انسان مش طبيعي عمره ما هيثق فيا، لو بيحبني مكنش خبى عليا حاجة!
التفتت نحوها فريدة لتقول بحزن:.
-لا بابي أكيد بيحبك بس هو أناني يا مامي!
هزت شروق رأسها بتفكير قبل ان تتسع عيناها وتقول بقطعية ورفض:
-فيري! متقوليش على بابي كده، بابي مش اناني ده احن أب في الدنيا.
زفرت الصغيرة وضربت جبينها بكفها قائلة:
-يووه، انا رايحة العب يا مامي لحد ماتحددي موقفك!
مطت شروق شفتيها و للحظة شعرت بالشفقة علي نفسها للجوئها إلى طفلة ولكنها طفلته وهي مشتاقة له و تحن لكل ما هو منه، زفرت بغضب و ربتت على معدتها المنتفخة على أمل إيقاظ تلك الشقية التي تمتنع عن الحركة منذ غياب والدها، تنهدت وشعرت بشوق حار نحو ظافر فحكت جبينها بقوة و انتفضت من مكانها مقررة الانضمام للبائسات في الخارج، رأت سلمى تتثاءب وتخرج من الغرفة المقابلة لها فتأففت قائلة:.
-اول مرة اشوف واحده بتتلكك مع جوزها عشان تغضب وتنام، انتي بجد باردة ومستفزة!
هزت سلمي رأسها مرة لتقول بعدم استيعاب و سخرية:
-صباح الخير عليكي انتي كمان!
-مساء الورد يا روحي إحنا العصر، صبرني يارب على العموم تيم صحي من بدري منار اكلته و بيلعب مع الولاد في الاوضة.
تركتها شروق بأنف مرتفع واتجهت للشرفة للانضمام إلى منار المكتئبة، في محاولة لإبعاد تفكيرها عن زوجها الذي توقف عن الاتصال بها، صحيح إنها امتنعت عن الاجابة عليها إلا إنه أخطأ حين توقف عن الاتصال!
رجل أحمق، فكرت بغضب..
ذهبت ووقفت بجوار منار وساد الصمت بين كلاهما حتي انضمت إليهم سلمى متسائلة:
-اعملكم هوت شوكليت معايا؟
ألتفت الفتاتان و رمقاها بحده غاضبة قبل إعادة أنظارهم للأمام، ارتفع حاجبي سلمى لتقول بغضب طفولي وهي تخرج:
-إيه الستات النكد دي!
اتاها الرد الساخر من منار:
-متأسفين معلش، اصلنا متخصمين مع جوازنا وبعد الشر عنك يعني متضايقين و دمنا محروق!
رمت سلمي يدها للخلف في حركة غير مقتنعة بالسبب و قالت:
-لما انتوا مش قد القمص بتتقمصوا ليه!
التفتت منار لشروق حال اختفاء سلمى وهتفت:
-لا بجد مستفزة البنت دي!
-يا بنتي هي اصلا وخداها اجازة، مش متعاركة هي وجوزها دي بتتلكك عشان ترتاح من زن ابنها!
مال ظافر لأخذ هاتفه من المقعد وسأل مروان:
-أنت مش مروح ولا ايه؟
تعلقت عيون مروان بالشرفة حيث تقف الوقحة خاصته يكاد يقسم إنه يرى اشتعال مقلتيها لرؤيته من موقعه هذا، تلك السخيفة تظنه غر صغير سيركض خلفها لإرضائها، لمعت عيناه بخبث وهو يعيد انظاره لظافر ليجيب:
-لا انا رايح مشوار كده!
-اموت واعرف بتروح فين بقالك كام يوم!
ابتسم مروان نصف ابتسامته الجذابة ورد عليه:
-هتعرف قريب، عايز حاجة؟
-لا تسلم، مع السلامة!.
أغلق ظافر باب السيارة ثم جذب نفس عميق ومط جسده عسى أن تنفرد فقرات ظهره فالتقت عيناه بعيون زيتونية مهلكة طردت أنفاسه ببطء وهو يحترق تحت سلطانها.
تعلقت عيون شروق بعيون زوجها وشعرت بجسدها ينتفض بشوق له ولقربه، حاول إبعاد أنظارها عنه ولكن دقات قلبها المتتابعة وانخفاض روحها لأسفل منعها، شعرت بضعف شديد ووهن عندما أبعد أنظاره بملامح مبهمة واتجه نحو المبنى، التفتت تناظر برعب عندما هتفت منار:
-شوفي خد بعضه ومشي ازاي، دي رابع مره كل يوم يروح ظافر و يزيد و يمشي هو فاكر لما يخليني اغضب واسيب البيت هسيبه في حاله، طيب والله ما انا ساكته يا مروان!
ضربت منار قدميها في الأرض باعتراض، فهزت شروق رأسها في تعجب لتجيب:
-إهدي يا مجنونة إحنا في البلكونة وبعدين هو مخلكيش تغضبي أنتي اللي استعبطي وغضبتي!
ألقت شروق نظرة على باب المبني و حزنت حين لم تجد طيف مبتغاها، تنفست علي مهل وقد اصابها شعور قبيح يجبرها علي البكاء، اغمضت جفونها بحزن قبل ان تفتحهما وتقرر بلمعة في عينيها:
-انا هنزل أجيب حاجه من الشفة بسرعة!
حركت منار يدها بعدم اهتمام فتحدثت شروق بجديه:
-منار خدي بالك من العيال لحد ما اطلع!
أمسكت معدتها بعزم ثم رمت طرحة بيضاء تستخدمها للصلاة بإهمال فوق رأسها وهرعت إلى باب الشقة ومنه إلى أسفل حيث زوجها هادئ البال مقررة توبيخه و تعنيفه قدر المستطاع!
خلع ظافر قميصه بحدة وغضب والقاه بعيدًا ثم ألقى بجسده المنهك على أحد المقاعد بالصالة مفكرًا في من سرقت النوم من مضجعه بتجاهلها إياه، هز ساقه في حركة لا إرادية وأخذ يعصر عقله لحل ما يدور بينهم ولكن عليه كسب ود أبناءه أولاً فقد اكتشف إن لإرضاء زوجته سيكون عليه طلب المباركة من هؤلاء الشياطين الثلاث ناكرين الجميل، لا ينكر إن اختيارهم لشروق ازعجه واشعله بالغيرة لإخراج الجميع له من الحسبان حتي هي، أليس هو من يشقى طوال اليوم ويبعثر ماله على الألعاب الحمقاء وتلك الأفلام الكرتونية الملعونة، زفر بغيظ متمتمًا:.
-ماشي يا ولاد الكلب هتروحوا مني فين، ابقوا شوفوا مين هيعبركم بحاجة بعد كده!
استغفر الله كثيرا وباله يتعجب مما حدث بينهم متسائلًا ماذا فعل ليثور عليه الجميع بتلك الطريقة، كل مبتغاه كان مراعاة مشاعرها وقت حملها المذبذب بهرموناتها السخيفة تلك ولكن ما يضايقه فعلاً بعد تلك الأيام هي قدرتها على تركه كل تلك الأيام بينما هو يتقلب كالسمكة علي المقلاة شوقًا لها ولجودها بجواره، خرج من أفكاره علي طرقات الباب فأرتفع حاجبه بتعجب وتوجه لفتحه بملل.
تفاجأ ظافر بزوجته أمامُه بقامتها الهشة القصيرة مقارنةً بجسده الرجولي الصلب، ارتبكت أنفاسه نوعًا ما و نظراته المعاتبة تتأمل ملامحها و يتفحصها كأنه يطمئن عليها ويشبع شوقه لها.
اضطربت شروق وطارت كافة خططها لمشاجرته مع الريح، التقت أبصارهم للحظات، عيون خضراء أشعلتها عيون كالعسل المحترق، تنثر الشوق والاشتهاء وتتناقل بين عشق وعتاب، ووجدت نفسها كالمغيبة، حركتها مشاعره لتتناسى حملها وتتحرك شفتيها بهمس خافت:
-يا غُلبي يا أني يا أمي!
انهتها وقفزت بين ذراعيه تضمه بقوة متعلقة بعنقه كأنه مصدر الحياة، خبأت رأسها بين صدره ورأسه ودست أنفها هناك تحاول استنشاق رائحته.
تغلب ظافر على صدمته و شد ذراعيه حولها بقوة ومحبة فائقة وأخذ يقبل جانب رأسها بشوق ليقول معاتبًا:
-وحشتيني أوي!
لم تجيبه بكلمات لكنها اكتفت بضم شفتيه بشفتيها في شوق مُضْنٍ، وسمحت لأناملها باستعادة مكانتها الخاصة بين خصلاته السوداء القصيرة في حرية تامة بينما قبض هو على خصلاتها من أسفل حجابها الذي انزلق بين أصابعه وتحرك بجسده يدور بها بحذر ثم ترك لجسده مهمة إغلاق الباب عندما ارتمى خلفه يستند عليه لايزال منغمس بالشعور الذي تمنحه له يداها.
ابتعدت شروق لتلثم كل ما تطوله من وجهه و عنقه متجاهلة ضربات جنينها المتحمس لقرب والده بعد فراق أيام، رفعها ظافر محاولاً تجنب انتفاخ معدتها قدر الإمكان ورفض الانصياع لفضوله المثار حول هذا التحول في تصرفاتها فشوقه لها كان أقوي من تساؤلاته، تحرك سريعًا إلى مملكتهم الخاصة وتركها تتلاعب بمشاعره بهجومها الفياض المحب لقلبه حتى أكتفى بمداعباتها وقرر اقتحام مشاعرها بما يرضي قلبيهما.
دار بينهم صراع فريد من نوعه، صراع يُذهب العقل في نشوة مخمور، صراع يذيب القلب غير معترف فيه بغالب أو مغلوب...
جلست منار وسط الأطفال في محاولة لتهدأ دون جدوى، فزفرت ووقفت بحدة لتقول لسلمى:
-انتوا مش عايزين حاجة من تحت، انا هتجن عايزة انزل قبل دماغي ما تطق!
أبعدت سلمى تركيزها عن كتاب تقرأه وقالت:
-عايزين عيش بس اعتقد.
هرعت منار نحو الباب قبل ان تكمل سلمى جملتها وهي تسحب حذائها وحقيبتها المعلقة خلف الباب واردفت في عجل وهي تغلق الباب خلفها دون انتظار رد:
-هنزل اجيب بسرعة، خدي بالك من العيال لشروق تقتلك!
تأففت سلمي لتترك كتابها وتثبت عينيها على المشاكسون الأربع!
دقائق ودلفت منار بابتسامة واسعه إلي المخبز الذي عملت به يومًا وكان سببًا في لقائها بأروع رجل مزعج قابلته في حياتها.
-مساء الخير يا حاج هلال، أخبار صحتك إيه دلوقتي انت والحجه!
ابتسم العجوز بسعادة لرؤيتها، وربت على يدها الممتدة لتحيته ورد عليها:
-مساء الورد يا غالية، الحمدلله على كل حال رضا!
-عايزة عيش والبسكوت أبو ينسون ده لو عندك طازة!
-عيوني ليكي يا بنتي!
-الله أومال فين الواد السئيل اللي بيشتغل هنا!
انغمس العجوز في تغليف احتياجاتها وهو يشكي همه لها:
-راح يتغدى الله يهده او يهديه، واديني مستني الباشا بقالي ساعتين عشان يقعد بدالي و اروح اسحب الحواله اللي ابني بيبعتها لعلاج أمه ربنا يهديه ده كمان، والمكان اللي بسحب منه قرب يقفل خلاص!
عبست وهي تستلم طلبيتها ثم سألت بشفقة:
-هو المكان ده بعيد يعني؟
-مش اوي ربع ساعة مواصلات!
عضت شفتيها بتفكير قبل ان تعرض بصدق:
-خلاص انا هقف هنا بدالك لحد ما ابن التيت ده يجي وانت روح شوف مصلحتك!
ضحك الحاج هلال ليقول:
-يا بت اهمدي انتي مرات راجل قد الدنيا متبقيش زي الدبور اللي بيزن علي خراب عشه!
شاركته الضحكات وهي تقول بأنف مرفوع وإصرار:
-ما أنا راجل قد الدنيا بردو ومش برجع في كلمتي، يلا يا عم الحاج بقى متعطلناش شوف مصلحتك عشان اخلع أنا!
هز الرجل رأسه بنفي قائلاً وهو يدفعها للخارج:.
-لا مالوش لزمة، اتكلي انتي على بيت جوزك!
-يووه طيب يمين بالله ما انا متحركة من هنا...
دفعته بخفه نحو الخارج لتضيف:
-خلص مشوارك بسرعة لو مش عايزني اقف هنا كتير!
ضرب العجوز كف على الأخر قبل ان يقول باستسلام:
-أمرنا لله، ربنا يستر ويجيب العواقب سليمة!
ضحكت منار ولوحت له وهو يبتعد قائلة:
-خد بالك من نفسك وبطل برطمه عليا!
استدار نحوها ليوبخها ولكنه اكتفى بهزة من رأسه قبل ان ينتبه لطريقة مرة أخرى.
ركن مروان سيارته في مكانها المعتاد وبكل احترافيه حاول القاء نظرة على شرفة زوجته وشعر بخيبة أمل لعدم تواجدها فقد اعتاد ملاعبتها بتلك الطريقة يأتي لإيصال أصدقاءه ثم يذهب ويتجول بسيارته مدة من الزمن قبل أن يقرر العودة فيجدها تقف هناك تغلي وترمقه بنظرات غاضبة يكاد يشعر بها تنغرس في جسده، ترجل من السيارة بخيبة أمل وأحكم إغلاقها لكنه توقف مكانه بتساؤل حين وصله صوت مناوشات لا يخطأ صاحبها أبدًا...
وقفت منار تضرب قدمها بغيظ وهي تراه يعود من مكان الله وحده يعلم أين وبرفقة من، أبعدت خصلاتها بحده للخلف وعقدت ذراعها تتوعده في سرها حتي قاطعها شاب مزعج:
-ياست الحسن ركزي معايا بقولك عايز بقسماط!
حركت عينيها إليه باستنكار لتجيب بملل:
-والبيه مشلول ماتمد إيدك تاخد من اللي متعبي ده!
رمقها الشاب من اسفلها إلى اعلاها بحاجب مرفوع ليقول بسخرية:
-فعلاً الحلو مايكملش، قمر بس لسان زفر عايز القطع!
غامت عيونها شرارة وقد تغلب عليها طبعها الحاد لتقول بسخرية:
-طيب يلا يا خفة من هنا عشان ام لسان زفر دي ممكن تلم عليك الناس وتعلمك الصح!
لوى الشاب فمه باستخفاف واتجه إلى الداخل لاختيار ما يحلو له من الأكياس المعبئة بينما أعادت منار عينيها نحو زوجها لتتفاجأ به يقترب منهم بغضب يتناثر من مقلتيه، انحسرت الأنفاس في صدرها برعب والتفتت نحو الشاب لتقول سريعاً:
-شطبنا، شطبنا يلا اتفضل من هنا!
-طيب الحساب!
-مش عايزين اعتبرهم على حساب الفرن، اتكل على الله بقى متودناش في داهية!
ظهر التعجب بشكل واضح علي وجه الشاب ليقول بحنق:
-انتِ هتبقششي عليا ولا ايه!
-اشارت خلفها للوحش الغاضب القادم بقوة نحوهم وقالت بحدة:
-اللي جاي ورا ده يبقى جوزي بص لوشه كويس وقرر هتفضل ولا هتمشي!
انتقلت انظاره نحو مروان الدي يفضل بيه وبينهم خطوات قليلة وتنحنح حين ألتقط تلك النظرة المنذرة بالشر في عينيه ليتنبأ عقله سريعاً بحدوث ما قد لا يعجبه، فقال بخفوت وهو يتخذ قراره بالمغادرة:
-انا ايه اللي جابني اشتري من هنا!