رواية همس السكون للكاتبة فاطمة علي محمد الفصل الحادي عشر
سباق الفروسية
بدأت جميع الخيول بالعدو بعد إطلاق إشارة الإنطلاق وبدأ السباق.
إزدادت سرعتهم تدريجياً ليتقدم أحدهم ويليه الآخر والآخر...
إزدادت سرعة "عنتر" تدريجياً، وإزداد معها تمايل "خالد " ... إقترب عنتر من الصدارة... لحظات ويصل خط النهاية، لكن غالبًا ما تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد بدأ يختل توازن "خالد" تدريجيًا، يحاول السيطرة على اللجام، لتزداد سرعة "عنتر"... يزداد الموقف تعقيدًا... يختل
توازنه تمامًا...
حتى وجد ذلك الفارس الملثم يقترب منه بقوة وعلامات الهلع تستوطن حدقتاه المتسعة من الصدمة، إقترب منه ليكون موازيًا له، مُرسلًا إليه بنظراته إشارات القفز إلى جواده.
إلتفت "خالد" إلى ذلك الفارس، وإستقام بأنظاره إلى الأمام، وقد تغلغل القلق بأوردته،ليقرر أخيرًا تلبيه النداء والقفز خلف ذلك الفارس والتخلي عن "عنتر" خشية إلحاق الأذى به.
هبت جميع الجماهير بالمدرجات المتابعة للسباق واقفةً، وعلامات الترقب تكسو ملامحهم، تقطعت أنفاسهم لحظات قفز "خالد" للجواد الأخر، لتنتظم ثانية، ما إن إستقر خلف هذا الفارس الملثم.
بينما إستمر "عنتر" بالسباق وإنفرد بصدارة السباق، إلا أن السباق لم ينته بعد، ليتبعه الآخرون، لكن الأقرب له ذلك الجواد زوجي الفرسان. تلاشت المسافات وإنعدمت، ليصهل "عنتر" بقوة رافعًا ساقاه الأماميتان لأعلى، رامقًا "خالد" بتلك النظرات الغامضة، متوقفًا عن السباق، ليتقدم ذلك الجواد ويصل خط النهاية، لتتعالي هتافات الجماهير وصرخاتهم، فتلك المرة الأولى التي يخسر بها "خالد السيوفي" البطولة منذ أن قام بالإشتراك بها أول مرة، لكنه فاز بنجاته من موت محتمل أو إصابة مؤكدة.
شدد "خالد" من إحتضان خصر هذا الفارس، لتسري بأوردته موجة ساخنة تشعل فؤاده، بينما إلتفت له هذا الفارس الملثم برأسه، لتتقابل الأعين وتذوب تلك المسافات بغموض مهلك يتلاقى دون سابق إنذار.
ليتوقف الجواد صاهلًا بسعادة ونشوة الإنتصار، فيترجل "خالد" عنه ولازالت نظراته معلقة بتلك الأعين الغامضة، التي أسرت فؤاده دون أدنى مقاومة منه، بل إنه رفع رايات الإستسلام بكل رحابة صدر.
غادر الفارس الملثم بجواده، و"خالد" يتابعه مشدوهًا بتلك النظرات التي إخترقت جدران قلبه الصلبة.
لحظات... وحرك رأسه رافضًا هذا الشعور، طاردًا تلك الأفكار الحمقاء من رأسه فهذا سباق فرسان، أيعقل أن ينجذب "خالد"لـرجل مثله؟!،
لينفض تلك الكلمة من رأسه، هاتفًا بإستنكار:
إيه القرف ده. !، أعوذبالله بطل تخلف يا"خالد". بس أنا برضه لازم أشكره، لولا جدعنته معايا كان زماني تحت رجلين الخيول دي كلها .
يلا.. هروح منصة التتويج عشان أبارك له وأشكره.
توجه "خالد" إلى منصة التتويج للبحث عن هذا الفارس، فيلمحه يتسلم كأس البطولة، كاد أن يتجه نحوه، لولا أن حاوطته مجموعة من الفتيات المتيمات بهذا الفارس، لتردف أحدهن بدلال:
أنا كنت هموت عشانك.. وقلبي وقف جدًا.
ليرمقها "خالد" بنظرات ساخرة، لاويًا فمه بإستياء:
قلبك وقف! طب لسه عايشة ليه لغاية دلوقتي يا قطة؟!
بينما هتفت الأخرى بإغواء وهي تقترب منه:
hard luck يا كابتن... أنا زعلانة موت... كان نفسي تاخد البطولة زي كل سنة.
ليبتسم "خالد" بتهكم، مردفًا:
بس أنا مش زعلان... شوفتي إزاي؟!
بعد إذنكم بقا...
ويغادر تلك الدائرة المحكمة بصعوبة، متوجهًا نحو المنصة، فيجدها خاوية والجميع قد غادر.
ليجد يد قوية ربتت على كتفه بقوة، ويهتف صاحبها بنبرة شامتة:
hard luck يا man... يلا راحت منك السنة دي.
إستدار" خالد" نحوه بثبات، ليرفع يده ويربت على كتفه بقوة أكبر، هاتفًا بإستنكار:
hard luck ياman بتروح منك كل سنة.
يلا... ملكش نصيب فيها السنة دي... هتعمل إيه بس.. حتى السرج إتقطع، وبرضه ما إستغلتش الفرصة ووصلت... عمومًا خيرها في غيرها... بس المرة الجاية يكون فيه حاجة تانية غير قطع السرج يا معلم .
ليربت على كتفه مرة أخرى بقوة:
شوفت ولاد الحرام ماسبوش لولاد الحلال حاجة... مش عارف الناس مابقاش عندها ضمير في الصناعة ياجدع... يعني إشتري السرج بآد كده وفي الأخر يتقطع...
ويذم فمه بلا مبالاة، مكملًا:
يلا نبقى نغير الماركة...
ويشير له بيده مودعًا:
سلام يا...
قولت لي إسمك إيه؟!
غادر "خالد" وترك خلفه هذا الوغد يشتعل بنيران حقده، وقد فشل مخططه في إزاحة "خالد" من طريقه والفوز بالسباق..
منزل "عبد العزيز"
جلس "عبد العزيز" على أحد الأرائك بإسترخاء مرتديًا ثيابه المنزلية، ليلتقط جهاز التحكم بالتلفاز ويقلب بين قنواته بإنتباه، حتى إستقر على إحدى القنوات الإخبارية.
و إنضمت إليه "حنان" وهي تحمل صينية بها أكواب من الشاي وبعض المخبوزات الشهية، لتضعها أعلى تلك الطاولة الصغيرة، وتهم بالجلوس إلى جانبه، فيردف "عبد العزيز" بلطف:
معلش ممكن كوباية مايه يا "نونا".
أشارت "حنان" بسبابتها نحو عينيها وإبتسمت بدلال:
عيوني يا"زيزو" إنت تؤمر يا حبيبي.
لتجد من يحتضن كتفاها بذراعه ويضمها نحو صدره، هاتفًا بتذمر:
بتخونيني يا "نونا"، ومع مين؟!
مع "زيزو"... "زيزو" يا" نونا" ! يبقى معاكي" عمر" الجان اللي مدوخ كل بنات السنتر وتبصي بره...
لتلكمة لكمة خفيفة بصدره، مردفةً بسخرية:
"عمر" ده مين اللي أبصله؟! ...
وتلتفت نحو رفيق رحلتها بعشق وهيام، هامسة:
يبقى معايا راجل حنين، وكريم، ويحبني، وبيتقي ربنا فيّا وأبص بره... ده اليوم اللي بيتأخر في الشغل بحس إن روحي رايحة مني...
ربنا يخليك ليا يا "زيزو".
ليقطع حديثها رنين جرس الباب، فيهتف "عمر":
إستني يا"نونا" "همس" جات أهي عشان تتابع معايا فيلم نهر الحب ده... وطبعًا أنا "عمر الشريف"... هفتح وآجي على طول ماتكمليش غير لما نيجي.
فقذفه "عبد العزيز" بأحد الوسائد الصغيرة، هاتفًا:
إمشي ياحيوان من هنا بقى إنت" عمر الشريف"... وأنا مين بقا...؟!
إلتقطها "عمر" بيده، ليهتف بمشاكسة:
راحت عليك خلاص يا "زيزو" بقيت بعرف أصدها كويس... هفتح وآجي.
إتجه "عمر" نحو الباب هاتفًا بتذمر:
ما أخدتيش المفتاح معاكي ليه يا" همس"،
ويفتح الباب بحنق طفولي.
دلفت "همس"، وهي تحمل بين يديها صينية الفطور، مردفةً:
خفة... هفتح إزاي وأنا شايلة الصينية؟!
المفتاح في جيبي ياخفيف.
ليتعالي صوت "حنان" بنبرة تهكمية:
تعالي ياقلب تيتة "فريدة" إيه هتتغدي فول وطعمية؟!
الضهر خلاص هيأدن... كنتي فين كل ده؟
وضعت "همس" صينية الطعام أعلى الطاولة بهدوء، فهي حقًا أمضت وقتا طويلا بعالمها بعدما غادرت "فريدة" و"ثائر"، وكان هذا من أجل أن تهدأ من توترها وإرتباكها، وحتى يهدأ إشتعال وجنتاها، أما ذلك الأهوج فلم يهدأ بعد، فمازالت دقاته تدوي بصدرها...
لتتجه نحوهما وتتفاجئ بوجود والدها وعدم ذهابه إلى عمله.
فتهتف بدهشة:
زيزو!... مفيش شغل النهارده ولا إيه؟!
أردف " عبد العزيز"، بإبتسامة:
لأ ياحبيبتي فيه شغل والله، بس عمك "محمود" إتصل بيا وقال جايين النهارده هو و"قاسم" و"أم قاسم"، فقولت أكون في إستقبالهم.
لتتحول ملامحها إلى الكثير من الإمتعاض والتزمر، مردفةً:
"قاسم" وأمه؟!
وتجلس إلى جوار والدها بالطرف الأخر _يتوسط إبنته وزوجته_ لتردف مستنكرة:
جايين في حاجة ولا إيه؟!
حرك "عبد العزيز" رأسه نافيًا، قبل أن يردف:
مش عارف والله ... بس يا خبر بفلوس كمان ساعة هيبقى ببلاش.
تنهدت "حنان" براحة، مردفةً:
كويس يكون الأكل كله إستوي عشان يتغدوا معانا.
ليربت "عبد العزيز " على كتفها بعرفان، قائلًا:
طول عمرك صاحبة واجب يا حبيبتي، وعمرك ما قصرتي رقبتي قدام مخلوق، ودايما رافعة راسي ومكبراني... ربنا يخليك ليا يا "أم همس".
فتربت هي الأخرى على يده بحنان العاشقة، والأم، والصديقة، مردفةً:
ويخليك لينا يارب.. ويجعله مفتوح بحسك ياحبيبي.
ذمت " همس" فمها بتذمر، قائلة:
وأنا مليش في الحب ده ياحلوين ولا إيه؟!
ليرفع "عبد العزيز" ذراعه فيضمها إلى جانبه ويضم زوجته إلى جانبه الأخر ويشدد من إحتضانهما مقبلًا جبين "همس" بحنان مردفًا:
إنتي الحب كله ياقلب بابا...
فيجدوا من يقفز إليهما مستلقيًا عليهما جميعًا، هاتفًا بحنق:
وأنا إبن البطة السودا ولا إيه؟!
لتتعالي ضحكاتهم ويدوي صداها بين أركان هذا المنزل السعيد.
قصر "السيوفي"
إنتهت الخادمة من وضع آخر طبق على تلك الطاولة الملكية المحملة بأشهي وأفخم المأكولات والمشروبات، لتجوب "نجلاء" محتويات الطاولة بعناها، التي إستقرت أخيرًا نحو الخادمة، هاتفةً بجدية:
كده تمام إتفضلي إنتي... "فريدة" هانم على وصول... ممكن تنادي "هيا" من أوضتها.
أومأت لها الخادمة برأسها قبل أن تهمس:
تحت أمرك يا هانم... بعد إذنك.
غادرت الخادمة إلى غرفة "هيا"، لتجد "نجلاء " من تدلف إلى القصر فاتحةً يديها على مصرعيهما، ومتجهةً نحوها بإشتياق، لتركض هي الأخرى مهرولةً ودمعات السعادة تسبقها كعادتها فتستقر بأحضانها هاتفةً:
ماما "فريدة" وحشتيني... القصر كان وحش من غيرك... كده يا ماما... هونا عليكي للدرجة دي...
ربتت "فريدة" عليها بحنان، مردفةً:
معلش يا بنتي حقك عليا... بس كنت محتاجة أبعد شوية...
لتبتعد "نجلاء" عنها قليلًا، وتثبت أنظارها النادمة بحدقتاها، مردفةً:
إحنا كلنا اللي آسفين.. مقدرناش نفهمك ولانحس بيكي... معرفناش قيمتك غير لما بعدتي عننا.
أزالت "فريدة" دمعاتها بأناملها، مردفةً بمزاح:
شوفتي بعدي كان له فايدة إزاي... ياريتني كنت بعدت من زمان...
لتتنهد بأسي، مكملةً:
كان حاجات كتير إتغيرت عن دلوقتي.
فتجد من يهتف بسعادة:
وإحنا فيها يا تيتة... وكله إتغير للأحسن، وكمان كلنا موجودين حواليكي...
تلألأت عينا "نجلاء" ببريق السعادة التي أضفت له حبات اللؤلؤ بحدقتاها بريقًا أقوى، لتركض نحوه بمجموعة مشاعر مختلطة مابين سعادتها بعودته وصدمتها من عودته، وعلامات السعادة والرضا بملامحه،
أحقا ستتجمع أسرتها مرة آخرى؟!
فإحتضنته بقوة أم مشتاقة لرائحة إبنها ودفء أنفاسه حولها، لتهتف بتلعثم من الفرحة:
حـــ... "حاتم " حمدالله على سلامتك يا حبيبي... نورت بيتك يا قلبي... النهاردة ده أسعد يوم في حياتي.
شدد "حاتم" من إحتضانها، قائلًا بإشتياق لحضن والدته:
وحشتيني قوي يا "نوجا"، ووحشني حضنك، وأكلك وكل حاجة من إيدك.
ليتذكر "منة"، فيبتعد عن "نجلاء" قليلًا، ويجذب" منة" إلى جواره وقد إشتعلت وجنتاها خجلًا وتشبثت بيده بقوة، ليردف بسعادة:
دي "منة" يا "نوجا" ... شوفتي كان عندي حق أسيب العالم عشانها إزاي ...
إتسعت إبتسامة "نجلاء" الحانية، لتجذبها إلى أحضانها، مردفةً بود:
نورتي بيتك يا حبيبتي...
همست "منة" بتوتر:
ميرسي لحضرتك يا طنط.
ليردف "حاتم" مستنكرًا:
طنط إيه دي؟!... تقوللها يا ماما... "نوجا" ماما لينا كلنا .
تمردت دمعة من عينا "نجلاء" بسعادة، لتحتضنه بنظراتها الحنونة، مردفةً:
وكلكوا ولادي يا "حاتم"... نورتوا القصر يا حبايبي.
ليجد من تركض نحوه مهرولة، وترتمي بأحضانه بشهقات وأنين مرتفعين، مردفةً:
أبيه "حاتم "... كنت محتاجة وجودك قوي... معتش تسيبني تاني...
لتنهمر دمعاتها شلالات متدفقة، وتررد بأسي أدمي قلوب أشقائها:
أنا لوحدي... ومحتاجاك جانبي..
دوت تلك الكلمات المصاحبة لشهقاتها بمسامعه أثناء دلوفه إلى القصر من الحديقة، بعد الإنتهاء من إرشادات فريق التجهيز للحفل، لتخترق صمام قلبه وتدميه بقسوة،
أتشعر معشوقته بالوحدة رغم وجوده إلى جوارها؟!
ليهتز كيانه ويتزلزل... فما أصعب أن ترى تألم معشوقتك ولا تستطيع بث الراحة والإطمئنان إلى قلبها المُحطم ؟!
بينما أبعدها عنه "حاتم" قليلًا، ليرمقها بتعجب، مردفًا:
مالك يا"يوكا" فيه إيه ياحبيبتي؟!
أزالت دمعاتها بأناملها الرقيقة، وحركت رأسها نافية قبل أن تردف:
مفيش حاجة يا أبيه، كنت واحشني بس.
زفر "حمزة" زفرة قوية أرفق بها نيران عشق المتيم، ليستعيد ثباته وجديته، ويتوجه نحوهما بإبتسامته المرحبة، ويصافح "حاتم " بحرارة هاتفًا:
حمد الله على سلامتك يا"حاتم " نورت بيتك...
ويتوجه بأنظاره نحو "منة"، مكملًا:
إزيك يامدام "منة" .
أومأت برأسها هامسةً:
الله يسلمك يا "حمزة"
بينما هتف "حاتم" بمشاكسة:
هنفضل نسلم على بعض كده كتير... مش هناكل ولا إيه؟!
وحشني أكلك يا "نونا"...
ليجدوا صوته يدوي بالأنحاء:
خياااااانة هتاكلوا من غيري... ولا أنت كل اللي واحشك أكل "نونا" وبس..
فينضم "خالد" إليهم ويتفاجئ بوجود "فريدة"، فكان كل ظنه أن شقيقه إستغل غيابها وأتى بزوجته ليعرفها على" نونا"...
فهتف مشاكسًا:
أوبااااا... تيتة هنا كمان!
لا... لازم أفهم كل حاجة.
جذبه" حاتم" من يده وتوجهوا جميعًا نحو طاولة الطعام مرددًا:
نحكي وإحنا بناكل... عايز "منة" تقول علينا بخلا ولا إيه؟
ليجذب كل منهم مقعده المتعارف عليه، ويبتعد "خالد" عن مقعده مشيرًا إليه، قبل أن يردف:
تعالي إقعدي جنب جوزك يا "منة" مابحبش أفرق أنا عصافير الكناري المغرد ده.
رمقه "حاتم" بنظرة عرفان، مردفًا:
جدع يا"لودي" نردهالك لما تتجوز إن شاء الله.
إنتابه ذلك الشعور بالحرارة التي سرت بأوردته قرب ذلك الفارس الملثم، ليرفض هذا الشعور مرة أخرى، ويحرك رأسه بقوة، هامسًا:
إستغفر الله العظيم يارب.
جلس الجميع حول الطاولة ليبقى مقعد "ثائر" شاغرًا، لتهتف "فريدة" بدهشة:
فين "ثائر" ؟!... مش كان معانا...
تناول "حاتم" قطعة من اللحم ليضعها بطبقه ويبدأ بتقطيعها، مرددًا:
في الجنينة بيشوف تجهيزات الحفلة.
لينضم إليهم "ثائر" مشيرًا بعينه إلى الخادمة التي تقف على مقربة منهم لتلبية متطلباتهم، فتأتي إليه بخطواتها الهادئة، ليهتف:
جهزوا أكل للعمال اللي بره حالًا.
ضربت "نجلاء" رأسها بتذكر، مردفةً:
يانهار... الفرحة نستنى والله.
لتلتفت نحو الخادمة:
جهزي من كل الأصناف اللي موجودة وبزيادة كمان...
أومأت الخادمة برأسها وغادرت إلى المطبخ لتنفيذ ما طُلب منها.
بينما رفع "حمزة" عيناه نحو "ثائر" متسائلًا:
التجهيزات تمام؟...
أجابه "ثائر" بغموض:
كله تمام...
وبدأ الجميع بتناول طعامه وسط جو من الألفة والسعادة لبعض، والقلق والترقب للبعض الآخر.
منزل "عبد العزيز"
إنتهي الجميع من تناول الطعام، لينهضوا جميعًا مغادرين الطاولة، متجهين نحو المعيشة ليتسامروا قليلًا.
فيهتف "عبد العزيز " بترحاب:
نورت الدنيا يا "أبو قاسم" إتفضلي يا "أم قاسم" إتفضل يا قاسم " ياابني...
جلسوا جميعًا بأماكنهم، ليعلو " عبد العزيز" بنظراته نحو" عمر"، مردفًا:
قول لماما تعمل شاي يا" عمر".
أجابه" عمر" بتقدير:
حاضر يابابا...
بينما همس لذاته:
والله لو ينفع أحطلك ملح إنجليزي في الشاي يا" قاسم" ماكنتش إتأخرت... بس عشان خاطر بابا بس.
ليغادر متوجهها نحو والدته وشقيقته.
ليهتف" محمود" بمحبة:
البيت منور بأهله يا "أبوهمس"... يجعله عامر يا أخويا.
حملت "همس" الأطباق المتبقية بالطاولة، لينضم إليها "عمر" هاتفًا بسخرية:
إعملوا شاي حبر للمحروس" قاسم" ياكش يعلي ضغطه ونخلص منه ومن سماجته.
أجابته "همس " بتمنى:
ياريييت...
لتهمس "حنان" بصوت يكاد مسموع:
بطلوا رغي إنتوا الإتنين... وتعالي خد الشاي خلص وإتصب.
وإنتي كملي لم بقيت الأطباق.
رمقت" أم قاسم" زوجها بنظرات تشجيعية، وهي تحرك عيناها بحنقٍ لتحثه على الحديث بهذا الشأن الذي جاءوا من أجله.
لينضم إليهم "عمر" مرة أخرى، ويضع صينية الشاي أعلى الطاولة، ويجلس بالقرب من والده.
بينما حمحم "محمود" متلعثمًا:
والله يا "عبد العزيز" إحنا جايين لك النهارده في موضوع مهم...
لتتدخل "أم قاسم" بالحديث:
وياريت ما تكسفش أخوك يا "أبوهمس".
تسلل القلق إلى قلب "عبد العزيز" ليردف بشك:
خير يا أخويا؟!... موضوع إيه ده؟
أجابه محمود بتوتر أكثر لعدم إقتناعه بما أتى لأجله، لكنه كان تحت ضغط وإصرار "قاسم " ووالدته:
يعني... لو... ممكن... يعني...
" عبد العزيز " مستنكرًا:
فيه إيه يا "أبوقاسم".
محمود: إحنا جايين النهاردة عــ... عشان...
هنا تدخلت "أم قاسم" مرة أخرى، وهي تربت على كتف "قاسم" الجالس بإنتظار إنتهاء والداه من الحديث بهذا الخصوص. لتهتف بسعادة:
إحنا جايين النهارده نطلب إيد "همس" بنتك "لقاسم" إبني وطبعا هو أولى بيها من الغريب.
ليعتدل "عبدالعزيز " بمقعده محمحمًا بتوتر فقد تأكدت شكوكه، فكيف يبوح لهم برفضه دون أن يتسبب بضيق لشقيقه:
والله يا "أبو قاسم" يا خويا... البنت لسه في الدراسة ومابتفكرش في الجواز دلوقتي.
