رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل الثامن والعشرون
اندفع يعتلى الدرج فى سرعة حتى لا يرى احد اثار لدغات النحل التى تنتشر على جانبى وجهه و التى تركت اثرها سريعا على محياه الأسمر..
وصل غرفته و فتح بابها و هو يتنهد فى راحة ان ما من احد كان بالأسفل ليلحظ ما لحق به.. و ما ان دلف للغرفة حتى وجدها فى انتظاره جالسة على طرف الفراش الذى ما مس جسده الا ليلة واحدة و وحيدة قبل ان يبتاع مرتبته الإسفنجية و التى يفترشها كل مساء..
تنهد من جديد فهو كان يعتقد انها لاتزل عند امها كما أخبرته لكن يبدو انها عادت مسرعة..
أغلق باب الغرفة و اندفع الى الحمام دون ان ينبس بحرف واحد..
خرج بعد فترة ليست بالقصيرة تعمد اطالتها ليجدها لاتزل على حالها..
هم بإخراج صديقته من مخبئها داخل خزينة الملابس و النوم.. الا انه فوجئ بها تهمس بالقرب منه فى
هدوء:- انا آسفة يا شيخ..
تحشرج صوته من جراء قربها المُهلك و تذكر كيف كانت تستكين فى ذعر بين ذراعيه صباحا و همس محاولا إنهاء الحديث:- محصلش حاچة..كله خير...
همست من جديد:- لازما تحط حاچة على مكان اللسعات دى..
اكد و هو يفتح ضلفة خزينة الملابس يهم بإخراج مرتبته الإسفنجية:- حطيت عليهم شوية عسل.. دول جرصتين مهماش حاچة كَبيرة يعنى..
ابتعدت فظن انها اقتنعت بكلامه فجذب المرتبة من داخل الخزانة و مددها ارضا و بدأ فى تعديل فرشها حتى يتمدد عليها و ما ان هم بالاستلقاء فى تعب حتى كانت هى تعاود الاقتراب من جديد و هى تحمل بين كفيها بعض المراهم.. جلست على أطراف المرتبة لتضيق الدنيا الرحبة فجأة و يصبح غير قادر على احتمال سيطرة محياها و طغيانه على كل ما عداها.. انتفض جالسا يحاول السيطرة على ماتبقى من ثباته هاتفا:- ما جلنا مفيش لزوم للكلام دِه..
و كأنه لا يخاطبها من الاساس لم تع حرفا مما قال ومدت كفها ببعض من دهان و بدأت فى وضعه على ذاك الاحمرار الذى اعتلى جبينه.. و عاودت الكرة من جديد و هى تضعه على موضع اعلى حاجبه الأيسر لتتوقف كفها فجأة عند ذاك الموضع و تمتد لتتلمس جرحا قديما غاليا عليها.. جرح بعدد سنوات عمريهما و عمر حبهما..
دمعت عيناها فى شجن و ارتجف هو من ملامستها لجرحه العزيز.. اول جرح ناله من جراء غيرته الحمقاء عليها.. و تطلع الى محياها متأثرا فى وجع هامسا لنفسه:- و لم يكن للأسف اخر جرح.. فذاك الجرح الاخير اصاب الروح فى مقتل..لكنى سامحت يا تسنيم.. سامحت و الله العظيم و أتمنى ان تسامحيني..لكن ابتعدى الان بالله عليكِ.. ابتعدى حتى أستطيع تسديد دينى لله و لكِ و بعدها انا من لن يترككِ تغيبين عنه لحظة و ستدركين ساعتها كم يعشقكِ مهران..
و كأنما استرقت السمع لهمس نفسه فتطلعت اليه و دمعها يسيل و اخيرا نهضت مبتعدة ليتنهد هو فى ضيق و حسرة.. و أُطفأت انوار الغرفة ليغرق كل منهما فى خيبته و وجعه..
كانت تتساءل دوما اين تراه ذهب من قبل ان تبدأ امتحاناتها و ها هو ظهور نتيجتها على الأبواب.. هى لم تذهب للسراىّ منذ عودة امها و اخيها ماهر من الحج الا تلك المرة التى ذهبت متعللة بنسيان احد كتبها و الحجة الكبرى لذلك بالطبع هو انشغالها بالدراسة و تعويض الفترة الماضية و خاصة بعد استشهاد مؤمن.
كانت تتوقع ان يسأل عليها او حتى يتلمس أخبارها.. لكنه لم يفعل..
شعرت بالحزن لذلك فقد اعتقدت انها فى اثناء تلك الفترة التى قضتها بالسراىّ قد استطاعت ان تشغل و لو بسيط من تفكيره.. فقط تفكيره.. فهى لم تذكر قلبه ضمن ظنها مطلقا فهى تعلم تمام المعرفة دون غيرها ان قلبه مشغول و انه حتى مع ما حدث من حبيبته فهو لم يزل يعانى اثر جراح فؤاده و غدرها به.. تنهدت فى ضيق و همست لنفسها بانه لا امل لها معه مطلقا..
ابتسمت لنفسها فى المرآة ابتسامة يملؤها الشجن.. هى تعلم انها جميلة و تتسابق النظرات لتلحق بمحياها لكنها ابدا لم تعر ذاك اهتماما..
