رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل الثامن والعشرون
كان كل شيء يسير على ما يرام حتى قررت نانسي أن تقطع الصمت بسؤال صادم لم تنتظر أن تكون هي ووالدتها بمفردهم كي تطرحه وقررت طرحه أمام الجميع أثناء تناولهم الطعام...
ماما هو بابا سابنا ومشي ليه؟ توقف الجميع عن الأكل وهم يلتفتون نحوها قبل أن تسعل والدتها بقوة وقد أزدردت ما في فمها بطريقة خاطئة من صدمتها من سؤال نانسي والتي لم تتأثر بتاتًا بل تركت الكل حتى يفرغ من نوبة الصدمة تلك لكي تحصل على إجابة منطقية ومُرضية على تساؤلها.
أيوا يا ماما أنا سمعاكي.
أنا وبابا يا نانسي مكناش متفاهمين زينا زي أي اتنين متجوزين وأنفصلنا وهو سافر.
ببساطة كده؟ مكنتوش متفاهمين ولا كنتِ مطلعة عينه يا ماما؟ مكنتوش متفاهمين ولا كان بيخونك، مكنتوش متفاهمين ولا أنتِ مكنتيش راضية عن حياتك وبتقارني نفسك بطنط زينة؟ ردي عليا يا ماما في مليون أحتمال لإجابتك دي قوليلي اللي حصل أيه فيهم؟
نانسي احترمي نفسك! أنتِ مينفعتش تتكلمي معايا كده أنا أمك ولازم تحترميني!
وأبويا اللي كنتِ بتكرهيني فيه وتقوليلي إنه رمانا زمان وأتخلى عني وأنه راجل واطي ومش عايزني مش واجب عليا أحترمه برضوا؟
أنا مش فاهمة أيه اللي جاب سيرة الزفت اللي اسمه أشرف ده!
اللي جاب سيرته إنه، كادت نانسي أن تُفصح عن كل شيء في لحظة غضب دون أن تفكر في عواقب ذلك الأمر فأبسط مثال أن والدتها قد تمنعها بتاتًا من رؤية والدها ولو سار الأمر على هذا النحو فهي لن تعرف الحقيقة التي خبأتها والدتها لسنواتٍ قط، منذ أن كانت نانسي طفلة كانت تُلقن قصة فراق والديها من جانب واحد فقط ولأنها كانت طفلة ترى أن أمها هي مصدر الأمان والثقة فهي لم تُشكك قط في صحة حديثها حتى ظهر والدها الذي أقسمت والدتها لسنواتٍ بأنه لن يعود وقد عاد!
نانسي خلاص خلاص مش وقته كفاية كده! حاول صالح تدارك الموقف وهي يصيح طالبًا منها أن تتوقف، رمقته بأعين غاضبه قبل أن تصفع الملعقة المعدنية خاصتها وتغادر طاولة الطعام.
جلست غادة في مقعدها مرة آخرى وقد كانت في حالة مزيج بين الحزن والصدمة، لم تتوقع قط أن يدور حوار كهذا بينها وبين نانسي بل لم يخطر على بالها أن نانسي قد تتحدث إليها بتلك الطريقة الحادة قط، كفكفت دموعها التي لم تُدرك متى أنهمرت ليقترب منها صالح ويُربت على كتفها بحنان بينما يقول الآتي:.
حقك عليا يا عمتو معلش امسحيها فيا أنا، سيبي الموضوع ده عليا ومتشغليش بالك أنا هعرف أتكلم مع نانسي وأفهم سبب اللي حصل وكمان هخليها تيجي تعتذرلك وتبوس رأسك كمان.
غادر صالح المكان متوجهًا نحو الحديقة الخلفية بحثًا عن نانسي ليجدها تجلس على النجيل الأخضر وتعبث في أوراقه بينما تنهمر دموعها في صمت، تنهد صالح قبل أن يجلس أمامها ويمنحها منديلًا ورقيًا بينما يحاول البحث عن المدخل المناسب لبدء مثل ذلك الحديث.
أنا مش هغلطك أوي علشان أنا مندفع زيك أو يمكن أكتر شوية كمان ولو كنت مكانك كنت هعمل حوار وخناقات بس اللي أنا عايز أقوله إنك لازم تدي فرصة لعمتو تشرح موقفها، حتى لو هي مثلًا كانت غلطت في حاجة زمان أو مكنش المفروض تخبي عليكِ حاجات، كفاية أوي إنها فضلت السنين دي كلها مش شايفة حياتها بس علشان تربيكِ وتهتم بيكِ، مكنتش حرماكِ من أي حاجة.
أنا مقدرة كل ده يا صالح بس أنا من حقي أعرف حقيقة أبويا وسبب بعده عني وهي مش من حقها إنها تخبي عني حاجة زي كده!
أكيد هي عندها سبب، أنا على فكرة مش ضد إنك تقابلي باباكِ وتتكلمي معاه وتعرفي منه كل حاجة بس ده مش معناه إنك تيجي على الست اللي كبرت وربتك وخلت بني آدمة. كان صالح يتحدث بهدوء في بداية حديثه لكن سرعان ما أصبحت نبرته أكثر حدة بعض الشيء، تنهدت نانسي قبل أن تقول: هصالحها بس مش دلوقتي، بكرة.
وأنتِ ضامنة بكرة؟ أقصد يعني ضامنة تصحي تلاقيها؟ ربنا يديها الصحة وطول العمر أنا مش قصدي حاجة بس أنا أمي راحت مني في لحظة يا نانسي من غير ما أكون عامل حسابي.
أردف صالح بهدوء في البداية قبل أن يضعف صوته ويُصبح مبحوحًا في نهاية حديثه وكأنه على وشك البكاء وبالفعل دمعت عيناه دون إرادة منه، لقد كان الحديث عن والدته الراحلة يُمزق قلبه لأشلاء لكنه لم يمانع فعل ذلك فقط في سبيل إصلاح سوء الفهم بين نانسي ووالدتها.
أنا أسفة، ربنا يرحمها ويغفر لها، أنا هقوم أصالح ماما أنتَ عندك حق.
