رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل السادس
التربية الصالحة تعكس مدي أخلاقك، تكون كالزهرة المشرقة يحبها الجميع، لكن إذا كانت التربية طالحة، تُصبح شبيهة بأشواك تلك الزهرة المشرقة، فالزهرة لها جانبان، وعليك أنت الإختيار فإما أن تكون صالح، أو طالح.
صعد خليل ل شقته وخلفه ولده أحمد، كانت تعابيره قلقة للغاية، خاصةً بعد حديث والده الغامض معه، استشعر بأنه ل ربما عَلِم بعمله الغير أخلاقي، فازداد التوتر على ملامح وجهه أكثر، إذا حدث ما يُفكر به سيكون آخر يوم له هنا بالمنزل، فوالده ورغم حنانه، صارم للغاية، لا يقبل بالخطأ خاصةً وإن كان خطأه كبير، وهو يعلم لذلك، وكم من مرة شعر بحقارته، لكنه يعود لذات النقطة من جديد، يريد أن يتغير بسبب تلك الملاك، تسبيح معذبة قلبه، هي تحتاج لرجل نظيف، لذلك سيُجاهد ذاته على ذلك.
جلس خليل على مقعد الأريكة، فجلس بالمقعد الذي جواره أحمد، نظر خليل لولده بصرامة، ثم تحدث هاتفًا: شكلك مش عاجبني اليومين دول. بتخرج وتيجي آخر الليل على مزاجك ولا كأن ليك بيت ولا أهل يلموك، في إيه يا أحمد!
ابتلع أحمد ريقه بتوتر، لا يعلم بما يُجيبه، لكنه ادَّعي الثبات وهو يقول: مفيش حاجة يا بابا. الشغل بس هو اللي كتير اليومين دول.
نظرات الشك التي يرميها له كانت تُقلقه أكثر، تمني أن يهرب لغرفته الآن قبل أن يُكشف أمره أم والده، وكأن والده استجاب لذلك، فأعطاه الأمر للذهاب، ليُلبي له أحمد على الفور مُنطلقًا لغرفته على الفور، نظر خليل لأثره بريبة، وقلبه يُكذِب حديث الآخر، تمتم بقلق وهو يضغط على جانب الأريكة: يا تري مخبي إيه يا أحمد!
إعتَزِل مَا يخْدشُ دِينَك
وَلاَ تَلتَفِت لِأَحَد.
الآن هما أمام خياران لا ثالث لهما، إما الموت أو الموت!
ابتلع ريان ريقه وهو ينظر للذئب الذي يسيل لعابه بشراهة، يبدو بأنهم سيكونان طعامًا لأحدهم تلك الليلة، ضربت غزل على ذراعه بقوة وهي تصرخ به بفزع: اعمل حاجة واتصرف.
لطم على وجهه وهو يولول كالنساء، مجيبًا إياها: أعمل إيه، أعمل إيه!
اصطكت أسنان غزل بخوف، وزاد الهلع بهم عندما رأوا الذئب يقترب إليهم رويدًا رويدًا، مُصدرًا زئيرًا عالي من فمه، تحدث ريان تزامنًا مع رجوعهم للخلف: أنا لسه صغير ومشوفتش من الدنيا حلاوتها!
اغتاظت منه وودت حقًا لو تُقدمه للذئب ك وجبة أساسية، لكن تلك الأصفاد اللعينة تمنعها عن ذلك، وصلوا إلى الحائط فلم يبقى أمامهم مفر، فالموت هو نهايتهم، وعن أي نهاية يتحدثون! نهاية مآساوية.
أغمض ريان عينه منتظرًا مصيره ناطقًا الشهادة، لتفعل غزل مثله وهي ترتعش من الخوف، مرت ثلاث ثواني واستمعوا إلى صوت عالي أعقبه صوت صراخهم، فتحوا أعينهم بفزع ليروا ذلك الذئب يقع صريعًا، غارقًا بدمائه، وأمام يقف رجل يرتدي جلباب طويل، وعلى رأسه ما يُسمي ب العِمة، وممسكًا بيده بندقية كبيرة مدببة، من هيئته يبدو أنه من البدو الماكثين بتلك المنطقة، وجه البندقية نحوهم وهو يقول بغلظة: انتوا مين! وجيتوا إهني كيف!
وبدلًا من الخوف، تشكلت ابتسامة بلهاء بالنسبة للرجل على ثغر ريان، ذهب تجاهه مُبعدًا فوهة البندقية عن جسده، ثم احتضنه بسعادة وقوة، تعجب الآخر من هذا الغبي وحاول أن يُبعده لكنه كالأحمق تمامًا يُشدد من إحتضانه أكثر، تمتم بفرحة حقيقة: انت. انت أنقذت حياتنا والله. كنا هنبقي وجبة لذيذة للديابة هنا.
طفح كيل الرجل، ليدفعه بعيدًا عنه وهو يصرخ به: ابعد عن خلجتي يا غبي انت، هو رمي جتت وخلاص!
تجعد جبين ريان بإنزعاج، لما يصرخ به بهذا الشكل! أفعل شيئًا هو!
بينما غزل كانت تكتم ضحكتها بصعوبة، رغم أن ريان يبدو ك رجل ناضج وكبير، إلا أنه يمتلك حِث طفولي مُحبب للجميع، تركزت أنظارها على البندقية التي رفعها الرجل مرة أخري عندنا هَم ريان بإحتضانه مجددًا.
صرخ به الرجل بنفاذ صبر مصوبًا سلاحه تجاه ريان وهو يقول آمرًا إياه بضجر: ابعد بدال ما اطخك عيارين في نفوخك، امشي جدامي وانت والولية اللي معاك دي أوديك لَكبيرنا.
استشاطت غزل من نعتها ب «ولية»، فصرخت به وهي تُلوِّح بيدها أمام وجهه، واليد الآخري مكبلة بيد ريان: ولولوا عليك ساعة وانفضوا يا بعيد، إيه ولية دي!
ابتلع ريان ريقه بخوف وهو يري ملامح وجه الآخر المُتهجمة، ليُصيح بها: بس يخربيت معرفتك هيقتلنا. هيقتلنا.
كادت أن تُربع يديها، فإرتفعت يده معها تلقائيًا، سخر منها وهو يجذب يده قائلًا: متتقمصيش الدور أوي، متنسيش في فيه حِتة مني مربوطة بيكِ.
صاح بهم الرجل بقوة متشدقًا بحدة: يلا جدامي من غير حِس.
مشوا أمامه وهو خلفهم مصوبًا سلاحه لهم حتى وصلوا بعد وقت ليس بالقليل، كان هناك العديد من الخيم ورجال مسلحون نفس هيئة الرجل، وللحق مظهرهم مُفزع، ابتلعا ريقهما بخوف حتى وقفا أمام رجل آخر يبدو من مظهره بأنه كبيرهم، كان جالسًا على مقعد خشبي متهالك، ينفث دخان نارجيلته من فمه، نظر لهم نظرة شمولية سريعة، ثم وضع ما بيده جانبًا، ليقف أمامهم فيظهر طوله الفارع، همس ريان لنفسه وهو يرفع رأسه ليري وجهه المُلتحي بشارب كبير: وأنا اللي بقول عليا طويل! أتاري فيه طور واقف قدامي.
خرج صوت الرجل غليظًا مُخيفًا بعض الشئ وهو يتسائل: انتوا مين وجايين هنا ليه!
ليُجيب مساعده بدلًا عنه قائلًا بشك: شكلهم حكومة يا معلم ودا كمين.
عنفه ريان بصراخ وهو يُدافع: اسكت يخربيتك. والله ما حصل يا معلم، احنا أصلًا هربانين.
ضربت غزل رأسها من هذا الغبي، لقد أوقع بهم بسبب بلاهته، جزت على أسنانها بغيظ شديد، لتضربه على زراعه بقوة وهي تهمس له: انت إيه اللي عملته دا هتودينا في داهية منك لله.
ادرك خطأه فأغمض عينه بحسرة، نظر لجميع الرجال فوجدهم ينظرون إليه بملامح مُبهمة، ليُصحح لهم ببلاهة: قصدي هربانين من عيلتنا. انت عارف الحب بقا، بيصنع المعجزات.
لكن قد فات الأوان، فالجميع اكتشفوا خدعته وما عليه الآن سوي الإعتراف، أمسكه كبيرهم من ياقته ثم هزه متحدثًا بسوقية: انت مفكرني أهبل ولا عيل بريالة يلا! أومال الكلبش اللي في إيدك دا إيه! بتلعبوا عسكر وحرامية!
ابتلعا ريقهما بخوف، يبدو انه سيقوم بتسليهم للشرطة، سبَّت غزل ذلك الأبله داخلها، يبدو إنه جلاَّب للمصائب، أجلس الرجل ريان على المقعد وبجانبه غزل، ثم تحدث بحسم: تحكيلي كل حاجة دلوقتي، وانتوا مين وجايين ليه. يا إما قسمًا عظمًا اقتلكم وأرميكم للديابة وانتوا وحظكوا.
تهديده كان واضح وصريح ولا يوجد به أي نبرة مزاح، لذلك بدأ بقص كل ما حدث لهم والظلم الذي عانوه، وتلك القضية التي حُبِّكت ببراعة، انتهي مُنتظرًا ردة فعلهم، لم يجد الجواب لعدة دقائق قليلة، بل كانوا ينظرون لهم وكأنهم حقًا مُجرمين، تلك المرة دافعت غزل قائلة: احنا والله مظلومين، فكرة الهروب مكنتش في دماغنا خالص، بس ربنا سهلها من عنده عشان عارف إن احنا ضحية مؤامرة حقيرة، وهنثبت برائتنا مهما كان التمن.
حكَّ كبيرهم زقنه بتفكير، وتحولت تعابيره من المتهجمة إلى البشاشة، أوقف ريان ثم قال بإبتسامة خفيفة بيَّنت نواجزه: شكلكم صادقين، وصدق اللي قال ياما في الحبس مظاليم، أنا هسيبكم تمشوا، وفي أي وقت إحتاجتونا احنا في الخدمة، احنا هنا مطاريد الجبل، بنساعد أي حد مش انتوا بس، بس كان لازم نبينلكوا الوش الخشب عشان نعرف انتوا حكومة ولا لأ.
انهي حديثه ثم مد يده ل ريان ثم اردف بود: معاك أخوك موسى، لو عوزت أي حاجة أنا في الخدمة.
بادله ريان المصافحة، وارتسمت على ملامحه الإرتياح، متحدثًا: وأنا ريان.
صمت قليلًا ثم تشدق بمزاح: بس إيه جو ذئاب الجبل دا، لأ ممثلين شاطرين.
ضحك موسى وشاركه رجاله في ذلك، ثم تنهد وهو يقول بقلة حيلة: دا اللي لازم نعمله عشان نعرف نعيش.
كان حديثه غامض به لمحة من الحزن، راقب ريان تعابيره، ليسائل بفضول رغمًا عنه: مش فاهم. وبعدين انت إيه اللي رماك في الجبل كدا!
ربت موسى على كتفه مُنهيًا الحديث: دا كلام يطول شرحه، لو شاء القدر واتقابلنا تاني هبقي احكيلك لما تزهق.
أومأ له ريان بعدم إقتناع، ليستمع بعدها إلى صوت موسى وهو يأمر أحد رجاله: وصلهم لحد ما يخرجوا من الجبل خالص، وارجع عشان البوليس ميشمش خبر.
هز الآخر رأسه بالإيجاب، ثم اصطحب ريان و غزل معه، مر نصف ساعة وكلاهما يسيران على الرمال المتشبعة ببرودة الشتاء، وكلاهما يُفكر في حديث موسى الغامض، رغم أنه لم يمر على معرفته سوى بضعة سويعات، إلا أنه أثار حفيظتهم، رجل غامض، شجاع، وسيم، وتلك هي الحقيقة، رجل في ريعان شبابه لما يهرب من العدالة! يبدو أن خلفه سر كبير.
وصلوا إلى الطريق العام، وكان مُفرَّغ من المارة والسيارات، أشار لهم الرجل إلى الطريق المفترض السير به، ثم تحدث قائلًا بلهجته الصعيدية: إجده يبجي تومام، هتمشوا طوالي لغاية ما تلاجوا نفسيكم بجيتم وسط الخلج.
شكره ريان بإمتنان ثم ودَّعه، ليعود الرجل من حيثُ أتى، ثم سار بالطريق الخالي وبجانبه غزل رافعة الأصفاد الحديدية المُكبلة بها يديهم وهي تقول بتأفف: عايزين نشوف أي حد يفكلنا البتاع دي. خلي كل واحد فينا يروح لحاله.
نفي برأسه على حديثها وهو يقول تلقائيًا وبدون وعي: لا أحنا نصيبنا اتكتب ببعض ومينفعش نبعد.
كلمات بسيطة خرجت من فمه ولكن تأثيرها مُهلك، لربما حدث ما حدث ليجتمعوا سويًا، تلك الأصفاد هي القلوب، تتقارب وتتباعد ولكن تظل قريبة، إذا حاول أحدهم الإفلات يكون للآخر رد فعل مختلف.
ربما تتباعد الأجساد، لكن القلوب تظل متعانقة.
انظر لمَن مَلك الدنيا بأجمعها،
هل راح منها بغير القطنِ والكفنِ؟
هبط فارس لمنزل عمه الأكبر بعد تشاجره الأخير مع زهر، لم يكن يظن بأنها ستُفكر بذلك، تعلم أن ريان هو الأخ والصديق، أتطلب منه أن يتركه في محنته! لكن مهلًا فارس فهي مُحقة! لُما ذلك الرد العنيف إذًا، زفر بضيق واتجه نحو غرفة مدثر، ظنه نائمًا ففتح الباب على مهل ليشهق من المفاجأة.
ضرب فارس على صدره مُردفًا بصدمة: يا مصيبتك وشرفك اللي بقا في الأرض يا فارس.
كانت ردة فعل مناسبة لما رآه، ابنته المصونة المُبجلة تحتضن مدثر بل وتُربت على ظهره تخفيفًا لألمه! أين كان هو لينشغل عن تربيتها بحق الله!
يبدو أن الصدمة قد شلته ولم يستطيع التحدث أو الحراك، وقف يستمع إلى حديث لوجي المواسي وهي تقول بحزن: متزعلش يا مدثر، عمو ريان هيرجع تاني زي ما بابي قال.
كرر فارس الكلمة خلفها بوجه متشنج: بابي!
استطردت حديثها متشدقة بحزن لعدم تفاعل الآخر معها: مش بحب أشوفك بتعيط. وحياتي عندك ما تزعل.
رفع مدثر عيناه الباكية إلى لوچي التي تُطالعه بحزن، ثم مسح دمعاته، لتُبادر لوچي مرة ثانية بإحتضانه بلا خجل، عند تلك اللحظة صاح فارس بإنفعال: أعمل في تربية اللي خلفوكي إيه!
فزعا كليهما لتخرج لوچي من أحضان مدثر، رأت والدها يقف على أعتاب الباب الخشبي وكادت أذنيه أن تُخرجا النيران من الغضب، جعدت جبينها بغضب طفولي ثم تأففت قائلة: حد يدخل على حد بالطريقة دي! مش فيه حاجة أسمها باب يا بابي!
شمر فارس ساعديه ناظرًا لكليهما بشر حقيقي، رآه مدثر بتلك الحالة ليبتلع ريقه بتوتر ثم برر قائلًا: و. والله يا عمو فارس. ل. لوچي هي اللي حضتنتي المرة دي مش أنا.
غلت الدماء بعروقه وهو يصرخ بهم: المرة دي! ليه هو فيه مرات تانية غير دي! بتستغفلوني!
حاول ضبط أعصابه، ليُشير إلى لوچي للصعود إلى الأعلي وترك الغرفة في الحال، لتنفخ بغيظ وهي تَهب من على الفراش بغضب متجهة للخارج، لتُتمتم بغضب حاملة عروستها بين ذراعيها: يوووه. دي مبقتش عيشة بقااا.
كان فارس يُتابع خروجها بإستنكار، تلك الفتاة أتت تكفيرًا لذنوبه كما يقول دائمًا، وقحة وذو لسان سليط يحتاج لقطعه، استدار ل مدثر الذي استلقي على فراشه مرة أخري مُدعيًا النوم، لوى شفتيه بسخرية واتجه بخطواته نحوه حتى وقف أمامه، جز فارس على أسنانه بغيظ قائلًا بضجر: ريان ميربيش وأنا اللي أشيل الليلة.
استلقي بجانبه فشعر بحزنه، لا يُراوغ كالعادة، يبدو أن ذهاب والده مازال يؤثر عليه، شاكسه وهو يدفعه قليلًا مردفًا بمزاح: اتزحزح يلا شوية عاوز اتخمد.
ابتعد مدثر قليلًا بهدوء ثم أردف بنفس لكنته: اتخمد يا عمو.
سخر منه وهو يلوي شفتيه، قائلًا بفخر مزيف: ونعم التربية يا ضنايا. ونعم التربية يا غالي.
امتد بجانبه وهو يُربت على شعره القصير، ثم مال على رأسه يُقبلها بحنان خالص، رغم ما يحدث بينهم من مشاكسات إلا أنه يعتبره ك ابنه أو أكثر قليلًا، رفع مدثر عيناه الرمادية له يُحدجه بحزن ثم أردف: بابا هيرجع يا عمو!
ربت على ظهره مُجيبًا إياه بثقة: هيرجع يا حبيبي أوعدك.
بضعة كلمات صغيرة بثت الراحة في قلب الصغير، اغمض عينه براحة ثم ذهب في نومٍ عميق، وكأنه كان ينتظر مَن يُطمئنه ببضعة كلمات ليذهب في النوم، وذلك بعد لوچي بالتأكيد.
بردًا وسلامًا على فلسطين،
وشعبها، وجنودها يا الله.
منذُ أن وُلدت والفقر يُلاحقها، تلك الجميلة المخادعة، جلست على أرض غرفتها تأكل ثمرة التفاح بغيظ وحسرة، تتذكر مُحادثة عابد لها صباحًا يُخبرها بإلغاء عمل اليوم لحدوث بغض المشاكل في منزله، كم اعتاظت وقتها لكن لا بأس، الأيام كثيرة والمال سيكون أكثر.
أغمضت عينها بغضب حينما استمعت لشجار والديها الأحمقان، يعيشان فترة مراهقة متأخرة، عقولهم كالأطفال أو أقل قليلًا، وقفت في مكانها تنتوي الذهاب لغرفتها للإختلاء بذاتها بعيدًا عن تلك الحماقات، وما كادت أن تذهب حتى استمعت إلى صوت نداء والدها لها، أغمضت عيناها تحاول السيطرة على أعصابها منهم، ما تلك العائلة بحق الله! يمتلكون من الجنون ما يكفي لشعوبًا قادمة كثيرة.
حسمت وصال أمرها بالذهاب إليهم عند مناداة والدها لها للمرة الثانية، وقفت على أعتاب الغرفة لتُربع ساعديها معًا ببرود وهي تري تلك المشاحنة القائمة بين والداها، حدقت بها والدتها بغضب وهي تسألها بغيظ: وصال هنسألك سؤال وياريت تُردي بصراحة.
خير؟
نطقت بها بضجر، لتجد والدها علي يمسكها من يدها متشدقًا بحنق: مين أحسن واحد فينا، أنا ولا الولية دي!
هل كل تلك المشاجرات والأصوات العالية بسبب ذلك السؤال الأحمق! بالتأكيد هناك سببًا آخر وإلا ستقتل نفسها الآن، لتسألهم بحذر وهي توزع نظراتها عليهم: هو دا السؤال اللي بتتخانقوا عليه من إمبارح! يارب تقولوا لأ.
أومأت لها والدتها مير ت بالإيجاب وهي تتخصر محلها: آه، الراجل دا شايفني قال إيه كبرت وعجزت، يا أخي عيب على شيبتك، دا أنا لسه بنت خمستاشر سنة.
أنهت حديثها وهي تُملِس على شعرها بدلال والذي يدخل به بعض الخصلات البيضاء، لتستطرد حديثها مُتابعة وهي ترمي بحديثها له: دا أنا لولا إنك لسه عايش كان اتقدملي عرسان بعدد شعر راسي.
لوي علي شفتيه بسخرية وهو ينظر لها، ليُجيبها بخفة وهو يمصمص على شفتيه بإستنكار أصابها في مصرع: وهو فين شعرك دا! أومال لو مكنتيش قرعة كنتِ هتعملي فيا إيه!
فتحت مير ت عيناها على آخرهما بصدمة، لتقول بحدة وهي تُشيح بيدها أمام وجهه: مين دي اللي قارعة يا راجل يا خرفان انت!؟
عند هذا الحد ولم تحتمل وصال تلك الألاعيب الصبيانية، لتشد على شعرها بغيظ وهي تصرخ بقلة الحيلة: الصبر من عندك يارب، أعمل إيه فيكم، أحطكم في دار الأيتام وأخلص!
نظر كلاهما لبعضهما بصمت، ثم نظروا لها بملامح متهجمة، ليصيح بها والدها بحدة: بت احترمي نفسك، الظاهر إني اتهاونت في تربيتي ليكِ.
أيدته مير ت في حديثه ثم حدقت ب وصال بنظرات مستحقرة، لتقول: معاك حق واللهِ يا حج، بعد العمر دا كله وتربيتنا ليها هترمينا في دار الأيتام.
وكأن حديثها أثر به ليضع يده على قلبه وهو يقول بتعب وحسرة: هنترمي في دار الأيتام يا أم وصال، ومن مين! من وصال ذات نفسها!
ربتت مير ت على موضع قلبه لتقول بمواساة: متزعلش نفسك يا حج، تعالى معايا عملالك لقمة تُرم بيها عضمك.
اعتدل في وقفته وذهب المرض منه، ليقول لها بمغازلة: طول عمرك أصيلة يأم وصال. يلا بينا يا جميل.
خجلت منه لتسبل عيناها على الأرض من الحرج، استند عليها علي ليتجهوا للخارج، وقبل أن يتركوا الغرفة رموا وصال المنصدمة بنظرات مستنكرة وكأنها هي المذنبة!
تابعت خروجهم بفاهًا مفتوحًا من الصدمة، كيف وماذا حدث ذلك، منذ قليل كادا أن يقتلا بعضهما البعض، والآن هما مثل عصفورين الكناريا! وبالنهاية هي من أخطئت! حسنًا إذا قررت الذهاب من هنا للأبد فليس عليها حرج، ما كان عليها سوى الذهاب لغرفتها بدلًا من الخروج لهما، فمن الممكن أن يجعلاها إرهابية تلك المرة.
أنتَ جاهي واتجاهي يا اللّه، فَدُلّني.
الشعور بالنبذ من أكثر المشاعر ألمًا، لا تجد من تروي له حزنك سوى جدران حجرتك، مرارة الوحدة كالعلقم، ودموع الألم التي تهبط على صفحات وجهك تُشعرك بالحرقة، زهور قلبي ذابلة، ولمعة عيناي انطفئت، أصبح الفتور يغزو أحلامي، والبشر كالذئاب، تجرح ومن ثَم تضحك، وأنا ابتسم وداخلي يصرخ، متي سأجد من يُعانقني حتى أهدأ؟
سلامًا على فؤادٍ يحملُ من الألم أطنانًا، وسلامًا على ضحكة تخرج من بعد بكاءِ الأطلالِ.
مسحت سجود دمعاتها من على وجهها، لم تكن هكذا من قبل، الجميع كان يشهد لها بالمرح، ومازالت كذلك أمامهم، لكن حين تُغلق عليها غرفتها تُخرج مكنونات صدرها وتبكي، تبكي بقوة حتى يغلبها النعاس وتنام، وكم مرة تمنت أن تكون تلك هي الليلة الأخيرة لها.
حاولت سجود ضبط نفسها أكثر، لكن يزيد الوضع سوءًا حين تذكرت حديث أحمد معها اليوم، وكأن العالم لا يكفيه حُزنها، ليأتي أحمد، آخر آمالها ويخذلها هو الآخر.
Flash Back: -
كان الجميع مُنشغل بقضية غزل التي أخذت كل انتباههم، ليذهب كبار العائلة إلى المحكمة الُعليا منتظرين النُطق بالحُكم، حينها استغل أحمد الفرصة للتحدث مع سجود، توترت ملامحها بخجل خاصةً عند ملاحظتها لتلعثمه، ظنت بأنه سيعترف لها بعشقه لها كما تشعر هي تجاهه، لكن بهتت إبتسامتها حين نظر لها مُردفًا: سجود طبعًا انتِ عارفة إني بعتبرك زي أختي صح!
ابتلعت ريقها بصعوبة، وعلمت أن القادم لن يكون سوا مُبشرًا لها، لاحظ صمتها ولم يُلاحظ شحوب وجهها، فشجعه ذلك على الحديث، فإستكمل حديثه قائلًا: عشان كدا عايزة أعرف رأي تسبيح فيا، بما إنك أختها وكدا، بصراحة أنا بحبها أوي، وعندي إستعداد أبيع الدنيا كلها عشانها، وناوي أتقدملها بس عايز أعرف رأيها.
صمت مُنتظرًا حديثها، بينما هي كانت في وادٍ آخر، أحلامها الوردية كانت سراب، ومحبوبها يعشق شقيقتها، الزهور التي روتها في مُخيلتها تحولت إلى أشواك، أشواك سامة تطعن بها بلا رحمة، طال صمتها ليُعيد سؤاله بتوتر ظنًا منه برفضها: ها يا سجود هتساعديني!
ابتلعت مرارة حلقها، لتبتسم ابتسامة شبه متوترة، قائلة: ه. هساعد أكيد يا أحمد. انت برده زي أخويا، هسألها وأعرف رأيها وأقولك.
تهللت أساريره وعادت الدموية لوجهه، التمعت عيناه بسعادة، فعلمت أن الطريق للوصول إلى قلبه بات مستحيلًا، ردد كثيرًا بشكر وإمتنان: بجد شكرًا شكرًا يا سجود. أنا لو عندي أخت مش هتكون بغلاوتك عندي، بجد شكرًا.
ورغمًا عنها آلمها سعادته، لتطلب منه الذهاب قبل أن تضعف أمامه وتنهار باكية، ثم عادت إلى غرفتها أنيسة وحدتها مرة أخري.
Back: -.
أفاقت من تذكرها وهي تمسح دمعاتها، لا تعلم لِما تسلل إليها شعور الغيرة من شقيقتها، دائمًا يتم المقارنة بينها هي وشقيقتها، وبالطبع تفوز تسبيح بتلك المقارنة، هي الأفضل، هي الأجمل، هي المجتهدة، هي الرقيقة، هي الخجولة، هي الأكثر خُلقًا، هي، هي، هي، تسبيح.
وقفت من على الفراش لتقف أمام مرآتها، نظرت لبشرتها السمراء ومظهرها بحسرة، لتُتمتم ببكاء: إشمعنا هي! إشمعنا الكل بيفضلها عليا! ليه الكل بيحطني في مقارنة بيها! ليه هي أحسن مني! ليه مكونش جميلة! ليه أنا وحشة! ليه كل حاجة حلوة بتمناها بتروح مني!
قالت الأخيرة بضعف وهي تشعر بجدران الغرفة تطبق على أنفاسها، احتاجت للهواء لذلك حسمت رأيها بالصعود إلى السطح، ارتدت حجابها واتجهت للأعلي، وقفت بجانب السور وهي تنظر إلى المارة، لكن عقلها كان شاردًا بشئٍ آخر، وللمرة التي لا تعلم عددها بكت. بكت حتى تهدأ، لكنها تزداد بُكائًا.
كان الطقس عاصف، منتصف الشتاء، وبدأت بعض القطرات تسقط من السماء على وجهها، لتختلط بدموعها فيزداد بُكائها حُرقةً، رآها في ذلك الوقت معتصم الذي كان يجمع الحطب لإشعاله في هذا الجو البارد، اضطرب عند رؤيتها بهذا الشكل، سجود صديقته المخلصة والمحببة له تبكي بكل ذلك الألم! ناداها بقلق فلم تستمع إليه، ليُكرر نداءه مرة أخري بصوت عالي نسبيًا حتى يصل لمسامعها.
وصل صوته لها لتنظر بإتجاه منزلهم، فرأته يطالعها بقلق، ردد متسائلًا بفزع عند رؤيته لإنتفاخ عيناها بهذا الشكل: مالك يا سجود! بتعيطي كدا ليه!
حاولت السيطرة على بكاؤها أمامه لكنها لم تستطيع، في طفولتها كانت تبتعد عن الجميع لتجلس معه رغم تحذيرات عائلتها الكثيفة، كان مصدر دعم لها، يُعيد ثقتها المهدورة، شَهِد ضعفها وحزنها لسنوات كثيرة، لذلك لن تستطيع تخبئة حزنها عنه تلك المرة أيضًا، لكن الطقس يزداد سوءً، لذلك أجابته: بكرا هقابلك يا معتصم وهحكيلك كل حاجة.
لم يُطاوعه قلبه في الذهاب، وظهر القلق على تعابير وجهه، اغتصبت ابتسامة مُردفة: متقلقش أنا بخير.
هز رأسه بالنفي وهو يُجيبها: لا انتِ مش بخير، ومش كويسة، وبكرا هتحكيلي كل حاجة.
أومأت له بتعابير وجه مُبهمة ثم عادت أدراجها بعدما طلب منها الدخول لكثرة الأمطار: ادخلي جوا عشان متاخديش برد.
دخلت إلى غرفتها مرة أخري، وقررت التمدد على الفراش وتنعم بالنوم لنسيان همومها، تاركة الآخر يفكر بها طوال الليل بحيرة.
وعلى طهارة قلبك تُرزق فلا تُبالِ.
طوال اليوم وهم يسيران بطرق مجهولة حتى تألمت أقدامهم بشدة، جلس ريان بتعب، وجاورته غزل التي أردفت بإنهاك هي الآخري: مبقتش قادرة بجد. رجلي ورمت.
أيدها ريان بحديثها متشدقًا بقلة حيلة: انا كمان مش قادر ومش عارف هنروح في، لقيتها.
فزعت من صراخه، لتقول بغضب: يابني انت اهبل ولا عندك خال أهبل، إيه دي اللي لقيتها.
تغاضي عن الجزء الأول بالحديث، ليُجيبها بسعادة: عرفت هنبات فين. قومي تعالي.
امتثلت لحديثه، وطيلة الطريق يخبرها عن هذا الشخص، قاربوا من الوصول حتى وصلا إلى أسفل منزله، دلفا للداخل، ليقف ريان بالمقدمة ومن خلفه غزل التي تتسائل بقلق: متأكد هيرضى يخلينا عنده.
أجابها ريان بثقة وهو يقوم بالضغط على جرس المنزل: بقولك بيموت فيا، بيحبني حب ولا كأني ابنه. و.
وما كاد أن يُكمل حديثه حتى انفتح الباب وظهر من خلفه شاكر الذي حدج ريان بإستنكار، ليردف ريان بترحيب: شاكر بي...
لينغلق الباب بوجه كليهما مرة أخري، نظر ريان ل غزل وهو يقول ببلاهة: شوفتي الفرحة عملت في إيه! مش قولتلك بيعشقني!
كادت أن تُجيبه ولكنهم استمعوا إلى صافرة الشرطة، تصنمت أجسادهم وسرت البرودة بأجسادهم، فالبتأكيد تلك هي نهايتهم،!