رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل السابع عشر
همت نهلة بالدخول لغرفة الصالون حيث يجلس حازم بأنتظارها فأستوقفتها أمها سهير هامسة في هدوء لها:- بقولك ايه يا نهلة.. بلاش تفاتحيه النهاردة ف الموضوع اللى كلمتينى فيه..
تسألت نهلة:- ليه يا ماما!؟.. حازم لازم يعرف.. ده مستقبلى و معتقدش انه هيرفض حاجة فيها مصلحتى و هاتبسطنى كمان..
هتفت سهير في حيرة:- مش عارفة.. بس حاسة الموضوع ده مش هايخلص على خير يا نهلة..
اكدت نهلة:- متقلقيش يا ماما.. ان شاء الله خير.. حازم اكيد هيبص على سعادتى و راحتى..
و غادرت نهلة في طريقها حيث يجلس حازم بينما همست سهير في قلق لنفسها:- ربنا يستر.. انت واثقة أوعى فيه يا نهلة و ده اللى مخوفنى..
دلفت نهلة للغرفة لينهض حازم مادا كفه محييا في بشاشة هاتفا:- ازيك يا نهلة.. عاملة ايه!؟..
هتفت نهلة في سعادة لمرأه:- الحمد لله يا حازم..
كانت تتمنى يوما ان تسمعه يبثها كلمات الحب و الغرام.. تتمنى ان يقابلها مشتاقا هاتفا انه أفتقدها و استوحش بعادها عنه.. لكنه كان صريحا معها من البداية و اخبرها انه لا يعرف كيف يطلق لسانه بكلمات الغزل و عبارات المجاملة او المحبة.
أخرجت نفسها من خضم خواطرها المتحسرة و هتفت:- كان في موضوع مهم قووى عايزة أتكلم معاك فيه..
تنبه متيقظا عاقدا حاجبيه كعادته عندما يستمع لأمر هام هاتفا:- خير..
تنحنحت محاولة البحث عن نقطة البداية لعرض موضوعها و أخيرا هتفت:- انا الصراحة كنت عايزة اقولك ع الموضوع ده من زمان بس ماما نصحتني استنى شوية.. لكن انا شايفة ان ده الوقت المناسب عشان تعرفه..
اومأ حازم لها برأسه مطالبا إياها بالإسترسال لتستطرد هاتفة:- انت طبعا بقالك فترة منقول الصعيد.. ده شغلك طبعا مقدرش أقول فيه حاجة و انا اكتر واحدة مقدرة ظروفه لان بابا الله يرحمه عاش نفس الظروف و عشناها معاه.. و طبعا المطلوب بعد ما خلصت دراسة اننا نتجوز و اروح معاك الصعيد..
قاطعها حازم و قد شعر ان الامر يسيرفى طريق لن يستحسنه:- اكيد طبعا.. أولا كل ست مكانها مع جوزها.. و بعدين ده اللى اتفقنا عليه من بدرى انك تخلصى و نتجوز و تروحى معايا.. و لا ايه!؟..
هتفت نهلة في شجن:- طب و ماما يا حازم!؟..
هتف حازم متعجبا:- مالها طنط.. !؟
هتفت نهلة:- هسبها لوحدها!؟.. دى ملهاش غيرى بعد بابا الله يرحمه.
زم حازم ما بين حاجبيه و قد استشعر بحسه الأمنى ان الامر لا يخص سهير هانم وحدها فهتف مستوضحا:- هي المشكلة كلها ف طنط.. !!.. دى نشيلها على راسنا و اكيد اناهتبسط لو تشرفنا و تيجى تقعد معانا.. على الأقل هتبقى معاها طول ما انا غايب عن البيت..
صمتت نهلة و لم تعقب مما دفع حازم ليسأل و قد بات من الواضح له ان هناك امر اخر لا يعلمه:- هو في حاجة تانية يا نهلة انا معرفهاش!؟..
هتفت تلقى بحملها عن كتفيها بسرعة:- الصراحة يا حازم.. اه.. انت عارف انى اتخرجت بتقدير امتياز و ده رشحني لبعثة بره مصر و كنت عايزة يعنى..
قاطعها مندفعا:- عايزة تأجلى الجواز.. صح!؟..
هزت رأسها بالإيجاب هاتفة:- ده مستقبلى يا حازم.. و حاجة تتمناها اى بنت.. انا عايزة..
قاطعها من جديد:- انت عايزة ايه بالظبط!؟.. عيزانى.. و لا عايزة السفر و البعثة و لا عايزة متبعديش عن ماما و لا انت عايزة ايه!؟..
انتفض واقفا هاتفا فيها بنفاذ صبر:- بصى.. لما تبقى عارفة انت عايزة ايه.. ابقى كلمينى.. عن اذنك..
ترقرقت الدموع بعينها هاتفة بأسمه و هو يبتعد:- حازم.. أرجوك..
لكنه لم يستمع لتوسلها و تركها و اندفع خارج المنزل لتدلف أمها داخل الغرفة حيث تركها تبكى مندفعة اليها تضمها لصدرها في قلق هاتفة:- قلت لك بلاش دلوقتى يا نهلة!؟..
هتفت نهلة من بين دموعها:- كان لازم يعرف يا ماما.. هفضل مخبية عليه لحد امتى.. !!.. كان لازم أقوله عشان أعرف أتصرف ازاى..
ربتت سهير على كتف ابنتها مهدئة:- خلاص يا حبيبتى.. اهدى و كل مشكلة و ليها حل.. و ان شاء الله كله هايبقى تمام.. متقلقيش..
صمتت نهلة و لم تعقب بينما تنهدت سهير في قلة حيلة و هي تدرك في قرارة نفسها ان الامر لن يمر بسلام كما كانت تستشعر منذ عرفت بأمر البعثة... و ها قد صدق حدسها..
صعدت سكينة تلك الدرجات التي تفصلها عن باب الدار و خلفها يونس في ترقب وجيب قلبه يبلغ عنان السماء لكن صفحة وجهه تعكس هدوء عجيب يتناقض تماما مع ما يستشعره من اضطراب و توتر..
طرقت سكينة الباب و انتظرت لحظات حتى فتحه احد الخدم و طلبت مقابلة العمدة حامد الحناوى ليصحبهما الخادم لأحدى القاعات المخصصة للضيوف و ينصرف على عجل ليبلغ سيده..
جلس كل من يونس و سكينة في صمت حتى ان احدهما لم يكن يتطلع للأخر.. و أخيرا انفرج الباب في قوة جعلتهما ينتفضا مكانهما و ما ان طالع العمدة حامد سكينة في موضعها حتى ادار وجهه للجالس قبالتها في سرعة و
وقعت عيناها على يونس الذى كان نسخة مصغرة منه منذ اكثر من خمسة و عشرين عاما حتى ليظن الان انه يتطلع للمرأة بصورة عكسية للزمن ليرى نفسه قديما..
تقدم حامد في وهن لا تحمله قدماه بإتجاه يونس الذى ظل متسمرا مكانه لا يحرك ساكنا.. و أخيرا توقف امام ولده هامسا:- يونس.. يونس حامد الحناوى.. يونس ولدى..
و أخيرا جذب يونس لأحضانه معتصرا إياه في محبة طاغية و بالمثل و دون إرادة منه فعل يونس الذى وجد نفسه يضم ابيه في تعلق كأنما عاد طفلا يتشبث بجلبابه و همس باكيا في صوت متحشرج:- أيوه انى يونس يابا..
بكت سكينة في صمت و هي تراهما على هذا الوضع و هتفت بصوت متأثر:- جبته لحدك يا حامد زى ما وعدتك.. جبته و منشعارفة اذا كان مجيتى بيه ف صالحه و لا لاه.. بس مكنش ينفع ابجى عارفة فين ابوه و مجلوش و لا انت تعرف بيه..
هتف حامد و هو لا يزل متعلقا بيونس ساحبا إياه ليجلس بجواره ملتصقا به في محبة:- عمِلتى صالح يا سَكينة.. انتِ متعرفيش انى محتاچ ليونس كيف.. دِه كنه عوض ربنا عن عبدالله الله يرحمه.. و عوض اخته و بت عمه..
همت سكينة بالسؤال الا ان طرقات متسرعة على الباب و انفراجه بتلك الطريقة أكدت على لهفة الداخل و الذى لم يكن سوى هداية التي تطلعت لأبيها مستفسرة بنظراتها عن صحة استنتاجها ليأكد ابوها بإيماءة من رأسه لتندفع بإتجاه سكينة تقبل كفها في سعادة هاتفة:- كيفك يا خالة!؟.. يا رب تكونى بخير..
ابتسمت سكينة في مودة رابتة على كتف هداية هاتفة:- بخير يا بتى تسلمى يا رب و تعيشى.. ايه الچمال دِه كله.. الله اكبر.. ربنا يحميكِ لشبابك يا بتى..
ابتسمت هداية و لم تعقب ليهتف حامد ساخرا:- ايه!؟.. خبر ايه!؟.. و يونس اخوكِ ملوش نصيب من التهليل دِه كله.. !!..
ابتسمت هداية و هي تتجه ليونس في خجل هاتفة:- كيف دِه يا حاچ!؟.. و الله لو يعرف فرحتى بشوفته النهاردة.. و الله ما تتجدر..
و اتجهت ناحية يونس و انحنت تقبل كفه في تقدير احتراما لفارق السن بينهما فهى تقريبا كانت في سن حامد حتى ان يونس احمر خجلا و جذب كفه في سرعة محرجا..
ابتسم حامد في سعادة لتجمع أولاده أخيرا تحت سقف داره و هتف مستفسرًا:- ايه يا هداية.. خبر ايه!؟
امال فين عيشة.. مچتش تسلم على واد عمها ليه!؟..
هتفت هداية:- يعنى يا حاچ منتش عارف عيشة.. بتتكسف من خيالها.. انى هروح أچيبها..
لكن حامد هتف في سعادة و هو يرى عائشة تدلف لداخل الحجرة في هدوئها المعتاد:- اهى چات.. تعالى يا عيشة سلمى على يونس واد عمك و خالتك سَكينة..
اتجهت عائشة تقبل كف سكينة في تأدب و تجلس جوارها و هي تنظر ليونس نظرة سريعة قبل ان تهتف في خجل:- اهلًا بيك يا واد عمى.. نورتنا..
ابتسم يونس في ثبات:- تسلمى يا عيشة.. اهى هداية تجريبا كد ولدى حامد.. و انتِ شكلك اصغر منيهم بشوية..
هتف حامد في فرحة:- سميت ولدك على أسمى يا يونس!؟..
اكد يونس في فخر:- دِه الحاچة الوحيدة اللى كانت بجيالى منك يابا.. كيف مسيتسماش على اسمك!؟..
دمعت عينا حامد في محبة هاتفا:- خلاص يا يونس كل حاچة بجت ليك يا ولدى مش أسمى بس.. كل حاچة..
هتف يونس:- لاااه انى مش عايز حاچة.. انى بكفيانى شوفتك و شوفة اخواتى.. معيزش اكتر من كِده..
هتف حامد ممتعضا:- كيف دِه!؟.. انت واد العمدة حامد الحناوى.. جوم تعال معاى..
هتف يونس:- على فين يابا.. انى معيزش حاچة.. انى هرچع دلوجت لنچع الصالح و ابجى اچيلك مرة تانية و معاى العيال و أمهم و ابجى ورينى اللى انت عاوزه..
تشبث حامد برأيه هاتفا:- لاااه دلوجت.. هتجوم معايا تشوف اللى ليك حلاً.. و المرة الچاية ابجى انى اچيك و اشوف مرتك و عيالك و تاچوا كلكم تعيشوا معاى.. انى ماصدجت لجيتك.. عايز تبعد عنى ليه تانى يا يونس يا ولدى!؟..
اتجهت أنظار يونس لأمه التي حثته على مهادنة ابيه و النهوض خلفه حتى يعرفه على كل كبيرة و صغيرة في نجع الحفناوي الذى سيكون يوما ما مستقره كما يتمنى الوالد.. فنهض يونس خلف ابيه و قد ادرك انه الان على مفترق طرق و اختيارات وعرة يتمنى من الله ان يلهمه القدرة ليكون على قدرها..
كانت تجلس على المائدة شاردة تفكر فيما عليها قوله او فعله في معضلتها مع بن عمتها المجنون ذاك تتظاهر بتناولها الطعام و هي لم تمسه مما استرعى انتباه عاصم ليهتف مستفسرًا:- خبر ايه يا أستاذة!؟.. مبتكليش ليه!؟..
هتفت سندس مدعية الجوع:- ابدا يا بابا باكل اهو.. ده انا حتى جعانة..
و بدأت في إلتقاط بعض اللقيمات تحاول ابتلاعها في صعوبة بينما على الجانب الاخر من المائدة يجلس كل من تسنيم و مهران و كل منهما يدعى الاهتمام بالاخر وكأن بينهما اتفاق غير مصرح حتى يتظاهرا بالمحبة و الاهتمام كأى زوجين جديدين حتى لا يلحظ احد في السراىّ ما بينهما من نفور و تباعد..
نظرت زهرة لحال ابنتها الساهمة الشاردة منذ طلب بن عمتها يدها من ابيها و كذلك حال ولدها البكر و زوجه و الذى اعتقدت ان بزواجه سينصلح حاله الا ان ما تراه الان ما هو الا ادعاء للمحبة ليس اكثر..
تنهدت زهرة و هي تستأذن للصعود لغرفتها يتأكلها الغم..
نهض خلفها عاصم و دلف بعدها للغرفة في ثوان متعجبا من حالها هاتفا:- خبر ايه يا زهرة!؟.. جومتى ليه من ع الأكل بسرعة كِده!؟.. دِه انتِ تجريبا مكلتيش..
نظرت اليه في حسرة هاتفة:- و مين ليه نفس بس يا عاصم!؟.. انت مش شايف حال العيال!؟..
هتف متعجبا:- مالهم العيال بس!؟..
هتفت بحزن:- مالهم ايه بس!؟.. انت مش شايف سندس و حالها.. طب سيبك من سندس اهى متلخبطة و مش عارفة ترسى على بر بس انا متأكدة انها هتختار اللى يريحها و باسل هيساعدها على كده.. لكن مهران و تسنيم.. عاجبك حالهم!؟..
هتف عاصم:- ماله حالهم!؟.. ماهم زى الفل و اديكى شيفاهم ع العشا كانوا زى السمن ع العسل..
ابتسمت زهرة بحسرة:- انت مصدق يا عاصم.. تسنيم و مهران مش على وفاق.. صدقنى في بينهم حاجة غلط.. ده مش شكل عريس و عروسة مبقلهمش فترة صغيرة متجوزين و عن حب كمان.. دول بيمثلوا قدامنا انهم متفاهمين و كله تمام.. لكن حالهم مش كده خاالص..
هتف عاصم متحيرا:- يعنى ايه الكلام دِه!؟.. ما احنا جلنا هنچوزه عشان يتعدل بعد الموضوع الماسخ إياه.. و اهااا اتچوز تيچى تجولى لسه متعدلش.. طب امال في ايه طيب !!.. لا حول و لا قوة الا بالله..
هتف زهرة دامعة:- مش عارفة يا عاصم.. و الله ما عارفة فيه ايه!؟..
ربت عاصم على كتفها في إشفاق هاتفا:- اهدى يا زهرة.. وحدى الله و سيبها ع الله.. ربنا يهدى حالهم و يريح جلوبهم .. و يريح بالنا عليهم..
هتفت زهرة متضرعة:- يا رب يا عاصم.. يا رب..
كان يقف فى تيه تام يتطلع الى الحارة بطولها و عرضها غير مدرك حتى لتفاصيلها العتيقة التى يحفظها عن ظهر قلب مثلما يحفظ كف يده..
كان يفكر فيها.. و هل هناك ما يشعل باله غيرها!؟.. تنهد فى ضيق و همس متسائلا.. متى سيمكنه أزاحه ذاك الثقل الرهيب عن قلبه و البوح بما يحمله لها من مشاعر تنوء بحملها روحه التى تهواها حد الوجع..
انه يعلم انه غير قادر على التفوه بكلمة فى حضرتها تتوه ابجدية الكلمات و تسقط الأحرف لتغرق فى بحور عينيها و ما لديه من قدرة على الإفصاح و هو ذاك الصامت ابدا..
اعتقد يوم ان صرخت مختبئة فى صدره من ذاك الفأر انه كان سيخبرها بمكنوناته لولا ظهوره الا انه يعلم علم اليقين انه ما كان بفاعل.. ما كانت الا نوبة من شجاعة داهمته و ما عاد قادرًا على استدعائها من جديد..
ماذا عليه ان يفعل حتى يخبرها!؟.. انه لا يعلم.. هل يرسل لها بخطاب ما!؟.. هل يبعث لها برسالة على هاتفها!؟.. ام ماذا!؟.. ليت له صديقا يخبره ما عليه فعله فى مثل تلك الامور لكنه لا يملك احدهم.. او بالأدق.. هو لا يملك ذاك الصديق الذى من الممكن ان يكون بهذه الاريحية معه ليخبره عنها.. لم يكن هناك الا نادر صديقه الأوحد الذى كان يمكنه ان يعرى روحه امامه دون ان يتردد.. همس فى شجن بالرحمة لأخيه و قرأ الفاتحة لروحه الطاهرة..
و همس صوت بعيد يشدو مترنما بحال العاشقين فتنهد من جديد مؤكدا فى سخرية:- و هو حد دارى بحالهم قدى!؟..
اكثر ما يرهبه و يجعل نومه يجافيه انه حتى و لو استطاع أخبارها بما يكنه لها من مشاعر هو مدى تقبلها لها..
هل ستصدق انه يعشقها منذ زمن!؟.. ام انها ستعتقد بحماقتها المعتادة انه يدعى محبتها حتى لا يشعرها بذنب تجاهه لزواجه منها بعد ذاك الحادث المشؤوم معها!؟.. انه يعلم انها ستفعل.. بالتأكيد ستفعل..
انتفض عندما تناهى لمسامعه صراخها بإسمه فاندفع للأسفل حيث تقبع بشقة ابيه تحضر طعام العشاء و ما ان هم بهبوط الدرج باتجاه شقتهما بحثا عنها و هى لا تزل تهتف بإسمه بهذا الشكل الملتاع حتى وجدها مندفعة من الأسفل فى نفس سرعة هبوطه ليحدث ذاك الاصطدام المدوى ليسقطا لحسن الحظ على تلك الردهة القصيرة بين الطابقين..
كان هو يفترش الارض و هى ملقاة على صدره يغطى وجهه شعرها الكستنائى المتناثر و الذى استطال ليخلبه لبه فقد كان دوما يحذرها من قصه على الرغم من رغبتها فى ذلك مرارا.. لكن لو يعلم الان ما يعانى و هو يغطى محياه بهذا الشكل كأنه غمامة من عطر معتق لأمرها بقصه منذ زمن..
تنبهت متأوهة تحاول الاعتدال و هو ساكن كحجر.. و بدأت فى سحب جدائلها القاهرة من على قسماته هامسة فى قلق بإسمه:- ناااصر..
الان جاء صوتها بتلك النبرة ليكمل تلك الجريمة فى حق ثباته.. ما عاد قادرًا على الابتعاد و هى على تلك الحالة من القرب الذى تمناه للحظات فى اروع احلامه و كفيه الان تضمان خصرها الناحل فى تشبث و كأنهما طوق نجاة لغريق ما ظن للحظة انه ناجٍ ..
هتفت من جديد تهزه فى صدمة ليفتح عينيه متطلعا اليها بنظرات جعلتها تتسمر غير قادرة على التفوه بحرف.. تاهت هى الاخرى فيه و كأنما تراه من جديد يوم كان يبكى اخيه بأحضانها كما لم تره من قبل..
و لكنها اخيرا استفاقت فى ذعر و قد تذكرت لما كانت تستدعيه من الاساس لتنهض فى عجالة قاذفة أحلامه كلها عرض الحائط و هى تندفع للأسفل مستكملة صراخها:- امك تعبانة.. انزل بسرعة..
انتفض كمن لدغته عقرب.. و فى ثانية كان مندفعا لشقة ابيه و منها الى حجرتها هاتفا فى لوعة:- ايه ياما!؟. مالك!؟..
هتفت نعمة تئن على فراشها:- مش عارفة يا ناصر.. مش قادرة اخد نفسى.. و حاسة انى رايحة م الدنيا.
اندفع خارج الحجرة هاتفا بشيماء:- هجيب دكتور بسرعة و خليكى جنبها..
لم يغب طويلا و عاد بالطبيب و ابلغ ابيه الذى اندفع بدوره فى اتجاه المنزل فى ذعر..
لحظات و كان الطبيب يعاينها و مثيلتها حتى كان بالخارج يبلغهم ما عليهم فعله.. مؤكدا انه يجب ان يلازمها احدهم ليل نهار حتى اذا ما عاودتها أزمة ضيق التنفس يكون جوارها.. و ما هناك من احد اصلح من شيماء لأداء تلك المهمة.. و التى ستكلفه الكثير.. لكنه رأى ان هذا افضل للجميع.. فعليه ان يبتعد قليلا.. فذاك القرب المُهلك منها يكاد يحرقه حيّا..
رن هاتفه في إلحاح جعله يزفر في ضيق و هو يضغط على ذر الرد هاتفا في ضجر:- ايوه.. ايه الاخبار..
هتف الشخص ع الطرف الاخر:- كله تمام يا باشا.. كل اللى طلبته أتعمل و اتظبط.. و هتسمع اخبار هتعچبك عن جريب..
هتف سيد في اهتمام و قد برقت عيناه في جزل:- انت متأكد و لا كلام وخلاص..
هتف الطرف الاخر:- عيب يا باشا.. من ميتا خدت منى كلام و بس.. و هي دى اول مرة.. ما انت شوفت الموضوع إياه بتاع مهران..
قاطعه سيد:- اه الموضوع اللى حصل و كأنه محصلش من أساسه و طلع منها زى الشعرة من العجين.. و اهو اتجوز و عايش حياته..
هتف محدثه:- طب و انى ايه ذنبى يا باشا اذا كان راچلك اللى بعته هو اللى طلع مش راچل من أساسه و رچع ف كلامه ف النيابة!؟.. انى بعمل اللى علىّ و..
هتف سيد مقاطعا إياه في نزق:- خلاااص.. انت بتاخد تمن اللى بتعمله منتش بتعمل ده لوجه الله..
هتف الطرف الاخر:- بمناسبة التمن يا باشا.. فين تمن العملية الأخيرة!؟.
هتف سيد في غضب:- مش لما تتم يا بنى آدم !!.. هايوصلك حسابك زى كل مرة.. اتكل مع السلامة..
أغلق الطرف الاخر و تنهد سيد في تشفى هامسا:- كله يهون.. حتى التعامل مع الأشكال دى.. بس أوصل للى انا عاوزه و احرق قلوبهم كلهم زى ما حرقوا قلبى..
دخل حامد لمدرجات مسرح الجامعة ليلتقى أصحابه مودعا فقد جاء فقط ليتسلم شهادة تخرجه و لولاها ما خط الجامعة بقدمه مرة اخرى حتى لا يراها..
تلفت حوله رغم عزمه الداخلى على عدم رؤيتها لكن شئ ما يدفعه لينظر اليها النظرة الاخيرة قبل ان يولى مبتعدا للأبد..
تسامر مع أصحابه و تجاذب أطراف الحديث و هم بالرحيل الا انهم ناشدوه ليغنى قبل ان يرحل و يفتقدوا صوته بينهم.. كان فى سبيله للرفض فلم يكن يغنى رغبة فى الغناء فقط بل كان يغنى لأجلها و هى اليوم غائبة و غاب معها حنينه للغناء و الذى انقطع عنه فترة ليست بالقصيرة تقريبا منذ لقائه مع ابيها.. و لكن فجأة رأها تدخل و كأنها تعلم بوجوده و جاءت لتلقاه كما كان يحدث بينهما فيما سبق..
الان فقط شعر برغبة ملحة فى الشدو كما لم يشدو سابقا فأنتزع الميكرفون من زميله و وقف يغنى مسلطا نظراته عليها:-
بينى و بينك سُوَر ورا سُوَر..
و انا لا مارد و لا عصفور
فى ايدى ناى و الناى مكسور
و صبحت انا ف العشج مثل..
البحر بيضحك ليه
و أنا نازلة أتدلع أملا الجلل
البحر غضبان ما بيضحكش
أصل الحكاية ما تضحكش !
البحر جرحه ما بيدبلش..
وجرحنا ولا عمره دبل...
البحر بيضحك ليه..
و أنا نازلة أتدلع أملا الجلل
قللنا فخارها جناوي..
بتجول حكاوي وغناوي
يا جلة الذل أنا ناوي
ما أشرب ولو في الميّة عسل
البحر بيضحك ليه..
و أنا نازلة أتدلع أملا الجلل.
اعاد حامد المقطع الاخير متعمدا و اخيرا توقف شدوه وترك حامد الميكروفون وودع أصحابه فى سرعة و اندفع مبتعدا حتى لا تلحق به.. لكنها لم تيأس و نادته عدة مرات حتى أزعن لنداءاتها و توقف على مضض لتتوقف قبالته و هتفت لاهثة:- ازيك يا حامد.. كده كنت تبقى هنا ف الجامعة و متفكرش تشوفنى!؟..
هتف فى كبرياء جريحة:- يا بت الناس انى مش كد المجام عشان أعرفك م الاساس..
هتفت سلوى فى حزن:- حامد.. بجد انا آسفة على كل اللى قاله بابا.. انا لو اعرف انه هيعمل كده مكنتش قلت لك تعال قابله..
هتف حامد بضيق لتذكره ما حدث من ابيها و كيف عامله بطريقة فظة و بأسلوب متعال:- خلاص.. اللى حصل حصل.. و انى اللى أسف.. أسف بچد انى ورطتك ف حكاية مكنتش اعرف انى مش كدها.. كنت فاكر انى كفاية احبك عشان اعرف أوصل لك لكن كنت غلطان.. انى اللى أسف عشان مجدرتش اوفى بوعدى معاكِ و نكون لبعض عشان فى حاچات كَتير طلعت اهم م الحب مية مرة لا انى و لا انتِ كنّا عاملين حسابها..
و هم بالرحيل فأستوقفته هاتفة:- انت هتمشى !!
اكد بايماءة من رأسه.. لتستطرد بدموع تترقرق متوسلة:- طب ما تخليك معايا شوية..
هتف فى حزم رغم لين قلبه لدموعها المنسابة:- مجدرش.. سكتنا من زمان مش واحدة.. عن اذنك..
و اندفع مهرولا ليبتعد عنها و قد شعر ان قلبه قد انشطر نصفين لكن جرح قلبه لا يقاس مطلقا بجرح كرامته و ذُل كبرياءه الذى عاناه امام ابيها فقد اقسم بعد لقائه ان يصون كرامته و يحفظ كبرياءه و ليذهب حبه للجحيم..
ستعيده اليها.. ستفعل و لو بعد حين
ستلزمه ان يشتاقها فوق الأشتياق.. ستجعل لحظاته بداخل حجرتهما نار تأكله حتى يدرك جيدا انها لن تترك ثأرها دون ان تناله من قلبه ذاك القاسِ الذى ما لان لها لحظة منذ وطأت قدميها تلك الغرفة ليلة زفافهما..
بإستثناء تلك اللحظات التى كان ينسى فيها انه حرمها على نفسه و ما ان يتذكر حتى يندفع مستغفرا مبتعدا عنها..
انها تحبه.. لكنه جرحها.. ووجعها يئن بداخل روحها كخنجر مغروس بين اضلعها.. هى تعلم انها اخطأت لكنها كانت فى سبيلها لتعترف له بكل شئ ليلة زفافهما.. كانت ستطلب منه الغفران على هفوة ما كانت قادرة على التصرف حيالها.. لكنه اخرسها و ألجم لسانها و هى يقذفها بأبشع اتهام ما كانت تتوقعه و لا فى اسوء كوابيسها و خاصة منه هو دون عن سائر البشر..
دمعت عيناها لكنها عزمت امرها و نفذت ما انتوته و عادت ادراجها فى هدوء لتستلق على فراشها فى دعة قبل ان يندفع هو للغرفة فى غضب كعادته ليمارس طقوسه المعتادة من غياب طويل داخل الحمام و اخيرا فتح الخزانة و اخراج مرتبته ووسادته و إلقائهما بغيظ على الارض و الاندفاع ليتمدد عليهما مغلقا عينيه فى ضيق و قد امسك نفسه متلبسا بالتطلع الى موضعها على الفراش..
زفر فى حنق و انقلب على جانبه الاخر و قد غاص وجهه ف الوسادة محاولا محو صورتها من مخيلته.. لكن مهلا.. ما تلك الرائحة المحببة لنفسه و كأنها.. انه عطرها.. همس لنفسه و غاص وجهه اكثر بين طيات الوسادة التى تشربت عطرها و لا يدرك من اين أتاها ليتعلق بها.. اسكرته الرائحة و ملأ بها صدره حد الثمالة.. و ما عاد قادرًا على ذاك الحصار الذى يواجهه.. عطرها المشربة به روحه و محياها الذى يطالعه أينما يقلب وجهه.. هذا كثير على قدرة احتماله.. هذا كثير على ما ينوء به قلبه.. بل انه اكثر من كاف يا مهران..
هكذا هتف لنفسه و هو ينهض فى عجالة مندفعا خارج الغرفة و قد قذف بالوساطة بعيدا فى غيظ.. وما ان أغلق الباب خلفه حتى ضحكت فى سعادة و هى تراه معذبا مثلها بشوق يحرقه هو الوحيد القادر على إطفاء لهيبه لكن كرامته تأبى.. كما تأبى كرامتها ما ألحقه بها من اتهامات هى منها بريئة.. و طاهرة..
كانت تعلم انه فى سبيله الى النجع لمباشرة تحضيرات عقد قرانهما بعد يومين.. غاب عشرة ايّام كاملة.. غاب فيها على اثره ذاك التعقل الذى تدعيه و الرزانة التى تكلل محياها و المنطق الذى دوما ما يغلف أفكارها و خواطرها.. لكن أى منطق و اى تعقل و هو بعيد عنها حيث تقبع جميع النساء عاداها الى جواره!؟...
رحل للقاهرة كعادته و تركها تتجرع مرارة الغيرة و الحقد على كل امرأة قابلته و لو صدفة دونها.. اللعنة على مشاعرها التى لا تسطيع السيطرة عليها و على قلبها الذى ما عادت قادرة كعادتها على كبح جماحه ..
تنهدت فى ضيق و هى تلقى بهاتفها على فراشها لا تعلم كيف يمكنها ان تخبره بما اعتزمت عليه..
و هل أنا عزمت امرى على شئ من الاساس حتى أخبره بِه!؟.. هتفت فى نفسها متسألة.. للأسف هى حتى لم تستطع تحديد ما ترغب به.. ما تريده بالفعل.. لقد أعطى لها حرية الاختيار وهى لا تملك تلك الرفاهية من الاساس.. عليها الان كما اتفق معها ان تمسك بهاتفها و تحادثه لتخبره برأيها النهائى.. تطلعت للهاتف و قد عزمت امرها على الرفض و الهرب بعيدا..
اندفعت اليه تحمله باحثة عن رقمه فى سرعة و اخيرا داست ذر الاتصال رغبة منها فى إنهاء تلك الحالة البشعة التى تنتابها و لتنهى الامر فى عجالة حتى تستريح.. لم يمهلها باسل الفرصة حتى لتعيد التفكير و تغلق الهاتف فقد رد فى سرعة عجيبة ادهشتها و هو يهتف فى هدوء يحاول تصنعه كما ادركت بفطرتها:- السلام عليكم يا استاذة.. ايه الاخبار!؟
حاولت ان تنطق و لكن شعرت فجأة ان لسانها ألتصق بسقف حلقها و ان حلقها نفسه جف كصحراء لم تزرها الأمطار لعصور.. استطرد هو مشجعا عندما شعر بدوره بترددها و توترها:- هااا يا بت خالى.. !!؟.. موافجة و..
قاطعته دون ارادتها فقدت انفكت عقدة لسانها فجأة و وجدت نفسها تهتف:- ااه.. اصل..
لم يمهلها لتوضيح ما تقصده بل صرخ فى فرحة هستيرية:- جلتى اه.. انتِ موافجة.. !!..
كانت تعرف انه مجنون كليا لكن مثل ذاك الجنون الذى يتناهى لمسامعها عبر الهاتف لهو جنون مطبق فيبدو انه كان يصرخ من خارج نافذة سيارته التى كان يستقلها عائدا من القاهرة هاتفا بحماس منقطع النظير:- وافجت.. هتچوز يا چدعان..
دمعت عيناها لفرحته بهذا الشكل الصاخب و شعرت بقلبها يكاد يتوقف نبضه لمجرد شعورها انه يعشقها لهذا الحد.. انه باسل و كفى.. هتف قلبها و عقلها و كذلك روحها بأسمه لتدرك انها لم و لن تعشق سواه و سيظل حبيبها الأوحد ما حيت.. سالت دموعها و هى تستمع لكرنفال السعادة الذى يصنعه ببوق سيارته الذى ما رفع كفيه عنه منذ جاءه ردها المزعوم بالموافقة..
هتفت هى محاولة اثارة انتباهه:- بص يا واد عمتى.. اصل انت..
هتف مقاطعا فى سعادة:- انى ايه!؟.. انى خلاص مش عايز حاچة تانية م الدنيا.. كفاية انك..
و فجأة سمعت مكابح سيارة تعلو بقوة و صرخات و صدام و انقطع الإتصال بينهما لتصرخ بإسمه و لكن لا مجيب...