بالفعل غادرت نانسي مقعدها وهرولت نحو الداخل لتعتذر من والدتها والتي قبلت أعتذارها وهي تذرف الدموع، لقد ظنت نانسي في البداية أنها دموع حزن بسبب قسوة حديث نانسي وإتهامها لوالدتها لكن لسبب ما شعرت أن ذلك البكاء ربما يكون من وراءه شعور كبير بالذنب، على أي حال لم يبقى أمامها سوى التحدث إلى والدها لسماع القصة كاملة من الطرف الآخر، من طرفٍ لم يكن له وجود في السابق.
في مساء اليوم التالي جلست فريدة في منزل جدها برفقة ريتال وهي تحاول إيجاد أنسب الحلول الممكنة لتنظيم المواعيد خاصة دروس ريتال وبعد محاولات عديدة استطاعت التوصل لأفضل المواعيد، زفرت براحة قبل أن تبتسم بإنتصار بينما تقول الآتي: كده يا ريتال أحنا ضبطنا جدول لمواعيد الدروس هي مزنوقة شوية بس هيبقى عندك يومين اجازة ومن ضمنهم يوم الأربع علشان جلسة الدكتورة اللي جوز خالتو قال عليها.
لا ثواني كده بس، جوز خالتو مين؟ هي ماما اتجوزت من ورايا ولا أيه؟ سألت ريتال ببلاهة لتتسع ابتسامة فريدة قبل أن تُجيب بثقة مُردفة:
لا ده بإعتبار ما سيكون يعني.
طب سيبك من العبث ده، أنا عايزة أقولك على حاجة أنا بجد متوترة أوي من موضوع الدكتورة والجلسات النفسية ده.
ليه بس مش أنتِ كنتِ بتروحي قبل كده؟
أيوا روحت قبل كده، بس أنا ارتاحت لدكتورة مسك وأتكلمت معاها ومش ضامنة أعرف أعمل كده مع الدكتورة الجديدة.
بصي طبيعي أول مرة بيكون في رهبة كده بس أنتِ شجاعة وهتعرفي تعدي الموضوع وكمان طنط زينة هتبقى معاكي وهتقعد في session جلسة بعدك يعني أنتوا الإتنين في الهواء سوا.
أنا عارفة بس،.
يا ستي لو مرتاحتيش نبقى نغيرها ونشوف حد تاني أو نبقى نرجعك لدكتورة مسك دي.
خلاص ماشي، شكرًا يا فريدة إنك هنا. تمتمت ريتال وهي تُعانق فريدة لتبادلها الآخرى العناق بينما تقول بتأثر شديد:
شكرًا إنك هنا أنتِ كمان، بالرغم من إن يمكن عندي صحاب كتير إلا إن إحساس الناس اللي من دمك ومن عائلتك مختلف خالص، وعلى الرغم من إن الظروف اللي خليتك تيجي هنا مش ألطف حاجة بس أنا ممتنة ليها علشان عرفتني بيكي.
يا حبايبي تصدقوا الدمعة هتفر من عيني، ممكن كفاية عواطف وتيجوا تحضروا معايا الغداء؟ قطعت زينة مشهد الصداقة العاطفي وهي تحمل في يدها مغرفة كبيرة ليقهقه كلاهما قبل أن يغادر ثلاثتهم الحجرة لإعداد الغداء.
بعد مرور يومان ذهبت نانسي للجلوس في المقهى ذاته حيث قابلت والدها وأعترف لها بهويته، كان الوقت متأخر نسبيًا وكان هناك شعور قوي داخلها بأنه سيأتي فمؤكد أنه يتابع تحركاتها بشكل ما وبالفعل لم يمضي سوى نصف ساعة تقريبًا قبل أن تجده قد جاء ويسحب كرسي للجلوس أمامها.
كنت مستنياك، معرفش ليه بس حسيت إنك هتيجي وتكلمني تاني. أردفت نانسي بتوتر واضح وهي تحاول تحاشي النظر إلى والدها والذي أقترب منها أكثر وأمسك بيدها بينما يُطالعها بنظرات تطوي بداخلها شعور بالندم والترجي بينما يقول:
أنا أسف يابنتي، أسف يا نانسي،.
على أيه بقى بالتحديد؟ يعني أقصد أسف على أني حاجة من الحاجات اللي عملتها؟
سألت نانسي بنبرة لاذعة يفوح منها اللوم والخذلان، صمت والدها لثوانٍ وهو لا يدرِ ماذا عليه أن يقول ردًا على سؤالها وعلى الرغم من أنه وضع العديد من السيناريوهات لكيف سيؤول الحوار بينه وبين ابنته إلا أنه لم يعتقد قط أن الأمر سيكون بهذه الصعوبة والآلم كذلك.
دلوقتي بعتذر عن الطريقة الغريبة اللي رجعت بيها لحياتك.
رجعت؟ قصدك ظهرت، أنتَ مكنش ليك وجود من الأساس يا أستاذ أشرف.
أنا عارف، من حقك تلوميني ومفيش أي مبرر أو حجة أقدر أبرر بيها غيابي، أنا كنت أب أناني جدًا يوم ما سبتك، مكنش المفروض أصلًا أسيبك مع غادة كان المفروض أخدك معايا. كان يتحدث بقليل من الحيرة لا يعلم ما الذي عليه قوله بالتحديد لكنه يعلم أنه كان مخطئًا حينما تركها لغادة بمفردها.
يعني لما كنت تاخدني معاك وتحرمني من أمي كده كنت هتاخد جايزة الأب المثالي؟ ما أنتَ كنت هتبقى أناني برضوا فرقت أيه؟
كانت هتفرق في أسلوب تربيتك وتصرفاتك وكل حاجة خاصة بيكي.
اه يعني أنتَ راميني من حوالي 13 سنة وجاي دلوقتي علشان تعلق على طريقتي ولبسي وحياتي وكده؟ لو كده يبقى ياريت ترجع مكان ما جيت. بصقت نانسي حديثها بقسوة شديدة وهي تحاول جاهدة أن تحافظ على نبرتها قوية وثابتة فهي لا تريد من والدها أن يستشعر ضعفها وإنكسارها.
وعلى الرغم من إدراك نانسي أن أسلوب تربية والدتها له ليس بصحيح وأنه ربما لو تم توجيهها بإسلوب أكثر حزمًا في صغرها لكانت شخصية أفضل بكثير لكن والدها لا يحق له الإعتراض طالما أنه كان غائبًا، ربما أخطأت والدتها في العديد من الأمور لكنها كانت وحيدة دون زوج أو مُعين وكانت نانسي دون أب.
