رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل الحادي عشر
استيقظ ناصر متأخرا على غير العادة فاليوم لا ورشة يستيقظ لها مبكرا و لا عمل لديه الا تجهيز حاله لليلة العمر.. تمطع فى سعادة على فراشه و تطلع لساعة الحائط امامه ليدرك انها تعدت العاشرة صباحا بقليل.. اندفع خارج الفراش حتى يبدأ فى التجهيزات التى يسمع سيرها على قدم و ساق بالأسفل داخل الصوان الذى تم نصبه البارحة بعرض الحارة وطولها.. خرج من غرفته يتطلع حوله لعله يلمحها قبل ان يرحل الا ان امه عاجلته هاتفة فى تخابث مقهقهة:- مش هنا.. شوشو نزلت..
انتفض غاضبا:- نزلت فين من غير اذنى!؟..
قهقهت نعمة من جديد هاتفة فى
مرح:- يا واد اتهد.. إذنك ايه يابو اذن انت.. ما هى خدت اذن خالها.. لما تبقى ف بيتك ابقى هلل كده.. و بعدين دى عروسة.. لازم تبقى قمر الليلة دى..
هتف بتهور غير محسوب:- هى قمر من غير حاجة.. عجبانى كده..
انفجرت نعمة ضاحكة على كلمات ناصر الغير معتادة هاتفة:- و الله و لينتى الحجر يا شوشو !!. كان فين ده كله بدل الشخط و النطر فيها ع الفاضية و المليانة!؟..
تنحنح ناصر و قد ادرك نتيجة تهوره فقرر ان يمسك عليه لسانه و اندفع مؤكدا:- انا هنزل اشوف باقى التجهيزات و اروح للحلاق.. يا رب نادر يجى بدرى النهاردة..
هتفت نعمة ما ان وصل اسم نادر لمسامعها:- يا رب يا ناصر يا بنى.. نفسى ميتأخرش عن كتب الكتاب و يفرح معاك.. عقبال ما اشوفه هو كمان حيران حيرتك..
و ما ان هم بالخروج حتى هتفت تستوقفه نعمة و هى تدخل للمطبخ و تعود سريعا لتضع بعض أطباق على المائدة و تجذبه ليجلس أمرة اياه:- ياللاه كل دوول قبل ما تنزل..
ابتسم ناصر و هتف متعجبا:- حمام و طبيخ ع الصبح ياما!؟..
أكدت نعمة:- ايوه يا واد انت عريس أمال تاكل ايه.. بلا هم.. عيال مش عارفة مصلحتها..
انفجر ناصر مقهقها هاتفا و هو يتناول كفها مقبلا اياه:- خلاص متزعليش و حياتك الا النهاردة.. هاكلهم و امرى لله..
اومأت نعمة و هى تربت على كتفه:- ايوه كده.. اسمع كلام امك تكسب..
تناول ناصر ما وضعته نعمة امامه تحت تهديد السلاح و ما ان انتهى حتى نهض مبتسما و هو يقبل جبينها فى محبة و يندفع خارج شقة ابيه.. تطلع ما ان خرج من باب البيت الى ذاك الصوان الضخم و ألقى اليه نظرة عامة و هو يرى احد صبيان ابيه فى القهوة و صبيه شكمان يقومان بالاشراف اللازم على اعداده كما يجب و ما ان طالعهما محياه حتى هتف كل منهما مباركا فى حبور..
اندفع ناصر للحلاق الذى كان ينتظر العريس بفارغ الصبر حتى يهنئه بطريقته الخاصة.. اجلسه على كرسيه امام مرآة بلجيكية كبيرة الحجم بعرض الحائط و بدأ فى إعمال مقصه كما يجب و بدأ ايضا توافد العديد من شباب و عجائز الحارة للإشراف على تجهيز العريس..
و انطلقت من هنا و هناك التلميحات الخارجة و النكات الاباحية ليضج محل الحلاق بالضحكات التى تناثرت خارج ابوابه الزجاجية والتى تطل على قهوة الشمندورة التى لم تغلق ابوابها كما هو متوقع فى يوم ميمون كهذا بل استُخدمت كمقر لزجاجات المشروب الغازى الذى يتم تبريده استعداداً للحفل بعد بضع ساعات..
صدحت زغاريد سهام و هى تصعد حيث غرفة ابنتها و لم تهدأ الا و هى تدق بابها لتفتح لها العروس خجلى و هى فى أبهى زينة بشعرها المنساب على كتفيها و قميصها الأبيض الحريرى و نظراتها البراقة المشعة فرحة و التى استطاعت إجادة تمثيلها ببراعة جعلت أمها ما ان رأتها حتى جذبتها لأحضانها فى سعادة و اخذت تبكى مما جعل تسنيم تجذب أمها للداخل فى تعجب و تغلق الباب هاتفة و هى تجلسها على طرف..
الفراش:- ايه بس يا سوسو.. ليه البكا ده بس!!
هتفت سهام من بين دموعها:- دى دموع فرحة يا غشيمة ايش فهمك انتِ!!..
انفجرت تسنيم ضاحكة:- طب اذا كان كده ماشى يا سوسو..
احتضنتها سهام من جديد فى محبة طاغية هاتفة:- و الله الدار من غيرك ملهاش طعم يا تسنيم..
هتفت تسنيم مازحة:- و لا تزعلى يا سوسو ألم هدومى و اروح معاكى و لا يكون عندك فكر..
هتفت سهام بذعر:- كف الله الشر.. جال تاجى معاى جال.. ربنا يعمر بيكِ يا بتى و يچعلها چوازة العمر كله يااارب.. مهران راچل و بيحبك بچد و هيحطك ف عنيه.. بس انت بجى اتشطرى و جيبلنا عيل نلعبوا بيه..
ابتسمت تسنيم على الرغم من الغصة التى تكاد تقتلها حزنا و قهرا.. كان من المفترض ان يكون ذاك الصباح هو اروع صباحاتها على الإطلاق.. كان من المفترض ان تصحو و هى بين ذراعيه و قد تحقق حلم العمر و جمعهما الله فى حلاله و أراح سهاد قلبيهما بعد طول انتظار.. الان تراها تحاول التظاهر بذلك..
تحاول ادعاء ان الحلم اضحى حقيقة على الرغم من يقينها ان ذاك الحلم اضحى مستحيلا و ما عاد فى الإمكان تحقيقه..
ربتت سهام على كتفها فى سعادة و فخر بابنتها العروس الجميلة و نهضت فى عجالة لترحل.. هتفت بها تسنيم تستبقيها فهى تعلم ان بعد رحيلها سيعود مهران للغرفة ليعاود الالم الاستيقاظ بأعماقها من جديد مع رؤيتها له و هو يعاملها بتلك الطريقة و ينأى عنها كأنها شئ نجس لا يقو على الاقتراب منه لكن تلك الطرقات على الباب دفعت سهام لتسارع بالمغادرة هاتفة:- تلاجى ابوكِ اللى باعت يستعچلنى دِه..
و فتحت الباب ليطالعها مهران
هاتفا:- عمى حسام عا..
قاطعته سهام رابتة على كتفه فى مودة هاتفة:- خلاص انى نازلة اهاا..
ثم جذبت مهران دافعة به فى مشاكسة لداخل غرفته حيث ابنتها:- و انت بجى تدخل لعروستك و مشوفكش تحت تانى.. انى عارفة السكة يا واد عاصم..
اغلقت الباب بعد ان أدخلته عنوة و لم تدع له مجالا للإعتراض ليتنبه لتلك التى خرجت من خلفه حيث كانت تجلس على طرف الفراش منذ لحظات لتقع عيناه عليها و هى تسرع للإختفاء عن ناظريه ليشهق بصوت مسموع و هو يرى شعرها الغجرى ذاك يتراقص خلفها فى مجون أفقده صوابه..
سمعت هى صوت شهقاته مما دفعها لتسرع الخطى و إسدال صلاتها بيدها و ما ان همت بالوصول لعتبة الحمام حتى داست على طرف اسدالها الذى كانت تحمله لتندفع أرضا بسقطة قوية جعلته يسرع اليها فزعا هاتفا و هو ينحنى اليها:- انت كويسة!؟..
كانت السقطة من القوة بحيث جعلت شعرها الثائر يتطاير حول وجهها مغيبا ملامحه خلفه كما يختبئ قمرا خلف الغيوم..
رفع هو كفه بشكل لا أرادى يدفع خصلات شعرها متلمسا ملامحها التى يعشق و عيونها التى تمنى ان يسرح فيهما مليا دون ان يشعر بذنب الخطئة لتطلعه لما لا يحل له قبل ان يأذن ربه.. رفعت هامتها المنكسة تتطلع اليه فى وله.. تتشرب تلك النظرات الحانية كأرض عطشى.. ها هو مهران الذى تعرفه.. هاهى نظراته المغلفة بالحنان و المغموسة بالتقوى و المسربلة بعشقها..
هل سامحها!؟.. هل اندفع يطمئن عليها خوفا عليها ام واجبا!؟.. هل يع ان تلك اللحظات بينهما مسروقة من وعيه و ادراكه انه حرمها على نفسه البارحة.. و انه سيعود سيرته الاولى ما ان يزول سحر تلك اللحظات.. !؟.
الجواب فى يدها هى.. عليها ان تنهض مبتعدة حتى توفر على نفسها و عليه وجعا من نوع اخر.. وجع الندم.. وجع البعاد بعد التلاقى..
بالفعل نهضت مندفعة الى الحمام و اغلقت الباب خلفها ليستفيق هو و كأنما اغلقت باب الحلم ليستيقظ مستنكرا على واقعه المقيت.. نهض بدوره يكاد يختنق رغبة فى الابتعاد و يموت شوقا رغبة فى الاقتراب.. لكن كيف السبيل لأى منهما!؟..
دخل حامد الى الدار من بابها الخلفى يترنح متألما يدارى دمعا يأبى السكون فى مقلتيه ينازع الثبات حتى يفر على خديه فى حزن بالغ و ما ان رأته جدته سكينة بهذا الوضع حتى اندفعت اليه متسائلة فى قلق بالغ:- ايه فى يا حامد!؟.. كف الله الشر يا ولدى..
جلس حامد على اقرب مقعد مهدودا ليهتف فى ألم و بصوت متحشرج:- عبدالله يا ستى..
هتفت فى لوعة:- عبدالله مين!؟.. زميلك اللى جبته مرة يتغدى عندينا من مدة!؟..
هز رأسه بالإيجاب مستطردا:- هو يا ستى.. مات امبارح ف حادثة ع الطريج و هو رايح چامعته..
ضربت صدرها بكفها فى لوعة و هى تجلس على المقعد المجاور لحامد هاتفة فى جزع:- ولدى.. يا حبيبى يا بنى..
انحدرت دمعة من عين حامد رغما عنه و هو يهتف:- نچع الحناوية مجلوب م الصبح و عربيّات رايحة و جاية ع الطريج و لما سألت اشوف فيه ايه عرفت الخبر.. جثمانه على وصول و الدنيا فوجانى تحتانى عشان الچنازة..
لم تكن سكينة تسمع كل تلك التفاصيل بل كانت مغيبة تماما تهمس فى لوعة و حزن حقيقى:- يا مرك يا حامد.. يا وچع جلبك يا خويا..
هتف حامد متعجبا على دمدمة جدته التى لا يعيها:- ايه فى يا ستى!؟.. مكنتش اعرف انك هتزعلى عليه جووى كِده!؟.. دى هى المرة اللى وعتيله فيها.. !!..
هتفت تبرر لوعتها الظاهرة:- زعلانة على شبابه يا ولدى.. و على حرجة جلب امه و ابوه عليه.. ربنا ما يدوجها لحد ابدا..
هتفت حامد:- امه ماتت من زمان.. ابوه بجى اللى الله يصبره.. و خصوصى ان عبدالله كان ولده الوحيد..
صمتت سكينة و هى تستمع لكل تلك التفاصيل التى كانت تجهلها و ما كان فى الإمكان معرفتها من خلال تلك المرة الوحيدة التى زارهم فيها عبدالله و لم يكن من الجائز ابدا ان تخضعه لأسئلة من شأنها فضح امرها و اثارة تساؤلاته..
نهض حامد هاتفا:- انا رايح اتحضر عشان اعزى..
نهضت سكينة فى انتفاضة اثارت دهشة حامد هاتفة:- بلاش يا حامد يا ولدى.. بلاش..
تعجب حامد هاتفا:- ايه هو اللى بلاش يا ستى.. !! دِه واچب.. دِه انى هاخد ابوى معاى..
هنا كانت الانتفاضة اكثر جزعا و سكينة تهتف مستنكرة:- لاااه.. ابوك لااه يا حامد..
هتف حامد مستنكرا بدوره:- خبر ايه يا ستى.. !!.. ايه هو اللى لااه.. مش دِه اللى كنتى لسه باكية عليه حلا !؟.. مخدش ليه ابويا معاى!؟..
تلجلجت سكينة فى اضطراب و اخيرا هتفت متحججة:- ابوك تعبان و صدره طول الليل عالل عليه و منامش.. سيبه يرتاح و روح انت لو عايز.. لكن متعوجش.. ربنا يحفظك يا ولدى..
هز حامد رأسه موافقا رغم عدم اقتناعه بذاك العذر الواهن و خرج من الغرفة تاركا إياها و قد عزمت امرها على ما كانت مترددة فى تنفيذه منذ رؤيتها عبدالله للمرة الاولى.. لكن يبدو ان الوقت قد حان لذلك و ها هى السبل تتيسر من اجل تحقيقه...
وقف ماجد بحلته العسكرية في صحن السراىّ مستعدا للرحيل بعد حضوره زفاف أخيه هاتفا بصوت جهورى مازح:- يابو مهران.. يا شيخ مهران.. انزل شوية هنا الله يخليك.. العسل مش هيخلص..
انفجر كل من زهرة و عاصم مقهقهين على مزاح ولدهما ليظهر مهران اعلى الدرج هاتفا في تعجب:- خبر ايه يا ماچد!؟.. فاكر نفسك ف الكتيبة و لا ايه!؟.. حد يزعج بالصوت الحياني كِده!؟..
هتف ماجد و كأنه لم يسمع كلمة مما قاله مهران الذى توجه للدرج هابطا:- طب نعمل ايه عشان نستدعيك يا شيخ!؟.. اسلم عليك ازاى دلوقتى قبل ما اسافر!؟..
وصل مهران لموضع أخيه الأصغر اسفل الدرج ليتلقاه ماجد بين ذراعيه هامسا في مجون:- حلو الجواز يا مهران!؟.. هااا.. !!.. اوعدنا ياارب...
ابتسم مهران رغما عنه لمزاح أخيه.. كانت تلك البسمة الوحيدة ربما التي اعتلت شفتيه منذ زمن قريب.. بخلاف تلك البسمات الزائفة التي كان يتصنعها امام والديه او احد الزوار القادمين لمباركة زواجه.. لكن ماجد الوحيد القادر على انتزاع ضحكاته من قلب حزنه لكم سيشتاقه.. !!..
احتضن مهران أخيه في محبة هاتفا و هو يربت على كتفه في معزة:- مع السلامة يا سيادة اللوا.. مطولش علينا الغيبة..
هتف ماجد مؤكدا:- كله على الله..
و توجه بنظراته لزهرة التي بدأت في وصلة البكاء المعتادة عند كل رحيل له بعيدا عنها ليتلقفها بين ذراعيه هامسا في حنو:- ايه يا زهورتى.. هو مفيش فايدة فيكِ.. !!.. انا لازم اخدك معايا اديكِ كورس تنشفى كده و تبقى عَصّب..
انفجر عاصم ضاحكا و هتف و هو يتلقف ولده مودعا:- لاااه.. مش هيحوج فيها.. هتفضل برضك امك اللى هتبكى كل ما توعالك مسافر و فايتها..
ربت عاصم بقوة على كتف ولده مودعا هامسا:- خلى بالك على حالك يا ماچد.. و ابجى طمنى عليك دايما.. كل اما تجدر ابجى ادينا تلفون.. ماااشى!؟..
هز ماجد رأسه متفهما و مؤكدا و هو ينتقل ليطوق سندس بين ذراعيه في محبة مقبلا إياها هاتفا:- مش هوصيكِ يا أستاذة.. فوق السرير بقى و اديها مرافعات.. مستواكِ المرة دى مش عاجبنى.. عايز احسن المرة الجاية.. عايزين نرج المحكمة سعادتك..
نفجر الجميع ضاحكين و سندس تضرب اخيها على كتفه في مودة و عيونها دامعة على غير العادة..
اندفع ماجد خارج السراىّ و هتف أخيرا في أخيه مهران مازحا:- مش هوصيك يا عريس.. سلم لى ع العروسة بقى.. و الاجازة الجاية عايز السرايا مليانة عيال.. عايز اتعكبل فيهم كده من كترتهم..
انفجر مهران ضاحكا:- ليه امال!؟.. انت هتغيب شهر و لا كام سنة!؟..
اكد ماجد مازحا:- انا و حظى بقى.. و بعدين هو ايه.. انت الشيخ مهران.. عايزين كل شهر عيل.. بين كفاءة يا شيخ..
انفجر مهران مقهقها من جديد على مجون أخيه الذى اندفع للعربة راحلا.. و هتف قبل ان يغيب خلف سياج السور الحديدى مبتعدا:- مش هوصيك يا شيخ.. الكفاءة..
ليعاود مهران قهقهاته التي اختفت عن شفتيه ما ان غابت سيارة أخيه عن ناظريه و عاد لداخل السراىّ من جديد.. و عاد ليتقوقع داخل نفسه ناءيا عن عروسه الموصومة بعارها و البريئة من ذنبها..
تطلع الى تلك الارض البعيدة المتاخمة للجبل و تنهد فى نفاذ صبر و هو ينظر لساعته فقد أقر فى قرارة نفسه انه اخطأ عندما قرر المجئ الى هنا بالسيارة فساعة واحدة بالطائرة كانت كفيلة لتلقى به الى احضان تلك الارض التى سمع عنها دوما و لم تطأها قدماه قط..
لكنه كان يريد ان يقتحم تلك الارض بكل تفاصيلها فهو قادم فى الاساس ليعاين ارض المشروع المشترك بين شركته و شركة زكريا الهوارى و الذى تقرر له تنفيذه هاهنا بقلب الصعيد كما تمنى..
زمجرة متقطعة أخرجته من خضم أفكاره ليهتف فى سخط لسائقه:- ايه اللى بيحصل يا عادل.. العربية مالها!؟..
هتف سائقه فى اضطراب:- مش عارف يا سيد بيه!؟.. ماهى كانت ماشية تمام و انا عامل عليها صيانة قبل خروجنا بيها من مصر..
هتف سيد حانقا بعد ان توقفت تلك العربة الفارهة تماما عن الحركة و لازالت تزمجر مع محاولات عادل المستميتة لإعادة تشغيلها:- ايه.. مفيش امل.. عربية زى دى تعطل فجأة كده من غير مقدمات!؟..
توتر عادل و هو يخرج من العربة محاولا اكتشاف سر تعطل السيارة محاولا تفادى نوبة غضب سيده و التى يدرك مداها لكنه لم يفلح فى ذلك.. فوقف مكتوف الايدى غير قادر على الإتيان بأى تصرف يثير حفيظة سيد القابع داخل السيارة فى هدوء مخيف يشبه ذاك الذى يسبق العاصفة.
حاول سيد تمالك أعصابه و اخرج هاتفه الجوال لعله يستطيع الحصول على بعض المساعدة فأرقام الهواتف الجوالة لكل من حمزة و عاصم مسجلة لديه بالفعل و يمكنه طلب العون و خاصة انه لا يعلم اذا كان لايزل بعيدا عن نجع الصالح ام هى بضع كيلومترات و يصل.. !؟
تطلع لشاشة جواله و اطلق سبابا خافتا يلعن شبكات الهواتف النقالة كلها على سوء الخدمة و رداءة الإرسال فها هو جواله لا يلتقط إشارة واحدة تمكنه حتى من اجراء اتصال واحد لطلب المساعدة..
خرج من السيارة يتطلع لذاك الطريق الهادئ فى مثل تلك الساعة من النهار.. وضع نظارته الشمسية حتى يستطيع التطلع للأفق البعيد لعله يلمح سيارة ما قادمة يستدل بها على الطريق او حتى يستطيع استقلالها للوصول لمبتغاه..
مضت اكثر من نصف ساعة و لا أمل فى ظهور اى سيارة و لكن لاح الأمل اخيرا فى سيارة رمادية متهالكة تسير الهوينى قادمة من بعيد..
اشار اليها عادل السائق نيابة عن سيده لتتوقف السيارة فى تؤدة و يهتف سائقها فى تعجب:- خير يا بهوات!؟.. اى خدمة!؟..
هتف عادل فى سرعة:- البيه عايز يوصل لنجع الصالح.. هو قريب من هنا!؟..
هتف السائق فى تأكيد:- لااه.. لسه عليه شوية جدام.. بس من عنايا يا بيه.. هو ف طريجى برضك.. تشرف..
هتف سيد فى نزق شاكرا الرجل وهو يركب بالقرب منه فى المقعد الامامى تاركا سائقه خلفه مع وعد بإرسال المساعدة فور وصوله للنجع..
مرت دقائق قبل ان يهتف الرجل فى فضول:- بس حضرتك چاى لمين ف نچع الصالح.. !؟
هتف سيد فى لامبالاة:- عاصم بيه الهوارى.. تعرفه!؟..
هتف السائق فى تأكيد:- ألا اعرفه!؟. معلوم أعِرفه.. و مين ميعرفش كبير الهوارية ف الجيهة كلها..
اتم ناصر تجهيزه قبيل المغرب و ارتدى بدلته السوداء التى ابتاعها خصيصا لهذه المناسبة و خرج من غرفته لتتطلع اليه نعمة فى محبة طاغية.. محبة أم ترى صغيرها و قد اضحى رجلا يوم عرسه.. طفرت الدموع من عينيها لمرأه ليندفع هو محتضنا إياها فى وداعة ليست معتادة منه..
و ما ان هدأت تشنجات بكائها حتى هتفت فى محاولة لإصطناع المزاح والمرح:- مفيش فايدة فيا اعمل ايه بس.. فقرية من يومى.. افرح اعيط.. أزعل اعيط..
ابتسم ناصر و لم يعقب تأثرا لحالها لتدفعه هى خارج الشقة هاتفة:- ياللاه اجرى انزل وسط الرجالة استنى اخوك و انا هستنى العروسة هنا.. هى كلمتنى قال ايه مكسوفة و حالفة ما تنزل تقعد تحت ف الكوشة الا بعد كتب الكتاب.
هتف ناصر مؤيدا:- جدعة.. قال تنزل تقعد تحت قال!؟.. عشان كل اللى رايح و اللى جاى يتفرج عليها.. متنزلش من هنا الا لما اطلع اخدها..
هتفت نعمة مقهقهة:- طيب ياخويا.. انزل بس و طمنى على اخوك.. ربنا يجيبه بالسلامة و انا هحبسهالك هنا لحد ما تكتب الكتاب و تطلع تاخدها..
قبلها ناصر و اندفع مغادرا ليستقبله الرجال بالأسفل بالتهليل و الموسيقى الصادحة..
مر بعض الوقت سريعا و بدأ ظهور العربات على مدخل الحارة معلنة قدوم العروس التى فضلت ان يصطحبها خالها من عند مصفف الشعر.. توقفت سيارتها امام مدخل بيت ابيه لتنزل هى متوشحة بثوبها الأبيض كحورية ضلت طريقها من الجنة.. قفز قلبه معلنا التمرد راغبا فى مغادرة صدره ليتبعها حيث اندفعت للداخل فى خجل و حياء مع تناثر الزغاريد من هنا و هناك معلنة وصولها و بالمثل وصول المأذون..
لاح على جانب الطريق احدهم يشير للعربة لتتوقف كما حدث عدة مرات توقف فيها السائق ليكمل عدد الركاب بسيارته الأجرة و هذه المرة ليست استثناءً.. توقف ايضا حتى يكتمل عدد الركاب بتلك الفتاة التى جاءت مسرعة تدفع بنفسها دفعا داخل العربة ملقية السلام بأريحية على الجميع و كإنها تعرفهم جميعا..
هتف السائق لسيد و هو يشير بطرف خفى لثريا التى ركبت مؤخرا:- اهى بت غفير سراية الهوارية هى اللى ركبت دى..
سمعته ثريا فهتفت فى جرأة:- ايوه يا عم سويلم.. بت الغفير.. عايز منيها ايه بت الغفير!؟..
هتف سويلم فى اضطراب:- هعوز ايه يا باشمهندسة!؟.. كل خير..
تنبه سيد للقب مهندسة الذى ألقاه السائق على الفتاة ابنه الغفير تلك.. هل هى مهندسة حقا.!؟.
زاد فضوله ليحرك رأسه فى بطء بإتجاه مقعدها و قد زاد فضوله ليتطلع الى تلك المهندسة الجريئة ذات الصوت الرنان الذى يحمل شكيمة و حزم ترهب اعتى الرجال..
استطاعت نظارته الشمسية ان تعطيه بعض من الحرية ليطلق نظراته اليها دون ان تدرك هى انه يتفرسها.. كانت فتاة عادية الملامح و الملبس لكن هناك شئ ما يدفعك دفعا لتطيل النظر اليها رغما عنك و ها قد استطاع ان يحيد نظراته عنها اخيرا
متطلعا للطريق و قد تعمد ان يهتف لسويلم مستفسرًا عن ما بقى للوصول لوجهته حتى يستجلب اهتمامها:- باقى كتير على نجع الصالح!؟..
هتف سويلم:- لااه يا بيه خلاص.. بس انى مش هدخل لچوه النچع هنزلك ع الطريج..
و استدار سويلم مقاطعا اعتراض سيد هاتفا فى ثريا:- يا باشمهندسة.. ينوبك ثواب خديه وصليه للسرايا ف طريجك..
هتفت فى حنق:- ليه!؟.. هو انت مش داخل چوه النچع!؟.. يبجى توصلنى و توصله معايا..
هتف سويلم:- لاااه مدخلش..
هتفت ثريا فى ثورة:- يعنى ايه مش داخل!؟.. امال ركبتنى وواخد اچرتك ليه!؟.. يا توصلنى مطرح ما انى عايزة يا تچيب الأچرة اللى خدتها..
هتف سويلم فى حنق:- يا بااى.. انى محجوج لك يا ستى.. خدى اچرتك اهى.. و ياللاه فارجينا ادينا وصلنا لمدخل النچع..
هتفت ثريا:- و اچرة الاستاذ!؟.. هتاكلها عليه هو كمان عشان غريب!؟..
هتف سيد فى سرعة:- انا مش عايز حاجة يا آنسة.. خليله الأجرة بس أوصل سرايا الهوارية لو سمحتى..
هزت رأسها متفهمة و أسرع السائق سويلم بالمغادرة قبل ان تمسك ثريا بتلابيه مرة اخرى..
بينما هتفت هى فى سيد:- اتفضل معايا هوصلك فى طريجى..
سارت فى لامبالاة تقطع الطريق فى سرعة غير أبهة بذاك الذى تركته خلفها يترنح من تلك الحرارة المرتفعة و الشمس الحامية التى شعر بها فوق رأسه مباشرة.. كان يتوقع انها ستظهر بعض من مودة تجاهه كضيف غريب لكن ما حدث هو العكس فقد سارت امامه و قد تناست امره تماما و لم تلتفت و لو لمرة واحدة تستطلع اخباره خلفها.. حاول ان يحث الخطى ليصل بمحازاتها هاتفا فى نزق:- من المفترض انى ضيف و انتِ بتوصلينى.. لكن اللى بيحصل ده مش مقبول.. انا تقريبا بجرى وراكِ..
نظرت اليه شذرا و هتفت فى نزق:- بجولك ايه.. انت ضيف اه على عينى و راسى لكن مش هاتفهمنى الصح م الغلط.. و هو المجبول انك تمشى چارى عادى كِده كتفى بكتفك جصاد البلد كلها.. انت اخرك عندى انى أدلك ع الطريج للسرايا غير كِده ملكش حاچة عندى.
وتركته و ابتعدت بالفعل ليسير خلفها و قد أيقن صحة منطقها خاصة فى نجع فى قلب الصعيد كهذا له تقاليده و عاداته التى يجب احترامها..
سار خلفها ملتزما الصمت هذه المرة متطلعا حوله فى فضول يتساءل.. اى من قطع الارض البعيدة تلك التى ستكون مقرا للمشروع يا ترى!؟
و فى خضم شروده انتفض متراجعا للخلف عندما انتصبت امامه امرأة شعثاء مهلهلة الثياب هتفت فيه
بعنف:- هات.. هات..
هتف فيها بإضطراب:- اجيب ايه!؟
وتطلع للأمام حيث تلك التى تركته و هتف يستدعيها محاولا تذكر اسمها الذى ذكره السائق على مسامعه:- يا آنسة.. يا آنسة ثريا..
اخيرا تذكر الاسم و ناداها محاولا الهرب من تلك المرأة التى ما برحت تطلب شئ لا يعلم كنهه..
نظرت ثريا للخلف فى ضيق لمناداته بإسمها لكنها تماسكت و عادت ادراجها محاولة وأد ابتسامتها و كتم ضحكاتها و هى تراه غير قادر على التخلص من تلك المرأة المجذوبة..
هتفت ثريا فى المرأة التى ظلت تكرر طلبها:- حاضر.. هيجيب.. اصبرى.. اصبرى..
هتف سيد متعجبا:- اجيب ايه.. انا مش معايا اى حاجة..
ابتسمت ثريا لتتبدل ملامحها كليا هاتفة:- هات اى فلوس معاك.. اى حاجة..
هتف سيد:- مش معايا اى فلوس خالص..
هتفت ثريا فى تهكم:- امال عامل لى فيها بيه و سايب للسواج الاچرة بحالها.. !!.. طيب.. ادفع لها انا و امرى لله عشان تعتجك..
و اخرجت من جيب حقيبتها بعض الجنيهات و أعطتها للمرأة التى كانت لاتزل تكرر طلبها غير شاعرة بالملل او الرتابة و التى تناولت الجنيهات فى سعادة و رحلت..
هتفت ثريا خلف المرأة فى إشفاق:- مسكينة يا سيدة.. راحت بحال و رچعت بحال..
هتف سيد فى تعجب:- هى اسمها سيدة.. ده انا أسمى سيد بالمناسبة..
قهقهت ثريا هاتفة:-اتشرفنا يا سيد بيه.. انعم و أكرم..
هتف سيد بنزق:- على فكرة انا مش معايا فلوس عشان..
قاطعته ثريا قبل ان يوضح لها ان تعاملاته المادية لا تتم الا عن طريق الصراف الألى و هتفت فى سخرية:- ايوه عشان مفلس.. وضع طبيعى يا سيد بيه.. على العموم تشرفنا.. و أدى السرايا.. حمدالله ع السلامة..
و انطلقت مندفعة للبوابة الحديدية تلقى السلام على ابيها و تخبره بذاك الضيف المفلس الذى يريد لقاء عاصم بيه الهوارى فى امر هام..
تنبه ابوها للضيف القادم باتجاه السراىّ و فتح له البوابة مرحبا و هو يسير امامه حتى باب السراىّ الامامى ليُعلم عاصم بقدومه..
سار سيد خلف سعيد الخفير و هو يتطلع فى فضول للسراىّ من حوله و لكن عيونه على غير ارادتها توجهت حيث غابت تلك التى جاءت به الى هنا و هى تعتقد انه مجرد شاب مفلس ربما جاء لمقابلة عاصم الهوارى فى امر ما يخص وظيفة او ما شابه..
جال ببصره محاولا ان يتبين اين اختفت و اخيرا وجدها تطل من تلك الشرفة الصغيرة فى الطابق الثانى لذاك البيت الصغير بأخر الحديقة و هى تضع شئ ما على أطراف الشرفة و تدخل فى سرعة و تختفى عن ناظريه.. ليستفيق من تأملاته على صوت الخفير سعيد يطالبه بالدخول لمقابلة عاصم الهوارى فورا..
تعدت الساعة التاسعة مساءً و لا اثر لمجئ نادر حتى هاتفه المحمول خارج نطاق التغطية..
هتف المعلم خميس متعجلا ناصر:- كِده اتاخرنا قووى يا ناصر و المأذون عايز يمشى..
هتف ناصر فى ضيق:- بس انا كنت عاوز نادر يكون شاهد ع العقد يا بابا.
ربت خميس على كتف ناصر مؤكدا:- معلش.. بس كده فعلا اتاخرنا و ممكن اخوك يكون اتلغت إجازته على اخر لحظة.. تعال نكتب الكتاب و الغايب حجته معاه..
تنهد ناصر و تبع ابيه حيث تم إعداد طاولة جانبية لتتم عليها إجراءات عقد القران..
انطلقت الزغاريد من جديد ما ان اكد الجمع تمام العقد و الصيغة.. لتصدح الموسيقى من جديد..
و ما ان هم ناصر بالتوجه لباب بيت ابيه ليصعد ليحضر عروسه الا و سطعت انوار قادمة من قلب الحارة بسرينة رتيبة جعلته يتوقف و قلبه يتوجس قلقا.. توقفت العربة العسكرية على مقربة من طرف الصوان و نزل منها ضابط و سأل على ابيه ليهتف ناصر:- خير يا حضرة الظابط.!؟.. . انا ابنه الكبير..
تنبه خميس لتلك العربة و ذاك الضابط الذى يقف معه ناصر فأنقبض قلبه بين ضلوع صدره و اندفع الى حيث يقفا ولده و الضابط المتجهم.. ليهتف خميس فى قلق و اضطراب:- خير.. ايه الحكاية.!؟
هتف الضابط مستفسرًا:- حضرتك المعلم خميس!؟..
اكد خميس بإيماءة من رأسه غير قادر على الرد من شدة اضطرابه..
نكس الضابط رأسه فى أسى و هتف بنبرة تقطر حزنا و هو يربت على كتف خميس مشجعا:- شد حيلك.. ابنك بطل.. و لأخر لحظة فضل بطل..
تلفت خميس حوله فى حيرة لا يصدق ما يسمع ولم يُرد من الاساس ان يسأل عن ما يعنيه ذاك الضابط بكلامه لأن الجواب سيكون قاتلا لا محالة..
لكن ناصر هو من هتف فى جزع:- انت قصدك ايه بالظبط!؟.. انت تقصد مين بالكلام ده!؟..
هتف الضابط راغبا فى تأدية مهمته الشاقة و الرحيل مغادرا بعيدا عن ذاك الوجع الذى بدأ يلوح ف الأفق و الذى عاصره كثيرا حتى ما عاد يطيقه:- اقصد اخوك.. الشهيد نادر خميس المرسى..
هنا لم يتمالك خميس نفسه و ترنح قليلا لكن ناصر كان الأسرع ليكون سندا لأبيه الذى تماسك كالطود فى صلابة يحسد عليها.. بدأ ناصر فى النحيب بصوت مكتوم اما خميس فقد شعر بالتيه للحظات و اخيرا انهارت مقاومته ليجلس ارضا على أطراف الرصيف و قد شعر ان روحه تغادره فى بطء.. تلجم لسانه و ما عاد قادرًا على النطق بحرف واحد و ساد وجوم عجيب على كل ما يحيط به رغم الموسيقى الصادحة بالقرب من قلب الصوان الذى لم يصل له الخبر بعد..
اعادته شهقات ناصر التى علا فى تلك اللحظة نحيبها و ما عاد قادرًا على كتمانها للواقع المرير و اخيرا همس بلسان متثاقل:- انا لله و انا اليه راجعون.. انا لله و انا اليه راجعون.
بدأ ما يحدث خارج الصوان يثير ريبة الجمع داخله ليندفع البعض يستطلع الامر و ما هى الا لحظات حتى سار الخبر بينهم كالبرق لتُغلق الموسيقى و يبدأ النحيب من كل صوب و حدب و هنا تمالك خميس نفسه و نهض فى صلابة منقطعة النظير و اندفع يهتف معلنا فى فخر بصوت متحشرج تكسوه دموع مكتومة تأبى الظهور:- انا ابو الشهيد نادر.. انا ابنى شهيد.. انا ابو الشهيد..
تحول الصوان لموجة عارمة من النحيب و وصل الخبر للأعلى عند العروس و باقى النساء لتتعاقب الصرخات و تدوى فى جزع الا ان خميس صرخ بصوت هادر كالرعد ألجم الجميع :- محدش يصرخ.. مفيش و لا حرمة تعلى صوتها الا بالزغاريد.. انا ابنى شهيد.. زغردوا.. زغردوا..
و امتزجت الزغاريد المحتقنة بصوت البكاء و لم يقطعها الا صرخة مدوية جاءت من الاعلى تعلن عن سقوط نعمة باكية ولدها بين النساء..