كانت تسعد كثيرا عندما تجلس معه و تتبادل أطراف الحديث و تجده يحترم عقلها و يقدره.. لم تَر منه ما يشى باعجاب بشكل او جسد بقدر ما أعجبه منها ما كانت تبديه من سعة اطلاع و تفتح فكرى كان يستكثره على فتاة فى مثل سنها.. ابتسمت و هى تتذكر انه دوما ما كان يظنها لاتزل طفلة..نعم طفلة.. تلك الطفلة التى كانت تبكى ما ان يطالعها محياه و كأنها كانت تعلم ان نصيبها منه لن يكون سوى دموع عينيها لوعة على حب لا امل فيه..
انتفضت فى ذعر عندما اندفع ماهر داخل حجرتها بعد عدة طرقات متسرعة صارخا فى سعادة و هو يكاد يحملها على عنقه فرحة:- ألف مبروك يا ايمان.. النتيچة ظهرت.. ماچد واد خالك عاصم لسه جايبها من ع النت حلاً..
لم تهتم بسؤاله عن نتيجتها بقدر ما هتفت دون وعى منها:- ماچد !؟..هو چه!؟..
اكد ماهر دون ان يع اضطرابها فى خضم فرحته:- اه چه.. و لسه جافل معاى دلوچت.. الف مبروك يا جمر.. ٩٠٪ بحالهم.. تاريكِ شديدة يا بت ابوى!..
ابتسمت فى سعادة فأخيرا تكلل جهدها و حصلت ذاك المجموع العال الذى كان يتمناه مؤمن.. دمعت عيناها لذكراه و همست و هى تتطلع لصورته التى لم تغادر موضعها على مكتبها:- راضٍ دلوجت يا غالى !..
دمعت عينا ماهر عندما تناهى لمسامعه همساتها و جذبها اليه فى حنو يقبل جبينها فى ود هامسا:- النهاردة مفيش الا دموع الفرح يا استاذة.. ياللاه شوفى عايزة تدخلى اى كلية و انتِ حاطة رچل على رچل..
اومأت برأسها فى سعادة و اكدت
لماهر:- ان شاء الله.. اداب.. انى مش عايزة ابعد و اتغرب..أشد حيلى و ابجى داكتورة ف الچامعة..
هتف ماهر مهللا:- الله اكبر.. هو دِه الكلام.. و الله و هاتبجى اخو الداكتورة يا ماهر..
ابتسمت ايمان فى سعادة فمنذ عودة ماهر من الحج و هو تبدل تماما اصبح نسخة اخرى من مؤمن.. اصبح ماهر الأخ الأكبر الذى تمنته دوما و الذى حاول فى الفترة الماضية تعويضها عن غياب أخيهما الأقرب لقلبيهما..
دخل حازم حجرة ابيه يلقى عليه التحية بعد عودته من زيارة نهلة خطيبته كما كان يوهمهم فهى احتفظت بعهدها معه و لم تخبر احدا من اسرته بفسخ خطبتهما لانه أراد إبلاغهم بنفسه و فى الوقت المناسب..
تلقاه زكريا بين ذراعيه مقبلا قبل ان يجلس حازم أمامه فى هدوئه المعتاد ليبادره زكريا متسائلا فى مرح:- ايه اخبار نهلة !؟.. تمام..!
هز حازم رأسه بالإيجاب ليبتسم زكريا ابتسامة واسعة هاتفا:- الحمد لله ان ربنا چمعكم على خير..و عقبال ما ربنا يتمم فرحتكم يا رب..
ابتسم حازم و لم يعقب ليستطرد زكريا هاتفا فى محبة:- عارف يا حازم !؟..
تنبه حازم و شخص بصره تجاه ابيه الذى أردف قائلا:- انى كنت خايف جووى و جلجان من خطوبتك لنهلة بت اللوا مختار الله يرحمه..
كانت المرة الاولى منذ قدومه التى ينطق فيها حازم متعجبا:- ليه يا
بابا !؟..مع ان كان باين انك متحمس ليها قووى..
اكد زكريا بإيماءة من رأسه:- ايوه.. ده صح البت متتعيبش و نسب يشرف.. لكن انى خوفى كان على حاچة تانية..
تساءل حازم و قد زاد فضوله:- ايه الحاجة دى !؟.
ابتسم زكريا مؤكدا و هو يشير لصدر ولده:- جلبك يا ولدى.. جلبك يا حازم هو اللى كان مخوفنى..
هتف حازم فى مزيد من الدهشة:- قلبى..قلبى ماله يا بابا.. و ابتسم و لازال على نفس تعجبه مستطردا.. مش فاهم الصراحة حضرتك تقصد ايه بالظبط!؟..
ابتسم زكريا رابتا على كتف ولده فى حنو:- اجولك الحج.. كنت خايف أكون بظلم جلبك و أكون انى السبب فى چوازتك من نهلة و انت مش رايدها.. اهوو.. رد چميل لأبوها و أفضاله.. لكن اللى انى شايفة ف عيونك بيلمع دِه مطمنى ان جلبك متظلمش ف موال الوصية و انه خد حجه ف انه يحب و يتحب..
صمت حازم لبرهة ثم هتف فى صوت أتى من اعماق سحيقة:- ايوه فعلا يا بابا انا بحب.. مكنتش متوقع اقولها و لا احسها ف يوم من الأيام لكن حصل.. ازاى و امتى معرفش.. بس لقيته حصل..
انفجر زكريا مقهقها فى فرحة لمشاعر ولده البكر هاتفا فى سعادة:- ربنا يبارك لك يا ولدى.. اخيرا طبيت و محدش سمى عليك.. نهلة تستاهل كل خير.. و
قاطعه حازم هاتفا فى هدوء عجيب:- بس مش نهلة يا بابا..
غابت ابتسامة زكريا و تاه من جراء الصدمة التى اعترته نتيجة اعتراف ابنه و تحشرج صوته فى توتر
هامسا:- امال مين يا واد زكريا اللى خطفت جلبك ان مكنتش خطيبتك..!؟
همس حازم و هو ينظر لعينى ابيه فى ثبات معترفا لأول مرة لمخلوق بإسم تلك التى جعلته يُؤْمِن بشعور كان يظنه من الخيالات:- تسبيح..
انتفض زكريا فى ذعر حتى انه لم يلقى بالا لألم قدمه الذى زاد من جراء انتفاضته واقفا يتطلع لولده من عليائه هاتفا فى صدمة:- تسبيح!؟.. تسبيح مين!؟.. تسبيح بت سهام و خطيبة واد عمك حمزة!؟..
هز حازم رأسه مؤكدا فى صمت دون ان ينطق بحرف واحد.. ليدور زكريا حول نفسه فى تيه ضاربا كفا بكف و ما ان تمالك أعصابه حتى هتف من جديد فى ولده محذرا:- انت تنسى الموضوع دِه نهاااائى.. سامع يا حازم.. و من بكرة تطلب نجلك لهنا او لأى مكان تانى بعيد عن النچع..حد غيرى يعرف المصيبة دى!؟..
هتف حازم مؤكدا فى هدوء و قد شعر بالقلق على ابيه من جراء ما يراه عليه من اضطراب:- مفيش مخلوق غيرك يعرف الموضوع ده يا بابا.. حتى هى..
تنهد زكريا فى راحة اخيرا ليردف حازم قائلا:- انا عارف يا بابا حساسية المواضيع دى و مش ممكن أكون سبب فى تعاسة حمزة.. الا حمزة يا بابا..
هتف زكريا فى راحة:- الله يريح جلبك يا ولدى زى ما ريحت جلبى.. الا دِه يا حازم..
او مأ حازم متفهما و لم ينطق بحرف ليستطرد زكريا بعد ان هدأت نفسه قليلا متسائلا فى إشفاق:- و انت يا حازم!؟.. و..
قاطعه حازم ليقف رابتا على كتفه و همس:- انا و نهلة سبنا بعض يا بابا.. جت لها بعثة و شايفة انها فرصة متتعوضش لمستقبلها.. كل واحد راح لحاله..
و اخيرا انحنى مقبلا جبين ابيه و رحل فى صمت خارج الغرفة
ليترك زكريا يحمل هما على كتفيه لا ينزاح و كأنه الجبال..
تردد صوت مهران مؤذنا لصلاة الفجر:- الصلاة خير من النوم.. الصلاة خير من النوم..
تسلل ماهر من فراشه و استعد لصلاة الفجر كعادته و خرج من داره يتخذ الطريق المفضى الى المسجد و الذى يمر على بيت يونس الحناوى.. او بالأدق.. بيتها.. بيت هداية الروح و القلب..
كانت عيناه متعلقة بأسوار الدار من بعيد حتى قبل ان يصل اليها مترجلا كأنما الروح تهفو دون إرادة منه لموضعها و تتطلع دون سيطرة منه الى حيث تكون..
اجبر نفسه على التمتمة بصوت اعلى قليلا بأستغفاره على مسبحته لعله يصرف فكره عنها لو قليلا محاولا التركيز على اللحاق بصلاة الفجر.. استطاع بالفعل ان يصرف ناظريه عن أسوار دارها لكن كيف له ان يصرف ذاك الخافق الذى علت وتيرة ضرباته ما ان اقترب من أسوار البيت..حتى نظراته التى كان يعتقد انه سيطر عليها خانته و طلت حيث نافذة حجرتها لعله يلمح منها ظلا او حتى يرى شعاع من ضوء يخرج من بين خصاصها فيضئ له جنبات روحه المعتمة فى غيابها..
انتفض واقفا و اتخذ ساتر و هو يرى حركة غير عادية بالقرب من حجرة الخوص التى يتخذها يونس مجلسا صيفيّا يجتمع فيه الرجال..
انتظر فى قلق ليدرك ما يحدث بالضبط و على ضوء الحدث يتحرك.. رأى عدد من الرجال يسكبون مادة ما حول الأسوار.. لم يكن الامر يحتاج الا قليل من ذكاء ليدرك انهم ينون شرا بأهل الدار فأخرج سلاحه و اطلق منه بعض الأعيرة النارية رغبة فى اصابتهم بالذعر و ابعادهم عن الدار قبل إلحاق الاذى بقاطنيه لكن للأسف كان احد المجهولين أسرع ليلقى احد أعواد الثقاب المشتعلة من يده قبل ان يفر هاربا لتبدأ النيران فى الظهور و الانتشار بشكل مخيف جعله يصرخ فى هلع و هو يندفع لأيقاظ اهل الدار طارقا على بابهم فى اصرار لعل احدهم يستيقظ لنجدة الجميع..
الوحيدة التى كانت مستيقظة بالفعل كعادتها هى بخيبة و التى سمعت الطرق المزعور على باب دارهم فأنتفضت توقظ سكينة فهى غير قادرة على فتح الباب او الإسراع فى ذلك نظرا لحال نظرها
و شباب الدار فى سفر ليس بينهم الا يونس..
و الذى بفضل الله انتفض لصوت الطرق و اندفع يفتح و ما ان علم بما يجرى حتى صرخ فى نساء الدار ليهرولن للخارج..
خرجت كسبانة و بيدها سكينة و دخل يونس يحمل بخيتة و خرج بها و قد بدأت النيران تتسلل لغرفة الخبيز و تطال الجزء الخلفى من الدار حتى ارتفعت ألسنتها تطاول نافذة غرفة عائشة و هداية..
حاول يونس الدخول مرة اخرى الا الدار بعد إخراجه بخيتة لإخراج اخته و خطيبة ولده.. الا انه توقف لاهثا عند صعوده اولى الدرجات فالدخان بدأ يتسلل لرئتيه المتعبتين اثر التدخين المُهلك لهما فبدأ فى السعال بشدة..
كان ماهر يقف بالخارج يتأكله الخوف عليها و الذعر باد على ملامحه و ما ان رأى حال يونس حتى اندفع لداخل الدار بلا تفكير و صعد السلم الداخلى المفضى لشقتهما و بدأ فى دفع بابها و هو يضع كفه على انفه محاولا عدم استنشاق الدخان و اخيرا استطاع الوصول للغرف وسط ضبابية الرؤية صارخا فى عائشة التى كانت تقف صارخة بالردهة:- انزلى بسرعة..تعالى..
و اشار الي طريق الخروج الأمن بعيدا عن مسار ألسنة النيران و صرخ فيها متسائلا قبل ان تغادره فى خوف تتلمس خطواتها:- فين هداية !؟..
اشارت لأحدى الغرف فأنتفض مندفعا اليها يطرقها فى اصرار و لهفة و عندما لم يتلق ردا دفع الباب و دخل ليجدها منزوية بأحد الأركان.. عيونها ذائعة و تشهق محاولة إلتقاط انفاسها و لا تدرى ما يدور حولها و يبدو انها استنشقت الكثير من الدخان حتى انها ما كانت ترد على هتافه بأسمها..
جذب احد الاغطية و ألقاه على رأسها ليسترها بالكامل و اندفع بها فى سرعة محاولا الابتعاد يضمها بين ذراعيه مبعدا إياها قدر الإمكان عن مسار النيران و ألسنة الدخان الكثيف الذى بدأ يزداد حدة مع محاولات الجمع الذى تجمهر عند مشاهدة النيران للمساعدة فى أخمادها قبل ان تطال الدار نفسها.. و يبدو انها نجحوا فى ذلك و مما يسر الامر هو وجود العديد من شباب و شيوخ النجع فى المسجد للصلاة فتنبهوا سريعا لنشوب الحريق و اندفعوا لإطفائه..
وصل ماهر بجسد هداية المغطى كليا لدرجات الدار و وضعها على احدى الأرائك المنزوية حتى لا تصبح رؤيتها عرضة لكل غادٍ او أيب..و هتف صارخا:- لازم داكتور بسرعة.. واضح انها شمت دخان كَتير..
اندفع طبيب الوحدة الصحية و الذى لحسن الحظ كان فى المسجد لمعاينتها و القيام بالواجب..
تجمعت النسوة حولها فشعر بالإحراج لوقوفه بينهن فتنحى جانبا و هو يكاد يموت قلقا عليها و يريد ان يسمع اى كلمة يطمئن بها على حالها..
لكن ما باليد حيلة.. اضطر للذهاب للوقوف بين الرجال يقف بينهم بجسده لكن عقله و قلبه و مسامعه و ادراكه كله مع تلك الحلقة هناك والتى تستدير حولها و لا يع ما يحدث بداخلها..
ربت يونس على كتفه فى امتنان
هاتفا:- و الله لولاك يا ماهر ما كنّا عارفين اللى كان هيحصل..!؟
تسلم و تعيش يا غالى..
تطلع اليه ماهر بنظرات خاوية هاتفا:- انى معملتش حاچة.. ده ستر ربنا ليكم چعلنى سبب مش اكتر.. بس يا رب الانسة هداية تبجى بخير.
اندفع يونس على ذكر هداية باتجاه الحلقة المتجمهرة نحوها و غاب للحظات و عاد من جديد هاتفا:- الحمد لله.. جدر و لطف.. شوية خنجة بسيطة بسبب الدخان بس ربك سلم و البركة فيك..
ابتسم ماهر فى سعادة لمعرفته انها بخير و هتف مؤكدا:- انى معملتش حاچة.. حمد لله على سلامتكم..
ربت يونس على كتفه:- الله يسلمك..
هتف ماهر متسائلا فى تعجب:- بس تفتكر مين اللى ممكن يعمل فيكم العملة السودة دى !؟.. دى مجصودة انى شفت الرچالة اللى ولعوا ف اوضة الخوص..
تنهد يونس و هو يعلم يقينا من راء ذاك الحادث الذى كاد يودى بحياة من بالدار:- الله اعلم.. الناس السو كَتير.. ربنا يصرف عنا أذاهم..
هتف ماهر:- امين يا رب..
انفض الجمع اخيرا بعد ما اطمأن ان الامور سارت على خير و انتهت بسلامة اهل الدار جميعا و لم يتبق الا ماهر يقف على مقربة ينظر للجانب الاخر موليا ظهره لموضع تجمع النساء.. كان يتطلع الى الصبح الذى بدأ يشق الغيم معلنا عن نفسه متنهدا بالأفق و استغفر فى نفسه فقد فاتته صلاة الفجر جماعة و هى الاولى التى يفوتها منذ عودته من الحج.. توجه فى هدوء لأقرب ارض طاهرة و استقبل القبلة و كبر للصلاة حتى يلحق بصلاة الفجر قبل ان يدركه الشروق.
بدأ الجميع فى الدخول للدار واحدا تلو الاخر بعد ان تطوع الجميع بفتح نوافذه و ابوابه حتى ينقشع الدخان الراكد بالداخل و لا يستوطن المكان برائحته القاتمة..
همست عائشة لهداية:- مش ياللاه بينا ندخل احنا كمان!؟..
همست هداية:- روحى انت يا عيشة نامى.. انا بجيت كويسة دلوجت.. بس حاسة انى محتاچة شوية هوا.. شوية و هحصلك متجلجيش..
همست عائشة مؤكدة:- طب متتأخريش عشان مش هنام غير لما اطمن عليكى..
اومأت هداية برأسها ايجابا و دخلت عائشة بدورها لتنهض هداية فى تثاقل و هى تتلمس موضع اقدامها الثقيلة نوعا ما حتى وقفت تنظر للأفق البعيد فى راحة و اخيرا وقعت عيناها على محياه الخاشع ركوعا و سجودا.. خفق قلبها فى قوة و ما عادت قدماها قادرة على حملها و ارتعش جسدها فظنت انه هواء الفجر البارد فضمت جسدها بذراعيها و هى تعلم انها كاذبة فقد تذكرت كيف كانت بين ذراعيه و هى يحاول حمايتها من ألسنة النيران عند هبوطهما السلم الداخلى للدار و المطل على غرفة الخبيز حيث كانت النار على أشدها..
تحاملت على نفسها و اندفعت تختفى خلف باب الدار و أغلقته معتقدة بذلك انها ابعدت محياه عن مخيلتها لكن هيهات فما ان صعدت غرفتها حتى ضبطت نفسها متلبسة بالنظر عبر خصاص نافذتها لتراه يمر بجوار سُور دارهم و يقف للحظة يتطلع للأعلى حيث نافذتها كأنما يدرك انها تقف خلفها و اخيرا يدنى الطرف و يرحل لتتبعه هى بنظراتها حتى يغيب مخلفا فى نفسها حيرة و اضطراب لا حدود لهما و الأدهى من ذلك هو ذاك الأمان الذى شعرت به و هى بين ذراعيه و الذى تغلغل الى اعماق روحها و سكنها و لا حيلة لها.
علت دقات الطبول و العروسان يتهاديان صعودا درج الدار كان كلاهما صامتا و الصخب حولهما يدفع كل منهما ليتيه رغما عنه فى شأنه الخاص حتى وصلا اخيرا امام باب شقتهما بالدور العلوى ليدفعه حامد فى هدوء و يقف فى هدوء منتظر ان تدلف العروس للداخل.. و ما ان وطئت قدماها الشقة حتى علت الزغاريد من هنا وهناك فى فرحة ليدلف حامد خلفها بدوره و تجذب كسبانة الباب خلفه و هى تندفع هابطة الدرج فى قمة سعادتها فاليوم اصبح اصغر ابنائها عريسا..
تطلع حامد حوله و لم يجد العروس و التى توقع انها لازت بالفرار متحصنة بأى غرفة مبتعدة عنه..
تنفس الصعداء فى سعادة و اندفع بدوره لغرفة النوم التى كانت مجهزة لهما و ما ان فتح بابها فى ثقة حتى وجدها تجلس على طرف الفراش يشعر بانتفاضاتها الخجلى من موضعه.. اسقط فى يده و ما عاد قادرًا على التراجع فقرر الدخول فى هدوء حيث تجلس..
اقترب منها مستشعرا اضطرابها البادى على كل خلجة من خلجات جسدها و هتف فى اعتيادية:- مبرووك..
همست بصوت متحشرج مهزوز النبرات و هى تحاول الابتسام فى سعادة:- الله يبارك فيك..
صمت للحظات مما أربكها فرفعت ناظريها تجاهه فى تساؤل لتجده يتطلع اليها مشدوها لا ينطق حرفا.. نهضت من موضعها فى تردد لتصبح الان فى مواجهته تماما و لازالت تتطلع اليه فى تعجب و هو يحملق فيها بهذا الشكل المريب..
قررت ان تخفض عينيها حتى لا تقابل تلك النظرات المشدوهة التى ارعبتها لثوان الا انه مد كفه باتجاه وجهها ليضعه اسفل ذقنها و يرفع ناظريها باتجاه أنظاره.. كانت تشعر انه غير طبيعى و كأنه بدنيا اخرى لا تمت لتلك الدنيا التى تشملهما الان.. كأنه منفصل عنها بكيانه كليا و همس بصوت متحشرج ببضعة احرف لم تستوعبها لتوها.. انتفضت فى ذعر عندما جذبها الى احضانه فى لهفة و اعتصرها بين ذراعيه كأنما وجد اخيرا ضالته المنشودة منذ عصور..
استكانت رغما عنها و هى تتلقى منه ذاك الفيض الغامر من عاطفة ما كانت تتوقع انه قادر على بثها بهذا الشكل الرائع و هو الذى ما ينفك يشاكس هذا و يمازح ذاك.. فقط ظنت انه غير قادر الا على المزاح و السخرية.. اما الان و فى تلك اللحظة و هى بين ذراعيه ادركت انه شخص اخر تماما قادر على منح العاطفة و الحب و الحنان بشكل ما كانت تتوقعه فى اروع أحلامها..
عاد من جديد يهمهم و هى مأخوذة كليا بكل ما يقوم به فى خضم عاصفة المشاعر تلك.. لكنها تخشبت فجأة و هى تستمع اخيرا لما كان يهمهم به فى ولة و بصوت أشد عذوبة من ناى يصدح.. انه يتمتم بأسم امرأة.. سلوى.. هكذا ترنم بكل حرف من احرف اسمها و هى بين ذراعيه.. لكنها عائشة... هى ليست تلك السلوى التى لا ينفك يذكر اسمها بذاك الشكل الذى يقتلها و يبدو انه لم يلحظ حتى تخشب جسدها بين ذراعيه بل انه استمر فى تيهه بها بجانب تمتاته التى لم تتوقف للحظة..
حاولت ابعاده عنها قدر استطاعتها لكنه كان متشبث بها كأنها تلك القشة التى ستنجيه من غرق محقق و ما عاد لها القدرة الا على البكاء الصامت بدموع من نار لم تحرق الا إياها و اخيرا نال مبتغاه منها و ابتعد فى تنهيدة طويلة ليتنبه اخيرا لها و ينظر اليها نظرة صدمة كأنه لا يصدق ما فعله لتوه..و ان تلك التى كانت بين ذراعيه لم تكن الا المسكينة عائشة التى كانت نظرات عينيها الباكية تلك كافية تماما ليموت كمدا و هو يدرك تماما اى مصيبة اقدم عليها و اى صدمة هى تحياها الان..
انتفض مبتعدا عنها فى ذعر و ما عاد قادرًا على النظر اليها يتطلع حوله فى ذهول و لم يستفق من ذهوله الا على صوت إغلاقها باب الحجرة خلفها بعد ان غادرتها دون ان يع ذلك..
اندفعت هى خارج الغرفة و هى تدرك انها كانت حمقاء واهمة حين اعتقدت انها قادرة على انتزاع تلك الاخرى و الفوز بمكانتها فى قلبه..
بكت بقهر و هى التى ظنت فى البداية كأى حمقاء انه احبها او حتى اعجب بها و رأى فيها زوجة صالحة يمكن ان تكون اما لأولاده.. لكنها لم تعدو سوى وسيلة كما سمعت اخوه يخبره منذ ايّام.. مجرد اداة رخيصة للنسيان على سبيل.. و داوينى بالتى كانت هى الداء.. بكت و بكت من جديد لكنها توقفت للحظة لتحكم عقلها الذى هتف فيها.. نعم انت كذلك..
مجرد وسيلة نسيان.. انها الحقيقة المرة و عليك تقبلها شأتِ ام ابيتِ.. ثم..انك عرفتى بذلك من حديثه مع اخيه من قبل زواجكما فهل هذه الحقيقة التى تأكدتِ منها لتوك غيرت من الامر شيئا!؟.. ما كانت لتفعل و انت تعلمين ما هو وضعك بالضبط فى هذه الدار و ما كان لك الرفض و كان القبول هو السبيل الوحيد لك.. فكفكى دعمك فتلك ليست اولى الصدمات.. فقد اعتاد قلبك عليها منذ زمن بعيد كما انها لن تكون الاخيرة.. أليس كذلك !؟..
اومأت عائشة برأسها ايجابا على حديث عقلها الداخلى.. و كفكفت دمعها بالفعل و قد قررت ان تعيش.. فقط تعيش.. و لكن على الاقل ستحفظ كرامتها فيكفيها ما عانته.. يكفيها بحق..
فُتح باب الغرفة فى بطء و خرج منه ماجد يتعكز على عصا و هو يسير على قدميه فى توءدة.. تطلعت اليه زهرة فى سعادة بينما هتف عاصم مرحبا فى تهليل:- اهلًا بالباشا الكَبير جووى..
ابتسم ماجد و هو يتطلع لوالديه فى فرحة فقد استطاع اخيرا السير بإستخدام جهازا تعويضا لساقه المبتورة.. هو لايزل يستخدم عصا تساعده قليلا على السير بها لكن هذا افضل بكثير من جلوسه على كرسٍ مدولب ينتظر ان تمر حياته دون اى إنجاز يذكر.. و الفضل فى هذا يعود لها.. هو وحده يعلم هذا..تلك الفتاة الصغيرة ذات الروح المقاتلة و الأنف الشامخ و الرأس الصلبة المعتدة بنفسها حد الهوس.. هى التى وهبته الإيمان بنفسه من جديد..
علمته ان الدنيا لا تنتهى عند حادث او تتوقف من اجل رحيل شخص.. و اننا لابد و ان نجاهد لنصنع لأنفسنا مكانا تحت شمس تلك الحياة طالما اننا لازلنا نرزق و لازال فى العمر بقية..
تلك المدونة التى دفعته لإنشائها و عرض أشعاره بها لاقت رواجا و نجاحا بين مرتادى مواقع التواصل الاجتماعي و فى فترة قصيرة اصبح عدد متابعيه يتخطى الآلاف.. حتى اسم المدونة كانت هى ملهمته.. اسماها الچنرال العاشق.. كما كانت تفضل دوما ان تناديه..
انضم لمائدة الافطار و هتف فى سعادة بعد جلوسه:- ايمان بنت عمتى سمية نجحت بمجموع عالى.. جابت ٩٠٪..
هتفت زهرة فى فرحة:- الله اكبر.. برافو عليها.. بنت ممتازة بجد.. ربنا يسعدها..
هتف عاصم بدوره:- اخيرا حاچة تفرح سمية شوية بعد موضوع ولدها الله يرحمه..
هتف ماجد:- صدقت يا بابا.. الله يرحمه..
اكدت زهرة:- احنا لازم نروح نبارك لها يا عاصم..
هتف مؤكدا بدوره:- وااه.. معلوم طبعا..
هتف ماجد مؤكدا:- اما انا بقى ف رايح ابارك لها دلوقتى.. و جايب لها هدية معايا من مصر كمان..
هتفت زهرة و هى تبتسم فى خبث:- هدية يا ماجد !؟.. بس ده مينفعش يا حبيبى.. انت نسيت الأصول و لا ايه!؟..
تطلعت بنظرة ذات مغزى لعاصم الذى ادرك ما ترمى اليه زهرته فأبتسم بدوره هاتفا:- امك عندها حج.. هَدية ايه يا چنرال!؟.. انت لا اخوها و لا خطيبها و لا ابوها.. يبجى تجيب لها هَدية بتاع ايه!؟..
تنهد ماجد و قد أيقن إنهما على حق و هتف فى ضيق:- هديهالها برضو و اللى يحصل يحصل..
هتفت زهرة فى جرأة:- طب ما تقدمها بصفة من دول يا ماجد.. خطيبها مثلا !؟..
انتفض ماجد متطلعا لأمه للحظات و اخيرا نهض فى تثاقل رغما عنه هاتفا فى ثورة :- لااا.. خطوبة لااا.. و اذا كان ع الهدية.. و اخرج من جيب سرواله علبة من القطيفة الحمراء وضعها على المائدة بعنف مستطردا:- اهى.. أبقوا ادوهالها انتم لما تروحوا و ابقى قولى انها منك انتِ يا ماما.. عن اذنكم..
و اندفع بأقصى سرعة أتاحتها له قدماه ليدلف اخيرا لغرفته و يغلق بابها خلفه فى عنف اجفل زهرة التى تنهدت فى حسرة ليتطلع اليها عاصم موقنا بما يعتريها من حزن على حال ولدها..
ساد الصمت قليلا لتهمس زهرة لعاصم مؤكدة:- ده بيحبها يا عاصم.. انا متأكدة..
اكد عاصم بإيماءة من رأسه ايجابا:- ايوه.. بيحبها و عايزها بس فى حاچة ف دماغه محدش فاهمها..
هتفت زهرة بعزم:- انا مش هسيبه كده.. لازم اعرف ايه اللى ف دماغه ده..
ابتسم عاصم هامسا فى مشاكسة و هو يرى زهرة عازمة على الدخول لغرفة ولدها:- امك حطتك ف دماغها!.. الله يكون ف عونك يا حازم يا ولدى..
تطلعت زهرة اليه فى عتاب لينفجر ضاحكا و هى تطرق باب غرفة ماجد و تندفع للداخل و تغلق بابها و نظراتها لا تحيد عن ولدها الذى تمدد على فراشه فى سأم..
جلست جواره فى هدوء و اخيرا همست:- ليه كده يا ماجد !؟.. انت رافض ليه ايمان.. ال..
قاطعها ماجد معتدلا و هو يهتف فى لهجة تحمل نبرة شجن:- انا مش معترض على ايمان يا ماما.. ايمان متتعيبش.. بس زى ما قال لى مؤمن.. ايمان تستاهل سيد الرجالة.. و كان عنده حق.. ايمان تستاهل واحد كامل يا ماما.. مش عاجز بيوهم نفسه انه تمام عشان يقدر يكمل حياته..
دمعت عينا زهرة فى إشفاق هاتفة:- انت ليه شايف نفسك كده !؟.. انت راجل و سيد الرجالة كمان.. و لو خيرتها انا متأكدة ان ايمان هتختارك انت..
هتف ماجد:- ايمان لسه صغيرة و جميلة يا ماما.. و قدمها اكيد بعد دخول الجامعة فرص ارتباط كتيييير من رجالة افضل منى.. انا هكون معاها و أوصلها للراجل اللى تختاره و هعمل بوصية مؤمن.. لكن انى أكون انا الراجل ده.. مش هسمح انها تضيع حياتها مع واحد زيي..
ربتت زهرة على كتفه فى حنو هامسة:- اعمل اللى يريحك يا ماجد.. بس انت بتيجى على نفسك جامد قووى.. و صدقنى.. ده مش هايبقى ساهل عليك و خاصة بعد ما قررت تدخل معاها الجامعة و هتبقى معاها طول الوقت تقريبا..
هتف ماجد مؤكدا بإبتسامة :- لا هقدر.. متقلقيش انت بس يا ست الكل.. ادعيلى و كله هايبقى تمام
هتفت زهرة و هى تنهض مغادرة غرفته:- ربنا يريح بالك يا حبيبى.. بس انت بلغتها بقرار الجامعة ده..!؟.
نفى ماجد فى صمت.. فتنهدت زهرة و هى تخرج من الغرفة و ليس لها الا الدعاء حتى ترتاح تلك القلوب المنهكة التى اضناها النوح..
تطلعت نعمة فى شيماء بنفاذ صبر ما ان رأتها عندما نزلت اليها صباحا كالمعتاد لتحضر طعام الافطار للرجال قبل رحيلهما لعملهما.. وضعت الفطار و تناوله الجميع فى جو صامت لم يكسره احدهم.. و اخيرا غادر الرجال لتندفع نعمة التى قاومت كتم ما يعتمل بداخلها حتى رحلا لتهتف فى نفاذ صبر حقيقى:- بت يا شوشو.. انت ايه اللى بينك و بين ناصر بالظبط!؟..
انتفضت شيماء فى اضطراب و اخيرا أجابت فى محاولة لتصنع اللامبالاة:- مفيش ياما هيكون فيه ايه يعنى.!؟..
اندفعت نعمة اليها ممسكة عضدها تهزها فى حنق بالغ:- بقولك ايه.. ما تخبيش عليا عشان انا تقريبا عارفة كل حاجة..
هتفت شيماء فى ذعر:- عارفة ايه!؟..
اكدت نعمة:- عارفة انك بتنامى ف أوضة و هو ف أوضة من اول جوازكم.. ايه بقى السبب !؟.. هو انتوا مغصوبين على بعض لاسمح الله.. ده هو اللى اتنفض و قال محدش هينجوزها غيرى.. و هو اللى اصر انه يسرع بالفرح حتى من قبل ما اخوه الله يرحمه ياخد خبر بالموضوع..و مشفتهوش يوم الفرح نفسه.. كان ماسك السما بأيده عشان تيجى اللحظة اللى هيشوفك فيها جنبه ع الكوشة..
هتفت شيماء بفرحة غير متوقعة فى لحظة كهذه متسائلة:- صحيح ياما!؟..
تعجبت نعمة مستفسرة:- ايه هو اللى صحيح !؟.
هتفت شيماء:- صحيح انه كان ملهوف قوى عليا كده !؟..
هتفت نعمة بغيظ:- شوفى البت اقولها ايه تسأل ف ايه !؟.. ايوه و الله العظيم.. ده حتى لما عرف انك رايحة الكوافير زعل و قال انا بحبها زى ما هى كده.. و قالى خليها تفضل فوق بعد ما ترجع من عنده متقعدش ف الكوشة قبل كتب الكتاب و الناس كلها تبحلق فيها..
دمعت عينا شيماء فى سعادة.. اذن فهو يحبها بحق.. يغار عليها بجنون.. لم تكن رغبته تلك فى الزواج منها شفقة على حالها كما كانت تتصور او كما صورها لها.. و ذاك الاعتراف المحموم بحبها و الذى أكده مرارا فى هزيان مرضه لم يكن مجرد كلمات محموم بل كانت عين الحقيقة.. تلك الحقيقة التى ظل يداريها لسنوات طوال حتى عنها هى.. و ذاك الجفاف و تلك القسوة التى كانت تضج منها لم تكن الا ستارًا يدارى خلفه كل تلك المشاعر التى كان يدخرها لأجلها..
وضحت الصورة كاملة امامها بكل تفاصيلها منذ كانوا أطفالا تتعلق بكفه فى ذهابها و ايابها و يكون هو سندها و ملاذها اذا ما تجرأ احدهم و ضايقها او حتى حاول.. كل ما تشتهيه كان يحضره لها من ماله الخاص و مصروفه الشخصى.. اجمل ما لديها من ثياب او ألعاب كان هو مصدرها.. كان يعلم ما تحب و ما تكره.. كان دوما هناك.. و كانت هى تلك الغافلة الحمقاء التى لم تدرك ذلك الا بعد فوات الاْوان.. فبعد قراءته لخطاب اخيه ما عاد قادرًا على النظر اليها حتى.. اضاعته..
و اضاعت حبا بهذا العمق و تلك الروعة..
شهقت فجأة فى وجع حقيقى لتنتفض نعمة فى جزع هاتفة:- شوشو.. مالك يا بت!؟..
احتضنتها نعمة فى حنو و همست تربت على كتفها و هى تجذبها لتجلس على احدى الأرائك هامسة فى رفق:- فى ايه يا بت.. هتخبى على امك برضه !؟.. قوليلى فى ايه !؟..و باذن الله الحل عندى..
اندفعت شيماء تقص عليها كل ما حدث من بعد صعودهما للشقة حتى أتت على ذكر الخطاب و ما فيه لتشهق نعمة ضاربة صدوها بباطن كفها فى لوعة و أخيرا طفرت الدموع من عينيها على ذكر الشهيد نادر و هتفت فى لوعة:- يا ضنايا يا بنى..
الله يرحمه.. و يا وجع قلبى عليك يا ناصر.. دايما كده حظك قليل يا حبيبى..
هتفت شيماء و هى تذرف دمعها:- مش قلت لك الدنيا ملخبطة..
ساد الصمت قليلا و اخيرا مسحت نعمة دمعها فى عزم و نظرت لشيماء فى صرامة هاتفة:- قوليلى.. انت بتحبيه!؟..
صمتت شيماء و نكست رأسها و لم تجب لتهتف نعمة فى اصرار:- ارفعى راسك كده و قوليها ف وشى.. بتحبى ناصر!؟..
هتفت شيماء و هى تشهق باكية فى لوعة:- ايوه بحبه و كنت بحبه طول عمرى و انا مش دريانة.. بس خلاص معدش ينفع..
هتفت نعمة مؤكدة:- مفيش الكلام ده.. كل حاجة تنفع و هاترجع احسن من الاول كمان.. سيبيلى انت الموضوع ده و اعملى اللى هقولك عليه بالحرف.. سمعانى!؟..و ابقى اطلعى جبيلى الجواب من مطرح ما هو مخبيه..
اكدت شيماء هاتفة:- سمعاكى و هعمل اللى هتقوليلى عليه و مش هخالفه..
جذبتها نعمة اليها و اخذت تعدد على مسامعها بعض من نصائحها التى يبدو ان لا هدف لها الا ان يقع ناصر المسكين فى الفخ.. و أى فخ !؟..