نانسي يا حبيبتي أنتِ مش مدركة للوضع كويس، أنتِ مكنش ليكِ ذنب في أي حاجة المشكلة كانت بيني أنا وغادة بس أنتِ اللي روحتي في الرجلين.
أيه اللي كان بينك وبينها بقى؟ قولي، قولي كل حاجة ومتخافش إن صورتك في عيني تتهز ما أصل هي كده كده معدومة. صُعق والدها من قسوة حديثها وعلى الرغم من أنها كانت مُحقة إلا أنه شعر بآلم قلبه.
بصي يا نانسي أنا ومامتك أتجوزنا جواز تقليدي زي معظم الناس اللي في جيلنا، حبيتها وحسيتها بنت حلال وطيبة بس بمجرد ما أخوها خطب البنت اللي بيحبها هي أتجننت، على طول خناقات ومشاكل وعايزة كل حاجة زي مرات خالك.
وبعدين.
وبعدين المشاكل بينا بدأت تزيد، عايزاني معاها طول الوقت أخرجها وأفسحها وطبعًا ده بيجي على وقت شغلي فالفلوس مبتبقاش كتير فترجع تتخانق معايا علشان عبدالرحمن جايب لمراته حاجات أكتر وأغلى، عمرها ما كانت قنوعة وعمرها ما حبتني.
وده كان سبب يخليك تمشي وتسيبني؟
لا، بس أنا مكنتش قادر أتحمل العيشة مع غادة أكتر من كده، أنا كنت بفوتلها لسنين وجيت في يوم حسيت إن أنا مش قادر، طلقتها غيابي بعد ما خدت حاجتي بليل ومشيت، سافرت برا وسيبت كل حاجة وكل الناس ورايا،.
ويا ترى أيه اللي رجعك بقى؟ سألته بغضب كانت كتمته داخل قلبها لسنوات، عيناها امتلأت بالدموع ممتزجة بنظرات كره وبغض.
رجعت علشانك.
لا والله؟ طب ياريت ترجع بقى من مكان ما جيت علشان أنا مليش أب.
لا ليكِ! أنا بابا يا نانسي وهفضل بابا مهما حصل، أنا يمكن راجل مش كويس وزبالة وأي حاجة عايزة تقوليها بس ده مش هيلغي فكرة إن أنا أبوكي وأنا راجع علشان أعوضك عن كل حاجة.
تعوضني؟ هتديني فلوس يعني؟ ولا أنتَ العوض بالنسبالك أيه بالضبط؟ سألت نانسي ساخرة في انتظاره رده والذي كانت قد توقعته مسبقًا.
هديلك أي حاجة، فلوسي، صحتي، إهتمامي، أي حاجة أنتِ نفسك فيها أو محتجاها.
طب أنا نفسي أبقى إنسانة سوية وكويسة الناس بتحبها، هتقدر توفرلي ده يا با، يا أستاذ أشرف. طالعها بصدمة فارغ الثغر، كل كلمة تغادر فمها بمثابة خنجر يطعن في قلبه لكن على الرغم من ذلك كان يعلم أنها محقة تمامًا، كانت نانسي تود أن تُناديه ب بابا لكنها لم تقوى على ذلك...
هقدر أوفرلك كل ده يا نانسي، هنروح لدكتور أو نشوف حد يساعدك، هعوضك عن كل حاجة كانت ناقصاكِ علشان تبقي مبسوطة وكويسة.
أخذت تُطالع والدها في صمت وهي تدعو الله أن يكون صادق في حديثه، أن يقوم بتعويضها عن كل آلم أختبرته وعن شعور الوحدة والخذلان أن يبقى إلى جانبها وألا يرحل مرة آخرى فهي لن تتحمل غيابه حتى وإن كانت تمقته الآن إلا أن جزء ضئيل بداخلها شعر بالسعادة ليس السعادة فقط بل شعورًا أكثر أهمية، الأمان!
الأمان الذي لم تشعر به قط في غياب والدها طيلة تلك السنوات، الآن لقد عاد حتى وإن كان حضوره مؤقت وغير مضمون إلا أنه هام للغاية بالنسبة إليها، ابتسمت رغمًا عنها ابتسامة صغيرة قبل أن تقول بهدوء شديد:
هنشوف، أنا لازم أمشي علشان اتأخرت.
طيب تعالي أوصلك بالعربية.
لا شكرًا أنا هطلب عربية لنفسي. أجابته ببرود وهي تحاول طلب سيارة من خلال التطبيق في هاتفها لكن لسوء الحظ أن شبكة الإنترنت كانت ضعيفة للغاية.
شكلك كده هتضطري تركبي معايا وخلاص.
بالفعل اضطرت نانسي إلى ركوب السيارة برفقة والدها، كانت السيارة فضية اللون من طرز حديث، جلست إلى جانبه وساعدها والدها في وضع حزام الأمان ليرتجف جسدها فهي لم تعتد بعد أن تلمسه أو تُمسك بيده أو تعانقه.
أبعت لحضرتك لوكيشن البيت؟
لا أنا عارفه كويس، تحبي أشغلك أغاني؟
لا شكرًا هسمع في ال Air pods بتاعتي.
أجابت بسخافة وكادت أن تنفذ ما قالته لكن سرعان ما خطر على بالها سؤال هام للغاية ولم تتردد لثانية في طرحه على والدها وكان كالتالي:
هو أنتَ اتجوزت وخلفت مش كده؟
اتجوزت واحدة ألمانية بس ربنا مرزقناش بأطفال بس دلوقتي أحنا انفصالنا.
وأيه السبب؟
بعد سنين كتير مع بعض حسينا إننا مش مرتاحين ومش فاهمين دماغ بعض كويس، موضوع الطلاق والإنفصال برا أسهل من هنا يعني بمجرد ما اتنين يحسوا بعدم استقرار أو تعاسة بيسيبوا بعض عادي جدًا.
بس ده بيخلي نسبة الإنفصال عالية، أظن إن هنا الناس بيحاولوا أكتر إن هما ميهدوش البيت.
بصي الإتنين مش دايمًا صح، على حسب كل حالة أصل الناس كلها مش زي بعض.
أومئت نانسي وقد أقتنعت برد والدها، وكان هذا أول نقاش حقيقي تخوضه مع والدها، بعد نصف ساعة تقريبًا توقفت السيارة أمام منزلها، أسرعت نانسي في مغادرة السيارة قبل أن تراها والدتها من الشرفة لكنها لم تحسب حساب صالح الذي كان يجلس في الحديقة في انتظار عودتها من الخارج.
مع السلامة، أكيد هنتقابل تاني.
أكيد بس أنا مش عايزها تبقى صدفة أو اضطر أفضل متابع تحركاتك، أنا معايا رقمك هبقى أتصل بيكي ونتفق على ميعاد مع بعض. أومئت نانسي قبل أن تودع والدها وتتجه نحو المنزل لتصطدم بصالح الواقف بالقرب من البوابة.
بسم الله الرحمن الرحيم، واقف في الضلمة كده ليه؟ كان حلمك تطلع قاتل متسلسل بس مجموعك مجبش ولا أيه؟
مين اللي كنتِ معاه في العربية ده؟
أيه ده يا صالح أنتَ بدأت تغير عليا ولا أيه؟ سألت بسخرية شديدة وهي تقلب عيناها بتملل ليُطالعها صالح بإزدراء قبل أن يقول:
دمك مش خفيف على فكرة، ده كان بابا مش كده؟ قابلتيه فين؟
جالي على الكافية اللي بقعد فيه، قعدنا نتكلم مع بعض شوية وطبعًا سمعته كلام من اللي قلبك يحبه بس في النهاية يعني اتفقنا نتقابل تاني.
طب كويس أوي وأنتِ حاسة بإيه بقى؟ مبسوطة مش كده؟
مش عارفة،.
أنا عارف، أنتِ مبسوطة من جواكِ حتى لو بتنكري ده أنا كنت كده برضوا لما بابا حاول يعاملني حلو بعد كل المشاكل اللي كانت بينا من وقت وفاة أمي الله يرحمها.
أنتَ عارف دي أول مرة أحس إنك فاهمني بجد ومهتم بيا، طلع عندنا نفس الواوا بس تقريبًا مكناش واخدين بالنا. قهقه صالح على اللفظة التي استخدمتها نانسي لوصف الجرح المشترك بينهم قبل أن يقول بنبرة لطيفة:
بغض النظر عن واوا دي يا مدام هيفاء بس اه عندك حق، أنا مبسوط إننا بقينا صحاب، يلا بقى اطلعي على فوق علشان عمتو أكيد قلقانة عليكِ.
ماشي، تصبح على خير. تمتمت نانسي وهي تلوح له بيدها قبل أن تتجه نحو الداخل وقد نمت ابتسامة واسعة على ثغرها تجهل سببها.
لقد تبدلت حياتها فجاءة وبوتيرة سريعة لكنها لم تكن من النوع الذي يبغض التغير، ضمت والدتها بود شديد حينما صعدت للأعلى قبل أن تُقبلها وتدلف إلى حجرتها لكي تحظى بنومٍ عميق هادئ لم تحظى بمثله منذ وقت طويل.
بعد مرور أسبوع عادت فريدة إلى منزل جدها بعد أن قضت الأسبوع كاملًا في منزل والديها وقد عادت للتو إلى منزل جدها، بمجرد أن رأت وجه ريتال سألتها الآتي بإهتمام حقيقي:
عملتي أيه في أول جلسة مع الدكتورة الجديدة؟
والله مش عارفة، طب أدخلي خدي نفسك كده وبعدين هحكيلك كل حاجة.
ده اللي هو ازاي يعني؟ أحكيلي يلا.
بصي هي كويسة أوي بس أسلوبها غير دكتور مسك خالص، هي برضوا قعدت سمعتني وأتكلمت معايا في كام حاجة وكنت منتظرة إنها تكتب على أدوية زي دكتور مسك لكن هي قالتلي لا.
أعتقد مش كل الدكاترة بيفضلوا موضوع الأدوية ده، غالبًا أونكل فؤاد جوز طنط زينة اختار حد مش بيكتب أدوية علشان الآثار الجانبية وكده.
جوز طنط زينة اه، عالعموم يعني هي كتبت على دواء واحد ده أصلًا بتاع ضغط والمفروض إني باخده بس في حالة إن جالي Panic attack علشان تنظيم نبضات قلبي وضغطي وكده بس.
أيوا يعني فين العلاج النفسي؟ قصدي يعني هيبقى معتمد على الكلام وتغير نظرتك عن الحياة ونظرتك لنفسك؟
مش بس كده طبعًا، هي عايزة تعالج اضطرابات القلق والإكتئاب اللي عندي بس بطريقة مختلفة، يعني هي قالتلي على طرق مختلفة ممكن أطلع بيها الأفكار السلبية وأخفف توتر، حتى قالتلي على كتاب ممكن أجيبه بتجاوبي فيه عن أسئلة مختلفة وبتطلعي كل حاجة جواكي وبعدها ممكن تحرقيه وكأنها طريقة للتخلص من الطاقة السلبية يعني.
أنا شايفة الموضوع لطيف بصراحة، جربي يمكن تحسي بتحسن ولو لا قدر الله محصلش تحسن نبقى نشوف موضوع الأدوية ده.
خلاص اتفقنا، صحيح أنا كلمت عالية وحنين وأنا جاية في الطريق و، كانت ريتال تتحدث لكن حينما خطر تليد على بالها صمتت لا تدرِ ماذا تقول، غمزت فريدة بإحدي عينيها وهي تسألها بمراوغة:
بالنسبة لتليد؟
أنتِ عارفة أنا متفقة مع ماما مش هتكلم معاه بس بصراحة سألت عالية وحنين عليه قالولي إن مامته وباباه مخلين كل دروسه في البيت ليه لوحده علشان المدرسين يبقوا مركزين معاه.
بسم الله ما شاء الله، هما أهله بيقبضوا كام في الشهر على كده بقى؟ أصل هما يا إما وارثين يا إما بيشتغلوا في الممنوعات علشان يعرفوا يعمل كده.
بالنسبة لأنه معاه عربية بتاعته في السن ده؟ عادي بالنسبالك ولا أيه؟ سألت ريتال وهي تقهقه لتفتح فريدة ثغرها بصدمة قبل أن تقول:
كمان معاه عربية؟ لا بقولك أيه اتجوزيه بقى يا ريتال الولد ده شكله زوج صالح خدي بالك.
زوج صالح علشان معاه عربية؟ هي دي نظرتك يعني عن الزوج الصالح؟ سألت ريتال ساخرة لتتنهد فريدة قبل أن تبدأ في تجميع مميزات تليد بالترتيب المناسب قبل أن تسردها على ريتال قائلة:
أولًا الولد عينيه رمادي هتقوليلي أيه الميزة في كده؟ هقولك عينه ملونة بس مش خضراء لأن أنا شخصيًا مش بثق في الناس اللي عينيها خضراء، تاني حاجة الولد بيعمل سكين كير لبشرته ومهتم بيها ودي حاجة نادرة في الرجالة.
أيوا دي مميزات شكلية فين اللي بعد كده؟
ما أنا جيالك في الكلام بقى، هو بيهتم بالتفاصيل جدًا وبيحب يعبر عن حبه سواء بمعاكسة مبتذلة أو بهدايا قيمة ولطيفة، من ساعة ما دخلتي حياته وهو قطع علاقته بشلة البنات التس تس، ليه واحد صاحبه أو البيست فريند بتاعه مؤدب ومحترم على كلامك يعني.
وضحت فريدة الأسباب التي تراها كمميزات في تليد وفي النهاية ذكرت شيء يخص ياسين صديقه لتعقد ريتال حاجبيها وهي تسأله بحيرة شديدة:
وأنا هستفيد بإيه إن البيست فريند بتاعه مؤدب؟ يعني هو لو جوزي ده هيخلي حياتنا أحسن في أيه بالضبط؟
لا هو هيخلي حياتي أنا أحسن، مش أنتِ بتقولي صاحبه ده كبير وفي جامعة؟
يارب أرحمني أنا الحوار ده تعبلي أعصابي و، كادت ريتال أن تتابع حديثها لولا أن وجدت هاتفها يُنير دلالة على وجود اتصال وارد لكن لم يصدر صوت رنين لأنها جعلت الهاتف على وضع الصامت.
مالك متنحة كده ليه؟ مين اللي بيتصل؟
تليد، بسم الله الرحمن الرحيم هو سمعنا وأحنا بنتكلم عليه ولا أيه؟
طب ما تردي عليه؟
لا، أنا قايلة لماما إن أنا مش هكلمه من وراها أبدًا ما أنتِ عارفة.
طب هقولك على حاجة روحي ودي التليفون لطنط تكلمه ونشوف كان عايز أيه، يمكن في حاجة ضرورية مثلًا.
تنهدت ريتال قبل أن تومئ ب حسنًا وتذهب لمنح الهاتف لوالدتها والتي وافقت على الرد بشرط مغادرة ريتال للشرفة لحين الإنتهاء من المكالمة وبالطبع اضطرت للإنصياع لشرط والدتها وبعد مرور خمسة دقائق تقريبًا أقتحمت زينة الحجرة على ريتال وفريدة وهي تُطالعهم بنظرة درامية بحتة قبل أن تقول بجدية تامة:
مش عايزة تعرفي مين اللي كلمك؟
أيه السؤال؟ سألت فريدة مستنكرة ببلاهة لتُشير لها ريتال بأن تنتظر قبل أن تسأل والدتها:
يعني أيه يا ماما؟ ما تليد اللي كان بيتصل.
هو رقم تليد اه بس اللي كانت بتتكلم هي مامته مش هو، عايزة تقابلني.
مش معقول هيطلب إيديها! صاحت فريدة بحماس شديد مبالغ فيه لتضربها زينة بخفة قبل أن تقول بإستنكار شديد:
يطلب إيديها أيه يا هبلة أنتِ؟ دول عيال وأنتِ شخصيًا عيلة زيك زيهم، لا مامته جابت هدية لريتال وكانت عايزة تقابلنا علشان تديهالها بس هو ده الموضوع.
مبعدناش أوي يعني هي بتبدأ كده، بيعرفها على مامته وبعدها بيجوا يتقدموا أسمعي مني أنا يا زوزو أنا عارفة أكتر منك.
وأنتِ مش حابة تقولي رأيك أنتِ كمان؟
هو أنتوا بتتكلموا على مين؟ سألت ريتال ببلاهة وهي تحاول استيعاب ما يتحدثون عنه، ضحكت فريدة على سخافتها قبل أن تُضيف زينة:
عالعموم يعني هي قالتلي إنهم هيجوا اسكندرية أول الشهر يعني قدامهم حوالي أسبوعين كده، نبقى نشوف بقى موضوع المقابلة ده وقتها.
أنا مش فاهمة حاجة،.
همست ريتال بحيرة، لقد ظنت أنها لن تقابل تليد حتى نهاية العام والآن هي على بعد أيام من مقابلته حتى وإن كانت كثيرة نسبيًا فهي مازالت تشعر بالتوتر من تلك المقابلة.
بعد مرور بضعة أيام وبالعودة إلى القاهرة، عاد والد صالح من العمل ليجد الأخير يتشاجر مع خطيبته في الهاتف، في البداية لم يتبين ما يدور بينهم لكنه استطاع إستنتاج أن الأمر مُتعلق بالماديات وكان أمر متوقع بالنسبة إليه إلا أنه لم يتوقع أن تأتي تلك المشاكل بهذه السرعة فلم يمضي الكثير من الوقت بعد منذ أن تمت الخطبة.
يا سارة أنا قولتلك من الأول دي إمكانياتي وأنتِ عارفة الكلام ده كويس أنا مش فاهم أيه اللي اتغير يعني من شهر ولا شهرين لدلوقتي؟
يا صالح بقولك كل قرايبي اللي متجوزين قاعدين في الكمبوند ده وأنا مش أقل من أي واحدة في العائلة ولا أنتَ ليك رأي تاني؟ تحدثت سارة بنبرة أقرب إلى البكاء وكأنها تحاول استعطاف صالح لكي ينفذ لها مطلبها، زفر هو بضيق قبل أن يقول:.
لا حول ولا قوة إلا بالله، هو أنا بكلم نفسي طيب ولا أيه؟ يا سارة أنا متفق مع باباكي على كل حاجة من الأول وقولتله فعلًا إني هحاول أجيب شقة في مكان كويس بس الأرقام اللي أنتِ بتتكلمِ فيها دي محتاجة أشتغل عشر سنين على الأقل أو أشتغل حرامي بقى.
هو مش أنتَ قولت إن باباك هيساعدك؟ ومش كمان قولت لبابا إن في ورث تقريبًا من مامتك؟ سألت سارة بنبرة تنم عن طمع واضح لكن صالح كان يعلم أن تلك الأفكار لا تنبع من داخلها هي بل في الغالب بتحريض من والدها.
اه في ورث يا سارة، ورثي أنا وعطر يعني مش فلوسي لوحدي وأنا مش حابب أجي جنبها أصلًا.
يا ابني عطر دي طفلة هتفتهم أيه في الفلوس ولا هتعرف منين يعني؟ مش أنتوا بتصرفوا عليها وبتعلموها وبتاكل وبتشرب وبتتفسح كمان؟ يبقى فين المشكلة بقى؟
لا لا ثواني كده، سيبك من الشقة والفلوس وكل الهبل ده كله، هو أنتِ بتتكلمي عن عطر كده ليه؟ عطر دي عندي أهم من فلوس العالم كلها وأنا عندي استعداد أضحي بكل حاجة علشانها إن شاء الله أكتب الورث كله بإسمها ولا أديها كل فلوسي دي حاجة متخصكيش ولا تخص حد! صاح صالح موبخًا إياها بإستياء واضح، لقد تجاوزت جميع الحدود حينما قررت التحدث عن شقيقته الوحيدة بهذه الطريقة، على الفور أدركت سارة الخطأ الذي أرتكبته لذا حاولت الإعتذار منه على الفور قائلة:.
أنا أسفة يا صالح أنتَ فهمتني غلط أنا مكنش قصدي يعني،.
بصي يا سارة أنا شايف المكالمة واخدة منحني مش لطيف بصراحة، الأحسن نقفل دلوقتي ونبقى نتكلم بعدين، يلا مع السلامة. أردف صالح بحنق واضح وهو ينهي المكالمة دون انتظار ردٍ منها، لقد كان مستاء للغاية من مجرى المكالمة بأكملها وتحديدًا إلى ما وصلت إليه في النهاية.
لم يكن صالح من النوع المتهور أو الذي يتخذ قرارته مُسرعًا لذا فضل إنهاء المكالمة كي لا ينتهي الأمر بهم بشجار كبير قد يؤدي إلى شيء لا يرغب هو فيه، كان هذا ما يدور في باله قبل أن يُخرجه من شروده صوت طرقات على باب حجرته.
أتفضل.
أيه يا باشمهندس مش هتتعشى ولا أيه؟ جدتك مستنياك ومش عايزة ناكل من غيرك.
حاضر يا بابا، أسبقني حضرتك وأنا هنزل حالًا.
بالفعل توجه صالح للطابق الأولى حيث تقطت جدته، كان شاردًا أثناء تناوله الطعام بينما يعبث في خاتم الخطبة خاصته بين الحين والآخر، مازال صدى مكالمته هو وسارة يتردد في أذنه فهي لم تبدو كسارة التي يعرفها قط، لم يكن ذلك حديث الفتاة التي أحبها قلبه ووقع الإختيار عليها، وكأنها تبدلت لشخص آخر فجاءة...
أخرجه من شروده يد والده وهي تُربت على يده وكأنه سمع الحوار الذي يدور داخل عقله ويريد أن يطمئنه أنه يشعر بألمه ومُدرك لمخاوفه، ابتسم صالح ابتسامة صغيرة قبل أن تقع عيناه على نانسي التي كانت تراقب تعبيرات وجهه بفضول لكن حينما نظر إليها أشاحت بنظرها بعيدًا عنه على الفور.
في صباح اليوم التالي عادت ريتال إلى منزل جدها بعد أن انتهت من الدرس الأول لها في الصف الثالث الثانوي، كان الإرهاق باديًا عليها لكن على الرغم من ذلك كانت سعيدة برؤيتها لأشخاص جدد وأماكن لم تزورها من قبل.
ها عملتي أيه في أول يوم دروس؟ سألت فريدة بحماس شديد بينما تناولها كوب من عصير البرتقال الطازج والبارد ليُرطب على قلبها.
كان اليوم لطيف أوي بصراحة كان عندي درس بايو وإنجلش، دماغي صدعت شوية بس أنا تمام يعني تقريبًا.
طب أيه قوليلي أتعرفتي على حد ولا متكلمتيش مع حد خالص؟
والله حاولت أبذل قصارى جهدي يعني وأحاول أتكلم مع الناس بغض النظر إن أنا بحس إني مريبة لما بعمل كده، في بنات لطاف يعني بس أظن لو كان معايا عالية وحنين وتليد كنت هبقى مبسوطة ومرتاحة أكتر.
ده طبيعي علشان هما يعتبروا ال Comfort zone منطقة الراحة/الأمان بتاعتك بس دي فرصة علشان تتعرفي على ناس جديدة وتواجهي العالم الخارجي برا حدود معارفك والمناطق اللي كنتِ طول عمرك بتروحيها.
ده حقيقي بس أنا كنت متخيلة إن أنا هعمل كده في الجامعة مش في ثانوي بس مش مشكلة مفرقتش من سنة واحدة يعني.
أردفت ريتال وهي تنزع وشاح رأسها وتُلقي بجسدها بإرهاق على الأريكة قبل أن يأتي جدها من حجرته ويُلقي التحية عليها، في ذلك الوقت لم تكن زينة قد عادت بعد من عملها في الروضة.
كانت زينة تتحدث إلى أولياء الأمور في نهاية اليوم كالعادة وكان الجميع يقومون بشكرها أو متابعة مستوى أطفالهم وسلوكهم من خلالها فلقد كانت موضع ثقة للجميع كان ذلك قبل أن تأتي والدة أحد الأطفال مستاءة للغاية وقد تقدمت بشكوة إلى المديرة ضد زينة.
ميس زينة، المدام والدة الطفل أحمد جاي تشتكي منك شكلك كده زعلتيها في حاجة.
خير يا فندم ممكن أعرف أيه اللي حصل؟
اللي حصل إنك بتعلقي الولاد بيكي زيادة عن اللزوم، يعني أيه ابني عايز يروح الحضانة كل يوم وعايزني طول الوقت ألعب معاه وأتكلم معاه لا وأخليه يساعدني في البيت زي ما حضرتك بتعملي معاه هنا، أنتِ بتدلعي الولاد زيادة عن اللزوم وبتبوظيهم بدل ما تبقي شديدة عليهم.
لا هو غالبًا في سوء تفاهم، أنا مش بدلع الولاد ولا حاجة أنا بعلمهم الصح والغلط ولما بيعملوا حاجة صح بيبقى في مكافأة وثواب ولو تصرف غلط بيتعاقبوا عقاب يناسب سنهم، ابن حضرتك كان انطوائي جدًا وكمان عدواني أنا قعدت أتكلمت معاه وعلمته يعبر عن نفسه ومشاعره ولما لاقيت إن ممكن أوظف طاقته وعدوانيته في إنه يساعد معايا في الحاجة حس إنه له قيمة وشخصية وبقى بيحب الحضانة وبيحب صحابه.
كل ده جميل يا ستي بس مش لدرجة إن ابني يحبك أكتر مني وأنه يبقى عايزني أعماله زيك بالضبط حضرتك واحدة رايقة بقى للعب العيال وده شغلك لكن أنا أم وزوجة وبشتغل وورايا مليون حاجة تانية غيره. اضطربت معالم وجه زينة من الطريقة التي تتحدث بها عن طفلها والذي لم يُكمل عامه الخامس بعد، لقد كان مجرد طفلًا صغير في حاجة إلى رعاية وحب واهتمام من والدته والتي هي أهم وأكبر شيء في عالمه بالكامل.
حضرتك اللي أنا بعمله ده مش لعب عيال وأكيد أحمد بيحبني أكتر من حضرتك الفكرة كلها إن أنا بديله اهتمام وحنان وأظن إن لو حضرتك عملتي معاه ربع اللي أنا بعمله حالته النفسية وسلوكياته هتبقى أحسن مليون مرة.
جميل أوي، لو سمحتِ أنا عايزة ابني ميقعدش مع ميس زينة خالص وإلا هنقل الولد لمكان تاني خالص ده آخر كلام عندي. أردفت والدة الطفل بنبرة حادة متعالية لترمقها زينة بنظرات جمعت بين الغضب والحزن قبل أن تُشير لها مُديرة الروضة بأن ترحل وبالفعل ابتعدت زينة عنهم بمسافة كافية ومن فرط الضيق لم تلحظ ذلك الذي وقف يراقب المشهد بأكمله من بعيد قبل أن يقترب منها بخطوات بطيئة ويقول الآتي:.
بستغرب أوي من أولياء الأمور اللي بيزعلوا من حب أطفالهم للمدرسين بتوعهم، يعني لولا ظهور حضرتك يا ميس زينة في حياة فريدة مكانتش هتبقى سعيدة ونشيطة زي دلوقتي.
دكتور فؤاد؟
أنا على فكرة سمعت اللي حصل غصب عني، كنت جاي أخد فريدة وشوفت الموقف.
أنا، أهلًا بيك أو، يعني، حاولت زينة إيجاد الكلمات المناسبة لكن وجوده كان يُبعثر كيانها، لم تستطع تكوين جملة مفيدة ليبتسم هو ابتسامته الجذابة المُعتادة قبل أن يقول:.
أنا كده مهمتي خلصت، بعد إذنك يا ميس زينة. تمتم بلطف وهو يسحب يد فريدة ويتجه نحو الخارج تاركًا إياها في حيرة، لقد كان وجوده يصيبها بالتوتر لكن رحيله لم يكن فيه راحة بالنسبة إليها كذلك فبمجرد مغادرته للمكان عاودها الشعور بالحزن والخواء مرة آخرى...
بعد مرور أسبوع آخر عادت ريتال من الخارج بعد انتهاء درس مادة الفيزياء، كان هناك اختبار أسبوعي في كافة المواد الدراسية ولقد كان هذا الأول بالنسبة إليها، دلفت إلى الداخل بوجه عابس ليسألها جدها بقلق حقيقي:
مالك يا ريتال زعلانة ليه؟
نقصت أربع درجات في أول امتحان فيزياء يا جدو وبجد متضايقة أوي أنا كنت مذاكرة كويس. أردفت ريتال من بين دموعها ليعانقها جدها ويداعب خصلات شعرها المموجة قبل أن يقول:
طب وأيه يعني؟ ده لسه أول امتحان ولسه السنة بحالها قدامك تتعلمي وتغلطي علشان لما تدخلي امتحان آخر السنة إن شاء الله تقفلي.
أيوا يا جدو بس المستر النهاردة كرم اللي قفل وجابلهم شيكولاتة، أكتر من نص المجموعة قفلت وأنا لا، كان شكلي وحش أوي، أكملت ريتال وهي تبكي ليتنهد جدها وهو يكفكف دموعها، لقد كانت ريتال حساسة للغاية وعلى الرغم من أن أمر كهذا من المتوقع أن يُحزن جميع من في مثل عمرها إلا أنهم ما كانوا ليتأثروا لهذه الدرجة مثلها.
طب أيه رأيك بقى إن أنا هاخدك دلوقتي أجبلك أغلى وأكبر شيكولاتاية تختاريها ومش بس كده هجبلك آيس كريم وأقعدك عالبحر، أنا مستعد أعمل أي حاجة بس مشوفش دمعة واحدة في عيون حفيدتي حبيبتي. أردف جدها بنبرة حنونة لتعانقه ريتال بقوة وهي تجهش بالبكاء، لقد كان جدها هو الحب الذي طالما أفتقدته في حياتها وربما أكثر بكثير مما كانت تظن أنها تحتاج، الأسابيع القليلة التي قضتها برفقة جدها جعلتها تشعر بالإستغناء عن حب والدها الذي لم تحصل عليه كاملًا يومًا.
بدلت ريتال ثيابها وذهبت للتمشية مع جدها، تناولت المثلجات وأبتاع لها ثلاثة ألواح من الشيكولاتة، حينما عادت من الخارج جلست في حجرتها وبحثت عن الدفتر الجديد الخاص بمذاكرتها وأرادت تنفيذ نصيحة الطبيبة بكتابة رسالة لن تصل إلى الشخص الموجهة إليه وبالفعل قامت بفتح أحدى الأوراق بدأت في كتابة الآتي:.
صالح أنا عارفة إن عمرك ما هتشوف الرسالة دي، أنا عايزة أقولك إنك كنت حلمي من وأنا طفلة، أنتَ أول واحد فتحت عيني عليه بس أنا أكتشتف إن مشاعري اتجاهك دي مجرد وهم أنا زرعته جوا دماغي، أنتَ ساعات بتوحشني أنا مش هنكر ده...
ويمكن كتير بتخيل لو كنت بتحبني كانت حياتي هتبقى مختلفة ازاي بس أنا عارفة إن ده شيء مش هيحصل أبدًا بس أنا بحاول اتأقلم، بحاول أتعلم أعيش من غيرك ولاقيت إن أنا لما بروح الدروس وبذاكر وبقدر وقت معاهم هنا بنسى موضوعك ده خالص بس أوقات مبقدرش أفكر في حاجة تانية غيرك أنتَ، أتمنى أقدر اتخطاك في يوم الأيام وأشوف حياتي،.
فرغت ريتال من كتابة تلك الكلمات قبل أن تطوي الورقة بقليل من العنف وكادت أن تُمزقها لكن لسبب ما لم تستطع وفي النهاية انتهى بها الأمر وهي تُخبئها وسط أغراضها على أمل أن تستطيع تمزيقها والتخلص منها يومٍ ما وفي ذلك اليوم ستكون قد تخلصت من كل ذرة مشاعر تجاهه.
في ذلك الوقت من الليل وبالعود إلى القاهرة كان عبدالرحمن يعبث في حجرته بحثًا عن بعض الأوراق الهامة، قام بفتح الكومود الذي بجانب سريره والذي كان له مفتاحًا خاص، بالفعل وجد بداخله ما يبحث عنه مختلطًا معه بعض الصور الفوتوغرافية القديمة، أخرجها بفضول وكانت الأولى أحدى صور زفافه هو وزينة، أخذ يتأمل ملامحهم، كانت السعادة بادية على وجههم التي كانت مُشعة ببهجة الحب، كان كلاهما يافع للغاية ولم يكن البؤس قد طالهم بعد، الصورة التالية كانت لزينة أثناء حملها في الغالب في شهرها الخامس، الصورة التي كانت تليها كانت لريتال في يومها الأول في هذه الدنيا...
كانت نائمة في هدوء شديد، بدت أقرب إلى الملاك من كونها طفلة، يذكر هو مدى سعادته حينما حملها بين ذراعيه للمرة الأولى، كم كانت ضئيلة داخل أحضانه ولم ينسى رائحتها المميزة وصوت بكاءها.
وحشتيني أوي يا ريتال. همس بها وشعر بدمعة تنهمر من عيناه دون إرادة منه، لم يكن مُدركًا من قبل أنه يشتاق إليها إلى هذا الحد أو ربما كان بحاجة إلى تذكير بسيط وقد أدت هذه الصور الغرض على أكمل وجه...
تابع تأمل الصور والتي كانت تُظهر ريتال في مراحل عمرية مختلفة حتى سن العاشرة تقريبًا ومن بعدها لم يجد المزيد من الصور لكنه وجد واحدة لزينة، كانت ترتدي ثوب باللون الأخضر الزرعي جعل بشرتها نضرة وزاد من بريق عيناها، كانت تبتسم ابتسامة واسعة حقيقية قد امتزجت ببعض الخجل فهو يذكر أنه كان يغازلها أثناء إلتقاط تلك الصورة، قربها من صدره ليستنشق بقايا عطرها التي علقت بها وبينما كان يفعل سمع صوت باب الحجرة وهو يُفتح...
توتر على الفور وبحركة سريعة خاطفة ألقى بجميع الصور داخل درج الكومود وقام بإغلاقه بإضطراب واضح أسفل نظرات زوجته الثاقبة والتي لم تستطع رؤية ما قام بتخبأته لكنها توقعت أن يكون مبلغ مالي أو ربما مستندات تخص حسابه البنكي.
بتعمل أيه عندك كده يا بودي؟
كنت بدور على ورق محتاجينه في الشغل، أنتِ كنتِ عايزة حاجة؟
أنتَ نسيت إنك متفق معايا ننزل نجيب طلبات الشهر ولا أيه؟ يلا ودينا على الهايبر بقى علشان أشوف ناقصني أيه، اه أبقى فكرني أجيب كيوي وأناناس أورجانيك علشان نفسي فيهم أوي. طالعها عبدالرحمن ببلاهة قبل أن يهمس بإعتراض واضح ساخرًا منها:
كيوي وأنانتس أورجانيك؟ الله يرحم، اللي أنتِ عايزاه يا حبيبتي أجيبهولك كله.
منين يا حاسرة؟ ما زينة منها لله هي وبنتها بيبلعوا مرتبك كله بسبب أم النفقة دي ومخليني أنا وابني مش عارفين نعيش.
هما برضوا؟ ده يا مؤمنة زينة كانت بتعيش بنص اللي بتصرفيه في الشهر وعمرها ما أعترضت ولا فتحت بوقها.
والله يا حبيبي كل واحد بيعيش على أد عيشته ومستواه والحاجة اللي من مقامه، وأنا بقى عارفة مقامي كويس أوي.
ياريتك كنتِ ربعها بس، همس بها عبدالرحمن من بين أسنانه لترفع سالي أحدى حاجبيها وتضع يدها أعلى خصرها وهي تسأله بنبرة حادة:
بتبرطم تقول أيه يا بودي يا حبيبي؟
ولا حاجة بستغفر ربنا، حرام ولا أيه؟
استغفر يا حبيبي. أردفت مع ابتسامة سمجة وهي تربت على ظهره بقليل من العنف.
في كل يوم يمر يُدرك عبدالرحمن حجم خسارته ومدى اشتياقه إلى حياته السابقة، زوجة حنونة متفهمة وابنة تنتظر نظرة رضا وابتسامة منه، تُرى هل عليه الإعتذار ومحاولة أقناعهم بالعودة؟ هكذا كان يسأل نفسه...