رواية همسات بقلم العشاق الجزء الثالث من الجوكر والأسطورة للكاتبة آية محمد الفصل الثامن
إنكسار الشيء الملموس يصدر صوتٍ مجلجل فماذا عن إنكسار الذات وتحطم القلب هل يستمع له أحداً؟!..
إختبرت الموت لدقائق متتالية فلم تكن منصفة بحقها، جلاد روحها هو بذاته من عشقته بجنونٍ، يقف أمام شاشته ويتطلع لها بنظراتٍ غريبة جعلت الدماء تتصبب بعروقها كالشلال، تريد القصاص مما رأته على تلك الشاشة اللعينة، ليتها لم تنصاع لكلماته وتتبعه لهنا، ليتها كفيفة لم ترى أصعب ما يقال عنه خيانة بل سهام إخترقت جسدها الهاش، تعصرت كلماتها عن البوح بما يحدث بداخلها، فقالت بصعوبة بالغة وهى تجبر لسانها الثقيل على الحركة:.
أيه دا؟..
ظل ثابتٍ كما هو، يستمع إليها بصمتٍ قتلها ببطء فجعلها تكاد تجن، صرخت ريم بكل ما تملكه من قوة به:
فهمني دا أيه؟..
خرج صوته الصلب، وكأنه لم يقترف شيئاً:
الحقيقة يا ريم...
هزت رأسها بعنفٍ شرس، لتردد بخفوت:
لأ، مستحيل...
عاد شريط الفيديو الخاص بكاميرات المكتب بعرض الشريط مجدداً، عينيها لم تحتمل التطلع إليها مجدداً، بالرغم من وجود آريكة تخفي أجسادهن ولكن توقع ما يحدث جعل جنونها يتمرد بقوةٍ، فجذبت الحاسوب الصغير الموضوع على سطح مكتبه ثم هوت به على الأرض بقوة وبكائها يكاد يشق القلوب، حطمته بقوة بقدميها وكأن بتلفه ستنتهي تلك الحقيقة البشعة، إنسابت قدميها فجلست أرضاً لتعود بحمله ودفعه أرضاً من جديد لتردد بشهقاتٍ بكائها الحارق:.
لأ، مستحيل تعمل فيا كدا مستحيل تخوني، دا كله كدب...
يحترق فؤاده لوعة، يتمزق قلبه بشراسة تحجر قفصه الصدري، تبكي عينيه بحرقة وإن كان دموعها مرئية لا ترى، تهاجمه كل ذرة بجسده بالتحرك تجاهها فترك لخلاياه التحكم به وكأنه لعبة صغيرة تحركها الأنامل!..
رداء القوة لم يعد يناسبه، إقترب منها لينحني مقابلها قائلاً ببسمة ألم بدت بعدم تقبله لما رأته:
أنا كنت في نفس الحالة اللي إنتِ فيها وأنا بشوف التسجيلات دي...
ثم تنهد بوجعٍ ليستكمل حديثه:
كل اللي أقدر أقولهولك إني مكنتش واعي، وللأسف مجبور أتجوزها..
رفعت عينيها الناقمة عليه وعلى سماع صوته لتواجهه بكتلة شرار يتمثل بأحمرار عينيها:
على الأساس إنك كنت مغصوب!.
ثم أشارت بيدها على جهاز التشغيل:
اللي شوفته بعيني دا واحد واعي للي بيعمله...
أشار لها بالنفي، فأوقفته بكلماتها الصارخة:
أنا كنت شاكة من البداية إن في حاجة بينك وبين البنت دي ووجودي هنا أكبر دليل...
ضيق عينيه بصدمةٍ لياغتها بسؤالٍ متردد:
تقصدي أيه؟.
نهضت عن الأرض لتشير له بغضبٍ لا مثيل له:
قصدي إنك عامل كل المسلسل دا عشان يكون في مبرر لبعدك عني وجوازك منها...
نهض سليم ليقف أمامها، يتعمد التعمق بعينيها لعلها ترى آلآمه:
ريم أنتِ شايفة حبي ليكِ بالطريقة دي؟.
بسمة ساخرة تشكلت على جانبي شفتيها رغم الدموع الساكنة بغرف عيناها:.
أنا حبيتك وأنت جرحتني، خنت ثقتي فيك، كسرتني مرتين مرة لما خنتني مع الكلبة دي ومرة تانية لما صورت كل اللي حصل وإخترعت عليا المسلسل اللي واقف تكمله عشان يكون في حجة مقنعة لجوزك منها، وقتلتني لما خلتني أشوف كل دا بعيوني...
حاوط ذراعيها بيديه قائلاً بتبرير:
كل دا مش صحيح يا ريم صدقيني أنا آآ...
قطعت كلماته بصراخها العالي حينما دفشته بعصبية بالغة وكأن تيار كهربي مس جسدها:.
متلمسنيش، خلاص كل اللي بينا إنتهى وبحمد ربنا إني لسه على البر...
جحظت عينيه صدمة من ردة فعلها الغير متوقعة، فقالت بقوةٍ عجيبة:
والوقتي بعد الشو الجميل دا، طلقني...
بحث بعينها عن شيء كان يأمل برؤياه ولكنه لم يجد سوى الخذلان، فقال بثباتٍ:
طلاق!، إعتبري الحل دا مش موجود في قاموس إختياراتك يا ريم...
خرجت عن سيطرتها لتصرخ بغضبٍ لا مثيل له:.
وأيه الإختيارات إني أكون على ذمة خاين زيك وأشوفك بتتجوز الزبالة دي!..
ظلت نظراته متركزة عليها بثباتٍ جعلها تتمرد فأقتربت لتقف قريباً منه، هامسة بصوتٍ مخيف عن ما يدور بداخلها من نيران تكاد تحرقها:
دا بعدك يا سليم، هتطلقني برضاك أو غصب عنك ومتنساش أنا مين وأخت مين فبلاش تحط نفسك بمواجهة مراد أو رحيم...
إبتسم بسخرية، فرفع حاجبيه بأستنكار:.
الله بقينا بنعترف بيهم أهو، شابو حبيبتي بس للأسف أنا مبتهددش واللي عندك وعندهم يعملوه، أنتِ ملكي سواء قبلتي أو رفضتي...
إشتعلت غضبٍ منه، كيف تتحمل خيانته، يقف أمامها ويخبرها بزواجه بمنتهى البرود ويضيف بأنها ملكه بعد ما فعله، إستغل شرودها وإقترب منها بهدوءٍ بدأ يتسرب إليه:
ريم بلاش تظلميني وتدخلينا في طريق هيهد كل حاجة حلوة بينا، أنا مكنتش واعي صدقيني دي الحقيقة...
ثم رفع يديه على وجهها بلمسة حنونة تلتمس عودة الحب فيما بينهما:
أنا محبتش غيرك، طول عمري وأنا شايفك ليا، خاليكِ جانبي لحد ما نعدي مع بعض...
دفعت يديه بعيداً عنها قائلة بسخطٍ:
بتحلم...
ثم قالت بعصبية:
الحب دا كله أتهد في اللحظة اللي الفيديو دا إشتغل، كل اللي جوايا هو الكره، فياريت تطلقني بمنتهى الهدوء وكل واحد يروح لحال سبيله...
تملكه الغضب لسماع تلك الكلمة السهلة بالنطق بالنسبة لها ولكنها تقتله بالبطيء فقال بثباتٍ يعجه القسوة:
قولتلك مش هطلقك، هتكملي معايا مفيش إختيارات تانية ليكي يا ريم..
بحثت حولها بنيران تشتعل بعقلها وجسدها وكأنها مجردة من الفكر، وجدت غايتها فقالت بحقد:
لا عندي إختيار أخير..
وجذبت جزء من المرآة المكسور أرضاً لترفع معصمها ثم أغلقت عينيها ومررتها بسرعة كبيرة جعلتها بذهولٍ من عدم توجعها، فتحت عينيها لتجده يقف أمامها بخوفٍ ويديه تنزف بغزارة بعد أن أصيب كف يديه وهو يفادي أوردتها، رؤيتها لدمائه جعلتها تحرر أصابعها من حول قطعة المرآة فسقطت أرضاً، إحتضنت فمها تكبت شهقاته بصعوبة، تماسكت بذاتها وربطت على قلبها باللا تقترب منه فجذبت حقيبة يدها الموضوعة أرضاً ثم هرولت للأسفل...
ريم!..
صرخ بأسمها فلحق بها للأسفل بخطواتٍ سريعة، وجدها تكاد بالصعود لسيارتها فأمسك معصمها قائلاً بصوتٍ بح بآنين:
مش هسمحلك تبعدي عني فاهمة..
رفعت عينيها المنكسرة إليه بعدما تمكن منها ألم الخيانة ليجعلها هزيلة فقالت بدموع لحقت بها لتخفف حدة تنفسها:
إنت مش بعدتني يا سليم أنت قتلتني..
حرر أصابعه من حول معصمها وهو يرأها بتلك الحالة البائسة، صعدت لسيارتها لتقودها بسرعة كبيرة وكأنها تهرب من نظراته التي تتخيلاها تلاحقها، ظل محله بمنتصف الزقاق يتابع سيارتها بنظرات ألم وهو يتذكر دموعها المنكسرة!.
أخر شخص توقعه يجلس أمامه، عقله توقف بشكلٍ نهائي عن العمل، بالكاد كسر حالة التصلب المسيطرة على جسده ليقترب قليلاً منه، نهض رحيم عن مقعده ليقترب منه هو الأخر ببسمة غامضة تحتل ثغره، وضع يديه بجيوب جاكيته ليبدأ بقول:
أكتر حاجة مستغربها إنك متخيل إن رحيم زيدان مش هيحس بوجودك بقصره وأنت اللي ليك الفضل بنقطة التحول بقصته!..
إبتسم طلعت وقال بمكرٍ:
كنت عارف إن الموضوع مش هيطول معاك يا رحيم..
رفع حاجبيه بسخطٍ:
موضوعك ولا موضوع عمران..
لم يتفاجأ بمعرفته للحقائق المخفية عنه بل إزدادت بسمته تفاخر والصمت حائل علىالطرفين وكأن العينين تتحدثان بإشارة خفية!..
رأته يجلس على الأريكة بردهة القصر، ولجواره كان يجلس العم مصطفى، لا تعلم لما تمكن منها الخوف وكأنها تشعر بشيئاً ما، تمسكت حنين بيديه وكأنها تستمد القوة المفقودة بداخلها، فربما إعتراها الشك بمعرفة سبب قدوم أبيها، جلست جوار مراد وترقبت بصمتٍ ما سيحدث ويالتها ما إستمعت لما يقال...
بمكانٍ أخر بعيداً عن مطاف مملكة عائلة زيدان..
نفث غيلونه بأنتشاء وهو يتابع المعلومات الجديدة عن عدوه اللدود، إرتعب الراوي فتوقف عن الحديث حينما وجده صامتٍ، أشار له بأصبعيه ليسترسل حديثه:
البنت دي هي نقطة ضعف رحيم زيدان، هي الوحيدة اللي تقدر تجيبه راكع على رجليه وأكيد هيحرر عمران بيه بدون تردد..
إبتسامة عجت بالشرار ولعنة الشيطان تتمكن من عينيه المخيفة ولكن ربما هناك حلقة مفقودة بعد مصيرها بيد الجوكر المزعوم، ولكن ماذا لو كانت نقطة تحول بحياة شجن؟!..
حديث ماكر مسطر بحرافية خلف سطور خبيثة يخفي حديثه الغير مباشر بما يقال، إلتمس مراد ما يود قوله منذ بداية حديثه ولكنه فضل الصمت لإستكشافه عن قرب، ختم حديثه بجملة صفعت حنين بقوةٍ لتجعلها تستوعب ما يقصده:
كان لأزم أجيلك لحد هنا عشان أشكرك بنفسي على كل اللي عملته لبنتي، مصطفى فعلاً كان معاه حق محدش يقدر يحميها غيرك..
بنظراتٍ واثقة تتعمق بعينيه الخبيثة فقال بمكرٍ يفوقه:
بتشكرني عشان بحمي مراتي..
إبتسامته الساخرة التي إحتلت ثغره أكدت ل حنين ظنونها وخاصة حينما بادر بقول:
أعتقد إن موضوع مراتك والكلام دا معروف أخره، حمايتك لحنين كان رد جميل لمصطفى ، ولا ايه؟!..
بدت ملامح الجوكر أكثر ثباتاً وكأنه لم يكن متفاجئ بحديثه، فسأله مباشرة:
أنت عايز تقول أيه؟..
أجابه والدها بصوتٍ قد رفع لهجته قليلاً:.
عايز أقول إن خلاص الشر اللي كنت بتحميها منه إنتهى يعني أديت مهمتك على أكمل وجه، وجيه الوقت اللي بنتي ترجع معايا بيتها...
بنتك!..
كلمة قالتها حنين تحملها الذهول برداء ممزق ليوضح ما يخفي خلفها من معالم مصعوقة لما تستمع إليه، فقالت بسخرية:
دلوقتي عرفت إني بنتك وعندي بيت ولازم أرجعله؟!.
كان فين كل دا وأنا بتنقل من مكان لمكان!.
كان فين كل دا وأنا بشوفك مرة كل سنتين وبتكلمني كل سنة مكالمة تتطمن فيها إني لسه عايشة...
أجابها بحزم وكأنه يصدق ما يتفوه به:
كنت بحميكِ...
ردت عليه بمجباهة:
كنت بتحمي نفسك مش بتحميني...
إنكمشت ملامحه بصدمةٍ من كلماتها، فأسترسلت ما قالته ببسمة ألم:.
كنت خايف الأملاك دي تكون سبب موتك فكتبت كل شيء بأسمي وأنت عارف إني هواجه حقد ولاد أخوك وخططاهم، كنت بتضمن لنفسك الحياة مقابل إنك تعرضني للخطر وعشان ترضي ضميرك كنت بتحاول تغطيلي حماية..
ورفعت أصبعها أمام وجهه بدموعٍ أزاحت تحجرهما:.
محاولتش ولو لمرة تستغل منصبك وترميهم بالحبس بأي تهمة لإنك كنت خايف يحصل جلبة ويعرفوا أيه سر ورا جمع الثروة العظيمة دي ودلوقتي بعد ما خلاص مبقاش ليك أعداء جاي تسأل على بنتك وتأخدها كادو بالمرة فوق إنتصاراتك المرضية...
تغلب الغضب منه فنهض عن مقعده ليقف أمامها بعصبية جعلت صوته كالبركان:
أنتِ أكيد إتجنننتي ودماغك محتاجة تتعدل من أول وجديد..
وجذبها من معصمها بقوةٍ ألمتها، قائلاً بأصرارٍ:.
لينا بيت نتكلم فيه..
قالت بألم وهي تحاول تخليص معصمها:
أنت هنا في بيتي وماليش غيره...
تصلبت عروق ذراعيه، فرفعت عنها رغماً، وكأن هناك قوة مغناطسية تجذبه بقوةٍ إستمدته كالهزيل، رفع عينيه بصعوبة ليجده يقف مقابله يعصر معصمه بقبضة يديه القاتلة، ليدفعها للخلف فأمسك بها يتفحصها بألم، وقف مراد أمامه ليستطرد بقول:
شيطانك مصورلك إنك هتدخل بيتي وتعمل كل دا وهسيبك تخرج معها بمنتهى البساطة!..
حاول أن يستقيم بوقفته متجاهلاً مصطفى صديقه الذي يحاول تفحص يديه:
دي بنتي فوق لنفسك ومتنساش إنت بتكلم مين؟
إبتسم ببرود ليقطع المسافة بينهما حتى صارت منعدمة لدرجة جعلت والدها يبتلع ريقه برعب وهو يرى فارق الطول والعرض بينهما رغم ذرعه المصاب، خلاف ذلك يعلم جيداً بسجلاتٍ ضخمة كناية الجوكر الموقر، تجاهل رائحة الخوف التي تتصبب مع عرق جبينه وقال بكبرياءٍ جعل قلبها يطرب عشقٍ وفرحة لشعورها بأنتمائها إليه أخيراً:.
وحرم مراد زيدان اللي أنت واقف على أرض مملكته وممكن بأشارة واحدة يمحيك أنت وحرسك من على وش الأرض ومش بمساعدة حد...
ورفع ذرعه ليكورها بقوةٍ أرهبته ليستكمل حديثه:
بدراعه...
جذبه مصطفى من كتفيه ليحثه على الخروج معه، إنصاع له ليس لرغبته بالإنسحاب ولكن لطوفان الخوف الذي نبض بداخله فور سماع كلمات إبنته المقترنة بالحقيقة ورؤيته للجانب المظلم من نفوذ مراد زيدان، خرج ليتباعد قليلاً ثم تخفى بشكلٍ كلياً حينما صعد لسيارته، تنفست بحرية وكأن هناك من كان يحجب عنها الهواء فكيف كانت ستتنفس وهي تخشى أن تبتعد عنه، تخشى أن يتخلى عنها رغم أنها تعلم بأنه من المحال أن يتركها، لطالما عاشت بأختيارات صعبة بين كونه يحبها أم يحافظ على وعده بحمايتها ولكن فور جعلها زوجة له قولاً وفعلاً صارت على تأكد بأنه يحبها ويريدها لجواره، سحب نظراته عن باب الخروج ليتجه إليها، منحته بسمة صغيرة شاحبة ثم إرتمت بأحضانه بإنكسار لمواجهة أبيها بحقيقته فكانت تحرص على عدم التصريح له أبداً وتعامله بصورة طبيعية لإقتناعها بأنها تعامل الله وليس هو ولكنه الآن يريد أن يدمرها بأبتعادها عن من أحببته بصدقٍ...
مازال يقف كلاً منهما أمام الأخر، يلقي كلماتٍ خبيثة والأخر ليس أقل منه، يعلم قوانين اللعبة ومفاتيحها السرية، إستنزف غضبه حينما إدعى الدردشة الفضولية وسط حديثهم المطول:
وجودي مع عمران مكنش سجن بمعنى الكلمة، يعني كانت بتوصلني أخبار عنك وعن أخوك بأستمرار..
رفع رحيم حاجبيه بسخطٍ، فتساءل ببرود:
أتمنى أخباري تكون إستحوذت على إعجابك..
يعلم كلاً منهما ما يتعمق بعقل الأخر، جز طلعت على أسنانه بغضبٍ كبته حينما وقف أمامه ليخرج حديثه الموزون فهو لا يريد نشب الصراع فيما بينهما ولكن يريد البوح عما يضيق بصدره:
لا عجبتني وشوفت إن تعاليمي ليك جابت نتيجة الا في حاجة واحدة..
ضيق عينيه الزيتونية بهالة الغضب التي بدت بالسيطرة عليه، فأستكمل طلعت حديثه:
حذرتك ألف مرة ما تدخلش البنت اللي كانت السبب في دمارك حياتك، وأنت عملت أيه؟..
أبيضت يديه أثر قبضته القوية المتكورة، يقسم بداخله إنه لو لم يكن والده لحرص على قتله بيديه، جز على أسنانه بعصبية بالغة فخرج صوته المتعصب:
متكلمش عنها..
قطعه بحدة وبلهجة مختنقة:.
لا هجيب، افتكر كويس أنا قولتلك أنا قولتلك أيه أول ما خرجتك من الزفت السجن دا وجابتك هنا، قولتلك إنسى حياتك اللي عشتها قبل كدا وأبدأ حياتك بالطريقة اللي تليق بأبن طلعت زيدان ، بس أنت لحد النهاردة زي مأنت بتحاول تبرز شخصية رحيم زيدان الوجه الخارجي، البنت دي طول ما هي في حياتك هتبقى ضعفك اللي محدش قدر يمسكه عليك طول السنين دي كلها، وزي ما كانت السبب في دخولك السجن قبل كدا هتكون السبب في نهايتك وآ..
بترت كلماته حينما هوى رحيم بلكمة قوية بزجاج المرآة من أمامه ليحذره بعنفٍ:
قولتلك متجبش سيرتها على لسانك...
خشى أن يفقد المسافات فيما بينهما، فألتقط أنفاسه بهدوء ثم قال:
أعمل اللي انت عايزه بس المهم ترجع العيلة دي زي ما كانت وياريت محدش يعرف إني عايش..
أكيد هعمل اللي أنا عايزه مش إختياري ليك، ثانياً العيلة اللي انت متعرفش معناها دي ميهمهاش إنك عايش ولا ميت لإنك نجحت في كل مخططاتك يا باشا..
تفوه بالكلمات الساخرة وهو يتوجه للخروج من الدرج السري أسفل القصر، تعلقت نظرات طلعت بالفراغ لتصبح ملامحه مهمومة للغاية، شعر بحركة غريبة بأحد الأركان، فتوجه للباب السري المستقيم تجاه الحائط الأخير ليجد والدته السيدة عظيمة تقف جوار الخادم الحامل للطعام، إتكأت على عصاها الذهبية حتى جلست على أحد المقاعد، تعابير وجهها جعله يفطن سماعها لما حدث بينه وبين رحيم، فقال بشكوى:.
سمعتي بيكلمني إزاي!، وأنا اللي متوقع إنه هيفرح إني لسه عايش..
رسمت بسمة خافتة على وجه السيدة الوقورة ذو الكلمات المختصرة والظهور بالعائلة القليل فقالت بحكمة:
عارف ليه يا طلعت أنا بقضي أغلب وقتي بره مصر؟.
أجابها بهدوء:
أكيد عشان تزوري المقابر، مهو بعد وفأة بابا ودفنه بأيطاليا أنتِ بتقضي أغلب وقتك هناك عشان تكوني جابنه..
أجابته ببسمة ساخرة مؤلمة:
أنا محبتوش وهو حي عشان أكون أجنبه وهو ميت..
إنزوت عينيه بذهولٍ من حديثها، فأستطردت حديثها بنفس تلك البسمة:
السبب اللي بيخليني أبعد يا ابني إني عشت في البيت دا وشوفت بعيوني كرهكم لأبوكم وتحكمه فيكم، وبعد ما مات شوفت بعيونكم فرحة لحرية إتحرمتم منها لسنين عشان كدا مكنتش بحاول أقيدكم وبالذات احفادي ففضلت أكون بعيدة وأسيبهم يعيشوا الحياة اللي هما اختاروها..
ثم نهضت عن المقعد لتشير له بعصاها قبل رحيلها:.
أنت بدل ما تفرح بحريتك دي قلبت نسخة منه ورجعت تتحكم زيه بالظبط وبعد كدا رحيم اللي أنت صنعته بأيدك...
وتركته مصعوقاً من كلماتها الصافعة لروحه وغادرت، فربما بأعادته للماضي يسترجع شيئاً فقده بذاته...
بمعاونته تمكن من الهرب من محاصرة قطاع الطرق، قاد سيارته خلف سيارة جان وكأنه يتبع دربه دون أي وجهة منه، توقفت أمام نهر النيل ثم هبط منها فأوقف ريان سيارته هو الأخر ثم هبط ليستند كلاً منهما على سيارته، الصباح كان على المشارف، وشروق الشمس بدى بخطوطه الذهبية، حالة الصمت بينهما كممت الأفواه، ما بين تأنيب ضمير تجاه رؤيته يعاني وكبته لشيء يسعده وما بين الإنتظار للتأكد من ندمه تجاه ما حدث، فبدى بالحديث قائلاً:.
كنت فاكر إنك هتشمت والحوارات دي بس شايفك بائس كدا وعايز تضيع فرصة الشماتة..
لاحت على وجه جان بسمة وجع ليستدير إليه برأسه:
شماتة فيك أنت!.
هز رأسه بتأكيد فقال الأخر بقهر:
أنا عقلي مفهوش مكان للتفكير بشماتة ليك أو فرحة ليا كل اللي بيحاوطني ذكريات وصور لموت خالد، ذكريات بتنغز قلبي..
ثم اشار له بإختناق:.
أوقات بحس إني مش قادر أتنفس وأوقات تانية بخاف أموت وأنا شايل ذنب كبير كدا، كان نفسي يسامحني أو على الأقل أبررله...
رفع يديه على كتفيه ليزيح رابطة لسانه، قائلاً بثباتٍ:
سامحك..
رنت كلماته على مسمعها كالمياه التي زارت قرية تغلبها القحط لسنواتٍ، فأعتدل بوقفته ليتطلع له بعينين غائرتين بالدموع، هز ريان كتفيه ببسمة هادئة:
كان نفسك تعرف خالد قالي أيه قبل ما يموت والوقتي عرفت...
شُل لسانه عن الحديث، وعحزت قدميه عن الحركة وكأنه لا يستوعب ما يقال، مرت الدقائق ومازال يقف محله إلى أن تحركت قدميه تجاه سيارته بدموعٍ فأوقفه ريان بأستغرابٍ:
على فين؟.
أجابه بعينين تدمعان:
مشوار لازم أعمله وأوعدك إنك زي ما أنت فرحتني دلوقتي أنا كمان هكون سبب فرحتك قريب..
وتركه وصعد لسيارته ليغادر سريعاً لمخزنه السري الذي يضع به إياد، يشعر بالسعادة ونبعها حكمة غريبة ولدت بداخله، حينما مد يديه لمعاونة شخص منكسر أتى من رمم روحه الممزقة وضمد فؤاده المكلوم، وصل جان بعد نصف ساعة قضاها بالطريق وقد بدأت الشمس بأستلام عرشها الصباحي، ولج للداخل بعد أن ترك سيارته بالخارج لرجاله، ليقشعر جسده فرحة حينما رأى إياد خاشع على سجادة الصلاة، نعم يبدو جسده هزيل بعض الشيء، ذقنه نامية للغاية، هيئته توحي بشدة بلائه بمحاربة هذا السم القاتل ولكنه بالنهاية يتحول لإنسان!
إنسان يملك الحق بعيش الحياة التي سلبت منه، دمعت عين جان كانت كاسر ليومٍ يقضيه بفتح أبواب مغلقة من أمامه ليجعله يتقين بأن ﷲ عز وجل يقف لجواره، يريده بطريق عبادته، يريده بالتوبة، يدفعه بالقدوم لبابه، يريه من آياته تفاصيل تشكل بواقعه، إنتهى إياد من صلاته، فنهض يلملم سجادته بحرصٍ وكأنها شيئاً ثمين، وضعها على حافة المقعد المتهالك ثم إستدار ليجد جان مقابله، تعجب للغاية حينما إحتضنه جان بقوة وحماس ليردد بكلماتٍ غير منتظمة:.
خالد سامحني يا إياد، أنا كنت مغفل لما خبيت عنه كل حاجه بس الحمد لله ريان قالي إنه كان مسامحني كل دا بسببك وبسبب وقفتي جانبك..
رسم على ثغره بسمة واهنة، ثم قال بضعفٍ:
ربنا يريح بالك..
ثم تحرك للفراش بخطواتٍ ثقيلة فيبدو أنه لم يتعافى كلياً بعد، إرتشف حبة من المسكن الموضوع جواره ثم تمدد قليلاً، فباغته بسؤالٍ:
ليه مش شايفك فرحان بتحسنك؟..
أجابه بإنكسار:.
أنت ساعدتني أتغير وإتغيرت فعلاً بس فين الحياة اللي هواجهها!، أنا خلاص إنتهيت وأخدت اللي ليا..
جلس جان جواره ليردد بأبتسامة عذباء:
إستقبالك لحياة جديدة بتبدأ من نفسك الأول وبعدين من اللي حواليك، لبسك، طريقتك، صحابك اللي وصلوك لهنا، ودا ميمنعش إنك تحاول تصلح في ماضيك على قد ما تقدر عشان تقدر تعيش بدون تأنيب ضمير..
حديثه عن الماضي دفعه جذرياً بذكرياتٍ مرتبطة بتلك الفتاة، صباح ، لا يعلم ما الذي حدث معها أو أي معلومة صغيرة عنها منذ دخوله لهذا المكان، أشار له بلهفة:
أنت ممكن تساعدني في حاجة؟.
أجابه جان بمصداقية:
أكيد..
رنين هاتفه المزعج جعله مرغم على رفعه، يعلم بأنها هي ويعلم أيضاً بأستخدمها لعدة أرقام مختلفة حتى لا يغلق الهاتف بوجهها، رفع سليم هاتفه بغضبٍ شديد ليصرخ بعنف:
لسه عايزة أيه؟!.
أتاه صوت هنا المدعي للدموع والحزن الزائف:
عايزاك يا سليم، عايزة اتكلم معاك في موضوع مهم..
ضغط على رأسه بقوة وهو يلكم مقود سيارته التي تصف اسفل نافذة غرفة ريم:.
مفيش كلام هيجمعنا ازيد من توقيع على ورقة وبعد كدا كل واحد يروح لحاله..
أجابته برقة مصطنعة:
مش هينفع لأني حامل ودا اللي كنت عايزة أقولهولك..
جف حلقه من فرط صدمته الكبيرة ومع ذلك حاول إستجماع كافة قواه للحديث:
وحقيقة حملك مش هتغير حاجة فياريت توفري مجهودك العظيم...
وأغلق هاتفه لينحني برأسه على مقود السيارة بأستسلام للكوارث التي احاطت به، ولكنه تفاجئ بطرقات خفيفة على نافذة سيارته، رفع رأسه ليجده يقف أمامه ليشير له بيديه بحدة:
إنزل، عايزك..
زفر بضيقٍ فما كان ينقصه مواجهته بذاك الوقت الذي يستضعفه، وأي مواجهة ستكون أصعب من مواجهة. رحيم زيدان؟!.