قصة الحاسة السادسة بقلم بسمة ممدوح الفصل الأول
في أحدى ليالي ديسمبر، في حوش كبير من أحواش المنازل القديمة المتهالكة ..يجلس رجل متقدم اً،سن غاضب الوجه، تصل لحيته إلى صدره، وتجلس أمامه فتاة وسيدتان غطا الخوف وجههن وارتجفت عينيهن واحداهن تتحدث مع ذلك الرجل وترتعش يديهن جميعاً في برودة، مستمعون لحديث الرجل:
-مَامت ..معاكوا شهر
قالها ذلك الرجل، ثم تحدثت سيدة منهن والرعشة بدت واضحة على صوتها:
-وقبل كدة كمان
أبتسم هذا الرجل أسود العينين ذو الملامح المتجمدة ابتسامة صفراء، وأجاب بصوت قوي:
-على الله
وبعدما انتهيا من حديثهما، انصرفن تلك السيدات والفتاة بهدوء وهن يحاولن امتلاك ما تبقى من أعصابهن كي يحملن أقدامهن المتثاقلة ويختفين من هذا المكان سريعاً.
في المساء، على مكتب صغير في غرفة خاصة بفتاة في أوائل العشرينات، جلست واسعة العينين منهارة من البكاء حتى أن عينيها الواسعتان العسليتان قد ضاقا وغلبت عليهما الحمرة، وابتلت رموشها الطويلة حتى ثقلت جفونها، أخذت تعلو أنفاسها ثم بدأت في الهدوء بعد مرور ما يقرب إلى ساعة ..فاعتادت هي البكاء كلما ثقلت همومها، وتزايدت على صدرها وطرقت فوق أطراف رأسها، حيث لا تجد ملجأ لها ولقلبها سوى البكاء.
جففت دموعها بعد أن أكتفت من التساقط ونهضت من فوق مكتبها، حيث كانت في البداية جالسة بهدف المذاكرة ولكن كالعادة يتغلب عليها فكرها حتى تنغمر في البكاء.
صعدت علي سريرها في هدوء وما زال عقلها غارق في أفكاره.
-"إلى متى؟ إلى متى سيستمر كل هذا المرار؟ إلى متى تظل حياتي كالمسلسل المعاد، أراه مرة ويعاد، ولكن المرة الأولى هي ليست المرة الأولى !إلى متى دوماً تصبح المرة الثانية هي الأولى"!.
استطاعت بعد طيلة من الوقت أن تقتل أفكارها، وتستسلم للنوم حتى غرقت فيه.
تهرول مسرعة ذات اللباس الأبيض، يتراقص شعرها على ظهرها، تخلع حذائها فتصير أقصر، تلقيه بعيداً وتكمل مسيرتها في هذا الطريق المظلم، تهرول وتهرول، وتصرخ وهي تسمع صوت والدها يدوي ويتكرر:
-كااارمن ..كارمن كارمن.
تبحث في كل مكان وتعلو أنفاسها صَيحوت:
-بابا، يا بابا ..انت فين يا بابا؟
تنهار أعصابها كلما سمعت صوته ولم تراه، كلما صرخت باسمه ولم يجيبها ..ثقل جسدها، وارتخت أعصابها، وفقدت كل حواسها عندما أنتهى تلك المشوار بذلك البئر العميق الذي وقعت فيه.
انتفضت مستيقظة من نومها فزعاً، ونهضت من فراشها مسرعة راكضة خارج الغرفة، متجهة نحو غرفة أمها وهي تصرخ قائلة:
-ماما، ألحقيني ..بابا، كلمي بابا.
انتفضت الأم ونظرت لها بفزع وتحدثت باهتمام ممزوج بقلق:
-في أيه؟ ليه !عاوزه منه أيه؟ هَمينيف!
بكت في صمت، ثم تحدثت ودموعها منهمرة علي وجهها:
-بابا مش هيرجع.
نظرت لها بصدمة غير مستوعبة ما تقوله، ثم تحدثت بنبرة مرتفعة اًقلق على زوجها:
- انت بتقولي أيه؟ أنت اتجننت !
ابتسمت بألم، ثم أجابتها بهدوء:
- هتشوف، انا بس كان نفسي أشوفه وأحضنه.
تركتها وذهبت في صمت، همت واقفة محاولة أن تلحق بها، ولكنها دلفت إلى غرفتها مسرعة وأغلقت الباب بأحكام من الداخل، وجلست فوق فراشها واحتضنت جسدها الضعيف وأنفجر قلبها في بكاء صامت حتى أنهك روحها، وأمها خارج الغرفة تتحدث وتحاول أن تفتح الباب، ولكن لا حياة لمن تنادي.
سرعان ما قطع تلك الضوضاء التي تحدث منها أثر طرقاتها على الباب، وندائها صوت رنين هاتفها المحمول، ذهبت نحوه وأمسكت به متأملة ذلك الرقم الذي لم تراه من قبل، ثم أجابت بهدوء، و سرعان ما تسارعت دقات قلبها عندما سمعت صوت المتصل:
-السلام عليكم ..منزل السيد/ أحمد مرتضى؟
استجمعت قوتها وأجابت برجفة:
-أيوة، وانا زوجته، مين معايا؟
-انا أسف جداً ..بس زوج حضرتك عمل حادثة على الطريق الصحراوي وهو دلوقتي في المستشفى وحالته خطر.
صاحت بصدمة، ثم بدأت أطرافها في الارتعاش، وبعد محاولة من المتصل في تهدئتها أخذت عنوان هذه المشفى وأغلقت الهاتف.
وقفت في صمت، ثم بعد ثواني لاحظت وجود أبنتها على باب غرفتها تنظر لها نظرة تائهة متجمدة مستنتجة ماذا حدث، وقبل أن تتحدث سقطت "كارمن "مغشياً عليها.
صرخت الأم وهرولت نحوها في قلق، وبعد مرور وقت عادت كارمن إلى وعيها، وبعدما حاولت أمها أرسال لها صورة الحدث بهدوء، استجمعا قواتهما
ونفسهما وذهبتا معاً مسرعتين نحو هذا العنوان الذي توجد فيه تلك المشفى.
عند وصولهما جاءهما الخبر الذي كانت تتوقعه "كارمن"، ولكنها لم تكن تتوقع رد فعلها الهادئ في تلك اللحظة، ولكن لماذا لا يكن هكذا؟ إذا اعتادت هي ما يحدث.
هبطت علي مقعد من مقاعد الاستراحة في صمت تعجبت منه أمها حتى ظنت أن أبنتها قد أصيبت بصدمة تؤثر على أعصابها وعقلها، رغم أنها في وعيها الكامل بالفعل ولم تصيب بشيء،ً ولكن عقلها بعيد يتحدث بضوضاء عالية رسمت من الخارج على شكل هدوء وثبات:
"حدث بالفعل، كنت أتوقع وأثق ولكني تمنيت أن خُذلت توقعاتي، تمنيت الخسارة لمرة واحدة، دائماً المكسب لي بمثابة خسارة كبيرة تهدمنُي، أتمنى
الخسارة ولو لمرة أشعر بها بأنني مثلكم، مثل البشر، ولست من عالم أخر لا أعرف ما هو !أتذكر جيداً أولى مراتي في تلك الحالة التي لم أعي لها مسمى، أتذكر وجودي بين الأطفال أجري وأمرح وأنا ..وأنا؟..
- احدف الكرة ..ساكتة ليه؟
ركلت الكرة بصمت وجلست على أرض الطريق، لم تكن قادرة على تحمل رؤية مشاهد أخرى غير الواقعية التي تعيشها، فهناك شيء يسيطر عليها، وعلى فكرها.
تلك الفتاة الصغيرة التي لم تبلغ من العمر أكثر من الخمس سنوات ..تعيش في تلك اللحظة مشاهد مروعة، أصوات مزعجة، ضوضاء، جدتها في فراش الموت، يحيط بها أبنائها ويلهوا الصغار،
ولكن هي معهم، تراهم، لم تدري كيف؟ ولكنها معهم، ولم تزال هذه الصورة عن عينيها إلا بسماع صرخة والدتها وعندها..
وانا أرى جدتي في سكرات موتها، أرى ألمها، أراها وانا خارج المنزل تماماً، وأرى كل ما يحدث بالداخل حتى أيقنت أنه حقيقة، وبالفعل ..حدث !بينما لم أكن أبداً أتمنى أن يحدث ذلك مع والدي، لم أكن أحب أن أراه وأعرف أنني سأفقده ..ولكن لا مفر."