هتفت "أم قاسم" بإبتسامتها السمجة:
ماهي في آخر سنة يا "أبو همس".. يعني نعمل خطوبة وبعد ما تمتحن نعمل الفرح على طول.
لتتسع إبتسامة "قاسم" من مجرد تخيل أن تكون "همس" زوجة له وتسكن بين جدران منزله.
فرمقه" عمر" بغيظ، وغضب من تفكير هذا الأحمق فشقيقها لم يسمح بهذا ولا في أبعد أحلامه.
حينما أردف "عبد العزيز" بحرص:
الخطوبة هتعطلها عن دراستها ومذاكرتها... والمبدأ نفسه مرفوض دلوقتي خالص.
تدخل "قاسم" هذه المرة بالحوار:
"همس" شاطرة ياعمي يعني مفيش حاجة هتعطلها عن المذاكرة خالص.
"عبد العزيز" بموافقة:
أهو... إنت بتقول بنفسك إنها شاطرة... يعني بعد ماتخلص كليتها أكيد هتشتغل وتثبت كيانها وشخصيتها في الشغل.
هتفت "أم قاسم" بإستنكار:
شغل إيه ياخويا، وكيان إيه؟!
الواحدة ملهاش غير بيتها وجوزها وعيالها إن شاء الله.
وبعدين إبني مقتدر يعني يقدر يصرف عليها ويستتها، مش عايز القرشين اللي هيطلعولها من الشغل ده.
وكمان إبني يبقى في شغله ولا في البيت وهي في شغلها بتكلم ده وتهزر مع ده.
هنا هب "عمر" من مقعده بغضب ونيران مستعرة تتطاير من حدقتاه، ليهتف بصرامة:
تهزر مع مين يا طنط؟!
حضرتك حاسبي على كلامك، وشوفي بتقولي إيه، "همس" محترمة وعارفة حدودها كويس والكل بيحلف بأخلاقها...
وبعدين الشغل مش عشان محتاجة فلوس، ده عشان تبقى إنسانة مستقلة بحياتها وتقدر تواجه الدنيا لوحدها.
لتهب "أم قاسم" هي الأخرى من مجلسها، هاتفةً بسخرية:
هتعلمني أتكلم إزاي يا سي "عمر"، وكمان هتديني محاضرة في عمل المرأة.
ركضت " همس" و "حنان" لإستكشاف أسباب ذلك الضجيج، لتهتف "حنان" بإستغراب:
فيه إيه يا "أم قاسم" بتزعقي ليه؟!
"أم قاسم" ملوحة بيدها في الهواء:
تعالي شوفي إبنك ياحبيبتي... بيديني محاضرات وبيعلمي أتكلم إزاي؟
إلتفتت "حنان" نحو إبنها وعلامات الدهشة تنهش ملامحها مردفة:
فيه إيه يا" عمر"
كاد "عمر" أن ينطق، ليجد من يصرخ بغضبٍ وقوة:
عممممممممممر... ماسمعش صوتك.
أطرق رأسه أرضًا وغلف فمه بغلاف الصمت، إحترامًا لكلمة والده، لكنه يود أن يلكمها بقوة، ويطردها هي وإبنها خارج هذا المنزل.
بينما طوفت "حنان" وجوه الجميع بدهشة، وهي تردف:
فيه ياجماعة حد يفهمني حاجة؟!
"أم قاسم" بسخرية:
مش عارفة فيه إيه ياختي؟!
أجابتها "حنان" بحنق:
هعرف منين يا "أم قاسم" أنا كنت في المطبخ ولسه جاية حالًا قدامك.
هنا نهض "قاسم" من مقعده ليردف موضحًا:
إحنا جايين نطلب إيد "همس" يا مرات عمي.
عاصفة قوية تجتاح أوصالها لتنفض جسدها بقوة، وأنظارها متشبثة بأعين والدها، تترجاه وتتوسله أن يكذب هذا اللهو العابث، ليرسل لها والدها إشارة الإطمئنان، مغمضًا عيناه بهدوء، ملتفتًا نحو شقيقه هاتفًا بصرامة:
أنا أسف يا "أبو قاسم" إحنا مابنفكرش في جواز البنت دلوقتي.
لتلوح "أم قاسم" بيداها، محركة عنقها يمينًا ويسارًا، هاتفةً بتهكم:
بتتنكوا على إيه ياخويا... أومال لو ماكنتش معرقبة وفاتها قطر الجواز، اللي قدها عنده عيل وإتنين... شايفة نفسها دي ليه؟!
إبني راجل ملو هدومه يقعد وينقي ست البنات و تترمي كمان تحت رجله.
هب "محمود" من مقعده، ليهتف بهدوء:
عيب الكلام ده يا "أم قاسم" مايصحش الكلام ده.
لتصرخ بصرامة:
أقعد إنت ياخويا، مالكش دعوة بكلام الستات ده.
هنا وجهت "حنان" أنظارها نحو "محمود" بود، مردفةً:
أهلا بيك يا "أبو قاسم" في بيت أخوك في أي وقت، بس معلش مراتك مش مرحب بها في البيت ده تاني... طالما ده كلام حريم.
لتجذب أم "قاسم" يد زوجها بقوة، صارخةً:
هتطلعينا من الجنة يا ختي... خالي بنتك معنسة جانبك، وإبقى قابليني لو حد عبرها وبص في وشها... يلا يا" قاسم ".
وقف "عبد العزيز" بوجه شقيقه ليمنعه من التحرك، مقتربًا منه، ليقبل رأسه بإحترام، مردفًا:
ماتزعلش مني يا أخويا.
ليتنحي جانبًا، ويسمح له بالخروج.
أما "قاسم" فإقترب من تلك المصدومة من هذا الحوار بأكلمه، ليهمس بتوعد:
مش هسيبك يا بنت عمي،و لو مش ليّا، مش لغيري.
وغادر المنزل مسرعًا خلف والداه.
دبت رجفة قوية بجسدها، وإنقبض قلبها بقوة، لتسيل دمعاتها بلا توقف.
فتركض نحو غرفتها مهرولةً، وتوصد بابها بقوة، لترتمي أعلى فراشها باكية بمرارة.
دوت أصداء تلك الكلمات المؤلمة داخلها، لتزيد شهقاتها وأنينها.
صدحت طرقات قوية على باب غرفتها، لتضع يدها أعلى فمها في محاولة لكتم تلك الشهقات المدمية، فيتسرب إلى أوردتها عبق عطره الغامض، لتتعالي دقاتها مناجية إسمه، فقد بدأت تستشعر إحتاجها لدفء قلبه.
قصر "السيوفي"
إتجهت "هيا" نحو غرفتها بحالة يرثى لها، بخطى مترنحة ونظرات زائغة، ووجه شاحب، بعدما كان يشتعل توهجًا.
تابعها "حمزة" بنظراته المتلهفة، المتألمة لحال معشوقته، ليتبع خطاها الثقيلة وقلبه يُدمي لحالها. فيجدها تتخبط بأثاث الردهة فتهوي تلك المزهرية، ويتطاير شظاياها بالأنحاء. أما تلك المغيبة لم تتسمع ذلك الضجيج الذي أحدثته، فجميع حواسها مستنفرة نحو تلك الصور، وهذا الإتصال.
ليُنهي " حمزة" هذا الأمر، فيقترب منها بحدة جاذبًا يدها بقوة:
مالك؟! فيه إيه؟!
من الصبح وإنتي مش طبيعية، ماشية تايهة ومش حاسة بالدنيا حوليكي...
نفضت يدها من قبضته القوية، لتدفع صدره بيديها، صارخةً بشلالات من دموع:
إنت مالك!... مهتم بيّا ليه؟!
من إمتى الإهتمام ده أصلًا؟!
لتبدأ بلكم صدره بقبضتاها ويعلو صراخها:
ليه دلوقتي؟... ليه دلوقتي جاي تهتم بيّا؟!
أول ما بعدت عنك... ليه؟!
ليه كلكم كده؟!... طول ماالبنت بتظهر مشاعرها بتتكبروا عليها... وأول ماتخسروها تبدأوا تحسوا بيها.
همس "حمزة" بعشق ملتاعٍ:
بس أنا ماخسرتكيش، ولا هخسرك يا "يوكا"
إزدادت لكماتها وصرخاتها:
أنا بكرهك يا"حمزة "... بكرهك... إبعد عني...
لتتعلق بعنقه وتضمه بقوة واهية:
بكرهك يا"حمزة" بكرهك..
شدد من إحتضانها بقوة، ولمعت عيناه بنيران غضب فقد تيقن أن ماتمر به" هيا"
يتعدى حدود طاقتها بكثير.
دلف "حاتم" إلى غرفته جاذبًا يد "منة" بسعادة، ليوصد الباب خلفه بهدوء، مستندًا عليه براحة، ويجذبها إلى أحضانه بإشتياق، فترفع يداها محاوطةً عنقه بدلال، هامسةً بإغواء:
أخيرًا بقينا لوحدنا يا روحي...
رمقها "حاتم" بنظراته الماكرة:
أخيرًا يا "موني".
لتبتعد عنه فجأة مطوفةً الغرفة بخطوات مرحة، لتستكشف كل ركن بها من الحمام إلى غرفة الملابس إلى مكتب "حاتم" وتلك الأريكة المخملية، حتى ذلك الفراش الوثير فترتمي بكامل جسدها عليه، هاتفةً بسعادة:
دي مش أوضة... ده جناح... وتحفة...
لتنهض متجهة نحوه، مكملةً: تجنن يا "حاتم " القصر كله ولا كان في خيالي.
دلف هو إلى غرفة الملابس الخاصة به، ليفتح خزانة جانبية بها ممتلئة بأرقي الثياب والأحذية والحقائب العالمية.
فإتسعت مقلتاها بسعادة، لتركض نحوه بدهشة، مردفة:
إيه ده؟! ... الحاجات دي عشاني ؟!
لحقت تشترى كل ده إمتى؟!
حرك "حاتم" رأسه نافيًا:
مش أنا اللي جهزت الحاجات دي... "ثائر"
اللي إشتري كل حاجة...و كان متأكد إننا راجعين معاه.
إلتقطت "منة" الفساتين واحد تلو الآخر وأنقت معه الأحذية والحقائب قافزة بسعادة:
زوقه يجنن "ثائر"... دي ماركات عالمية.
ليستمر إنبهار "منة" بالقصر والغرفة وثيابها، وسط نظرات "حاتم" العاشقة.
وقف بكبريائه وصرامته المعهودة عاقدًا ذراعيه أعلى صدره متابعًا اللمسات النهائية بأعين صقر ثاقب النظر، ليرفع هاتفه أمام عيناه ضاغطًا زر إرسال رسالة لجميع أفراد عائلته، فذلك الحفل خاص بالعائلة فقط.
ماهي إلا لحظات وبدأ الجميع بالخروج إلى الحديقة متأنقين ومستعدين لحفل "ثائر"
العائلي، وإلتفوا جميعًا حول تلك الطاولة الكبيرة، وأمام كل منهم دفتر ورقي وقلم، ليتبادلوا النظرات المستفهمة عن تلك الأوراق والأقلام.
بينما وقف "ثائر" مواجهًا لهم ونظرات الغامضة تجوب ملامحهم المندهشة.
لتخرج كلماته الصارمة بجدية:
كل واحد فينا هيكتب كل اللي بيفكر فيه
وإيه اللي مفتقده؟، وإيه أهدافه في الحياة؟، وإيه نقطة ضعفه؟، ... وأي حاجة تيجي في خياله... بس بعد مانشوف الفيديو ده مع بعض.
ليضغط أعلى زر التشغيل بجهاز التحكم وتبدأ الفيديو بإستعراض مشاهد خاصة بالعائلة بوجود والده، وعمه، وزوجة عمه... رحلاتهم... وحفلاتهم وهم أطفال صغار لا يعبئون بالحياة ومتطلباتها، لكن أنظاره مازالت مثبته على وجوه عائلته، لمراقبة إنفعالاتهم ومشاعرهم المختلطة...
لانت نظراتهم الجامدة تدريجيًا، لتنفرج إبتسامتهم شيئًا فشئ...
لقطات تجمع "حمزة" و"هيا" علامات السعادة تكسو ملامحها ونظرات العشق المتيم تحتضن ذلك الصوان، فتلك المرة الأولى التي يتيقن من ذلك البريق الوله بحدقتا معشوقته.
حقًا... صدق من لقبه بالصوان!
لترمقه "هيا" بنظرات لائمة، وتتمرد تلك الدمعات اللعينة فاضحةً أمرها، لتُزيلها بكبرياء متنهدة بلوعة.
راقبت "نجلاء" زوجها وإهتمامه المفعم بالعشق الأزلي، ليصرخ قلبها صرخة إشتياق لحبيب العمر، وتهوي دمعاتها الحارقة. فتبتسم لإبتسامته التي لطالما أحيتها قرونًا من العشق.
"خالد" و" حاتم" تعالت ضحكاتهم المدوية، فلطالما كانا يشاكسون بعضها البعض.
نعم أتذكر ذاك اليوم؛ حينما دفعتني بقوة وجذبت مني طائرتي الورقية وركضت مهرولًا.
لا... حينما وضعت لي مسحوق الغسيل بزجاجة الدواء، وسجلت لي هذا المقطع.
أما "فريدة " فتضاعف ألمها أضعافًا كثيرة، فهي من تسببت بفقدان تلك العائلة لسندها وأمانها.
ليظهر أبناؤها بذلك المقطع وهما يتشاجرا لأجل البقاء بين أحضانها...
كل منهم بعالمه الخاص وذكرياته السعيدة أو المؤلمة...
فجأة...
هب الجميع من مقاعدهم، فزعين وعلامات الذعر تنهش ملامحهم...