رواية لمن يهوى القلب الجزء الأول للكاتبة فاطمة حمدي الفصل الرابع عشر
( رواية بونسوار سابقا )
-أنت مالكش حكم عليا ومتعالمنيش بالهمجية دي !
كانت جملتها القاسية تلك مُوجهة لـ شقيقها حـازم الذي برقت عينيه بوهج شرس غاضب، ليهوى بصفعة عنيفة فوق وجنتها تليها صفعة أخرى مع قوله الحاد:
-إومال مين له حكم عليكِ؟ , أنتِ خلاص عيارك فلت بس أنا هعلمك الأدب يا رغدة أوعي تكوني فاكرة إني ممكن أسيبك تمشي على كيفك!
بكِت رغـدة بقلة حيلها وجراء تألمها من صفعتيه القويتين، لتقول من بين دموعها:
-بابا الله يرحمه بس اللي كان من حقه يعمل كدا،لكن أنت لأ،احكم مراتك متحكمنيش ..
فقال حازم ساخرا:
-سيبك من كل الكلام الفارغ دا اللي مش جايب همه، كأني مش سامعه أصلا،خروج من البيت مافيش جامعة مافيش،مافيش أي حاجة، ولو جدعة إبقي خطي برجلك برا عتبة الباب وإن مقطعتهاش قولي على أخوكي مش راجل يا رغدة ..
أنهى كلامه وانصرف في عصبية تامة، بينما واصلت رغـدة بكاؤها العنيف ..في حين كانت والدتها السيدة فوزية تجلس مُتفرجة فقط ..لم تتدخل حتى بكلمة واحدة لأنها ترى ابنتها على خطأ... هذا أفضل لها حتى وإن كان يُمزق قلبها الآن .. فـ غدًا ستفهم جيدًا ..
-"بنــچور" ..
كانت هذه كلمة تمــارا التي انضمت إلى مائدة الإفطار التي أعدتها السيدة چيهان كعادة كل صبـاح، بينما قالت السيدة چيهان بهدوء:
-صباح الخير يا تمارا ..
ولم تتكلم ملك التي كانت تجلس على كرسيها،في حين وضعت تمارا كف يدها على بطنها ومسحت عليها برفقٍ مع قولها:
-طول الليل يا طنط چيهان والبيبي بيلعب بجد مش عرفت أنام كويس!
چيهان مجيبة عليها بجدية:
-آه ما أنتِ بقى دخلتي في الشهر الخامس، لازم تستعدي لأنه هيتحرك كتير ..
ضحكت تمارا متابعة بمزاح:
-شكله هيكون شقي أوي.
أتى أدهم في هذا الحين ليشاركهن طعام الإفطار وهو يقول بنبرة هادئة:
-صباح الخير ..
فردت ملك على الفور تبادله:
-صباح النور ..
منحها ابتسامة عابرة وبدأ تناول طعامه، بينما هي لا تصدق أنه يبتسم لها من جديد، فيما تشتعل نيران الغضب داخل تمـارا التي ضاقت عينيها بوميض شرس، لكنها حاولت أن تبدو طبيعية وهي تقول برقة:
-أدهم حبيبي النهاردة لازم نروح للدكتور عشان أنا حاسة بارهاق.
أومأ أدهم برأسه قائلا:
-تمام، بس أنا النهاردة بصراحة مش فاضي يا تمارا، ممكن تروحي مع ماما أو مامتك أنتِ براحتك بقى ..
كشرت تمارا عن جبينها, بينما تقول والدته چيهان بجدية:
-بصراحة أنا كمان مش فاضية النهاردة يا أدهم أنا راحة لـ ميرال، دي وحشتني موت، مش هقدر يا تمارا سوري حبيبتي ..
زفرت تمارا بحنق وراحت تخبره بضيق:
-بس أنا عاوزة أروح معاك أنت يا أدهم فضي نفسك no problem يعني، دا ابنك وأهم من الشغل ولا الشغل أهم ..
نهض أدهم عن كرسيه بعد أن أنهى طعامه بينما يخبرها بحزم:
-إبني أهم طبعا، بس برضوه مش فاضي النهاردة،تقدري تنستني لما أفضى لو وجودي هيريحك أوي كدا تمام؟! ..سلام!
انصرف ونهضت هي تاركة الطعام بغضب، فضحكت السيدة چيهان مع قولها::
-ربنا يهديها، بقولك إيه يا ملوكة إيه رأيك تيجي معايا عند ميرال؟!
ملك بنفي:
-لا معلش أعفيني أنا يا طنط، حاسة بارهاق كدا وهطلع أريح شوية..
-على راحتك حبيبتي ...
تخجل الأنثى دائماً أن تبوح بمشاعرها الخاصة لأحد، ربما تشعر بما يؤرقها لكنها تخجل أن يعلم أحد ..
ماذا تقول خاصةً وإن كانت المشاعر التي تؤرقها تلك تخُص أمر "الزواج"!
بماذا تنطق ومن سيتفهم تلك المشاعر ..؟
أتريد رجل؟!
أهذا فقط حُلمها ؟! ..
سيقولون ويتساءلون ويُئنبون!
ستسمع ما لا يُحصى عدّه من الكلمات .."الزواج نقمة" وحالك أفضل ..
الزواج حِملا ثقيلا يقسم الظهر ويشطر القلب إلى نصفين...
فماذا عن كلام الله!
"ومن ءاياته أن خلق لكم من انفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون"
هذا يعني أن الزوج سكن لزوجته والزوجة سكن لزوجها سكن تغشاه المودة والرحمة ...
فتنبت جذور الايمان في هذا السكن وينمو بشكلٍ يرضي الله ..
لمَ أخشى أن أبوح بأنني أريد الزواج ؟ ..
فلا هي معصية ولا هي فاحشة!
فلمَ قال عليه البعض أنه نقمة وقد وصفه البعض الآخر بأنه لعنة ...؟!
-كانت تلك كلمات خرجت للتو من صميم قلبها على الأوراق الخاصة بها والتي لا يعلم عنها أحد غيرها، فشعرت "چنا" بعد هذا البوح أنها تتنفس هواءً جديدًا أراح نفسها ..
لتقوم وتخبئ أوراقها أسفل ثيابها في دولابها الخاص، وعادت إلى النافذة تتابع الشارع بعينيها المليئتين بكل ما تحمل داخل قلبها ..
طُرق الباب فجأة فالتفتت متجهة إليه وفتحته بهدوء، ليدخل "علي" بطلته المُشرقة قائلا بمراوغة:
-ممكن ادخل يا آنسة چنا ؟
أومأت برأسها وقد افترت شفتيها عن ابتسامة هادئة، حاوط علـي كتفيها بذراعه في حنان أخوي،وجلس بها على سريرها ليقول هادئا:
-ها الجميل أخباره إيه؟
-تمام ..
هكذا قالت بتنهيدة طويلة، فقال مشاكسا مرة أخرى:
-الأفضل نقول الحمدلله،. هفضل أعلم فيكي لحد امتى؟
ضحكت رغما عنها مع قولها:
-الحمدلله يا سيدي، حلو كدا؟
هز رأسه معجبا وقال:
-حلو جداً، ممكن أعرف بقى يا ست چنا إيه اللي مضايقك كدا على طول؟! ليه شايف الحزن في عينيكي دايما؟
ارتبكت في قولها:
-مافيش ..عادي ..
-مافيش وعادي؟!
لا يا چنا فيه ومش عادي، بصي يا چنا اوعي تفتكري إني مش حاسس بيكي أو مطنشك ..بالعكس خالص، أنا بس سايبك على راحتك ..عارف إنك خجولة جواكي كتير،عصبيتك اللي بتطلعيها مع ميرال أو معايا أو ماما حتى دي بسبب حاجات كتير ..اولها وفاة بابا مظبوط كدا؟ ..
هزت رأسها وقد نظرت إلى الأرض ولألأت عينيها بالعبرات ...
ليُكمل علي بابتسامة:
-كمان فيه أسباب تانية زي الروتين اليومي الممل ..زي إن الكل بيتحرك من حواليكي وأنتِ واقفة مكانك ... زي إن صحباتك كلهم اتخطبوا واتجوزا وخلفوا وأنتِ لسة مظبوط؟!
