قصص و روايات - قصص مخيفة :

قصة الحاسة السادسة بقلم بسمة ممدوح الفصل الثاني

قصة الحاسة السادسة بقلم بسمة ممدوح ( نوفيلا )

قصة الحاسة السادسة بقلم بسمة ممدوح الفصل الثاني

تمت جميع رسوم وطقوس استخراج أوراق وتصاريح الدفن بل والدفن نفسه، وهي برفقة مرُبيتها وعمها، وكل من جاءوا من أقارب ومعارف لحضور جنازة والدها الحبيب التي أصبحت وحيدة من بعده، حيث أنها كانت لا تملك سواه في هذه الحياه المليئة بالأحزان والوحدة، والأن اكتملت وحدتها بفقدانه هو أيضا.

تسير في جنازة والدها مرتدية ملابسها السوداء التي صعد لونها على وجهها حتى أن ملامحها دفُنت وراء الحزن ..تسير صامتة ببطء شديد وترنح، وتتدفق الدموع على وجهها في صمت مودعة أخر أحبائها وهي تتذكر من رحلوا مسبقا
تتذكر أغلى من لديها وقت فقدانها ..تتذكر "والدتها."

و هي في تلك الليلة الحزينة التي اعتبرتها أولى ليالي حزنها وأول ليلة من الليالي المريرة ..حيث كانت في الصف السادس الابتدائي أثناء الحصة الأخيرة من يومها الدراسي، ولكنها لم تستمع أو تعي لأي شيء قيل في تلك الحصة، حيث كان عقلها مسافراً في تلك الأجواء الغريبة التي لم تفهمها ولكن حبت أن تعرف نهايتها، واستغرقت فيها.

في نفس التوقيت تقريباً في منزل هادئ، نظيف، مرُتب، تقف امرأة في المطبخ تطهى طعام الغذاء وهى تستمع إلى الموسيقي المحببة لقلبها وتردد كلمات أغنية من أغاني "نجاة الصغيرة "بمرح، وتتمايل معها برفق وهى تجهز مكونات طبختها الشهية التي تعرف جيداً أنها المقربة لقلب أو لمعدة زوجها وأبنتها الحبيبة، وتزداد بها الحماسة كلما تذكرت عودة أبنتها من المدرسة جائعة، فتسرع أكثر حتى انتهت من التحضير ولكن حتى الأن لم تضع الطعام على نار الموقد، حيث توقفها جرس هاتفها فذهبت إلى غرفتها وأمسكت به وأجابت على المتصل الذي كان "زوجها "ببعض من كلمات الحب والشوق، وأخبرته أنها في انتظاره، وأنهت معه المكالمة بابتسامة سعيدة، ثم خرجت إلى المطبخ لتواصل إعداد وجبة الغذاء، وذهبت للموقد لتشعله، ولكنها لم تدري أنها نسيت الأعين مفتوحة دون اشتعال، حيث تدفق الغاز وتسرب في جميع أركان المكان، ومع أول إشعال للنار أنفجر المكان بأكمله، وبما فيه هي.

عادت كارمن من شرودها بفزع مع جرس انتهاء الحصة الأخيرة، حيث يجري الأولاد والبنات للذهاب إلى بيوتهم فرحاً، ومن بينهم تأخذ كارمن حقيبتها برجفة وتنطلق مسرعة متجهة نحو منزلها في فزع، وبالفعل فور وصولها تجد كل ما رأته حدث مع تجمهر جميع سكان العمارة والعمارات المجاورة، وأصحاب المحلات، وبعض المارة، والاسعاف تقف أمام البناية التي تسكنها وقفة عزرائيل على باب من سينتهى عمرة الأن..

تصلبت مكانها لثواني، ثم صرخت بقوة عندما أدركت ما يحدث حولها ..هرولت من بين التجمع الهائل من النساء والرجال لتصعد إلى شقتها القابعة في الطابق الرابع، وقبل وصولها رأت رجال الاسعافيحملون والدتها فوق الفراش المتنقل "الترول"، وهى مستلقاه كالجثة الهامدة ..لا تدرى هل ما زالت على قيد الحياة أم لا؟ ولكنها ترى نصف وجهها فقط مغطى من الأسفل ويظهر منه الجزء العلوي مشوه بطريقة أبشع ما تكون، ارتعد بدنها  وسرت به قشعريرة  هائلة، وانهارت جميع حواسها ووقعت على درجات الدرج في صدمة، ترتعش أطرافها، وتردد ندائها على والدتها بصيحة طفولية مستغيثة ليحملها أحمد "والدها "في هذه اللحظة وهو في أصعب لحظاته وعدم تماسكه، ولكن من الأولى بالاحتواء؟ لا مفر من التماسك في سبيل احتواء أبنته الوحيدة واطمئنانها.

مر اليوم الأول عليهما من أصعب أيام حياتهما وخاصة لجهلهما لما يحدث، فمن الأطباء من
يطمئنهما ويعلن أنها ما زالت على قيد الحياة، ومنهم من تبدو في عينيه نظرات الشفقة واليأس، والبعض من الممرضات يدعون بالخير، ونظراتهم لا توحي بالخير أبداً.
ومن بين كل هذا القلق والتوتر وعدم الفهم كان الأب يدرك أنها النهاية وأن أمر الله نافذ، ولكنه يحاول طمأنة صغيرته، ويواصل الدعاء متمنياً أن يتغير أمر الله.
ظلا في الانتظار حتى ثقلت جفون كارمن وذهبت في النوم رغماً عنها.

كان نومها متذبذب وغير مستقر، ومع شعورها بحركات الذاهبين والعاملين في المشفى اًوأيض سماع صوت والدها يتلو بعض الآيات والسور القرآنية، ومع استغراقها في النوم من وقت لأخر، شاهدت "والدتها "تقف أمامها ترتدي  فستان
ناصع البياض وتلتف بطرحة لها نفس نصاع ذلك اللون الأبيض، متحدثة بحنانها المعتاد ناظرة لحدقتي أبنتها اللتان تحبهما في حزن:
-هتوحشيني يا كارمن ..بحبك يا حبيبة ماما.

تنظر لها كارمن في براءة، وقلبها يخفق اً،خوف وتنظر للأسفل في تعجب، ومن ثم تنظر لها وتتكلم بهدوء وبراءة متسائلة:
-ليه رابطة الفستان من تحت على رجلك كده يا ماما؟
جُيبت الأم وهى ترجع للخلف ببطء ملاحظ، ولكنها لا تسير بل جُرَت أو تتحرك الأرض من تحتها كالسلم الكهربائي:
-عشان لازم يتربط يا حبيبتي.
-ليه يا ماما؟ هتقعي كده.
تتحدث بصوت يتلاشى بفعل المسافة بينهما، حيث أنها ابتعدت عن كارمن مسافه كبيرة:
-مش هقع ما تخفيش ..انا مش همشي على رجلي تاني عشان أقع ..مع السلامة يا كارمن.

وقبل أن تتحدث كارمن اختفت والدتها مع استيقاظها على صوت والدها وهو يتحدث مع الطبيب الخارج من غرفة العمليات، حيث كانت المحاولة الأخيرة لإنقاذ والدتها:
-دكتور ..طمني الله يخليك؟
ينظر الطبيب للأرض متخاذل، ثم ينظر لوالدها اًمتأسف ويجيب:
-كان نفسي أعمل حاجة بس للأسف، عمرها ..النار أكلت تقريباً كل أجزاءها ورغم كده سبحان الله كانت عايشه ..ولكن الباقي في حياتها كان ساعات، ما كانش في حاجة تتلحق، ولو كنا لحقنا
حاجة ما نُاشك هنلحق التانية ..للأسف حياتها كانت خارج أيدينا.

صخب أحمد في وجهه مستنكراً،  محاولا تصديق واستيعاب ما يثرثر به هذا الطبيب الذي يرى أن خبر الوفاه شيء من أسهل ما يكون كخبر الوضع،ًمثلا يتساءل بصوت مرتفع عن حقيقة ما يقوله فهو لا يصدق ولا يحب أن يصدق، ولكن يجيب الطبيب بكلمتين حفُظوا بهم جميع أطباء العمليات والطوارئ والحالات الحرجة، وهو يترك والد كارمن في حيرته وكارمن في انهيارها وصراخها، ويذهب ليتابع باقي حالاته في سلام، أو كي ينام كما المعتاد لدى أطباء الوردية المسائية.
-البقاء لله.

عادت كارمن إلى واقعها على صوت زوجة أبيها ومربيتها التي تعتبرها في مكانة والدتها، حيث تربت على يدها منذ حوالي ثمان سنوات، وهى التي تولت أمرها وحملت همها ..تحدثها بحب وبقلب أم حنونة، فكانت كارمن تبكي بصوت ملتاع، وألم، وتغطي الدموع وجهها دون أن تشعر:
-أهدي يا حبيبتي ووحدي الله ..أقري له الفاتحة وأدعي له.
تنظر لها كارمن بصمت وشرود، وتتسارع بداخلها الأفكار والتساؤلات.
-"هل ستظل معي أم انتهت مهمتها عند ذلك الحد؟ هل انني أبنتها بالفعل أم نُتك مجرد أبنة لزوجها ستنساها مع مجرد دخوله القبر وانصراف الناس وانتهاء العزاء؟ أم أنها تحبني كأبنتها بالفعل.

خاصة أنها لم تنجب بعد؟ يا ألهى من أفكار ستقتلني وتقضي علي حياتي التي انتهت بالفعل منذ سنوات مضت وقد  دفُنت  تحت الأنقاض اليوم مع والدى الراحل، بينما بقى جسد على قيد الحياة ستنهيه هذه الأفكار إذا لم يكن لها إجابة بالفعل، وحتماً ستنهيه الوحدة اًأيض ..على الرغم من عدم وجود أي صلة تربط بيننا الأن إلا أنني أحتاج إليها كثيراً ..أتمنى ألا تتركني وألا تتخلى عني."
صمتت أفكارها عندما استوقفتها كلمة حياء "زوجة أبيها:"
-يا بنتي!..

نظرت لها أكثر بخفقان وضربات قلبها المتسارعة، لتكمل حياء بحنان:
-العياط بيعذب الميت يا ضنايا.
هزت قلبها هذه الكلمات كمن كان اًظمئ في صحراء وثم رأى زجاجة من المياه المثلجة أمامه، فكانت تحتاج بشدة هذه الكلمات التي تروي ظمأ قلبها، والتي تشعرها بأنها ما زالت تراها أبنتها.

أرتمت في أحضناها على الفور ويزداد بكاءها أكثر وأكثر دون توقف، ويعلو ويهبط صدرها بتسارع، ويزداد شهيق قلبها بألم مسموع، وتضمها حياء إلى صدرها وتربت على كتفيها بحنان بينما جميع الحضور يشفقون على حالها ويحزنون عليها أكثر من حزنهم على والدها المفقود.

أنتهى هذا اليوم الثقيل المؤلم بعد أن جلست كارمن على قبر والدها حتى حل الليل عليها وعلى زوجة أبيها الجالسة بجوارها، وحتى أكتفت كارمن بكاء لتضمها حياء إلى صدرها ويذهبا متوجهان إلى البيت، لتبدأ مراسم العزاء، وكارمن في غرفتها منعزلة رافضة مقابلة أي شخص، تتقوقع في ذاتها وتبكى وتتوالى عليها ذكرياتها المريرة، فهي تتذكر ليلة أمس عندما كانت في طريقها إلى المنزل بعد انتهاء يومها في الجامعة حيث طرق على خاطرها شيء بشع لم تكن تتصوره، وهو "بتر "ساقي والدة صديقتها، وبالفعل في المساء تلقت مكالمة من صديقتها صادمة تخبرها بما حدث لوالدتها باكية، حيث أنها كانت مريضة بهذا المرض اللعين "الداء السكري "الذي تسبب في بتر أطرافها، حاولت كارمن تهدئة صديقتها، وبعد انتهاء المكالمة توجهت لمكتبها لتبدأ في المذاكرة، بينما لم يفارقها ما رأته في خيالها في الصباح وما تلقته من صديقتها منذ قليل، فهي لا تصدق ما يحدث.
انغمرت في بكاء عميق لا يجدي نفعاً، ولكن ما من حل أخر يهدأ من صراعها الداخلي.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة