رواية ميراث العشق والدموع الجزء الأول للكاتبة رضوى جاويش الفصل السادس عشر
وقفت ندى تتلفت حولها لامبالية فى انتظار ابيها الذى ذهب لإنهاء بعض الامور.. تتطلع حولها فى فتور.. وقد بدأ الملل يتسرب اليها.. بحثت عن ابيها بعينيها.. لكنها لم تبصره فى محيطها.. فتنهدت فى ضيق.. وانتظرت على أمل ظهوره.. لكن فجأة سمعت صوت مألوف لديها.. جعلها تجفل مستديرة تتطلع لمصدره..
-اهلًا..صدفة عجيبة انى اشوفك هنا..كانت تلك كلمات الدكتور نبيل والتى هتف بها وهو يتطلع لندى فى تعجب..
هتفت هى بحماسة ممزوجة بالفرحة بعد ان تغلبت على دهشتها :- اهلًا دكتور نبيل.. فعلا صدفة عجيبة.. حضرتك مستنى حد.. سألت فى فضول..
ابتسم :- اه.. وَأهو وصل الحمد لله.. عن إذنك..
وتركها وانصرف.. فانقلبت ملامح وجهها الجميل ساخطة.. وهى تستدير لترى من استرعى انتباهه لهذه الدرجة.. وكانت المفاجأة الثانية.. فقد كان ذاك الشخص ابوها.. الدكتور ناجى التهامى الذى اندفع نبيل محتضنا إياه.. ومرحبًا فى حفاوة لم تتحرك من مكانها.. هل يعرف كل منهما الاخر..؟!.
هتف ابوها جاذبا إياها من افكارها :- ندى.. تعالى..
استدار نبيل فى تعجب.. وهو لا يكاد يصدق ما وصل اليه
استنتاجه.. الا عندما هتف الدكتور ناجى معرفاً ندى :- ندى بنتى يا نبيل..
تطلع نبيل اليها فى حيرة.. ثم قهقه فجأة بشكل تعجب منه الدكتور ناجى.. فقال نبيل مفسرا:- ندى طالبة عندى فى الكلية يا عمى.. وتخيل معرفش انها بنت عمى الا دلوقتى..
ابتسم الدكتور ناجى ابتسامة يشوبها الشجن :- معلش بقى يا بنى.. حكم الظروف اللى تخلى واحد ميعرفش بنت عمه..
انتبه نبيل لحزن الدكتور ناجى..فأستدرك :- حصل خير يا عمى.. أدينا عرفنا بعض.. ولا ايه يا آنسة ندى..
اجابت ندى فى بلاهة :- هااا.. وهى لاتزل تحت تأثير الصدمة عليها.. الدكتور نبيل قدرى.. والذى اعتقدت انه نجمة فى السماء صعب ان تطالها.. اصبح بين ليلة وضحكاها اقرب مما تتخيل.. وحمدت ربها سراً وهى فى تلك السيارة التى استقلوها لتقلهم لنجع الصالح انها قررت المجئ الى هنا حيث جذورها الحقيقية وحيث وجدت ان أحلامها اصبحت قاب قوسين او ادنى..
دخلت زهرة لحجرتها.. اخيرا وصلت اليها بعد نهار شاق بالخارج تجلب اخر مشتروات لسهام.. والتى لم تستطع المجئ معها.. فذهبت وحيدة.. لتنتقى كل شئ بعناية.. وبمجهود أرهقها حد الإنهاك كل ما تريده الان هو حمام ينعشها ويزيل ذلك الإرهاق عن جسدها والقليل من الراحة... قبل ان تأتى النسوة ليلا.. للاحتفال بليلة الحنة..
الليلة الاخيرة لسهام بدار ابيها.. أدارت مقبض الباب..
وهى تتنفس الصعداء فى تعب مضنٍ وما ان أضاءت نور الغرفة حتى طالعها ذاك الشئ المسجى هناك بعرض الفراش..تقدمت ببطء.. هل هو احد فساتين سهام التى قد نسيتها هنا ومدت كفها، تفض ذاك الغلاف الشفاف عن الفستان الاسود الذى يعد قطعة من السماء بتلك اللآلئ.. المرصع بها..
وضعته على جسدها.. لتقف امام المرأة.. لا تصدق..
كم هو رائع.. ومناسب لقياسها.. وكأنه فُصل خصيصا لها عادت لتضعه فى غلافه من جديد.. لتفاجأ بعلبة من القطيفة المخملية تحت الغطاء.. تركت الفستان جانبا.. ومدت يدها تلتقطها فى فضول لتفتحها.. فتطالعها قلادة رائعة..
تتابع فيها الزهور.. حتى تنتهى متشابكة مكونة زهرة كبيرة فى منتصف القلادة.. وانتبهت لورقة موضوعة بعناية تحت القلادة فأمسكت بها وهى تجلس على طرف الفراش تلتقط انفاسها المتلاحقة من فرط سعادتها..لتفتحها وتقرأ السطور الاولى.. فلا تع شيئا كالعادة لتعاود القراءة من جديد.. وهى تهدئ من ضربات قلبها المتسارعة
"احلى فستان واحلى عجد.. لأحلى زهرة.. انا عارف انك نسيتى نفسك وسط انشغالك بسهام وطلباتها.. لكن انا منستكيش..
يا رب يعجبوكى.. أمرى لله.. عارف ان عيون الحريم هتاكلك النهاردة.. لكن معلش..بصبر نفسى واجول حريم.. أوعاكى تطلعى بيه من باب السرايا.. لحسن انت عارفة.."... انفجرت ضاحكة حتى دمعت عيناها فرحاً..
لكم تحب هذا الرجل.. لقد تذكرها وقت ان نسيت هى نفسها..وهتفت فى نفسها... انه احبها.. ويحبها.. رغم كل ما كان بينهما.. رغم الشكوك والظنون.. رغم مشاعر الحقد والكراهية و التى تحولت.. شيئا فشيئا لتلك المشاعر الطاغية التى تغمر كليهما..
انه يحبها.. وهى مازالت ابنه الدكتور ناجى.. ابنه التهامية والذين يكرههم كراهة التحريم... لقد تخطى كل تلك العقبات والاحقاد ليصل اليها ألقى كل هذا وراء ظهره ليظفر بقلبها كل ما قدمه لها.. يشى بحبه.. ورغبته فى ارضاءها..
والتقرب اليها.. فعل الكثير.. هى تعترف.. لكنه اخيرا فاز بقلبها.. وهدأت ثورات عقلها ضده.. واستسلم هو الاخر بمحض ارادته.. اما روحها.. فهى قصة أخرى.. وعالم اخر.. فقد ايقنت.. انه هو توأم تلك الروح التى كانت هائمة حتى ألتقته لتتشبث به متعلقة كمن وجد اخيرا ضالته المنشودة..
انها له.. منذ قُسمت الارزاق.. هى رزقه.. وهو رزقها..
رزقها ونصيبها الاروع.. تطلعت مرة اخرى للثوب والقلادة..
وجرت عيونها مرة اخرى على سطور الرسالة.. لتدمع عينيها فرحا من جديد.. وهى تحتضن الرسالة لصدرها وابتسامة رضا على شفتيها..
-الله اكبر.. الله اكبر.. هتف الحاج قدرى التهامى عندما طالع ندى أمامه هى وأبيها على درجات الدار..
جذبها بين ذراعيه مرحباً مباغتاً إياها.. فهى لم تتوقع هذا الترحيب الحار وبتلك الطريقة.. ولكنها استكانت بين ذراعيه فى لحظات.. عندما لمست كم الحنان والطيبة التى
يبثها ذاك الرجل... عمها.. اخو ابيها الذى لم تره فى عمرها كله.. كان لا يشبه نبيل كثيراً.. ربما نبيل يشبه امه على الأرجح.. تطلعت الى نبيل بنظرة جانبية..
لتراه يبتسم فى ود لاستقبال ابيه.. الذى نال نصيبه منه لاحقاً هتف الحاج قدرى وهو يربت على كتف ندى فى محبة خالصة :- الجمر دى بتك التانية يا ناجى.. بِسْم الله ماشاء الله بناتك التنين الله اكبر عليهم.. جمال وأدب.. حمدت ندى ربها سراً لانها استمعت لنصائح ابيها وأحضرت ملابس محتشمة لحد كبيرتختلف تماما عما ترتديه فى حياتها العادية.. وأقنعها ان المكان هنا له تقاليده التى يجب احترامها.. وحمدت ربها بحق انها اقتنعت..
اخرجها نبيل من شرودها عندما قال متبسما:- تصور يا حاچ ندى تبجى طالبة عندى فى الچامعة.. وانا معرفش انها بت عمى.. !؟..
أمسكت ندى ضحكاتها بالكاد وهى تستمع لنبيل يتحدث للمرة الاولى باللهجة الصعيدية.. اما ابوه فقد اجابه..
فى تحسر :- معلش يا ولدى.. اللجا نصيب.. والحمد لله ان جه اليوم اللى اشوف فيه اخويا ناچى وبناته عندينا فى النجع.. ده كان حلم بعييييد..
قاطعه ناجى بنبرات متحسرة:- لكن التمن كان غالى يا قدرى ومحدش دفعه الا زهرة بنتى..
انتفضت ندى على ذكر زهرة :- وحشتنى قووووى يا بابا..
عايزة اروح لها.. نفسى أشوفها..
ابتسم عمها فى ود:- هتشوفيها وتجعدى معاها زى ما انتِ عايزة.. بس تلاجيها دلوجت مشغولة معاهم فى السرايا عشان حنة العروسة الليلة..
هللت ندى فى فرحة :- صحيح.. !!؟.. هم هايعملوا حنة والحاجات دى.. نفسها أشوفها قووى..
انفجر الجميع ضاحكا.. ليرد نبيل :- هتشوفيها متقلقيش..
وانا هوديكى لسراية الهوارية بنفسى.. بعد اذن عمى طبعا..
ابتسم الدكتور ناجى :-.. طبعا.. وماله..
دخل حسام فى تلك اللحظة.. فهلل الجميع للعريس الذى رحب بندى قائلا :- شرفتينا يا بت عمى.. ده زهرة هاتفرح كتير بشوفتك.. هتروحى فى الحنة النهاردة تشوفيها والله كتر خيرها تعبناها.. سهام بتجلى الحمل كله عليها..عشان تجديم الفرح اللى حُصل ده..
قاطعه ابوه متسائلا :- المهم جولى كله تمام.. اوضتكم فوج اتوضبت.. وكل الحاجات اللى بعتها عاصم فى مُطرحها..!!؟..
-اه يا حاج كله تمام..
-طب يا ولدى... يتمم لك على خير يا رب ويجعلها جوازة العمر.. أمين..
ليردّد الجمع كله.. أمين..
انتبهت زهرة لبدأ توافد النسوة على القاعة التى خصصتها الحاجة فضيلة لتكون مجتمعهم.. تلك القاعة الكبرى التى تطل على الحديقة.. والقريبة من تلك الحجرة التى احتجزها فيها عاصم ليلة اختطفها.. تتذكر ذلك الان.. وكأنه كان من امد بعيد.. وتسير الان بجوار تلك الغرفة وهى فى طريقها للترحاب بالنسوة حتى تلحق بها الحاجة فضيلة بعد ان تطمئن على الحاج مهران.. فتحت الغرفة فى هدوء وتطلعت الى كل ركن فيها.. وتذكرت كل لحظة مرت بها بين جدرانها.. وتعجبت من تقلب مشاعرها..
ما بين تلك المشاعر التى كانت تفيض بالكراهية والرغبة فى الانتقام ممن جعلها تطأطأ رأسها خجلا امام عائلتها بأسرها.. وما بين مشاعرها الان والتى لا تستطيع ان تصفها الكلمات..فهى عاشقة.. عاشقة حتى النخاع.. مررت كفها على قماش ثوبها الذى يجعلها قطعة من الفتنة والجمال.. وتلك القلادة الرائعة التى تزين جيدها بالورود.. والتى اختارها تيمنا باسمها..
اغلقت الغرفة وأغلقت أبواب الماضى القاتم فهى ستبدأ معه صفحة جديدة من كتاب العشق والسعادة وليذهب الماضى بكل أحقاده غير مأسوف عليه.. تمنت لو انه يراها الان.. لكنه مشغول بالخارج يُعد الدبائح.. ويفرقها.. ويشرف على ترتيب مجلس الرجال..استعداد لكتب الكتاب غدا.. باْذن الله تطلع النسوة اليها عندما دخلت القاعة.. وأعينهم تتفحصها ولسان حالهم يقول.. "والله وعرفت تختار يا عاصم " هكذا قرأت فى نظراتهم.. التى كانت ما بين استحسان وغيرة..
وخاصة زوج العيون الذى يطل عليها الان يتفحصها من قمة رأسها حتى اخمص قدميها.. عيون سمية التى هبت تظهر المحبة الزائفة كالمعتاد..
وصلت العروس اخيراً مع امها الحاجة فضيلة لتضج القاعة بالزغاريد من كل صوب وجهة.. لتبدأ النسوة مجاملات من نوع مختلف.. مجاملات تدفع كل منهن لتتوسط القاعة وتأخذ فى وصلة من الرقص المحموم على دقات الطبول.. والاغانى الفلكلورية المعتادة فى مثل تلك الليلة..والتى بدأتها احدى النسوة هاتفة فى حماسة.. لترد عليها باقى النسوة:- هو اللى جانا لوحده.. ومحدش فينا راحله..
يا واد مين نجهالك... عمك ولا خالك..
يا بت مالك خسيتى.. وانت ولا رحتى ولا جيتى..
يا بت تكونى حبيتى.. وماله الهوا ماله.. ماله الهوا ماله..
لا تقولى بوسى ولا نورا.. عروستنا حلوة وامورة..
وماله الهوا مااااله.. ماله الهوااا مااااله..
لتتبادل النسوة الأدوار فى منتصف القاعة.. تظهر كل منهما فرحتها بإهداء رقصة الى العروس الجميلة.. حتى رنت من سمية نظرة الى زهرة.. التى كان وجهها ينطق بالسعادة وهى تصفق فى نشوة.. لتقطع سمية عليها سعادتها.. وتجذبها فجأة الى وسط القاعة.. تعطيها فرصتها فى مجاملة العروس.. لكن لم يكن هذا قصدها بالطبع.. بل كان المقصود إحراجها.. شعرت زهرة بالتيه وهى تقف فى منتصف القاعة وجميع النسوة ينظرن اليها متفرسات..
هى ابدا لم تعتد ان تتمايل امام احد هكذا.. نظرت تجاه الحاجة فضيلة تطلب منها العون.. فوجدتها تبتسم لها مشجعة.. لتدع جسدها يعبر عن فرحته منتشياً.
كان عاصم فى الخارج.. يحضر لمجلس الرجال فى الجانب الاخر من السراىّ.. لكن العمال وضعوا اغراضهم فى غرفة الغلال..بجوار قاعة الحريم.. وهو قد امر الجميع
عمال وغفر بعدم الاقتراب من تلك القاعة.. فكيف سيدخل احدهم لجلب الأغراض..!!؟؟
حاول البحث عن ام سعيد.. لكنها بالداخل تقوم بالخدمة على مجلس الحريم..
لم يكن هناك حل الا دخوله خلسة وبسرعة لجلب الأغراض..دخل مطأطأ الرأس.. يتعجل المسير حتى غرفة الأدوات التى يحتاجها حملها فى عجالة مندفعا للخارج لكنه سمع إحداهن تنادى باسمها.. انه صوت سمية ابنة عمه:ما لها وزهرة !!؟... شعر بالقلق ولكن من خلال تلك النافذة المطلة على القاعة.. والتى تتشكل على هيئة الاربيسك وقعت عيناه عليها... على زهرته.. تسمر فى مكانه ولم يستطع الإتيان باى حركة.. نظراته معلقة بتلك الحورية الرقيقة التى تتمايل فى اغراء بثوبها الاسود الأبنوسى ليقفز قلبه من صدره مع كل خطوة تخطوها..
مشدوهاً وقف.. مشدودا كمغناطيس لا يستطيع ان يحمل اغراضه ويرحل دون ان يمتع ناظريه بتلك الزهرة التى خلبت لبه وهى تتمايل على أغصانها..انه يشعر انها الان
ترقص بمداخل أوردته وشرايينه... تتمايل على دقات قلبه التى أصبحت تعلو على طبول العرس.. وهل هناك عرسا اكثر فرحا وصخبا.. من ذاك المقام بين جنبات صدره لمرآها... !!؟...
ترك الأدوات التى كان يحملها جانباً وعادت عيناه تتعلق بتلك الرائعة بالثوب الاسود والتى لاتزل تتمايل وبدأ يشعر بوخز الغيرة يدب بقلبه عندما طالع نظرات النساء المحيطين بها.. والتى كانت تشع استحساناً وغبطة وود لو اقتحم القاعة ليجذبها بعيداً عن تلك النظرات.
انتفض فى قوة.. عندما طالعه صوت ام سعيد منتشلا إياه من بحور نشوته.. :- خير يا عاصم بيه.. فى حاچة..!؟
هتف مدارياً إحراجه متصنعاً الغضب بصوت خفيض:- كنتى فين..!؟.. ناديت تجيبى الحاجة مردتيش اضطريت ادخل لحالى أچيبها.. وتطلع حوله يبحث عن تلك الأدوات التى القاها جانباً عندما أختطفته الحورية الى عالمها..
واخيرا وجدها.. فألتقطها ورحل بعيداً.. مندفعا خارج السراىّ.. لكن صورة زهرته المتمايلة لم يفارق مخيلته.
صرخت زهرة فى فرحة عندما طالعتها ندى تقف على باب القاعة فى حيرة والجميع ينظر اليها فى تعجب..
فاندفعت تحتضن كل منهما الاخرى فى شوق حقيقى.. واخيرا تجذب زهرة ندى من يدها تعرفها على الحاجة فضيلة التى استقبلتها فى احترام يخلو من الحرارة.. وشكرتها سهام كثيرا على حضورها وتحملها مشقة السفر من اجل زفافها.. ابتسمت ندى فى ود للجميع.. وسريعا اندمجت فى جو السعادة والنشوة المنبعث من تلك القاعة..
حتى ان النسوة زادت حماستهن عندما أعلنت الحاجة فضيلة رغبتها فى الانضمام لمن وهبت العروس الفرحة فى تلك الليلة.. الليلة الاخيرة للعروس ببيت ابيها قبل انتقالها لبيت زوجها فى اليوم التالى.. بعد عقد القران..
وتقازفت النسوة الزغاريد المنتشية عندما نهضت الحاجة فضيلة لتتوسط القاعة.. حتى ان سهام طفقت عيناها بدموع الفرحة عندما وجدت امها و التى لم تقدم على تلك الفعلة ابدا فى حياتها ولكن ها هى تفعل رغبة فى اسعادها..
وبدأت الحاجة فضيلة فى التمايل.. بتلك الرقصة المعروفة فى الصعيد باسم.." الحروبى"... والتى يستخدم فيها النساء الجزء الأسفل من أجسادهن بإيقاع محدد على الموسيقى.. وما ان بدأت الحاجة فضيلة فى تمايلها حتى أشعلت حماس كل نسوة القاعة اللاتي يماثلونها فى العمر.. ليندفعن مشاركات إياها.. لتشتعل القاعة ضحكات وزغاريد..حتى ان ندى اخذتها الحماسة.. فشاركتهن فى نشوة..
اندفعت زهرة خارج القاعة.. لإحضار المزيد من العصائر والمرطبات للنسوة القابعات فى القاعة.. بعد ان انهكتهن حمى الرقص المستعر بالداخل.. لحقت بها سمية فى اصرار وعلى الرغم من محاولة زهرة أثناءها عن اللحاق بها لتساعدها كما تدعى.. الا انها اصرت بشكل عجيب على مرافقتها لتلحق بها الى المطبخ.. تتطلع الى زهرة فى غيرة وهى تراها تتسيد السراىّ بهذا الشكل.. ومرحب بها طبعاً فهى ابنة الغالية التى يرغب فى رضاها الجميع إرضاءاً للحاجة فضيلة..
تنبهت لتلك الحقيقة.. وان زهرة لاتزل تجهل بها فقررت نشر سمومها وهى تقول :- انا شايفة الكل بيعاملك احسن معاملة على خلاف ماهو مفروض يعنى واولهم الحاجة فضيلة ذات نفسها واللى سممت عجل ولدها من ناحيتكم.. مش غريبة دى..!؟؟..
كان ذاك دوما هو السؤال الذى حير زهرة والذى لم تجد الإجابة عليه أبداً.. فهى بنفسها قد شعرت بفارق فى التعامل فى مرحلة ما.. وتسألت عن السبب..لكنها لم تتوصل اليه.
شعرت سمية انها اجتذبت انتباه زهرة على الرغم من محاولة زهرة إظهار عكس ذلك.. فتمادت قائلة.:- الظاهر انك لِسَّه متعرفيش..!!؟. هم ناويين يجلولك ميتا.. !!؟.. اصل دى حاچة متداراش..!؟..
نجحت سمية الان فى جذب انتباه زهرة كلياً :- حاجة ايه اللى مدارية..!؟.. انتى بتتكلمى عن ايه..!؟..
ردت سمية راغبة فى زيادة فضول زهرة :- انت متعرفيش انت تبجى ايه للهوارية..!؟..
-واضح انك خرفتى.. انا تهامية.. وماليش اى علاقة بالهوارية.. قالت زهرة فى حنق.. وهى تندفع لتخرج من المطبخ حاملة الصينية بماعليها من مشروبات.. لتوقفها سمية معترضة طريقها هاتفة :- اجولك انا ايه علاقتك بالهوارية.. انتى منيهم.. دمهم بيچرى فى دمك لأن امك الحجيجية هى فاطنة.. اخت الحاجة فضيلة.. اللى هربت مع ناجى التهامى.. ابوكى يا داكتورة.. صمتت قليلا بعد ان حقنت سمومها فى شرايين و أوردة زهرة.. التى وقفت مشدوهة لا تستطيع حراكاً..
عيناها مسمرة على سمية التى شعرت بنشوة النصر اخيراً.. فتمادت بكل حقارة هامسة بالقرب منها.. وبنبرة تقطر غلاً... عرفتى ليه بيعملوكى ولا الأميرة.. لولا كده... لكان زمانك بتتعاملى اجل من ام سعيد.. مجرد واحدة من التهامية.. خطفها عاصم واد عمى عشان يبرد نار امه الجايدة فى صدرها من يوم ابوكى ما هرب مع اختها..
وبتردهاله فى بته اللى كانت فاكرة انها بنت الداكتور ناجى من مرته التانية.. لكن اكتشفت انها بت الغالية اختها.. فانعكست الآية.. وبدل ما تنتجم منيها.. بجت حطاها فى عينيها وبتوصى ولدها عليها يعاملها ولا البرنسيسة.. امال ايه.. معلوم.. مش من دمهم ولحمهم..ربتت سمية بغل على كتف زهرة وهى تهمس كحية رقطاء..فوجى يا بت الناس.. لتكونى مفكرة ان عاصم بيحبك.. عاصم ملوش جلب... عاصم ميعرفش يحب.. عاصم غول... عمر كان للغول جلب..!؟..
ثم ابتسمت فى انتصار لوجه زهرة الذى اضحى يحاكى وجوه الموتى شحوباً وهى تقول.:- انا خلصت زمتى من ربنا وجلت لكِ.. وانت وعجلك تصطفلى..
لترحل سمية مبتعدة تجاه القاعة.. وقد ارتعشت يد زهرة بحملها.. لتسقط الصينية بما تحمله من كؤوس مهشمة على الارض فى قوة.. ومندفعة فى كل أتجاه...
لتهتف ام سعيد التى جاءت على صوت الارتطام :- اسم الله عليكى يا بتى حصل خير.. اطلعى ارتاحى.. النسوان كلهم مشوا وحتى اختك.. واد عمك جه خدها.. اطلعى يا بتى..
وكانما كانت تنتظر هذا الامر لتندفع زهرة فى قوة تصعد الدرج فى ثورة مدفوعة بمشاعرها المحترقة ذاتيا تلتهب عينيها بدموع محبوسة تأبى الانحدار.. وقلبها يغلى كمرجل.. دخلت الغرفة.. تروح وتجئ فيها من شرقها لغربها.. كغزال جريح.. يؤلمها جرحها حد الوجع..وتأبى بكل انفة وكبرياء الاعتراف به.. ينزف جرحها حد الموت قهرا.. وتتجاهل سيل الدماء الساخنة.. عزةً...
انها تموت.. هكذا شعرت.. أهكذا هو الموت.؟؟!..
روحها تغادرها مقهورة فتشعر بخواء يجمد اطرافها ويدفعها لترتعش لاأراديا..
انها لا شئ..واخذت تسأل.. كالممسوسة... انه يريدها..!؟؟... نعم... هل يحبها..!؟؟.. لا.. بدأت تشك فى كل ما كانت على ايمان مطلق به منذ ساعات...
انها لم تكن تمثل لعاصم سوى وسيلة انتقام والتى اكتشف فجأة.. انها ابنة خالته.. تلك الغالية.. التى يجب ان يحسّن معاملتها ويدللها اكراماً لأمه... مما يعنى انها من بداية القصة وحتى نهايتها.. ما هى الا وسيلة لارضاء امه... لكن.. أين هى من كل هذا..!؟...
أين قلبها ومشاعرها التى تلاعب بها..!!؟؟..
أين حق روحها التى تعلقت به حد الوجع.. !!؟...
أين هى من كل حساباته... !!؟..
أين انا من قلبه..!!؟..
وهنا طفقت الدموع من عينيها اخيرا.. لتشهق بالم يمزق روحها المحتضرة بين جنباتها.. بكت كما لم تبك من قبل بكت حتى جفت دموعها وتحجرت مأقيها.. اصبحت نظراتها رخامية خاوية من اى روح.. نهضت فى عزم للحمام.. غسلت وجهها.. وقررت.. ان الليلة هى اخر ليلة لها هنا.. فى سراىّ الخزلان والقهر.. لم يعد لها مكان بها.. فقد اكتفت بهذا القدر من الالم ومن الدموع.. وانتفضت عندما شعرت بباب الغرفة يُفتح... كان ملهوفاً يبحث عنها بنظراته يدفعه شوقه اليها.. يتمنى لو يدثرها بعينيه.. ويطويها بصدره.. انها له... دوما كانت.. منذ اللحظة التى التقطها فيها بين ذراعيه فى المزرعة..
وحتى اخر العمر ستكون.. انه يحبها بل يعشقها ويتمناها.. يأنس لقربها ويستوحش فراقها.. ان روحه معلقة بها لا يعرف كيف..!؟.. لكنه لا يشعر براحة الا وهو معها تطالعه بنظراتها الحانية وتدثره بفيض من حنانها ورقتها..
ظهرت فجأة من الحمام..تحاول مدارة وجهها قدر استطاعتها..تستجمع شجاعتها لمواجهته.. بدافع من قلبها المجروح.. وروحها العليلة..وعقلها اللائم..
اندفع اليها فى لهفة يضع كفه على كتفها ليديرها لتواجهه.. لكنها قالت فجأة وبلهجة تحذيرية جعلته يجفل :- ارفع ايدك بعيد عنى... ومتفكرش تلمسنى تانى..
تسمرت يديه على كتفها لحظات فى صدمة.. واخيرا تنبه.. فابتعدت يديه كالمصعوق وهتف هو متعجباً :- ايه اللى حُصل..!!؟..
ردت فى برود وهى لا تُزل مولية ظهرها غير راغبة فى التطلع اليه :- محصلش حاجة خااالص.. هيكون حصل ايه يعنى..!؟.. انا فكرت وقررت اننا مش هاينفع نكمل مع بعض.. وأننا لازم ننفصل..
هنا لم يستطع الصبر اكثر من هذا.. ليجبرها على الاستدارة والتطلع اليه.. ليواجهه عينيها الحمراوين من اثر البكاء.. ووجها الشاحب.. فيهتف ملتاعاً :- كنتى بتبكى..!؟.. ليصمت لحظات وهو يتطلع لملامحها المقهورة ألماً.. ايه اللى جرى لكل ده..!؟... فى ايه فهمينى..!؟..
ردت ببرود:- قلت لك محصلش حاجة.. انا شايفة ان ده الصح.. واللى المفروض كان يحصل من زمان.. احنا عمرنا ما كنّا لبعض.. ولا هنكون..
فهتف بغضب ترتفع وتيرته وهو يهزها من كتفيها لعله يفيقها من ذاك الكابوس الذى يعايشه حيّا فى تلك اللحظة :-فجأة كده
عايزة تفوتينى وتروحى !!؟.. فجأة كده.. خدتى بالك اننا مننفعش لبعض.. ولا عمرنا كنّا لبعض..!!؟..المفروض انى اصدج الكلام ده.. فى ايه..!!؟..
هتفت محاولة كتمان ذاك الالم الذى يعصف بها :- قلت لك مفيش..
ليصرخ هو مجدداً وهو ينظرلعينيها الرخامية النظرة والتى لم يستطع ان يثبر أغوارها :- انتِ مين..!؟.. انت مش زهرة..!؟.. زهرة اللى كانت من كام يوم بين درعاتى طايعة وراضية.. مش ممكن تكونى هى..!؟.. انتى مين..!؟.. صرخ بسؤاله الاخير فى لوعة..
لتهتف هى صارخة:- انا بنت خالتك.. يا عاصم بيه..
فأبعد كفيه عن كتفيها منتفضاً كالمصعوق ليصمت لحظات قبل ان يهتف متسائلا:- مين جالك..!؟ أبوكى..!؟..
قهقهت بهستيرية تعكس مدى الوجع الذى يتشعب بروحها ويسكن اعماق قلبها :- مفيش فايدة... لِسَّه بكرهك وحقدك القديم... اى مصيبة او قصة مش على هواك يبقى التهامية هم السبب فيها..مش كده..!!؟؟... وخاصة طبعا بابا.. اللى حرمته من انه يحط ايده فى ايد عريس بنته زى كل اب هتف فى غضب هادر :- انتى مش فاهمة حاجة..!؟..
قالت فى برود :- ولا عايزة افهم اى حاجة.. انا عيزاكوا تسيبونى فى حالى.. تعتقونى لوجه الله.. وتطلقنى..
بهت لونه.. عندما رنت الكلمة الاخيرة فى مسامعه ليعاود إمساكه بكتفيها من جديد.. يرجها رجا بعنف :- ايه..!؟. فى ايه..!؟.. انتِ جبتى منين الجسوة دى..!!؟؟
-ده الدم الهوارى اللى فى عروقى.. قالتها فى سخرية... مش انا طلعت قريبة الغول..!!!.. وعادت لضحكاتها الهيستيرية.. عرفت القسوة جبتها منين..!!..
تطلع اليها فى حيرة واضطراب وهتف اخيراً محاولاً إقناعها قدر استطاعته بحبه لها دون ان ينطقها لعله يغير من منطقها وتظل باقية :-انا عملت كل اللى يرضيكى ويسعدك.. حاولت على كد ما جدرت انى مجساش عليكى.. وأفتكر..
قاطعته فى غضب محموم :- وتفتكر ان انا بنت خالتك.. ولازم اتشال على كفوف الراحة.. عشان انا بنت الغالية.. لكن انا زهرة... بنت الدكتور ناجى التهامى.. عمرها ما كانت هى الغالية فى نظرك.. زهرة.. اللى كنت بتناديها باسم إبوها وكأنه سبة.. زهرة اللى استحملت اللى أتعمل فيها من خطف وإهانة عشان تحمى ابوها واهلها منك ومن جبروتك...
وتحشرج صوتها متأثراً.. وهى تنطق بصوت خفيض غلبه الوجع :- زهرة دى.. مش هى اللى غالية يا عاصم.. مش هى اللى عملت كل حاجة عشان ترضيها.. مش هى اللى كنت تتمنى تبقى مبسوطة.. مش هى يا عاصم.. أسأل نفسك انا لو فضلت بس بنت الدكتور ناجى ومكنتش اكتشفت انى بنت خالتك كنت هاتعمل كل ده عشان خاطرى... مظنش..!!؟..
كان يقف مشدوهاً.. امام سيل كلماتها المدوية.. لا يعرف لما لم يتكلم..!!؟.. لما لم يدافع عن نفسه..!!؟؟.. لما لم يبرر الكثير من الأفعال..!!؟؟... واخيرا.. لما لم يبلغها ان ابيها هو من طلب عدم كشف الحقيقة لها الا بمعرفته هو..؟!.
لما لم يتحرك..ليخبرها بانه احبها من قبل حتى ان يكتشف بأنها ابنة خالته.. !؟؟..
لم يجد اجابة تريحه لكل تلك الأسئلة.. فوقف ينظر اليها فى ألم غير قادر على تكذيب حرف واحد مما قالت...
مما دفعها لتكمل قذف حممها:- زهرة التى كنت عايزها.. راضية وطايعة بين درعاتك معدتش موجودة.. اللى موجودة قدامك دلوقتى زهرة تانية خاالص.. زهرة ام قلب قاسى.. زهرة اللى عايزة تفتح عينيها تلاقى نفسها بعيدة عن النجع ده باللى فيه.. يمكن لو بعدت..
تعرف ترجع لنفسها تانى..
نظر اليها نظرات مبهمة لم تستطع تفسيرها.. وتسمر فى مكانه للحظات تتأكله الرغبة فى قتلها..
تارة عشقاً.. وتارة غضبا...
قبل ان يندفع كالسهم باتجاه الباب..
ليخرج مغلقا الباب خلفه فى غضب هادر..