نظرت له بصدمة تشوبها الخجل الشديد، ابتلعت ريقها بصمت ..ليقول علي:
-أنا أخوكي يا چنا ..متربيين مع بعض على الحلوة والمُرة زي ما بيقولوا فطبيعي أحس بيكي وبمشاعرك حتى لو مشاعرك دي هتخليكي تتكسفي مني، صدقيني أنا حاسس من غير ما تتكلمي ..بس يا حبيبتي كله مقدر ومكتوب فوق عند ربنا ...وربنا مبينساش حد رزقك وهديتك الحلوة على صبرك هتجيلك صدقيني ..
طال صمتها ولم تقدر على النطق بكلمة واحدة خجلا من شقيقها.. فراح يحتضن وجهها بين كفيه قائلا بابتسامة:
-تعرفي؟،أنا فخور بيكي جدا .. عارفة ليه؟, عشان صونتي نفسك رغم كل حاجة ..مفكرتيش في حاجة غلط ..صبرتي عارف إن الصبر دا حاجة مش اي حد يقدر يتميز بيه ..لكن أنتِ كنتِ قدها ..صامدة كدا وقوية وكل يوم بتكبري في نظري رغم تصرفاتك الأخيرة اللي خلتني أزعقلك أو أعاملك بحزم ..
ابتسمت چنا وقالت بلا تردد:
-شكرا يا علي ...أنا والله ماليش غيرك أنت وماما متزعلش مني على أي حاجة عملتها ..
-مش زعلان منك طبعا يا عبيطة، المهم إنك تفرفشي وتنسي أي حاجة وترمي ورا ضهرك أوك ؟!
أومأت برأسها موافقة فيما تقول برفق:
-حاضر ...
خرجت ملك من غرفتها واتجهت إلى درجات السلم، بينما لحقت بها تمــارا التي نادت عليها بشراسة مستغلة أنها بمفردها معها، سيكون الحديث أفضل في عدم وجود السيدة چيهان التي خرجت لتوها من القصر، راقبتها ملك بعينين حادتين وهي تتجه نحوها بتمهل ..لتقول باستهجان:
-شيفاكي لسة عندك أمل إن حياتك مع أدهم ترجع تاني، ومتمسكة وعنيدة ..
- أنتِ مالك ؟!، يخصك في إيه؟!؛
ضحكت تمارا بتهكم شديد:
-يخصني في إيه؟! دا جوزي يا حبيبتي ..وأنتِ مجرد فترة في حياته وهتنتهي .. أنا الأصل وهفضل طول عمري الأصل .
بادلتها ملك سخريتها تلك بسخرية مماثلة، لتخبرها ..بل تُذكرها:
-أنتِ الأصل؟!, أنتِ؟! ...لا أنا الأولى في حياته وأنتِ الدخيلة ..عارفة يعني إيه دخيلة؟ يعني بالبلدي كدا وبمستوايا أنا مش مستواكِ أنتِ ... "رميّة" معندكيش كرامة ..وفضلتي معاه بالغصب ..ووقعتي بينا عشان بس تفوزي ..أتمنى تكوني مرتاحة كدا ومبسوطة من تفكيرك الشيطاني اللي زيك ..
اشتعلت عينيها بوهج غاضب للغاية، لتهتف بكبرياء::
-آه ما أنتِ تربية حواري كدا زي ما بتقولوا أنتوا بمستواكي ..دا إن كنتي اتربيتي أصلا .. أنتِ مجرد واحدة ملكيش تمن..
لم تتحمل ملك حينها تلك الإهانة فـ
دفعتها ملك بعنف جراء كلماتها اللاذعة فقد نفد صبرها، لكنها لم تدرك أن الدرج خلفها، وأنها ستسقط من أعلاه إلى أسفله بهذه الطريقة وستفقد وعيها تماماً...
دخل "علي" إلى المطبخ فجأة لتتسع عينيه بصدمة،حيث شهقت "ميرال" وقامت بخفي شيء ما خلف ظهرها، وقد علم ما تخفيه هي "شوكولاتة" تلك لعنة حياتها ...
لتجعله يثور عليها صائحا:
-أنتِ بتهزري يا ميرال؟،لا أنتِ كدا مبتفهميش ..عاوزة توصلي لأيه؟ عاوزة تموتي ؟ معقول أنتِ بتفرطي في صحتك بالشكل دا؟
نظرت إلى الأرض بصمت وحزن ولا تجد من الكلام ما تتفوه به الآن، لتنتفض صارخة حيث أطاح علي بالأطباق الموضوعة على رخام المطبخ في عصبية تامة ...
التصقت في الحائط خوفا منه وارتجفت بشدة، لتأتي والدته من خلفه وچنا يحاولان تهدئته ...لكنه تابع بحزم:
-أنا مش هتعامل معاكي تاني، عشان أنتِ مستهترة ومهملة ..ومش فاهمة أي حاجة في أي حاجة ..لسانك ميجيش على لساني أنتِ فاهمة ولا لأ .. ؟
انهمرت عبرات ساخنة من عينيها المتعبتين.. ولم تجرؤ على قول شئ أيضا ..بينما هو تركها متجها إلى خارج المطبخ ..فأسرعت والدته تضمها إليها وتربت على ظهرها برفق مع قولها الحاني:
-علي خايف عليكِ يا ميرال يابنتي أنتِ عارفة كويس إيه اللي هيحصلك بسبب السكريات يا حبيبتي أنتِ بتضري نفسك كدا !
لم تجد منها رد ..فقط شهقات خافتة كانت تخرج منها، ماذا تفعل عندما تشتهي اكل ما تحب ..؟, لقد سئمت مرضها الذي حرمها من أبسط الأشياء ..وجعلها مهددة بين الثانية والأخرى...
بعد مرور ساعة ...
انطلقت سيارة الإسعاف تحمل تمارا إلى أقرب مستشفى، وقد أخبرت ملك زوجها أدهم والسيدة چيهان أيضا التي عادت من منتصف الطريق في قلق بالغ..
وهناك بعد أن وصلوا إلى المستشفى جميعا قد أخبرهم الطبيب أنها في حالة خطر جراء هذه الوقعة العنيفة ..وأن الطفل الذي يسكن أحشائها في خطر شديد أيضاً.. ربما تفقده ...
جن جنون أدهم فهو يشتاق لأن يرى مولوده وليس بغنى عنه مهما كلفه الأمر !
ليقول بتوسل:
-أرجوك إعمل اللي تقدر عليه أرجوك
ليقول الطبيب بمهنية:
-حاضر يا فندم خير إن شاء الله..
ربتت چيهان على كتفه بمواساه ..بينما هو التفت إلى ملك التي كانت تناظره بريبة شديدة وتزدرد ريقها فها هي الأمور تزداد سوءا..
لتقول بخوف شديد:
-مـ مكنش قصدي ..والله ما كان قصدي ..
تراجعت للخلف عندما وجدته يقترب وظنت للحظة أنه سيضربها ..سيحطمها ..سيعلمها كيف يكون عقابه بعد أن كادت تقتل إبنه ...
لكنه خالف كل توقعاتها ..بل أطاح بها أرضا ..حين صرخ بوجهها وألقى قنبلته بلا رحمة:
-أنتِ طالـــق...!
-أدهـــم !
هتفت والدته بغير تصديق به ..أما هو فقد أدمعت عيناه وكأنه طعن نفسه وقلبه !
وعنها هي !
هذه الكلمة -لها- كانت الطعنة ...الناهية ..
هل هذه الكلمة كانت موجهه لها هي ليس غيرها؟
طلقها أدهم ؟
حركت رأسها بعنف شديد وركضت ببكاء شديد كما لم تبك من قبل ..
سارت تركض في الطريق بغير هدى والدموع تسيل من عينيها المكسورتين بعد أن تلقت منه تلك الكلمة التي كانت بمثابة صفعة على قلبها, وكأنه شطر قلبها إلى نصفين وقضى على أملها الضعيف في رجوعه لها ..
لقد خسرت أدهـم إلى الأبد ...كيف ستواصل حياتها الآن؟
كيف ستعيش ..؟
وإلى أين تذهب؟ ..حطّم حياتها أدهم ..
أخرجها من حياته لأجل تمارا .. إذًا فازت تمارا به ..
وهي !
هي خسرت كل شيء...
وعليها الآن الرحيل بلا عودة ...