قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث بقلم رضوى جاويش الفصل الثاني عشر

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث رضوى جاويش

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل الثاني عشر

دخل حمزة على أخيه حامد ليجده و قد استعد متأنقا فى حلته الرمادية و قد بدأ يصدر لحنا منغما من بين شفتيه فى انسجام تام و هو ينثر العطر على سترته.. ابتسم حمزة هاتفا فى مشاكسة:- هو انت خلاص نويت و هتروح النهاردة لأبو سلوى ذى ما طلب!؟.. يا بنى متتتسرعش كِده.. رايح تچرى على ابوها و انا ملحجتش حتى تجعد معاى من ساعة ما وصلت..

كان حمزة قد وصل للنجع بناءً على موعد وصول سيد و الذى تحدد ليكون بعد وصوله بعدة ايّام ليجهز له الأمور الفنية و معاينة أرض المشروع بالإتفاق مع عمه عاصم..
هز حامد رأسه موافقا و هتف فى سعادة:-انت مش مهم دلوجت.. انت تتأچل الجاعدة معاك لحد ما ارچع.. دِه انى اخيرا هدخل بيتهم و اطلبها.. و هاتبجى حلالى و محدش يجدر يتكلم معانا نص كلمة..

ابتسم حمزة فى سخرية هاتفا:- بجى كِده بعتنى حلا.. !!.. و قهقه مستطردا.. انى مش عايز أحبطك بس انت فاكر انك لمچرد ما روحت بيتهم و جعدت مع ابوها يبجى كِده خلاص.. استنى حتى لما تاخد موافجته و بعدين تعالى هيص و غنى زى ما انت عايز..
هتف حامد فى ضيق:- يا ساتر عليك.. و ايه اللى هيعجدها بس.. جول يا رب..
هتف حمزة و هو يربت على كتفه:- يااارب يا حامد.. و الله انى ما رايد لك الا الخير.. ربنا يسهلهالك.. بس بجولك..

استدار حامد من امام المرآة متستفسرا:- خير.. !!
استطرد حمزة:- ليه رايح بالبدلة الچديدة.. كنت روح بأى حاچة كويسة و سيب البدلة للخطوبة و لا حتى جراية الفاتحة.. !!؟..
هتف حامد مفكرا:- فكرك كِده.. !!
هز حمزة رأسه مؤيدا ليسرع حامد بخلع الحلة الرمادية الجديدة و استبدالها فى سرعة بأحد القمصان و السراويل ليندفع خارج الغرفة مودعا حمزة على عجالة و يبتسم فى فرحة طاغية و كأنه طائر فوق السحاب..

طرقت ثريا باب غرفة المكتب على عاصم و ضيفه ليأذن لها هاتفا:-ادخلى يا نچاة..
دخلت لتضع صينية المشروبات امام الضيف و ما ان همت برفع رأسها لتستأذن مغادرة حتى هتف الضيف في مشاكسة:- الباشمهندسة بحالها اللى بتقدم لنا الضيافة!؟..

رفع عاصم رأسه عن الأوراق هاتفا بتعجب:- انت تعرفها يا باشمهندس سيد!؟..
ابتسم سيد معلنا:- لولا الباشمهندسة مكنتش عرفت اجى ع السرايا.. لما عربيتى عطلت ع الطريق هي اللى اتكرمت ووصلتنى لهنا..
هتفت ثريا في بلاهة:- عربيتك عطلت!؟..

و تنبهت انه يجلس بأريحية كبيرة مع عاصم الهوارى كشريك عمل لا كطالب وظيفة او متوسل لواسطة ما حتى يتم تعيينه..
ليستطرد سيد منتشيا من مظهرها المشدوه مخرجا إياها من شرودها و مؤكدا على ظنها الجديد:- ده انا مديون للباشمهندسة كمان..
قهقه عاصم:- و لا يهمك يا باشمهندس سيد.. ثريا مسامحة و لا ايه يا ثريا!؟..

استفاقت ثريا من صدمتها هاتفة لعاصم:- اه طبعا يا عاصم بيه.. طبعا..
هتف عاصم متفاخرا:- ثريا ف اخر سنة هندسة.. بس ايه بتطلع كل سنة بأمتياز.. لو شدت حيلها السنة دى هاتبجى معيدة ف الچامعة كمان..
رفع سيد حاجبيه تعجبا و هتف:- هااايل.. بالتوفيق يا باشمهندسة..

هزت رأسها في تأدب شاكرة و همت بالاستئذان لتغادر الغرفة الا ان سيد هتف يستبقيها متسائلا:- يا باشمهندسة.. ممكن استشارة بسيطة!؟
تعجبت لطلبه فهو مهندس بالمثل كما سمعت عاصم يلقبه و هو بالتأكيد اكثر خبرة و اعلى كفاءة منها بمراحل حتى يتواضع و يطلب استشارة هندسية من مجرد طالبة في سنتها الأخيرة.. لكنها ازعنت عندما وافق عاصم بإيماءة من رأسه لتقترب هاتفة:- اكيد.. تحت امرك..

أشار سيد لبعض الرسومات و الأوراق المفرودة على طول مكتب عاصم و عرضه هاتفا:- يا ريت تلقى نظرة على المواقع دى و تقررى اى المواقع انسب للمشروع اللى قدامك ده!؟..
انحنت ثريا على الأوراق و الرسومات في اهتمام بالغ و غابت تماما في تفاصيلها و أخيرا هتفت بعد بعض الوقت:- الموقع ده يا باشمهندس هو الأنسب لانه الأبعد عن مشاكل المياه الجوفية اللى ممكن تتعرضوا لها اثناء الحفر ووضع الأساسات..

هز سيد رأسه بأستحسان هاتفا:- برافو يا باشمهندسة.. ده نفس الموقع اللى وقع اختيارى عليه انا و باشمهندس حمزة و هنروح نشوفه النهاردة ان شاء الله..
ثم نظر الى عاصم مستطردا:- فعلا باشمهندسة شاطرة يا عاصم بيه.. عشان كده اسمح لى اعرض عليها وظيفة محترمة ف شركتى..
شهقت ثريا في صدمة غير مصدقة بينما تطلع عاصم لسيد متعجبا من جرأته و سرعة اتخاذه القرار و هتف مؤكدا:- ثريا زى بتى.. بس الأمور دى ابوها هو اللى ليه الكلمة الأخيرة.. و انت شركتك ف مصر يا باشمهندس و..

قاطعه سيد هاتفا:- لا يا عاصم بيه.. انا عايزها تشتغل هنا.. ف فرع شركتنا المشتركة بينى و بين شركة زكريا بيه.. يعنى مش هتبعد عن النجع.. و تبقى مساعدة شخصية ليا و تحل مكانى ف عدم وجودى لما أكون ف فرع شركتى ف مصر..
هتف عاصم:- طب و مذاكرتها!؟.. دى هاتتخرج كمان كام شهر و نبجوا نشوفوا الموضوع دِه عشان متتعطلش عنيها..

اكد سيد:- انا مش هعطلها اطلاقا لأن فترة نزولى هنا ف الأول مش هاتبقى كتير.. ده غير ان دى فرصة تدريب هايلة للباشمهندسة يتمناها اى باشمهندس على اول الطريق و اكيد هي عارفة ده كويس..
و تطلع لثريا و هو يلقى جملته الأخيرة و لم تعقب هي بحرف واحد الا عندما تطلع لها عاصم مستفسرًا:- جلتى ايه يا ثريا يا بتى!؟..

هتفت ثريا و هي تتطلع لسيد بإيباء فطرى:- هفكر و أرد على الباشمهندس قبل ما يسافر بإذن الله..
نهض سيد بأريحية ليغادر مع عاصم لمشاهدة موقع المشروع على الطبيعية و هتف في ود:- هنتظر ردّك يا باشمهندسة.. يشرفنى العمل معاكِ..
و مد كفه ليلقى السلام في بساطة الا انها أماءت رأسها محيية وغادرت تاركة كفه ممدودة مما استرعى انتباه عاصم ليدارى ابتسامة طلت على شفتيه من جراء فعلة ابنة غفيره و ربيبة زهرة التي اورثتها عزة النفس و الكبرياء الذى لا ينحن..

تقدم الحاج حامد الحناوى يسير
الهوينى بإنكسار واضح متوجها لداخل داره بعد توديعه لأخر المعزين في
ولده و يسير جواره بن أخيه جاسم
الذى كان عمه يستند الى عضده فى وهن واضح..

ما ان هم الحاج حامد برفع قدمه
لأولى درجات سلم داره الكبيرة تلك
التى تقبع شامخة فى قلب نجع
الحناوى الا و سمع صوتا يهتف فى ثبات من خلف احد الأشجار
القريبة:- البجية ف حياتك يا حاچ
حامد..

تسمر كل من حامد و جاسم بن أخيه فى صمت للحظات و اخيرا هتف
الاخير فى صوت صارم كهزيم
الرعد:-؟انتِ مين يا مَرّة!؟.. جربى
هنا وجولى انتِ مين او روحى لحال سبيلك احنا منجصينش..
كان حامد يقف مزهولا يحاول ان
يصدق ان ذاك الصوت الذى يأتيه
الان من اعماق الماضى السحيق هو صوتها..

دبت فيه القوة فجأة مما اثار تعجب بنأخيه والذى ترك عضده التى كان
يستندعليه امرا اياه فى صرامة:-
روح أنت دلوجت يا چاسم..
هتف جاسم معترضا:- لكن يا عمى
.. كيف اس..
قاطعه حامد بنبرة حازمة:- بجلك
روح حلاً..

انصرف جاسم متعجبا يقتله الفضول ليعرف من تلك المرأة التى تنتظر
عمه خلف تلك الأشجار متخفية و التى من الواضح انها على معرفة
وثيقة به..
اندفع الحاج حامد بإتجاه مصدر
الصوت و ما ان اقترب حتى هتف
فى لهفة:- سَكينة!؟..

خرجت من مخبئها تقترب من موضعوقوفه ليراها رؤى العين للمرة الأولىمنذ ما يقارب النصف قرن..
همست فى وجل و بنبرة مرتعشة غيرمعتادة من تلك المرأة الجريئة التى لا يهمها لوم اللائمين أى كانوا لكنها الان فى حضرته هو:- ايوه..
انى هي يا حامد.. لساتك فاكر سَكينة!ووچع سَكينة!؟.. و حرجة جلب
سَكينة!؟..

هتف مؤكدا فى لوعة:- و لا عمرى نسيتك.. لفيت عليكى الصَعيد كله
شرجه وغربه عشان اعتر عليكى
ملجتكيش.. حسرة جلبى عليكى
مكنتش هينة.. و انت واعية زين
انى بجول الصدج و لو على رجبتى.
همست عاتبة:- امال ليه طلجتنى و سبت ورجتى مع البت لواحظ..!؟

اكد هامسا:- عشان كنت فاكر انك بعتينى و نسيتى حامد و روحتى.. جلت اعمل بأصلى و أبعت لك ورجتك عشان مربطكيش بيا..
هتفت تؤكد:- اشوف حالى!؟.. حالى كان عدم من بعدك يا حامد.. انى كمان كنت فاكرة انك بعت و اهى بت غازية خدت لك معاها يومين و راحوا لحالهم و بعت لها ورجتها و خلصت الحكيوة على كِده.. و جلت ان اخوك الكبير هو اللى غصبك على كِده بعد ما عرف باللى بينا.. و انت اكيد طاوعته..

هتف حامد جزعا:- صابر اخوى.. عِمل ايه!؟.. و ايه عرفه بيكِ من الاساس!؟..
اكدت:- معرفاش.. هو جانى ف ليلةو جالى بالفوم المليان انى ابعد عنيك و الا اجول على نفسى وأهلى يا
رحمن يا رحيم.. و طردنا من البلد كلها و جالى.. اياك اشوف خلجتك ولاحتى ألمح ضلك ف الصعيد كلاته.. خفت على نفسى وأهلى و الأهم
خوفت على ولدى.. ولدنا يا حامد على شرع الله..

هتف حامد صارخا وهو يندفع ممسكا بكتفيها يهزها كالمجنون:- بتجولى ولدى.. ولدى انى.. كيف و ميتا!؟..
اكدت و الدموع تسيل على خديها:-عرفت بعد اخرمرة كنت عِندى فيها.. و كنت هفرِحك لما تاجينى ف ميعادك.. لكن اخوك صابر سبج و چه وطردنا ذى ماجلت لك.. و انت عارفه كان عامل كيف و ممكن يعمل فينا ايه!؟.. دِه رضا جووى انه مدورش فينا الجتل يوميها و مكنش هايبجى لينا عنديه دية..
اكد بإيماءة من رأسه مصدقا حديثها فأخيه صابر كان وحش قاس القلب لا يرحم.. و ابنه جاسم لا يتخير عنه و كأنه نسخة اخرى منه تركها لتخلفه فى نفس الصفات و يورثه نفس الجبروت و القسوة..

انتفض من شروده على ورقة مطوية تفرد امام ناظريه ليتطلع اليها متسائلا:- ايه دِه!؟..
مدت يدها تضع الورقة فى كفه هاتفة:دى شهادة ميلاد ولدك.. يونس حامد محمد عبد الصمد.. محطيتش اسم العيلة.. حتى الخوف لچمنى انسب ابنك ليك حتى ف الاسم كامل.
ضم حامد الورقة لصدره للحظات متأثرا ثم هتف اخيرا فى لهفة:- هو فين يا سَكينة!؟.. مچبتيهوش معاكِ ليه!؟..
تساءلت فى حذّر:- كنك متوكد انه ولدك!؟..

اكد فى سرعة:- معلوم ولدى.. وحتى من غير شهادة ميلاد.. برضك ولدى.. كفاية انكِ انتِ اللى تجولى كِده عشان اصدج..
دمعت عيناها فى امتنان و تساءلت منجديد:- يعنى هاتعترف بيه.. وتجول انه ولدك جصاد العالم كليها!؟
هتف فى تأكيد:- معلوم.. هجول..
و حجه هايرچع له ف كل حاچة كفاية انه اتربى بعيد عن حضن ابوه ثم استطرد هاتفا فى تنهيدة حارة:- انتِ متعرفيش كد ايه رديتى روحى بالخبر دِه!؟.. كنت مفكر خلاص بعد روحة عبدالله مبجاش ليا سند و لاضهر اتعكز عليهم ف شيبتى..

هتفت سكينة فى تخابث:- ليه.. ربنا يخليلك دِه اللى كان واخد بيدك و اللى معرفهوش يبجى مين..
هز حامد رأسه نافيا:- اللى شفتيه معاى دِه چاسم واد صابر الله يرحمه و ميتخيرش عنيه.. عرفتى انى بجولك انى محتاچ يونس جووى ليه.. كنه العوض اللى ربنا بعتهولى بعد عبدالله..
هزت رأسها تفهما وقد أدماهاإحساسها بقلب الاب المكلوم فى ولده و ذاك البريق من الأمل الذى أضاء عينيه بنور الحياة من جديد بعد معرفته بوجود يونس..

انتفضت من شرودها متأهبة للرحيل هاتفة:- انى اتاخرت جووى لازما ارچع..
هتف الحاج حامد خلفها فى لوعة:- هتاجى تانى!؟.. و هاتعرفى تروحى كيف دلوجت لحالك!؟..
هتفت و هى تستدير مغادرة:- متخافش علىّ عاملة حسابى هرچع كيف..
و خطت خطوة مودعة ليتساءل في لهفة من جديد:- مجلتيش.. هاترچعى ميتا!؟..

استدارت نص استدارة و هى تجذب بردتها السوداء على رأسها لتتلفح بها متخفية:- هرچع يا حامد.. وغلاوتك لأرچع.. وابنك ف يدى يا ابو يونس و ابتسمت للحظات و غابت بين الأشجار من جديد ليتنهد فى راحة لم يكن يتوقع ان يظفر بها بعد رحيل عبدالله ولده عن دنياه...

مرت الأيام برتابة و تثاقل من بعد نبأ استشهاد نادر و الساعات قاتمة و اللحظات التي تمر تكاد تخنق الجميع في بيت المعلم خميس الذى وقف صلبا يتظاهر بأن الامر شرفا و عزة على الرغم من انه مذبوح من الداخل يئن في صمت و لا يُظهر كعادته..
اما تلك المسكينة نعمة و التي راحت في غيبوبة طويلة ما ان أتاها الخبر..

تغيب عن الوعى لتعود متسائلة عن ولدها هل عاد ام مازال هناك ينتظر إجازته ليعود ليشهد زفاف أخيه.. ثم تذهب في غيبوبة أخرى كأنما تهرب من الاعتراف ان ولدها ذهب و لن يعود مجددا..

ايّام طويلة مرت و ناصر على حاله يغلق عليه حجرته و شيماء تجلس تحت اقدام أمها نعمة تطيبها و تسهر على راحتها.. تبكى نادر اخيها و تبكى حالها و فرحتها التي وئدت بخبر استشهاده و كأنما كتب عليها الا تفرح قط.. هى تعلم انه ليس فرحا حقيقيا و إنما تستر على فضيحتها.. لكنها كانت تدرك أيضا انها و للحظات معدودة شعرت بتلك الفرحة التي تستشعرها كل عروس مقبلة على زفافها.. و مع اقتراب ذاك اليوم و السباق المحموم لتجهيز عشهما الزوجى نسيت تماما انها ليست عروس حقيقة بل انها ايقنت انها عروس و انها تستحق الفرحة بحق..

لكن حتى تلك الفرحة الوهمية لم تكن لتكتمل.. و اعتقدت في قرارة نفسها انه عقاب ربانى على فعلتها و انها لا تستحق ان يقترن اسمها بذكر ناصر بن خالها الذى قرر التضحية بكل شيء في سبيل الحفاظ على سمعتها و شرف العائلة..
و تذكرت حاله منذ ما حدث و كيف هو قابع بحجرته لم يخرج و لا طالعت محياه حتى.. انها قلقة عليه بحق.. تشعر برغبة قوية في الذهاب اليه و طرق باب حجرته لعله يسمح لها برؤيته.. مجرد رؤيته و الاطمئنان عليه..

أعدت صينية من طعام يحبه و سارت بطول الردهة حتى وقفت امام غرفته و طرقت الباب و تذكرت انها الان زوجته فتجرأت و دفعت باب الحجرة و دخلت بالصينية ليطالعها جو الغرفة الخانق و المظلم كالقبر حتى انها لم تتبين موضع جلوسه للوهلة الأولى فجالت البصر في أنحاء الغرفة حتى وجدته متكوم على نفسه كجنين برحم امه يتوق للأمان على تلك الأريكة الجانبية..

اشفقت عليه و دخلت مغلقة الباب خلفها و تقدمت بضع خطوات ووضعت الصينية على الطاولة بجوار الفراش و سارت حيث موضعه..
غاص قلبها بصدرها و هي ترى ناصر ذو السطوة و الجبروت و الذى دوما ما ابكاها ينام متنهداً في شهقات متعاقبة دلالة على بكاء طويل و حار ترك اثره دموعا جافة على وجنتيه الصارمتين..

امسكت نفسها عن البكاء لمرأه بهذا الشكل و انحنت لمستوى رأسه هامسة في هدوء حانٍ رابتة على كتفه:- ناصر.. ناصر..
انتفض فزعا لندائها متشبثا بكتفيها هاتفا:- امى كويسة!؟.. ابويا جراله حاجة!؟..
ربتت على كتفه من جديد:- اهدا يا ناصر.. هما كويسين متخفش.. انا بس كنت بطمن عليك.. انت محطتش الزاد ف جوفك من ساعتها..
ترك كتفيها في تثاقل مشيحا بوجهه عن محياها هامسا في صوت متحشرج:- نادر راح يا شيماء.. نادر راح..

كتمت شهقة بكاء كادت تصدر عنها و اقتربت تربت على كتفه في حنو تبتلع غصة بحلقها كادت تقتلها تحاول التماسك لأجله مدعية الصلابة هامسة:- مين بس اللى قال كده!؟.. نادر لسه عايش.. حى يرزق.. بس عند رب العالمين..
و اندفعت تحضر طبق من الطعام من الطاولة القريبة مستطردة في فخر و هي تقف قبالته ممسكة بالصحن هاتفة:- بزمتك.. في احلى من كده عيشة..
و رفعت لقيمة من الطبق لفمه مقتربة لتطعمه هاتفة:- خد دى عشان خاطرى..

ليرد هو و كأنه لم يع او يسمع ما كانت تقول هامسا:- بس انا مش هشوفه تانى يا شيماء.. مش هشوفه تانى.. مش هتلاقى اللى يقولك يا شوشو و اضايق منه عشان بيدلعك.. مش هعرف مين البت اللى بيحبها عشان اروح اخطبهاله يا شيماء.. مش هيكون في نادر تانى يا شيماء..
و شهق في لوعة و اندفع بلا إرادة منه يدارى رأسه بصدرها متشبثا بها في وجع..

أوقعت الصحن من كفها و بدأت في النحيب مشاركة إياه البكاء في حزن قاتل و بلا وعى طوقت رأسه لتضمها لصدرها اكثر رغبة في انتزاع الألم الذى يمزقه.. او حتى على اقل تقدير مشاركته إياه مناصفة..

لا تع كم بقى على حاله.. و لا كم ظلت تنتحب.. و لا تعلم من الذى بدأ في الانسحاب من ذاك التشابك المحموم بينهما.. لكن كل ما كانت تدركه انها الان خارج غرفته.. دخلتها بحال و صورة لناصر في مخيلتها لم تتزحزح قط.. و الان ترى ناصر بصورة أخرى لم تكن تتوقع وجودها.. و الأدهى من كل ذلك.. انها هي نفسها تشعر بتبدل غريب تجاه بن خالها الصلف الذى كان في أحضانها منذ لحظات و الذى تستشعر انها تركت شيء عزيز عليها لازال يعانقه حتى اللحظة و لم يغادر معها الغرفة.. غرفته..

خرج من النقطة يستقل سيارة الشرطة التى كان احد العساكر مرابط بانتظار خروجه امام مقودها ما ان رأه حتى بدأ فى تشغيل السيارة متأهبا للتحرك بها الى حيث يأمر سيادة الضابط..
اندفع حازم يستقبل العربة هاتفا بحزم فى سائقها امرا اياه:- ع البيت يا عسكري..

اندفع العسكرى منفذا ليسير على ذاك الطريق الترابى الضيق محازيا لترعة ما قد جف بعض ماءها فى ذلك الوقت من العام.. لحظات و انتبه حازم لتلك السيارة التى تقف على احد جانبى الطريق و قد استطاع تمييزها دون جهد يذكر.. فهتف بسرعة امرا
السائق:- أركن على جنب..

نفذ الجندى بسرعة و ترجل حازم مسرعا يتوجه لسائق العربة الذى كان وجهه غائب فى داخل أحشائها و قد تطلع بسرعة لداخل السيارة ليتأكد انه ليس احد ما هناك بالداخل و قد كانت فارغة بالفعل فهتف فى السائق الذى يعرفه جيدا:- خير يا مهني!؟.. فى مشكلة و لا ايه مخلياك راكن كده!؟..
انتفض مهني محييا فى احترام:- ازيك يا سعادة البيه.. اه.. العربية باينها عِملتها معاى.. محتاچة شوية شغل..

هم حازم بسؤاله عن ما اذا كان احد معه عندما تعطلت العربة لكن مهني لم يمهله بل هتف فى توسل:- اللى مضايجنى ان الست تسبيح كانت معاى و لما لجيت موضوع التصليح ده هيطول مشت لوحدها..
ما ان سمع حازم بذلك حتى هتف مؤنبا:- و سبتها تمشى لوحدها دلوقتى يا بنى أدم.. !!

و اندفع دون حتى ان يسمع دفاع مهني بل امر العسكرى فى عجالة ليخرج من امام مقود السيارة و يبقى مع مهني بينما اندفع هو يقودها فى تهور على ذاك الطريق الترابى الضيق و قد ثارت خلفه عاصفة من غبار..
دقائق مرت حتى لمحها اخيرا.. لكن لم تكن بمفردها بل كان هناك شابان على احدى الدراجات البخارية يحاولان مضايقتها و هى تحاول تجنبهما لكن لا جدوى و خاصة مع حركة قدمها المريضة التى باتت ملحوظة جدا و هى تحاول الهرولة مبتعدة عن مجال سيرهما..

توقف فجأة بجوار الدراجة البخارية حتى كاد ان يُسقط راكبيها و شهقت هى فى فزع لصوت مكابح السيارة التى زمجرت فى قسوة بينما تنبه الشابان لعربة الشرطة و ذاك الذى ترجل منها شاهرا سلاحه لينتفضا مسرعين بالدراجة يسابقان الريح و هو يوجه سلاحه فى أثرهما..
لتتنبه هى فتندفع فى هرولة قدر استطاعتها لتدفع سلاحه بعيدا لتخرج احدى الرصاصات بعيدا عن هدفها المطلوب.. وتهتف هى غير مصدقة:- انت هتعمل ايه!؟.. هتجتلهم!؟..

هتف فى غيظ:- اجل حاچة يستاهلوها..
توقفت تنظر اليه مشدوهة للحظات و اخيرا ابتسمت ثم انفجرت ضاحكة مما استرعى انتباهه ليحملق فيها كالأبلة غير مدرك انه يتفرسها لتهتف هى مازحة كعادتها:- كام شهر كمان معانا يا حضرة الظابط و هتبجى صعيدى تمام..

انتبه انه نطق بلسان صعيدى فصيح فأبتسم احدى ابتساماته النادرة و هو يخفض سلاحه هاتفا:- انتِ هتعملى ذى الحاج زكريا و لا ايه!؟.. و انا قاعد معاه بقى بيفلت منى كلمات صعيدى من كتر احتكاكى بالعساكر بقى بيقولى "عرجك الصعيدى اخيرا ظهر.. كام شهر و تبجى بتتكلم صعيدى على ابوه.. "
انفجرت ضاحكة على تقليده لأبيه و لهجته الصعيدية التى لم يتخل عنها رغم رحيله عن الصعيد منذ زمن و حياته التى قضاها بعيدا عنه..

انتبه لضحكاتها من جديد و تحرك شئ ما داخله جعله يهتف فى عجالة:- اتفضلى أوصلك..
و أشار للسيارة و هو يتوجه اليها بدوره لتهتف هى فى حرج:- مش عايزة أعطلك.. شكلك كنت رايح مأمورية و لا حاچة!؟..
اكد و هو يفتح باب العربة مشيرا لها من جديد:- لا مكنتش رايح ف حتة.. كنت مروح و سكتك ف طريقى.. اتفضلى.. ثم هتف و قد تحولت لهجته للعصبية:- و لا اسيبك تمشى لوحدك و يتعرضوا لك الأشكال دى تانى!؟.

اومأت بالإيجاب و هى تنظر اليه فى قلق و تعجب.. و قد رأته قد تحول فجأة من شخص مرح الى شخص ملتهب الأعصاب..
دخلت السيارة فى هدوء و جلست دون ان تنبس بحرف و تحركت العربة لتختلس نظرة اليه لترى حاجبيه الكثين معقودين بطريقة عجيبة.. أمسكت ضحكاتها على مظهره الجدي.. و حاولت ان تمسك لسانها ايضا لكنها لم تستطع فطبيعتها المشاغبة غلبتها لتهتف فى مرح:- لو حضرتك مضايج كِده من وچودى انزل احسن.

نظر اليها فى تعجب متسائلا:- بتقولى ليه كده!؟.
هتفت مازحة من جديد:- اصل مش عارفة حاسة ليه ان مكانى مش هنا.. و اشارت لموضع جلوسها جواره.. و استطردت هاتفة و هى تشير بكفها لصندوق السيارة الخلفى حيث يُوضع المجرمون:- حاسة ان مكانى المفروض كان هنا.. بتكشيرتك دى حاسة انى مقبوض عليا و اتحطيت ف المكان الغلط..

لاحت ابتسامة على جانب فمه و هتف مؤكدا:- لا مش مكشر و لا حاجة بس انا مركز ف الطريق عشان انا لسه مش حافظه..
ثم أشار مدلالا يسأل:- هو المفروض اروح يمين و لا شمال على طريق بيتكم..
ابتسمت مشيرة بدورها:- يمين ان شاء الله..

لحظات صمت لم يقطعها اى منهما حتى وصلت العربة امام دار ابيها.. كانت أمها سهام بالقرب من باب الدار عندما لاحت لها السيارة قادمة من بعيد.. انتظرت حتى هلت عليها لتهتف فى هلع ما ان رأت تسبيح تطل منها:- ايه فى !!.. خير يا تسبيح يا بتى.. !؟.
تصنعت تسبيح البكاء و هى تندفع لأمها هاتفة:- حضرة الظابط جبض عليا يا ماما.. جال عِملت مشكلة ع الطريج..

ترجل حازم من السيارة ينظر الى تسبيح و قدرتها على التمثيل و إقناع أمها التى هتفت فى لوعة مصدقة ادعاء ابنتها:- مشكلة ايه اللى عملتيها!؟.. و راح فين مهني المخبل و سابك لحالك!؟.. و بعدين برضك يا واد زكريا تعمل كِده ف بت عمتك!؟.. و الله لأجول لأبوك..
انفجرت تسبيح مقهقهة و هى تبتعد عن احضان أمها فى اتجاه باب الدار مخافة عقابها و هى تهتف:- خالت عليكى يا سوسو.. دى العربية عطلت و مهني واجف ع الطريج محتاس فيها و لولا حضرة الظابط كان زمانى مخطوفة و بتدوروا عليا و بتلموا تمن الفدية كمان..

هتفت سهام محرجة و هى تتوعد ابنتها:- حاضر يا تسبيح.. بجى كِده.. أدبك علىّ..
و توجهت بحديثها لحازم الذى كان مازال يقف يتابع الموقف مستمتعا رغم ما ناله من تقريع لتهتف فى نبرة أسفة:- معلش يا ولدى متأخذنيش.. بتى مچنونة.. و انى كل مرة من تغفيلى بصدجها..
ابتسم فى هدوء هاتفا:- و لا يهمك يا عمتى.. استأذن انا بقى..

هتفت سهام موبخة:- لاااه تستأذن
ايه.. !!.. بجى دى تاچى.. نبجوا بنحضروا الغدا و انت على باب دارنا و متدخلش تاكل مع عمك و باسل.. ليه.. بيت يهود.. !؟
ابتسم حازم هاتفا:- مرة تانية يا عمتى.. يا دوب أ..
لم تمهله ليكمل اعتذاره بل هتفت فى حسم:- و لا تانية و لا تالتة..
ثم امسكت بكفه جاذبة اياه لداخل الدار هاتفة تنادى ولدها:- يا باسل.. واد خالك زكريا هنا..

ظهر باسل من داخل الدار مستقبلا حازم فى ترحاب هاتفا:- اهلًا يا حضرة الظابط.. چيت ف وجتك.. الغدا وچب..
و جذب حازم من كفه ليمرا عبر بهو الدار الواسع حتى خرجا من بابه الاخر المفضى على حديقة يوجد على احد أركانها بعض المقاعد و الأرائك تحت شجر المانجو الوارفة الظلال..

جلسا يتبادلا الحديث حتى طلت على الدرج من داخل الدار تسبيح تحمل تلك الصينية الفضية الكبيرة الحجم.. كان باسل غير منتبه لمقدمها لكن هو ظل على حاله نظراته تتبع خطواتها فى وجل مخافة ان تسقط او تتعثر اقدامها فى طريقها إليهما..
هتفت تسبيح ما ان اقتربت تنادى باسل هاتفة:- خد من يدى يا باسل.. الصينية تجيلة..

ما ان استدار باسل بإتجاهها حتى تعثرت احدى قدميها فى حصاه صغيرة كادت ان تسقطها والصينية معا.. الا ان باسل أنقذ الصينية فى اللحظة الاخيرة ليستدير مفسحا موضعا على الطاولة المكدثة بالاشياء واضعا إياها و هو يسخر منها و لا يدرى ان حازم كان الأسبق لإنقاذها هى لتكون كفه جاذبة لمعصمها قبل ان تسقط بدورها.. تشبثت مادة كفها الاخر لتتمسك بمعصمه لتنهض فى حرج تتلفت حولها غير واعية حتى لسخرية اخيها الذى استدار اخيرا هاتفا بها:- حتى الصينية معرفاش تشيليها.. الله يكون ف عونك يا حمزة يا واد عمى..

و وجه حديثه لحازم الذى كان عاد لموضعه و الأضطراب يتأكله بدوره هاتفا:- واد عمك يا حازم اللى هياخدها دِه ليه الچنة و الله..
اندفعت تسبيح هاربة من سخرية باسل.. هكذا كانت تبرر لنفسها اندفاعها من امام حازم.. لكنها كانت تعرف انها كاذبة.. انها تهرب من حازم نفسه.. من نظراته لها ما ان لامست معصمه و تشبثت به و تلك اللحظات التى تشابكت فيها نظراتهما كتشابك الاقدار.. من سيرة حمزة التى ظهرت فى منتصف تلك المشاعر التى غمرت كل منهما لتذبح تلك اللحظات بل تؤدها قبل حتى ان تولد..

ما الذى حدث!؟.. هى لا تدرى.. كل ما تدركه و تعيه جيدا.. انها مخطوبة لحمزة و فى سبيلهما للزواج قريبا.. و هو ايضا على وشك الزواج من خطيبته ابنة اللواء مختار.. اذن.. ماذا يحدث!؟.. حاولت الا تجيب.. وان تتناسى ان هناك ما يحدث بالفعل.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة