رواية هدوء بعد العاصفة للكاتبتان فاطمة حمدي و شيماء علي
الفصل التاسع عشر بعنوان: صراع مع القلب
لم تعد تشعر بشيء وكأنها أُصيبت بالخدر وهي بين أحضانه!
عيناها بعينيه..
وجهها بوجهه..
أنفاسها تتناغم مع أنفاسه الثائرة كدقات قلبه الآن..
مازال ذراعه يعتقل خصرها النحيف حاملاً إياها..
والصمت كان سيد الموقف قبل أن يتحرر منه فارس الذي قال بهمس كاد يذيبها:
-مش تبصي قدامك؟!
ازدردت ريقها بارتباك وخجل شديدين والآن أدركت أنه يحملها..
فافلتت نفسها منه سريعًا ولم تستطع الحديث.. نظرت إلى الأرض بخجل تداري حُمرة وجهها عنه..
ولا تعلم -هي- أن الحُمرة هذه تفعل به الأفاعيل!
أراد أن يخفف من حدة خجلها فقال بعد أن تحكم بمشاعره:
-شكلك كنتِ عندنا؟
رفعت رأسها إليه وقالت نافية:
-لا كنت عند علا صاحبتي..
-معقولة تيجي لحد هنا متطلعيش تطمني على طنط سعاد؟
ضحكت تلقائياً على حديثه.. فقال بتصميم:
-لازم تطلعي!
-لا مش هينفع أنا...
قاطعها بحزمٍ رفيق:
-سلمي عليها وبالمرة أعرفك على أمي..
صمتت بتحيّر.. فرمقها مطولاً وهو يقول رافعاً حاجبه:
_تعالي..
وصعد درجتين ولم يكد يصعد الثالثة حتى سمع همسها:
-بس أنا ماما و...
-متخافيش أنتِ ناسية إني إبن عمك؟! يعني عادي!
هزت رأسها بقلة حيلة وصعدت خلفه بخطواتٍ حذرة إلى أن توقفت أمام الشقة معه وفتح هو بالمفتاح ليلج إلى الداخل قائلًا ببسمة رجولية زينت محياه:
-اتفضلي..
دلفت بتمهل فأقبلت عليها السيدة سعاد مع قولها المُرحب:
-ليلى! حبيبتي تعالي نورتينا..
صافحتها وعانقتها بحرارة ثم اصطحبتها معها وهي تقول:
-تعالي يا سهير.. رحبي ب ليلى..
امتعض وجه سهير لمجيئها الغير محبب على قلبها، ثم قالت بضيقٍ لم تستطع اخفاؤه:
-أهلا بيكي..
فردت ليلى بخجل:
-أهلاً بحضرتك..
عاتبت ليلى نفسها على صعودها معه.. فملامح والدته غير مبشرة.. يبدو أنها تكن لها كرهاً حقيقياً..
لهذا نهضت ليلى على الفور قائلة:
-أنا لازم أمشي بقى عشان ماما ماتقلقش عليا..
فردت (سهير) بتهكم:
-هي ماما ماتعرفش إنك جاية هنا ومع فارس؟
أجابت ليلى بجدية
-أنا كنت عند علا صاحبتي.. و.. فارس هو اللي أصر أطلع وأتعرف على حضرتك وأسلم على طنط سعاد..
ابتسمت ساخرة وقالت متعمدة احراجها:
-تسلمي عليا؟ آه.. فرصة سعيدة يا حبيبتي..
في حين رمقها -فارس- بعتاب سافر دون كلام..
وكذلك فعلت سعاد قبل أن تقول بابتسامة حانية:
-تشربي إيه يا لولو؟
-لا أنا لازم أروح معلش يا طنط سعاد..
قالت جملتها ولم تنتظر أكثر.. حيث أسرعت تجاه الباب.. فنهض فارس خلفها قائلًا بحزمٍ هادئ:
-استني هوصلك..
كادت تعترض.. فقاطعها بصرامة:
-يلااا!
انصرفت معه.. وحينذاك قالت سعاد بحدة:
-أنتِ بتعملي كدا ليه؟ عاوزة إيه يا سهير؟
فقالت سهير بثورة:
-البت بنت نادية دي أنا مبحبهاش وماينفعش تعلب على فارس وتقعد تتنحنح كدا!
-تلعب عليه؟!
قالت العجوز بغضب فيما تكمل:
-دا على أساس إن فارس عيل صغير؟، لا بقى دا راجل ملو هدومه.. وليلى دي بنت كويسة جداً أنا عن نفسي بتمنى تكون من نصيبه..
برزت عيناها مع كلمتها الأخيرة وراحت تهتف:
-لا ماتقوليش كدا يا أمي، دا مش هيحصل أبداً..
نهضت والدتها بعنف وهي تتكأ على المقعد وهتفت بها:
-شكلك ناوية تخسري ابنك تاني يا سهير وماتعلمتيش من اللي فات.. بس اعملي حسابك فارس دا أنا اللي ربيته يعني أنتِ مش من حقك تقولي أي حاجة.. وكفاية بقي لانك زودتيها أووي..
انصرفت الجدة ما ان انتهت حديثها وتركتها تبكي بحيرة...
استقلت السيارة معه وجلست جواره تفرك كفيها معا بتوتر وخجل..
أما هو فرمقها بنظرة خاصة ودقات قلبه كأنها في صراع..
اصطدمت عيناه بعينيها حين رفعت رأسها وكأنها تود قول شيء ما..
لكنها عادت تطبقهما بخجل من نظرته الجريئة لها..
فقال باسما:
-عاوزة تقولي إيه؟
نظرت إلى النافذة بصمت للحظات.. قبل أن تقول بضيقٍ:
-مامتك.. آ
قاطعها بهدوءٍ:
-كل إنسان مننا له اسلوبه ومش كل الناس اسلوبها هيعجبنا.. عودي نفسك إنك لازم تعرفي تتعاملي مع كل الناس.. اتعاملي باسلوبك أنتِ فاهماني؟
مطت شفتيها للأمام بعدم اقتناع.. ثم قالت بتمردها المعهود:
-بس أنا مش مجبرة أتعامل مع حد اسلوبه مش عاجبني..!
ابتسم وكأنه كان يتوقع ردها عليه..
ستظل ليلى المتمردة والتي تحوذ دائماً على اعجابه رغم تمردها..
طال صمته كما طالت نظرته إليها.. فارتبكت بشدة واختلست النظرات له..
فعاد ينتبه إلى الطريق بصمت وترها أكثر..
-أنت زعلت؟
همست بخجل متسائلة، فقال فارس مراوغا:
-أيوة..
عضت على شفتها السفلى وتحجرت الحروف على شفتيها.. قبيل أن تتحرر من صمتها الخجول وتقول برقة؛
-لو ضايقتك أنا أسفة..
نظر لها وقال بجدية:
-مافيش داعي يا ليلى.. أنا بهزر على فكرة، أنتِ فعلا مش مجبرة على حاجة..
وصلنا..
توقف بالسيارة أمام البناية.. فترجلت على مهلٍ وقالت برسمية:
-متشكرة!
هز رأسه مبتسما وهو يُتابعها بعينين براقتين بوهجٍ خاص.. غريب.. مختلف وجديد عليه تماما..
كشعوره نحوها..
ولم يختلف شعورها كثيراً عنه..
كانت تشعر بشيء غريب في اليسار!
يتحرك نحوه ويتلهف في قربه..
ذاك الغريب القريب.. حتى اسمها منه له مذاق خاص
نكهة خاصة..
هو شخصيًا حالة خاصة بحياتها...
مساءً..
تفاجئ "سعيد" أثناء عمله باثنين في حجم ضخم للغاية.. صُعق حين نظر لهما بخوفٍ حقيقي..
ثم هربت الدماء من عروقه وهو يشاهد ما فعلاه..
حيث أخرجا كل من في الورشة خاصته إلاه..
ومنعاه من الخروج فتفاجئ بمن يدخل خلفهم بثبات!
ولج "فارس " إلى الورشة وراح يهبط بابها بعنف مصدرا صوتاً أرعبه بشدة..
ثم استقام واستكمل تدخين سيجارته وهو يرمقه بنظرة واعدة شرسة.. حملت ما ينوي فعله به..
اقترب اقترابا كاد يقتله.. وقضى على المتبقي من ثباته..
ازدرد ريقه وهو يتراجع للخلف حتى اصطدم بالحائط.. فراحا الحارسان يمسكاه بقوة وكبلاه..
فصرخ حينها غاضبًا:
-أنت مش قد الكلام دا يا...
لم يستطع تكملة حديثه.. حيث تلقى صفعة قاسية من فارس على صدغه.. تليها صفعة أخرى..
وراح يسبه بعنفٍ.. وهو يهتف به:
-هو أنت كنت فاكرني هسيبك تعيش كدا عادي بعد اللي عملته يا ----------؟!
أنت اللي مش قد اللي عملته عشان أنت راجل واطي..
صمت فارس قليلًا وهو يقبض على فكه بشراسة وقد أخبره بوعيد:
-المرة دي قرصة ودن صغيرة جداً، عشان بس أنا مش فاضيلك..
أنهى كلامه ومن ثم انهال حارساه عليه بالركلات واللكمات..
واستمرا لفترة زمنية إلى أن أشار لهما وتقدم منه قائلًا بحدة عارمة:
-ورقتها توصلها بكرة.. موصلتش بكرة يبقى استعد عشان تقضي عمرك كله في السجن.. آمين؟!
خارت قواه وظل يحدق به بلا حديث.. فقبض على فكه مجددًا وهو يهتف مكررًا:
-أمييين؟!
هز رأسه بالكاد ملبيا أمره.. فاستقام فارس ونفض يده باشمئزاز ثم قال بغضب:
-دول اتنين بس من رجالي اللي بيطلعوا وقت اللزوم.. لو عاوز تتمسح من على وش الدنيا فكر تلعب معايا تاني أو تقرب منها..
واستدار ماشيًا بصحبة الرجلين ورفع الباب الحديدي مع قوله الجامد:
-ورقتها توصل بكرة!
أخبارك إيه يا فارس؟..
همست بها والدته وهي تجلس جواره على الفراش بغرفته.. فقال بهدوءٍ:
-أنا تمام..
-أنت زعلان مني في حاجة يا فارس؟
سألته بخفوت وانتظرت اجابته، فرد عليها بجدية:
-هزعل منك ليه؟
-يمكن عشان ليلى!..
-مش فاهم وضحي أكتر؟
تنهدت بحزن.. ثم قالت بضعف:
-ليلى دي تبقى بنت مرات أبوك!
استأنف ببرود:
-ما أنا عارف!، عاوزة توصلي لأيه يعني؟
صمتت وهي تزفر أنفاسها باختناق، فنهض هو عن الفراش فجأة وهتف قائلًا:
-أقولك أنا عاوزة توصلي لأيه.. عاوزة تقولي لو عجباك يا فارس شيلها من دماغك..
لو حاسس من ناحيتها بأي حاجة بطل تحس!
دي بنت الست اللي اتجوزت الراجل اللي كااان جوزي!
صح؟ مش هو دا اللي أنتِ عاوزة تقوليه؟
نهضت عن مجلسها وناظرته بصدمة بينما ترقرقت العبرات بعينيها، وواصل هو:
-بس أنا بقى عاوزك تشليني من حساباتك دي خالص...
ثم أعطاها ظهره وقال بمرارة:
-زي ما كنتِ طول عمرك شيلاني منها...!
وأكمل:
-أنا بس المسؤول عن حياتي وقراراتي.. أنا بس!
شعرت أنه وكأنه لم يغفر لها.. ولن!
كلماته التي أصابت قلبها كالأسهم تدل على حزنه الدفين.. على عتابه..
انسابت دموعها واحدة خلف الثانية.. ولم تقل سوى:
-معاك حق.. أنا أسفة!
وخرجت من الغرفة بخطوات سريعة.. لتدخل بعدها والدتها بنظراتٍ حملت عتاب واضح وهي تقول بجدية:
-كلامك قاسي يا فارس، مالكش حق تعمل كدا
جلس على الفراش مرة أخرى وقال بعنف:
-حق! حق إيه؟ هي ليه بتتكلم كدا وكأنها ربتني وتعبت فيا ومن حقها كمان تحدد حياتي على مزاجها!
-مهما حصل هي لها حق عليك ولازم أنت تفهم كدا!
-ملهاش حق..!
قال بإصرار.. فتنهدت الجدة وجلست جواره تربت عليه بحنوٍ، ثم قالت برفق:
-أنا عارفة إن اللي بتقوله دا من ورا قلبك، عشان أنت قلبك زي الفل..
ظل صامتا وهو يمسح على وجهه بكف يده..
فعادت تقول:
-صدقني ماحدش بيحب حد أكتر من ولاده.. وهي بتحبك أكتر من أي حد وكون انها سابتك ليا دا مش معناه انها رمتك.. هو أنا إيه وهي إيه؟..
لاحت ابتسامة متهكمة على شفتيه.. ثم قال بمرارة:
-أنتِ بتضحكي عليا بكلمتين؟ وأنتِ عارفة كويس إن مافيش حد بياخد مكان الأم مهما كان!.. وبعدين أنا عملتلها إيه؟ أنا واقف معاها بكل ما أملك.. بس مش معقول تيجي تتحكم فيا بدون داعي!
-لا يا حبيبي مش تحكم.. دي غيرة.. غيرة أم على ابنها مش أكتر من كدا.. عشان خاطري يا حبيبي قوم راضيها بكلمتين عشان ربنا يرضى عليك..
ممكن؟
هز رأسه بإيجاب وقال:
-حاضر...