قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش الفصل العاشر

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني رضوى جاويش

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش ( موال التوهة والوجع ) الفصل العاشر

انقلب السجن رأسا على عقب و زادت الهمسات و الهمهمات و ساد جو متلبد بغيوم قاتمة من الصرامة و الشدة على غير المعتاد
فهمس زكريا للمعلم سيد متسائلا: - هو في ايه يا معلم..!؟..
لكز المعلم زكريا كى يصمت هامساً بحذر:- هقولك بعدين.. اصبر..
دخل الضابط المسؤول عن السجن و خلفه المأمور الجديد الذى جاء للسجن منقولا من حوالى أسبوع..
بدأت عملية التفتيش عن اى مخالفات و ممنوعات داخل العنبر..

حمل الشاوشية و الصولات ما وجدوه داخل العنبر من أمور و أدوات لا تقر لائحة السجن بوجودها داخل العنابر و تحت يد المساجين.. و خرجوا..
تنفس الجميع الصعداء ليهتف المعلم سيد لزكريا: - انت عارف يا سيدى.. الغربال الجديد له شدة.. و ده المأمور الجديد.. العميد مختار السداوى.. هيقعد كده يقرفنا تفتيش و يعمل حبة انضباط لحد ما يفك و ياخد على الجو.. و يرتاح و نرتاح احنا كمان..

اومأ زكريا برأسه متفهما و قال: - بس المأمور دِه مش زى اللى جبليه على فكرة..
هتف المعلم سيد: - و حياتك كلهم بيبقوا كده في الأول.. و بعدين خلاص..
اخرج المعلم سيد من جيبه سيجارة دفع بها لزكريا هاتفاً: - امسك.. عفر(دخن) خلينا نعدل الدماغ اللى قلبها بسلامته..

تناول زكريا السيجارة و نهض مغادراً لفراشه ووضعها جانبا حتى يجود بها على سنجأ الذى يدخن بشراهة و يعتبر السيجارة هي الهدية الأغلى و الأقرب لقلبه..

اصر مهران وبكى..ليكون له السبق في رؤية السنة الأولى التي تظهر لتسنيم.. فلطالما دفع به باسل بعيدا عن اخته الوليدة التي كانت توليها أمه الكثير من العناية و الاهتمام..و شعر معها بشعور الأخ الأكبر الذى يجب عليه حماية اخته الصغرى..

تحايلت سهام على الامر و أرسلت باسل ليحضر لها بعض الأغراض من الداخل لتسمح لمهران برؤية أسنان الصغيرة النامية
و كم اندهش و صفق بكفيه في سعادة و هو يراها تقترب من وجهه تلامسه بكلتا يديها
منغمة هتافها بحروف غير مفهومة في سعادة جعلته ينفجر ضاحكا
لتبادله الضحكات في براءة..

و لكن تظهر سندس في الأفق تحاول الاستحواذ على الصغيرة بعيدا عن مهران..
لكن لا يفلح احدهما في جذب انتباهها فقد حاول باسل حملها فصرخت طالبة البقاء أرضا ليضعها بعد ان سأم من صرخاتها و زجرته أمه.. و كذلك سأمت سندس من صراخ الصغيرة فانصرفت عنها تلهو بعدد من الأساور البلاستيكية المتعددة الألوان..التي احضرها لها ابوها..

زحفت الصغيرة حتى مهران الذى كان يجلس في نهاية الرواق يلعب ببعض قطع مكعبة الشكل يحاول ان يبنى بها بيتا.. أتت اليه فجلست بجانبه و هي تحاول هدم ما يبنيه و ما ان تفعل حتى تضحك مقهقهة تنير الضحكات وجهها البض و خاصةعندما يحاول نهرها و الحفاظ على بيته الوهمي..

اندفع زكريا كالعادة للوضوء و صلاة العصر و التي تتزامن مع وقت الراحة لكن سنجأ الذى اصبح لا يفارقه تقريبا أمهله هاتفاً: - زكريا.. على فين..!؟..
أجاب زكريا: - على الچامع ألحج صلاة العصر..
همس سنجأ بتوجس: - بلاش يا زكريا..
هتف زكريا متعجباً: - بلاش ايه يا مخبل.. بلاش نصلوا.. !!؟..

هتف سنجأ: - لااه.. مش الجصد.. بس بلاش دلوجت.. يعنى اتأخر شوية كِده.. لحد ما العيال أمات دجون دوول (المتطرفين) يخلصوا و بعدين صلى براحتك
تعجب زكريا: - ليه..!؟.. مالنا بيهم..!!؟.. هم في حالهم و احنا ف حالنا..
أكد سنجأ: - ايووه ما انى عارف.. بس المرة اللى فاتت و انا مستنيك تخلص صلاة
لجيتهم بيتودودوا (يتهامسوا) وهم بيشاورا عليك.. مخبيش عليك خفت.. جلت ابعدك عنيهم..

ابتسم زكريا و هو يربت على كتف سنجأ ممتناً: - تسلم يا صاحبى.. متجلجش..هم ايه عازتهم لواحد زى حالاتى..
وهم زكريا بالتوجه للمسجد غير عابئ بتحذيرات سنجأ الذى هتف رغما عنه: - طب متروحش و لو على صلاة الچماعة..
صمت لثوان ثم استطرد متعجلا مخافة ان يعود في كلمته: - انى هصلى معاك..
نظر اليه زكريا في فرحة هاتفاً: - صُح..!؟. هتصلى معاي..!؟..

أومأ سنجأ مؤكدا دون ان يتفوه بحرف مما دفع زكريا للربت على كتفه في سعادة و هو يقول: - طب خلاص.. هستنى و نصلوا سوا..
تهلل وجه سنجأ بالبشر عندما استطاع إقناع زكريا بتأجيل الصلاة قليلا حتى خروج أصحاب الفكر المتطرف خارج المسجد
و الذى خاف ان يحتك بهم زكريا فيسببوا له المتاعب..

ارتجف جسد سنجأ في رهبة و هو يدخل المسجد ربما للمرة الأولى في حياته مصليا لا من اجل غاية أخرى كالنوم او استخدام الحمام..
جذبه زكريا من يده كطفلا مشاكساً يتمنع و لولا وعده لزكريا ما فكر في الإقدام على تلك الخطوة..
هتف سنجأ في وجل و بصوت متقطع: - انى.. انى مش طاهر يا زكريا..
هتف زكريا: - و لا انى.. تعالى نتوضوا..

تمنع سنجأ من جديد: - مبعرفش.. و الله يا زكريا ما أعرف.. و لا اعرف كيف اركعها حتى..!؟..
و دمعت عيناه..هامساً: - واد الغازية مين هيربيه غير ولاد الليل و الهچامين و جطاعين الطرج..
و رفع رأسه باتجاه زكريا هامساً: - مين من دوول يا زكريا كان ممكن يعرفنى ربنا.!؟...

ربت زكريا على كتفه مواسيا و همس قائلا:- و ربنا بعت لك الفرصة اهااا نسبوها و لا نمسك فيها بيدنا و سنانا..
ثم غير زكريا نبرة صوته لنبرة مازحة هاتفاً و هو يدفع رأس سنجأ عاتبا: - و بعدين هو مين اللى هيعلمك دلوجت.. ده انى الشيخ زكريا الهوارى بجلالة جدره.. شيخ بتأبيدة..عايز ايه تانى يا واد..!!؟..

انفجر سنجأ ضاحكاً و هو يهتف مازحاً مدعيا الانحناء لتقبيل ظاهر كف زكريا كما يُفعل عادة مع زوى المقام العالى من المشايخ: - العفو يا سيدنا.. و احنا كنا نطول و اندفع كلاهما لمكان الوضوء ليتلقى سنجأ درسه الأول..

على الرغم من احتياطات زكريا و سنجأ للابتعاد عن أصحاب الفكر المتطرف الا ان الامر لم يكن بهذه السهولة فمن الواضح انهم عزموا امرهم و استشاروا أميرهم ليندفعوا في خطتهم لاجتذاب زكريا لصفوفهم.. تارة بدعوته للصلاة التي لاحظوا غيابه عنها و أداءها متأخر بعض الشئ مع سنجأ حتى يتجنبهم..

او حتى في أوقات الراحة العادية و التي لا يختلطوا فيها مع احد من خارج جماعتهم.. كانوا يحاولوا فيها بشتى الطرق استمالة زكريا بطيب الكلام و حلو المعاشرة لكن زكريا كان دوما لهم بالمرصاد.. لا يريد معاداتهم و لا يريد الانضمام اليهم..

فهو كل ما كان يرجوه.. ان يُظهر الله براءته ليخرج لابنه و يربيه كما يجب..
لكن يبدو انهم لهم رأيا اخر..
ففي الصباح سمع الجميع صرخاتهم وهتافهم من خلف أبواب عنابرهم التي خُصصت لهم دون غيرهم..كانوا يكبرون و يهللون في فرحة.. حتى ان جميع المساجين اندفعوا متزاحمين على أبواب عنابرهم فضولا لمعرفة سر الهتاف والتهليل..

لحظات و اندفع الصول جابر للعنبرليسأله المعلم سيد في فضول: - هو في ايه يا حضرة الصول.. العيال دى بتهلل كده ليه!؟..
هتف الصول جابر في ضيق: - هيكون ليه يا معلم سيد..!!. مجموعة من زمايلهم بره السجن قتلوا اتنين ظباط النهاردة..
هم المعلم سيد بالتعليق الا ان اندفاع الضابط و من خلفه المأمور العميد مختار جعلت الصول جابر ينتفض لأداء التحية العسكرية لتبدأ حملة تفتيشية جديدة..

انقلب العنبر كالعادة في كل حملة تفتيش رأسا على عقب.. و لم تسفر الحملة الا على سيجارة حشيش وجدها احد العساكر بين طيات فراش زكريا مخبأة بمهارة..
ليهتف المأمور: - هاتوه..

ليغيب زكريا بعدها عدة أيام خلف قضبان الحبس الانفرادي للتأديب ليصله رسالة من خلف بابه مفادها.."ان لم تكن معنا..فأنت علينا.. و اتعظ بما يحدث لك الان..هذه قرصة اُذن بسيطة...

خرج زكريا من حبسه التأديبي ليهلل كل أصحابه في عنبر المعلم سيد.. و يحتفل كالعادة.. الى ان استدعاه المأمور من جديد ليتوجس الجميع منتظرين في قلق عودة زكريا..

دخل زكريا الى مكتب المأمور مصحوبا بأحد الشاوشية الذى أدى التحية العسكرية و تركه و انصرف.. كان المأمور متشاغل ببعض الأوراق الهامة أمامه فلم يرفع راسه حتى يستطلع وجود زكريا الذى ظل واقفا في انتظار معرفة سبب الاستدعاء..
طال الصمت ليقطعه المأمور مختار هاتفاً: - انت ايه علاقتك بالعيال بتوع الجماعات دوول..!؟..

أكد زكريا: - مليش أي صالح بيهم يا بيه !؟
سأل المأمور متخابثاً: - و لا هم حاولوا يضموك ليهم..!؟..
صمت زكريا و لم يعقب.. ليستطرد المأمور: - واضح انهم حاولوا فعلا.. و احنا بقى اللى عايزين يبقى بينك و بينهم علاقة و تنضم ليهم كمان..
هتف زكريا و هو يحاول ان يكذب ما جال بخاطره: - حضرتك جصدك يا بيه.. انى..

أكد المأمور للأسف ما جال بذهن زكريا و الذى هتف مستنكرا: - يا باشا انا لا عايز اعرفهم و لا يعرفونى.. و لا يبجى بينى وبينهم اى حاچة و لا حتى انى أكون عين حضرتك وسطيهم.. لااه.. معملهاش..
صمت المأمور للحظات ليهمس حانقاً من بين اسنانه: - مش بمزاجك.. انت تنفذ و بس..

هتف زكريا: - يا باشا انا راچل مليش في المشاكل ووچع الراس دِه.. انا عندى عيل يتيم عايز أربيه.. ايه اللى يدخلنى انى في المواويل دى..!؟؟..
انفجر المأمور ضاحكاً ضحكة خشنة ساخرة:- انت عارف محكوم عليك بأيه..!؟

تأبيدة.. خمسة و عشرين سنة هنا مرمى.. ملكش فايدة و لا دية.. و تقولى عيل أربيه.. لهو انت فاكر انك خارج بكرة..!؟.. انا لما بعرض عليك انك تنضم لهم انا كده بعرض عليك فرصة عمرك هنا في السجن..تبقى المخبر بتاعنا وسطيهم و يبقى ليك حصانة و حماية مزدوجة منا عشان تفضل تنقل لنا اخبارهم و منهم طبعا لانك هاتبقى واحد منهم.. يعنى هتعيش هنا في السجن ملك..و الكل يعملك ألف حساب..

هتف زكريا رافضا: - يا بيه اعفينى انا من الحكاية دى.. و أوعدك لو عرفت حاچة تضر بالسچن و اللى فيه هاچى ابلغ چنابك بس مش عشان اكسب مُصلحة.. لاااه.. عشان دِه الصح يا باشا..

طرق المأمور على سطح مكتبه في حنق بعد ان أيقن ان زكريا غير قابل للإقناع و هتف صارخاً ينادى احد الشاوشية ليصطحب زكريا: - خد الحيوان ده أرميه في الزنزانة الانفرادي أسبوع.. يمكن يغير رأيه..
همس زكريا متمتما: - لله الامر من قبل و من بعد..

قضى زكريا الأسبوع الانفرادى في الزنزانة وحيدا.. كان المأمور يعتقد انه يعاقب زكريا بذاك الحبس الذى يُدفع فيه وحيدا بالايام و لم يكن يدرك ان الوحدة بعد وفاة بدور هي مطلبه الوحيد.. فقد كان يزوره طيفها دوما يحدثه و يستمد منها القوة ليستمر..
كان يؤدى فروضه و ينتظرها.. كان طيفها هو سلواه في عتمة الزنزانة الضيقة..

خرج أخيرا بعد انقضاء الأسبوع متوقعا ان المأمور قد اخرجه من حساباته هو وتلك الجماعة التي تهدده..
لكن هيهات.. فما ان خرج و ألتف حوله زملاؤه حتى جاءته الأوامر يوميا بأداء المزيد من الاعمال الشاقة ما بين تنظيف الحمامات تارة.. و المساعدة في اعمال المطبخ تارة.. ظنا من المأمور ان تلك الاعمال المرهقة و المقززة قد تدفع زكريا ليغير رأيه و يأتيه زاحفا طالبا بنفسه أداء المهمة التي كلفه بها و دون امتيازات حتى فقط إعفاءه من تلك المهام..

لكن ما حدث كان العكس تماما.. فكان زكريا يؤدى الاعمال طائعا لا يتزمر و لا يشكو.. وهو يؤكد لنفسه انها اهون كثيرا من الأزعان لمطالب المأمور..
جاءه سنجأ في وسط احدى تلك المهام التي يكلف بها زيادة عن كل المساجين ليقف مترددا فيلاحظه زكريا و الذى استطاع استقراء القلق البادى على محياه: - خير يا سنجأ..!؟.. جول وراك ايه..!؟..

همس سنجأ بالقرب من مسامع زكريا: - ورايا مصيبة كَبِيرَة..
ترك زكريا تلك الفرشة التي كان يدعك بها أرضية الحمام ليقف منتفضاً: - خير.. مصيبة ايه اللى عمِلتها..!؟..
همس سنجأ متلفتا حوله: - وطى صوتك يا زكريا.. و بعدين المصيبة لسه متعملتش.. المصيبة لسه هاتوجع و ربنا يسترها..
كز زكريا على اسنانه هامساً في حنق: - يا واد ما تنطج.. ايه في..!؟..
همس سنجأ: - الجماعة أياها مش ناوية تچيبها البر..
استفسر زكريا: - كيف يعنى..!؟..

همس سنجأ و هو يجذب زكريا خارج الحمامات ما ان دخل بعض المساجين: - تعالى بره و انا اجولك سمعتهم بيجولوا ايه..
هتف زكريا صارخاً في سنجأ: - يا دى المصيبة.. و مسمعتهمش بيجولوا هايعملوا الوجعة السودة دى ميتا.. !!؟..
أكد سنجأ بإيماءة سريعة من راسه: - اااه.. جالوا في حصة الراحة..

هتف زكريا صارخاً: -يا مخبل.. و احنا في حصة ايه دلوجت.!؟...ما الراحة بدأت من ساعة ما دخلت عليا تبلغنى يا فجرى..
و اندفع زكريا راكضا باتجاه الفناء الذى يملؤه المساجين و استطاع ان يميز بينهم بسهولة أعضاء الجماعة بزيهم الأبيض..
و استطاع أيضا ان تلتقط عيناه مكان المأمور الذى خرج للمرور و التفتيش كالعادة..

لمع شيء ما في عيون زكريا عندما اندفع محاولا اجتياز تلك الحلقة التي كونها أعضاء الجماعة بالاتفاق بينهم في سرعة خاطفة خلف المأمور الذى سبقه ضابط السجن لأداء بعض المهام التي كلفه بها و لم يعد يحيطه اى غطاء امنى..

تم الامر كله في لحظة ليسمع دوى طلقات و صفير العساكر و الشاوشية و تنقلب حصة الراحة الى هرج و مرج بين صفوف المساجين.. و كل ما استطاع المساجين تمييزه هو دفع العساكر بهم لداخل العنابر للسيطرة على الموقف مع سقوط زكريا بين يدى المأمور مضرج بدمائه بعد ان تلقى عنه تلك الطعنة النافذة من سلاح ابيض حمله احد أعضاء الجماعة محاولا اغتيال المأمور الوحيد من بين المساجين الذى استطاع الوصول لزكريا لانه كان في اثره من الأساس هو سنجأ الذى هتف به زكريا بوهن: - ولدى..رچعوه النچع امى تربيه..
و اسودت الدنيا امام عينىّ زكريا ولم يسمع صرخات سنجأ الذى كان ينادى بإسمه في لوعة..

 نظر زكريا حوله في ذاك الظلام الدامس الذى بدأت تعتاده عيناه فلم يجد حوله ما يستدل به أين يمكن ان يكون.. لكن فجأة ظهرت أمامه.. انها هي.. بدور..
تقف على الجانب الاخر في اشراقة بددت تلك الظلمة الحالكة التي تحيط به كما هي عادتها دوما...
هتف زكريا في شوق عندما طالعه محياها:- بدورر.. اتوحشتك جووى..

هتفت بدورها و ابتسامة تكسو وجهها الصبوح: - و انت كمان.. وحشتنى قووى يا سى زكريا..
اقترب في لهفة ليضمها بين ذراعيه و يُطفئ شوق شهور مضت غابت فيها عنه روحه بغيابها.. لكنها هتفت تستمهله: - خليك عندك يا سى زكريا..
توقف بغتة متعجباً: - ليه يا بدور..!؟..
قال بلهجة معاتبة: - ايه يا سى زكريا.. انت نسيت وعدك ليا.. نسيت وصيتى ليك..!!؟.

شمله الصمت للحظات و لم ينطق لتستطرد:- حازم يا سى زكريا.. هتفوته لمين..!؟.. مش وعدتنى تخلى بالك منه.!؟.
ارجع له يا سى زكريا.. ارجع له لو لسه بتعز بدور.. خليك معاه و خليه راجل قد الدنيا ميتخيرش عن ابوه..
و لوحت بكفها و غابت فجأة مرة أخرى في طيات ذاك الظلام الذى كان يحيطهما ليصرخ هو مناديا باسمها في ترديد محموم لعلها تستجيب و تعود مرة أخرى.. و فجأة بدأت الظلمة تنقشع رويدا رويدا..

و يفتح زكريا عيونه في وهن متطلعاً حوله في تيه و لم يتناهى لمسامعه الا صوت رجولى لشخص يرتدى الأبيض.. يهتف باسمه...و أخيرا اتضحت الصورة كاملة عندما ظهر العميد مختار في مجال رؤية زكريا هاتفاً باسمه هو الاخر..
ليستفيق زكريا نوبة واحدة و يتذكر كل ما حدث...حاول ان ينهض في تثاقل الا ان الطبيب حذره: - لااا.. أوعى تتحرك ده احنا ما صدقنا انك فوقت.. ايه ده..انت كنت فين يا بنى..!؟؟..

ابتسم العميد مختار و كانت المرة الأولى التي يراه فيها زكريا يبتسم و هتف مازحاً: - يعنى يا دكتور معرفتش كان فين بعد ده كله.. !!؟...كان مع بدور.. اللى بقاله تلت أيام مبينطقش الا اسمها..
قهقه طبيب السجن بدوره.. و لم يلتفت زكريا لمزاحهم بقدر ما لفت انتباهه الفترة التي غاب فيها عن الوعى هاتفاً بصوت متحشرج واهن: - انا بجالى تلت أيام غااايب..!؟..

هز كلاهما رأسه مؤكدا.. و حاول ان يتحرك زكريا من جديد لكن ألم كتفه اليمنى الذى استشعره عند التحرك جعله يعدل عن المحاولة..
سأل زكريا موجها حديثه للعميد مختار:- هو ايه اللى حُصل يا باشا..!؟؟..
هتف مختار شارحاً: - العيال بتوع الجماعات كانوا عايزين يقتلونى و لولا تدخلك يا زكريا كنت رحت فيها فعلا..
همس زكريا: - العفو يا باشا.. لولا ربنا.. احنا مچرد أسباب..

ابتسم مختار من جديد ليهتف متسائلا: - انت بقى اللى قولى.. انت عرفت ازاى اللى كانوا ناوينه مع انك رفضت أصلا تنضم ليهم او توصلنا اخبارهم..!!؟..
قال زكريا: - الحجيجة يا باشا.. الواد سنچأ زميلى في العنبر هو اللى سمعهم و اول ما بلغنى محستش بروحى الا و انا بچرى انبهك.. و حُصل اللى حُصل..
ربت العميد مختار على كتف زكريا ممتنا و ساد الصمت لحظات ليسأل مختار متعجباً: - انت مين بالظبط يا زكريا..!؟؟..انا بقالى في الداخلية عمر بحاله.. لا قابلت و لا شفت زيك..!؟..

ابتسم زكريا للمرة الأولى هاتفاً: - ليه يا باشا..!؟؟..عااادى يعنى..
هتف مختار متعجباً: - ايه هو اللى عادى!؟.. واحد مكانك بعد اللى كنت بعمله فيه.. و القرف اللى قرفتهوله من ساعة ما وصلت و مسكت السجن.. كان اول حاجة قالها لما سمع اللى سمعته من سنجأ.. احسن.. خليهم يقتلوه و يغور..
صمت زكريا و لم يعقب..

ليهتف مختار في فضول: - انت ايه حكايتك بالظبط يا زكريا..!؟..
تنهد زكريا هاتفاً: - حكاية طوويلة جووى يا باشا.. و اكيد منتش ناجص جلبان راس..

نهض مختار يستعد للرحيل هاتفاً: - طب انا ماشى.. مش عشان قلبان الراس.. لكن عشان انت ترتاح و بكرة باذن الله هكون عندك.. انا موصى الدكتور عليك.. ولو عوزت اى حاجة اطلبها..سلام عليكم..
و اختفى العميد مختار المأمور سريعا خلف باب قريب ليترك زكريا وحيدا محاولا استعادة حواره مع بدور.. و الذى لم يتذكر منه الا وجهها الصبوح و اسم.. هو ما اصبح يربطهما الان.. حازم..

توطدت العلاقة بين العميد مختار مأمور السجن و زكريا بسرعة كبيرة.. فبعد ان سمع المأمور قصة زكريا و إنقاذه لحياته من موت محقق اصبح على يقين مطلق ببراءة زكريا من تهمة قتل السمرى..
لكن ما الذى يمكن فعله لزكريا وخاصة بعد تأكيد الحكم بالمؤبد في النقض و الاستئناف
وها هو زكريا اصبح مسجون بشكل مؤكد و رسمي .. اصبح تحت وصايته و لا يمكن ان يقدم له الا حسن المعاملة..
دخل زكريا مكتب المأمور بعد استدعاءه أياه ليدخل زكريا و يشير عليه مختار بالجلوس هاتفاً في تعجل: - بقولك ايه يا زكريا.. انت واخد شهادات ايه..!؟..

ابتسم زكريا مازحاً: - الشهادات دى اخر حاچة ممكن تكون معايا يا باشا..!!؟.. ده انى شهادة ميلادى مكنتش شفتها حتى..
ثم سخر هاتفاً: - يا باشا واحد مكنش يجدر يجول على اسم ابوه.. كان هايعرف يدخل مدارس و لا يعتبها حتى برچليه..!!؟..
هتف المأمور متعجباً: - بس انت بتعرف تقرا و تكتب يا زكريا...!؟..

أكد زكريا: - صُح ياباشا.. اهى دى واحدة من الحسنات اللى عملتها فيا امى.. لما كنت هربان مع امى وچدى بره النچع.. دخلتنى الكُتاب.. و جعدت فيه لحد ما رجعت بن اتناشر سنة لأهل ابويا بعد موت چدى أبو امى.. حفظت فيه قرآن.. و اتعلمت الجراية و الكتابة..

لكن شهادات.. مكنش ينفع.. ده انى مكنش ليا بطاچة شخصية الا لما واد عمى ربنا يمسيه بالخير هو اللى عملهالى بعد ما اعترفوا بيا..
تنهد مختار هاتفاً: - ده انت حكايتك حكاية.. بس بقولك ايه.. انت لازم يكون معاك شهادة..
قهقه زكريا: - اعمل بيها ايه يا باشا..!؟.
هو انا ضامن اخرچ من هنا من الأساس..
أكد زكريا: - هاتخرج يا زكريا..خبر ايه !؟

ده انت اللى قايل لى بعضمة لسانك انك متأكد من كرم ربنا و انك هاتخرج عشان انت برئ و عشان ابنك اللى مستنيك تربيه.. صح و لا ايه..!؟..
همس زكريا متنهدا: - و نعم بالله يا باشا..
هتف مختار في حماسة: - بص بقى..انا هقدم لك على محو الأمية عشان تاخد شهادتها و تعرف تكمل و اجيب لك الكتب
و هعرفك على كذا مسجون كده هيفيدوك جامد في المذاكرة.. و الباقى بقى عليك..
هااا.. قلت ايه..!؟..

ابتسم زكريا في سعادة: - جلت لا اله الا الله..موافج طبعا حد يرفض طلب العلم..
هتف مختار منتشياً: - اتفقنا يا صعيدى.؟؟.
و انفجر ضاحكاً و هو يمازح زكريا هاتفاً: - و الله لأفضل وراك يا زكريا لحد ما تبقى دكتور..
هتف زكريا مازحاً و هو يغادر في سعادة: - اتفقنا يا باشا.. هو انا اجدر اكسر أوامر الحَكومة.. و الله و هاتبجى داكتور يا زكريا
..ليعاود العميد مختار قهقهاته..

هتف عاصم و هو يهبط الدرج: - يا ام سعيد !؟.. ظهرت المرأة في ثوان ملبية: - نعم يا عاصم بيه..!؟..
سال عاصم: - حضرتوا الزيارة اللى بنبعتوها لزكريا كل أسبوع..!؟..
أكدت المرأة: - أُمال ايه يا عاصم بيه.. اساسى.. ده انى ونچاة مرت ولدى واجفين نحضروها من الفچر..
ابتسم عاصم: - تسلمى يا ام سعيد..

وصل عند مجلس الحاجة فضيلة و التي كانت تتناول فنجان قهوتها في استمتاع لينحنى يقبل جبينها هاتفاً في محبة: -صباح الخير يا حاچة.. برضك بتشربى جهوة و الداكتور محرچ عليكى عشان ضغطك ميعلاشى..

ابتسمت الحاجة فضيلة: - صباح السعادة يا نور عينىّ..جولى بجى مين بياخد على كلام الدكاترة.. !!.. متكليشى.. متشربيشى..
يعنى كلنا و شربنا طول عمرنا هايجوا يحرموا الاكل و الشرب دلوجت و احنا خلاص بناخد نفسنا من الدنيا..
هتف عاصم بضيق: - وااه يا حاچة.. ليه السيرة دى ع الصبح.. ربنا يبارك لنا ف عمرك..
ابتسمت فضيلة لخوف ولدها عليها و هتفت متسائلة: - هي زهرة لساتها نايمة..!؟؟..

أكد عاصم: - اه.. العيال طلعوا عينها عشية..و راس كل واحد فيهم انشف من الحچر و مرضيش ينام..
انفجرت الحاجة فضيلة ضاحكة: - مش جيبينه من بره.. عنلوم عليهم ليه..!؟..
شاركها عاصم قهقهاتها و استرعى انتباهه زهرة التي تهم بنزول الدرج و هي تحمل اطفالها.. اندفع يصعد الدرج ليقابلها في منتصف المسافة حاملا عنها سندس هامساً في مشاكسة: - اتوحشتك..

نظرت اليه نظرة معاتبة و هي تهمس: - اه صحيح.. بأماره ما قلت لك هنيم الولاد و أجيلك.. طلعت عينى معاهم و في الاخر ادخل الاقيك بتشخر و في سابع نومة..
امسك ضحكاته و هو على وشك الوصول لمجلس امه هامساً: - هعوضك..
هتفت زهرة تتصنع انها لم تسمع وعده عندما وصلت لمجلس خالتها: - صباح الخير يا خالتى..
هتفت فضيلة: - صباح الخير يا عيون خالتك.. ايه..!؟.. عذبوكِ العيال دوول.. عاصم جالى..!؟..

تنهدت زهرة: - اه و الله.. دماغهم مصفحة و مفيش نوم خاالص..
انفجرت فضيلة ضاحكة: - دماغهم مصفحة زى ابوهم..
همست زهرة بنبرة ساخرة بجوار اذن عاصم: - يا ريتهم زى ابوهم.. كانوا ناموا و سابونى.. زى كل مرة اروح انيمهم فيها..
امسك ضحكاته و هو يقذف سندس للهواء متلاعبا بها و معها.. و نظر الى زهرة نظرة جانبية فهو يعلم انها على حق.. فمنذ ولادة توأمهما و هي تنشغل معهما و هو مع ازدياد الأشغال هنا وهناك يصل للسرايّ و هو في قمة الإرهاق غير قادر على البقاء معها كما السابق و التمتع بصحبتها..

ترك سندس من يديه ارضا و التي تزمرت بدورها لان ابيها كف عن لهوه معها حمل مهران مداعبا لينال نصيبه من مداعبات ابيه.. دقائق و اندفع ناهضاً في تعجل: - انا جايم اتسبح و اروح اشوف حالى..
هتفت امه: - ايه.. مش هاتفطر..!؟؟..

رد عاصم: - حضروا الفَطور على بال ما انزل..ثم هتف وقد وصل لاعلى الدرج: - زهرررة.. تعالى اكويلى چلبيتى اللى هرخچ بيها..
هتفت فضيلة: -جومى يا بتى ورا چوزك..و العيال معايا متجلجيش عليهم..
أومأت موافقة و صعدت الدرج خلف عاصم و ما ان همت بفتح الباب حتى فُتح فجأة لتجذبها كفه للداخل ويغلق الباب خلفها..
اخذها بين ذراعيه هامساً بمشاكسة: - مش جلت هعوضك.. و انا بحب اخلص ديونى اول بأول و ميبجاش ليا دين على حد..
انفجرت ضاحكة: - يا أبو مهران يا حقانى..
شاركها ضحكاتها و هو يأسرها بين ذراعيه..

صرخ سنجأ مهللاً و هو يحتضن زكريا في سعادة: - الف مبرووك يا هوارى.. و الله و خدت محو الأمية و بجيت من بتوع الشهادات..
انفجر زكريا مقهقها: - وااه.. شهادات مرة واحدة.. دى محو الأمية يا فجرى اومال لو خدت اللى بيجولوا عليها دى..ال.. داكتوراه عاتعمل ايه..!؟..
قهقه سنجأ: - المهم انك نجحت ولازماً نهيص النهاردة.. و المعلم سيد ما هيصدچ
هتف زكريا: - خليها على المرة دى.. انا جيالى الزيارة اللى بتاجينى من البلد كل سبوع..

هتف سنجأ مهللاً من جديد: - الله اكبر.. يبجى ظفر(لحوم ) للصبح يا هوارى..
قهقه زكريا و هو يربت على كتفه دافعا أياه في محبة: - ايوه يا فچعان.. روح چمع الناس عجبال ما اروح استلم الزيارة و اجيكم
خلى الناس تاكل و تفرح..
اندفع سنجأ كالريح هاتفاً: - هوا.. ده الكل هياكل و يدعيلك..

ابتسم زكريا في أعقاب سنجأ وهو يتوجه لمكتب المأمور محييا ليستلم تلك الزيارة الغذائية التي تأتيه كل أسبوع من النجع..
تنهد في شوق الى امه و طعام امه و شكر سرا في امتنان عاصم بن عمه الذى ما نسيه في مرة قط منذ دخل السجن منذ اكثر من عامين و لم يخلف موعد إرساله الزيارة في اى وقت و مهما كانت الظروف..

صرخات رجت أركان الحارة و هرج و مرج.. هتفت نعمة متوجسة و هي تندفع للشرفة تستطلع الامر: - سترك يا رب..
أوقفت نعمة احدى السيدات القادمة من أتجاه الصرخات تضرب كف بكف متحسرة لتسألها في فضول: - ايه اللى جرى يا خالة..!؟.. مين اللى بيصرخ كِده..!؟..
هتفت السيدة المسنة في حزن: - دى البت صباح بت مرعى.. الواد حينش جوزها رمى عليها مية نار و جرى..
هتفت نعمة متعجبة: - هم مش كانوا بيقولوا أطلقت منه..!؟.. عايز منها ايه بقى..!؟..

هتفت السيدة: - لا مطلقهاش.. و الظاهر لما عرف ان مفيش فايدة و هي مش عايزة ترجع له.. راح قال يا تبقى ليا يا متبقاش لغيرى.. حرق وشها منه لله البعيد..
همت نعمة بالرد لكنها لمحت المعلم خميس يقترب من منزلهما لتشكر السيدة و تدخل لتستقبله على الباب..
لحظات و ظهر امام عتبته لتبتسم له في سعادة و هو يدخل متمدداً على الأريكة هاتفاً:- ازيك يا نعمة.. حضرتى الغدا يا قمر..

أكدت باسمة: - اه يا معلم هو انا اقدر أتأخر.. عارفة انك راجع تاكل و تأيل(تنام) شوية قبل ما ترجع القهوة تانى..ألا قولى يا معلم..ايه اللى هببه حينش ده.. صحيح رمى مية نار على البت صباح..!؟..

هتف مؤكدا: - يووه.. دى الدنيا كانت والعة قدام بيت مرعى.. البت كانت خارجة من بيت ابوها راح ده مستنيها و عمل عملته و طلع يجرى.. والبت اهى ربنا ينجيها بقى.!؟..
تحسرت نعمة: - ياما حذرناها من الواد حينش ده.. و ابوها مكنش راضى بيه قبل ما يقول عليها السمرى..و برضة رجعت له تانى..ربنا يسترها على ولاياه...
ساد الصمت للحظات قبل ان ينهض خميس ليبدل ملابسه ليتوقف أمامها مستفسراً:- امى غدتيها..!؟..و الواد حازم..!؟..

أكدت من جديد: - اُمال يا معلم.. دى اول واحدة بحط لها تاكل و بأكلها بايدى كمان..
انا عارفة ان صحتها على قدها و عشان تاخد دواها ربنا يشفيها..وحازم نايم..يصحى و أكله..
اقترب منها خميس هامساً: - و الله انت نعمة يا نعمة..
توردت خجلاً هامسة: - تسلملى يا معلم ربنا يخليك ليا..

و دفعت به لحجرتهما هامسة من جديد عندما بدأ في مغازلتها: - معلم.. العيال هنا.. ادخل بقى غير هدومك على بال ما احط الاكل..
جذبها اليه هامساً من جديد في نبرة مشاغبة قاصدا تقبيلها:- طب شفطة عناب صغيرة..!؟..
قهقهت هاتفة: - هو في حد بيحلى قبل الاكل يا معلم.. !!!...
شاركها قهقهاتها و هو يندفع لغرفته لتبديل ملابسه..

دخل عاصم غرفته ليجدها مظلمة مما يعنى ان زهرة قد غطت فى النوم منذ فترة.. ليس من عاداتها ان تنام قبل رجوعه للسراىّ لكن احيانا يغلبها النوم بسبب صراعها اليومي مع سندس و مهران و قد اضحى كلاهما فى الرابعة من عمره تقريبا..
تنبه لجسدها الممدد على جانب الفراش الخاص بها دخل الحمام يلقى تعب يومه تحت رذاذ المياه ليخرج ليتمدد على طرفه من الفراش فى هدوء كى لا يوقظها..

لحظات مرت و اخيراً سمع صوتها هامسا: - عاصم.. انت صاحى..!؟..
انتبه لهمسها ليقترب من جانبها محيطا إياها بذراعه هاتفا فى شوق: - كنت فاكرك نايمة
همست نافية ؛- لا مكنتش نايمة.. بس كنت بفكر..
كانت لاتزل توليه ظهرها فاستدارت بجذعها و نظرت اليه هامسة: - كنت بفكر فيك..
همس بدوره فى سعادة و هو يضمها اليه اكثر: - كيف يعنى بتفكرى فيا..!؟..

نظرت الى عمق عينيه هامسة: - كنت بفكر فى رد فعلك.. يا ترى هاتعمل ايه..!؟..
نظر اليها متحيرا: - هعمل ايه فى ايه !؟..
همست بصوت متردد النبرات: - لما تعرف ان الهوارية هيزيدوا واحد..
هتف فى سعادة مصححا: - لاااه.. جصدك التهامية.. ما امى جالتلى على حمل سهام.. ربنا يجومها بالسلامة..
هتفت و قد استدارت بكليتها تجاهه و أمسكت بكفه تضعها على بطنها: - لااا.. الهوارية يا عاصم.. انا كمان حامل..

و ابتسمت محاولة تلطيف الأجواء بعد تصريحها الذى على ما يبدو لم يستوعبه عاصم بعد لانه لم يأتِ بأى رد فعل و هتفت: - و يمكن يكون أتنين.. الله اعلم..
لازال الصمت هو رد الفعل الوحيد من جانب عاصم و هو يضع يده على بطن زهرة و ينظر اليها شاردا
ليهمس اخيراً فى هدوء: - أنتِ متأكدة.. !؟
اومأت برأسها ايجابا لتؤكد انها بالفعل حامل و قد تأكدت من ذلك..
همس فى شرود مجددا: - مبرووك..

و طبع قبلة باهتة على جبينها قبل ان يستدير موليا ظهره لها متصنعا النعاس..
ظلت هى على حالها للحظات متعجبة من ردة فعله لا تعرف ما يجب عليها صنعه فى تلك الحالة.. فدوما كان رد فعل عاصم صريح وواضح.. اما الرفض التام و توضيح ذلك أو القبول بالأمر فى سعادة و رضا.. اما رد الفعل المتأرجح هذا ما بين الرفض و القبول لا تعرف كيف يمكنها التصرف حياله..

تمددت بدورها مولية ظهرها تفكر.. و اخيراً انار عقلها خاطر ما قد يكون هو السبب فى رد فعله العجيب .. و تساءلت.. هل يمكنه ان يكون معتقدا فى تعمدها الحمل دون ان تستشيره..!!..
لما لا..!؟.. و قد يكون هذا السبب هو ما جعله يستقبل الخبر بهذا البرود الذى لم تعهده من قبله..

استدارت فى هدوء و هى على يقين انه لم ينم بعد لتقترب من ظهره هامسة بالقرب من أذنه مؤكدة: - على فكرة يا عاصم.. الحمل حصل من غير تعمد منى.. انا مكنتش ممكن اقرر حاجة زى دى من وراك.. و من غير علمك أو مشورتك.. دى هدية من ربنا.. تصبح على خير..
و ابتعدت مرة اخرى لجانبها من الفراش ليتنهد هو فى محاولة للراحة و السكينة..

بالفعل هذا ما جال بخاطره.. هى لم تستشره فى امر كهذا.. كيف لها ذلك..!؟.. لقد اعتقد انها ربما شعرت بالغيرة من سهام..كمعظم النساء.. و انها ما ان سمعت بنبأ حملها الثالث حتى أسرعت تقلدها رغبة فى الإنجاب الذى كان يعلم تطلعها اليه فى شوق مرة اخرى.. و تعلم أيضا ممانعته خوفا و رعبا عليها..
الان.. هو لا يستطيع الاقتراب منها ليطيب خاطرها لردة فعله الباردة لانه سيؤكد لها صحة معتقدها الذى همست به فى أذنه منذ دقائق و فى نفس اللحظة لا يستطيع ان يتركها تنام هكذا و هى تشعر بالحزن و القهر..

زفر من جديد و اخيراً نهض من الفراش ينفض جلبابه فى ضيق تاركا الغرفة بأكملها ظلت تتقلب الليل بطوله على جمر حتى عاد قبيل الفجر فتصنعت النوم عندما شعرت بدخوله الغرفة اقترب منها فى هدوء و انحنى يقبل جبينها و يملس على بطنها برفق حتى لا يوقظها.. و اخيراً أستدار ليتمدد بجوارها و يغط فى نوم عميق لتبتسم هى و تتبعه لدنيا الأحلام..

لتنهض على جلبة قادمة من الناحية الخلفية للسراىّ و صوت زغاريد ترتفع هنا و هناك..أستبشرت خيرا و تجهزت لتندفع فى سرعة لترى ما يحدث بالأسفل..
ما ان طالعتها خالتها حتى هتفت فى سعادة: - الله اكبر.. ربنا يحرسك يا بتى..
ابتسمت زهرة و هى تقبل رأسها: - ربنا يخليكى يا خالتى.. بس خير ايه الدوشة دى و الزغاريد دى كلها على الصبح..!؟.

ابتسمت الحاجة فضيلة فى سعادة: - يعنى منتيش عارفة عاصم.. اول ما عرف بحملك جام من الفچر و چهز الدبايح.. جال لله.. عشان الغلابة تاكل..فرحان بحملك..عجبال ما تجوميلنا انت و سهام بالسلامة..
همست فى سعادة: - صحيح..!؟..
اكدت الحاجة فضيلة مقهقهة: - ايووه.. امال دى كله ليه..!؟.. عشانى..!؟.. عجبال ما تچيبوا دستة...

ابتسمت زهرة هاتفة: - بس هو يرضى.. و يدينى فرصتى..
قهقهت فضيلة هاتفة: - خايف عليكى يا حبيبتى.. اصلك أنتِ حملك واعر..و ولادتك أوعر.. دِه يوم مهران و سندس و الله كان هيمسك السما بيده من جلجه عَلَيْكِ ابتسمت زهرة فى سعادة و لم تعقب ليدخل عاصم منتشيا ينظر اليها فى فرحة و قد ايقنت من نظراته انه يطيب بخاطرها بعد ما فعله بالامس..
اتسعت ابتسامتها و هى تتطلع اليه مؤكدة انها قبلت منه اعتذاره العملى كالعادة..

دخلت نعمة تحمل حازم البالغ من العمر ثلاث سنوات تقريبا الى حجرة المشفى القابعة بها صباح بعد ان نجت من فعلة حينش الحقيرة.. ابتسمت عندما طالعها مرأى نعمة وحازم على ذراعها هاتفة في سعادة: - اهلا يا نعمة.. و الله فيكِ الخير و جاية تطلى عليا..

هتفت نعمة و هي تجلس على الكرسى الملاصق للفراش و تضع حازم على فخذها:- الله..هو مش احنا جيران وولاد حتة واحدة و لا ايه..!؟.. ربنا يشفيكِ و يجازى اللى كان السبب..

بكت صباح في لوعة و هي تحكم غطاء رأسها حول رقبتها و جانب وجهها المصاب حتى لا يظهر ذاك الجزء المشوه من رقبتها و اعلى صدغها فعلى الرغم من انها استطاعت ان تضع حقيبتها في مقابل وجهها تتفادى ما ألقاه حينش من مادة حارقة باتجاهها الا انها وصلت لما أسفل اذنها اليمنى وجانب وجهها و اعلى الرقبة..

لحظات مضت من الصمت حتى تمالكت صباح نفسها و نظرت الى حازم هاتفة بصوت متأثر: - هو ده بن بدور..!؟.. الله أكبر عليه يشبها كتير..
ابتسمت نعمة و هي تقبل رأس حازم القابعة في وداعة بأحضانها: - اه.. هو يا حبة عينىّ.. بن زكريا و بدور الله يرحمها..

انفجرت صباح باكية بشكل مباغت جفل منه حازم و تعجبت له نعمة التي همست بتعاطف: - خلاص بقى يا صباح.. سلمى امرك لله.. ده ربك قدر و ستر..
هتفت صباح في لوعة و بنبرة تحمل الكثير من الشعور بالذنب: - انا السبب ده ذنب ربنا بيعاقبنى باللى حصل لى ده.. انا عارفة..
هتفت نعمة مستفسرة:- ذنب ايه بعد الشر !؟.
استهدى بالله كده..

استطردت صباح كأنها لم تسمع نعمة و كانها تلقى بحمل ظل لسنين جاثم على صدرها: - حينش هو السبب.. منه لله..
بعد كتب كتابى على السمرى بليلتين..يوم ما حصلت الحريقة في قهوة المعلم خميس و لقوا زكريا سايح في دمه.. لقيت حينش جايلى بيت ابويا و بيدينى كيس سلمهولى بسرعة و قالى ده أمانة عندك لحد ما اطلبه..طبعا كنت خايفة حد يشوفنا خدت منه الكيس و وانا بخبيته زى ما قالى فتحت الكيس اشوف فيه ايه اتسرعت و قفلته بسرعة.. لقيت سكينة عم طايع بتاع البطيخ..

شهقت نعمة و قد استنتجت الباقى و لكنها لم تقاطع صباح التي أكملت مأخوذة بالراحة التي غمرتها جراء اعترافها: - قبل ما يتقتل السمرى بكام ساعة.. عدا عليا حينش و خد الكيس.. خفت و قلت له هاتعمل بيها ايه السكينة دى..!!؟.. قالى انت مش هتكونى لغيرى و لو حصل ايه..!؟.. و خد الكيس و اختفى.. و صحينا على الصريخ و خبر موت السمرى مقتول في شقة الانس بتاعته..

بعد فترة كده و لما اطمن حينش ان زكريا لبس القضية و هرب كمان..ظهر و أتقدم لى.. و اتجوزنا.. و كانوا اسود سنتين في حياتى كلها..و أدى اخرتها..منه لله..
مش هرتاح الا لما اشوفه متعلق في حبل المشنقة..
بكت نعمة بفرحة غير مصدقة هاتفة: - انت لازماً تشهدى بالكلام ده عشان زكريا يخرج منها.. عشان خاطر ابنه و تكفرى عن اللى عملتيه فيهم..
ترددت صباح: - بس انا خايفة يا نعمة.. دوول حتى لسه ممسكهوش حنيش..

هتفت نعمة مشجعة: - خايفة من ايه..!؟.. محدش هيعرف الكلام اللى انتِ قولتيهولى ده..و متعرفيش حد بيه الا لما يمسكوه.. ساعتها تبقى اطمنتى انه ميتعرضلكيش تانى و تبقى انتقمتى منه على اللى عمله فيكِ و رجعتى لابن بدور حقه بخروج ابوه بالسلامة..

هتفت صباح: - طب خلاص.. على قولك استنى لما يتمسك عشان اضمن انه ميخرجش منها الا على المشنقة.. بس انت أوعى تجيبى سيرة و الكلام يتنطور..
أكدت نعمة بثقة: - و لا هفتح بقى لمخلوق.. كلتاهما كانت تعتقد ان كلامهما لا يسمعه احد غيرهما و لم تكن تعى اى منهما ان هناك من كان يسترق السمع على عتبة باب حجرة صباح دون ان يلحظه احد..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة