رواية لعبة عاشق بقلم يسرا مسعد الفصل الخامس عشر
العقل مايتميز به الإنسان عن سائر المخلوقات، والكيد ما تتميز به النساء عن الرجال.
جلست أمام المرآة العريضة تمشط خصلات شعرها الفحمية الغزيرة وعيناها تلمعان في ضوء الحجرة الخافت ألقت نظرة بطرف عيناها نحو الشرفة ويبدو أنه تناول كمية لا بأس بها من السجائر.
إذ بدأ في السعال فبعد طاولة عشاء صامتة قضاها برفقة أبناءه وبرافقتها يتحاشيا النظر لها عن عمد إستشعرته
صعدا للغرفة ونأى كل منهما بجانب فهو اتخذ الشرفة أما هي فمتعت نفسها بحمام طویل دافيء، لا تنكر أن أفكارها السلبية أوشكت على النيل منها ولكنها تتمتع بعقل فذ جعلها تؤخر تلك المواجهة فهي وإن كانت الزوجة الوحيدة، فهي الثانية بعد رحيل البدينة.
سنوات جمعتهما فأدمنها وحسب كإدمان الرجل لغيلونه ويلزمه بعض الوقت للتخلص من ذاك
الإدمان والتخلص منه لا يتأتى إلا عبر إدمان من نوع آخر قامت بعدما انتهت من زينتها ومضت نحو الشرفة شعر بحركتها
الحثيثة نحوه، فارتسم على وجهه معالم الحنق والغضب، إنه مستعد الآن لإلقاء اللوم عليها أو تفريغ شحنة غضبه بها ولكنها أخبرته قبلا أنها ليست
" بكيس ملاكمة " فاقتربت منه ومسدت عضلاته ولكنها نالت النفور والابتعاد والتفت له وعيناه تبرقان في ظلام الليل الدامس:
- عاوزة إيه يا داليا ؟ نکست عيناها بحزن مرسوم بدقة وقالت بصوت عذب:
- عاوزة راحتك ياجاسر
عقد حاجبيه وارتسمت على وجهه ملامح الحيرة ثم ابتسم فاكها
- لعبة جديدة ؟ !
فغر فاهها ثم زمته بضيق:
- أنت عاوزنا نتخانق صح، هوا ده عقابي عشان أنا متفهمة اللي
أنت بتمر بيه وباجي على نفسي عشان خاطرك نفث سجائرة ومضي يراقبها بأعين ضيقة ثم قال بصوت متمهل:
- احنا الأتنين فاهمين بعض كويس يا داليا والكام يوم اللي فاتو أنت شوفت جاسر مختلف أنا نفسي ماعرفوش، والمثل بيقول
خليك مع اللي تعرفه . جوازنا كان صفقة وتمت ماتحوليهاش لقصة حب وتقحمي فيها غيرة أنا مش هقبلها، ده لمصلحتك
عقدت ذراعيها وقالت: - صح صفقة وتمت بس عشان تكمل صح لازم نحط النقط على الحروف یا جاسر، أنا في الأول والآخر أبقا مراتك وليا عليك
حقوق زي ما أنت ليك عليا.
دعس سيجارته بقدمه وقال منهيا الحديث:
- لما حق من حقوقك ينقص ابقي تعالي اتكلمي ثم تركها خلفه ومضي لداخل الغرفة ووقفت هي تهتز بإنفعال
مكتوم وفعليا تكبح دموع القهر بعيناها.
الصباح بداية كل يوم والبدايات دوما لها بريق واعد يمحو ببهائه خيبة نهاية ليلة سابقة نظر في ساعته لقد أوشك أن يتم ساعة كاملة من الجري المتواصل بمضمار الجري بأحد نوادي الأسكندرية العريقة وبعدها يتجه لغرفة التدريبات ويمضي نصف ساعة أخرى مع إحدى الأجهزة الرياضية أشار بكفه لصديقه الذي يراه قدرا من حين لآخر بتحية ودودة.
وتقدم منه الآخر ليصافحه قائلا: - إيه ياعم بشوفك كده صدف دايما قال كریم وهو يبتسم:
- أعذرني والله طارق أنت إيه أخبارك، سمعت أنك سيبت الجيش وفتحت شركة أمن
هز طارق رأسه:
- یعني تغيير والدنيا ماشية ما فضلش غير العروسة
ضحك کریم وقال: - شد حيلك طيب وافتكر أخوك
نظر له طارق وهو يهز رأسه مستنكرا:
- ده على أساس التلوتميه اللي جابتهم الست الوالدة دول كانوا أثروا فيك
فرد الآخر ساخرا: - يابني أنا ماعرفش اتجوز زيكم صالون واتنين شربات ونقره الفاتحة، اللي اتجوزها دي لازم تكون قرياني وأنا قاریها، إنما شغل شرا البطيخ ده وتطلع في الآخر قرعة . . .
قاطعه طارق ضاحكا:
- قرعة . . الله يسامحك . .
ضاقت عینا کریم: - إييه، شكلك لقيت العروسة ياسيادة العقيد مضى طارق في طريقه متمهلا وإلى جواره کریم ثم التفت له قائلا:
- والدها إنسان عزيز عليا وفي البداية أنت عارفني أنا ليا طلبات محددة بس هيا طلعت مختلفة بكل المقاييس ده غير أن راسها
ناشفة نظر له کریم والفضول يتاكله: - وأكيد أكتر حاجة عجبتك فيها راسها الناشفة
قال طارق دون موارية: - أرمله معاها ۳ صبيان، والدها كان واعدني أنه هيخليها تسيبهم معاه لكن من الواضح أنه مش عارف بيتكلم عن إيه
هز کریم رأسه مؤكدا:
- طبعا، هيا فيه أم بتسيب ولادها وخصوصا لو كانت أرملة
رفع طارق حاجبيه: - ده غير أن باباها مثلا لو قال شمال تبقي هيا يمين فورااا
ضحك کریم متفكها: - خالف تعرف يعني، بس مش فاهم إزاي التركيبة دي ركبت معاك . بخلاف أنك مش بتطيق دوشة العيال كمان أنت مابتحبش الجدال ولا المقاوحة رفع طارق أنظاره للسماء مبتهلا وهو يتنهد:
- أهو ده اللي هيجنني مش قادر أشيلها من دماغي ضحك کریم من مشهد صديقه اليائس من حاله حتى وقعت أنظاره عليها تسير برفقة إحداهن نحو صالة الألعاب فتوقف عن الضحك فجأة فقال طارق متعجبا:
- إيه مالك ؟
التفت له کریم:
هه مافيش، بقولك تعالی نلعب شوية أيروبكس شكلك مش تمام
حملق به طارق موبخا:
- ده أنا برضة طب تعالى وأنا أوريك دخلت سالي الصالة وتبعتها آشري التي قالت:
- بجد ياسالي ماتتصوريش فرحت أد إيه لما شفت نمرتك الصبح
فالتفتت لها سالي بإبتسامة صافية: - ليه يعني ماكنش عيش وملح وبعدين أنت أكتر من أخت لیا یا
آشري ریتت آشري على كتفها قائلة: - وأنت أختي الوحيدة، وأردفت بقصد الممازحة:
- أصلا فابتسمت لها سالي:
- طيب تعالي بقا عشان احنا جايين نتمرن أصلا، قدامي يادوب ساعتين عشان ألحق أروح الشغل صعدت آشري على آلة الجري وهي تقول هاتفة:
- بجد، ماقولتیش یعنی بدأت سالي في تدريبات الإحماء على الآلة المجاورة لها: - ده يادوب کان امبارح وماتتخيلیش جت صدفة كده إزاي رمقتها آشري بنظرة محققة قائلة بأمر ثابت:
- احکیلی بالا
كعادتها تمضي كل صباح لغرفتها بهدوء تام واقتربت من مخدومتها التي كانت لا تزال نائمة فأوقظتها برفق وهي تضع طعام الإفطار إلى جوارها، فقالت سوسن: - أنا نايمة بقالي أد إيه بانعمات ؟
ابتسمت لها نعمات وقالت:
- مابقالكيش كتير، الولاد لسه نازلین مدارسهم من خمس دقايق رفعت سوسن ظهرها وجلست رافعة رأسها بكبرياء تود السؤال عنه ولكن لسانها لا يطاوعها فتطوعت نعمات بمنحها تلك
المعلومة التي تشتاق لسماعها: - جاسر بيه قالي أطلعلك بالفطار الأول وهيعدي عليكي قبل مايروح شغله، أما الهانم التانيه ففطرت ونزلت من بدري
زمت سوسن شفتيها قائلة بتبرم:
- ومابتقعدش تفطر مع جوزها ليه ؟ فقالت نعمات والضحكة تكاد تفلت من ثغرها وهي تناول
مخدومتها فنجان الشاي الساخن كما تحب: - قعدت تستناه يجي نص ساعة بس هوا كان في مكتبه
ماخرجش غير بعد ما مشيت تنهدت سوسن وتظاهرت بمزيد من اللامبالاة وداخلها يرقص
طربا ثم قالت نعمات فجأة: - أنا فيه حاجة عاوزة أقولك عليها بس عاوزة منك وعد إنك . . . .
صمتت نعمات ولم تدري كيف تكمل جملتها فنظرت لها سوسن
محملقة بها لكأنما جنت: - جرى إيه يانعمات أنت مستنياني أديكي الأمان ؟ ! !
ردت نعمات: - لا أبدا ما قصدتش قصدي، أنك تاخدي الموضوع بالراحة
يعني منغير إنفعال عشان خطر عليكي وضعت سوسن الفنجان في الصينية بهدوء قائلة: - اتفضلي احكي، أهو شيفاني لا اتجننت ولا بشد في شعری
أخفضت نعمات رأسها قائلة: - العفو يا سوسن هانم أنا ماقصدش، كل ما في الموضوع أن الست سالي جت امبارح بعد مالولاد رجعوا من المدرسه غدتهم
وذاكرتلهم وروحت بالليل على الساعة ستة ظلت سوسن صامته وقد التمع التقدير بعيناها وقالت موبخة لنعمات:
- طب وفيها إيه مش أمهم، حقها وبعدين عشان خاطر الولاد
فرفعت نعمات رأسها وقالت مؤكدة: - أيوا طبعا وهيا قالتلي أن ده هيكون النظام كل يوم والسبت
هتبقا تشوف الولاد في التمرين في النادي.
هزت سوسن رأسها بتقدير وقالت كأنما تقر واقعا: - والجمعة يروحلها يباتوا معاها والسبت يطلعوا على النادي سوا وبعدها يرجعوا على هنا
قبضت نعمات على كفها وقالت بصوت هامس: - ماهو اللي حصل أن جاسر بيه رجع فجأة امبارح وشافها ووقفوا مع بعض وشكلهم في الآخر شدوا مع بعض عشان سمعتها بتقوله
، أعلى مافي خيلك اركبه یاجاسر ابتسمت سوسن إبتسامة واسعة قالت بسعادة غير مصدقة:
- قالتله کدة فعلا ؟ ! أكدت لها نعمات:
- ایوا، فأنا خايفة لا جاسر بيه مايرضاش و . . قاطعتها سوسن بإشارة لا مبالية من يدها وكأنما أمر رفض جاسر
غير وراد على الإطلاق قائلة: - ابعتيهولی دلوقت، هاه فيه حاجة تانيه قبل ماتمشي وناسيه تقوليها ؟
رفعت نعمات صينية الطعام وقالت نافية:
- أنا مانساش حاجة فاضل بس سي أسامة اتصل وكان عاوز يجي هو وزياد بيه امبارح قلتله أنك نايمة
أشارت لها سوسن آمرة: - اتصلي بيه وقوليله يجي النهاردة هوا وزياد الساعة تمانية
بالدقيقة نتعشا سوا هزت نعمات رأسها قائلة: - حاضر تحت أمرك ياسوسن هانم
ثم انصرفت تاركة سوسن ولازالت الإبتسامة تزين ثغرها ووجها المشرق بتلك الأحداث الأحداث الأخيرة تطالع أفرع الشجرة
أمامها بنظرة راضية
كان مايلزمه كوب من الماء البارد صبه كله فوق رأس أخيه الغارق
بسبات نوم كأهل الكهف فهب الأخير منزعجا:
- إيه يا أخي ده حد يصحي حد كده، حرام عليك يا أسامة والله قال أسامة وهو يرتشف قدحه من القهوة التركية بهدوء لا مبال: - بقالي ساعة رايح جاي عليك . ولا كأن عيل بقومه عشان يروح حضانته
نفض زیاد شراشف الفراش المبتلة حانقا: - ماهو أنا اللي استاهل من بكرة هشوفلي شقة أقعد فيها
تجاهل أسامة تهديده الفارغ وقال:
- اتشطف وافطر يالا عشان ننزل
عقد زیاد حاجبيه وهو يجذب منشفة نظيفة من الخزانة ويضعها
حول كتفه قائلا:
- لا أسبق أنت عندي مشوار لازم أعمله الأول
ضاقت عينا أسامة وقال:
- آشري برضة
فابتسم زیاد ساخرا: - لا مش آشري مش عاوزة ترجع إن شالله ما رجعت، أنا هروح الشقة أخد بقية حاجتي وورقي، خلينا نخلص بقا
مط أسامة شفتيه غير راضيا وقال: - ماتاخدكش الجلالة أوي أنت غلطت كتير ومراتك معاها حق
في اللي عملته التفت له زياد غاضبا: - تکرشني من بيتي ؟ ! فاقترب منه أسامة قائلا:
- أنت تخونها وعاوزها تاخدك بالحضن
فرد زیاد معاندا:
- أنا ماخونتهاش
فقال أسامة غير مصدقا: - لا والله وبتسمي اللي عملته ده أيه ؟ ! فعقد زیاد حاجبيه وقال بنفس الغضب الأعمى: - اللي عملته حاجه واللي حصل فعليا حاجه
رفع له أسامة يده مستسلما قائلا: - أنا همشي عشان أنت الكلام معاك بيوترني وأنا صاحي مزاجي
رايق، سلام القي زياد عليه السلام متبرما ومضي ليغتسل
ورأسه لازال يدور به تلك الفكرة الخرقاء بكونه ضحية بريئة !
راقبت آشري وجهها المتعرق قائلة: - كفاية ياسالي أنت بتهلكي روحك
هتفت لها سالي بأنفاس متقطعة: - بالعكس أنا مبسوطة جدا حاسة أن جوايا طاقة غير عادية
رفعت آشري يدها باستسلام قائلة: - أنا خلاص مش قادرة هروح أغير وهحصليني هاه، عشان
تلحقي شغلك هزت لها سالي رأسها دون کلام ولم تلحظ ظل آخر جاورها على
نفس الآلة إلا بعد أن قال: - صباح الخير يادكتور إيه النشاط ده ؟ التفتت له سالي دهشة وقالت بإبتسامة خجولة:
- دکتور کریم ! ! صباح الخير قال كريم ممازحا وهو لا زال يسير بسرعة بطيئة بالمقارنة بها:
- ده احنا شكلنا النهاردة فترة مسائية
هزت سالي رأسها نافية: - لاء ماتقلقش عشرة بس وطيران على المركز
قال کریم: - ياستي براحتك هوا المركز هيطير إنما أنت عضوة هنا من أمتی
، مافتكرش إن شوفتك هنا قبل كده ؟ كادت أن تهتف به " من ساعة ما اتجوزت " ولكنها قالت بألم: - من زمان . . بس ماكنتش باجي كتير إلا عشان الولاد إنما بقيت مواظبة من فترة.
قال كريم بتقدير: - لا بس برافو عليكي، الرياضة مهمة جدا بتحسن الصحة والمود
ثم قال ممازحا: - ده غير كمان أنها بتقوي عضلاتك تعرفي تخلعي الضرس وأنت
مرتاحة ضحكت سالي وقالت:
- ده أهم حاجة فرد کریم ممازحا ولكن بنبرة صارمة:
- أيوا طبعا . الشيء لزوم الشيء نظرت سالي في ساعتها وأطفأت محرك الآلة قائلة:
- أنا همشي بقا فابتسم لها کریم مودعا: - مع السلامة يادكتور
أنهى مكالمة هاتفية مع درية التي كانت تطلعه على إحدى
مستجدات العمل الطارئة قائلا: - نص ساعة وهكون عندك وأول مايوصل أسامة تبلغيه والتفت لیری نعمات تحمل صينية الطعام وبعض الأطباق بها فارغة متجهة بها نحو المطبخ فقال مستوقفا إياها:
- صحيت وفطرت ؟
أومأت له نعمات قائلة:
- وعاوزاك فوق هز جاسر رأسه ومضي صاعدا الدرجات حتى وصل لغرفتها
طرقها بخفة ودلف قائلا:
- صباح الخير يا أمي قابلته بإبتسامة وإنما صارمة قائلة:
- صباح الخير ياجاسر اقترب منها وقبل كفها وجلس بجوار فراشها قائلا:
- هاه عاملة إيه النهاردة ؟
قالت مؤكدة: - أحسن الحمد لله، أنا قلت لنعمات تتصل بأخواتك يجو يتعشوا
الساعة ثمانية، عاوزاك تكون موجود
هز جاسر رأسه وقال:
- إن شاء الله
رفعت سوسن حاجبها وقالت بنبرة حازمة:
- كمان عاوزاك في حاجة مهمة حدق بها جاسرا وقال صاغيا:
- خير ؟
وضعت سوسن كفا فوق الآخر وعقدتهم وهي تقول يإصرار: - الولاد يروحوا يزوروا مامتهم کل جمعة يباتوا معاها ويرجعوا السبت
عقد جاسر حاجبيه وقال رافضا: - هيا بتجيلهم بعد الغدا وبتقضي معاهم اليوم مافيش داعي . . .
قاطعته أمه بصرامة: - تيجي أو ماتجيش الولاد لازم يباتوا على الأقل ليلة في حضن أمهم يحسوا بنبضها ودفا حضنها، الحرب اللي أنت أعلنتها عليها دي ولادك هيدفعوا ثمنها وعمرهم ماهيسامحوك على كل ليلة قضوها بعيد عنها.
هب جاسر واقفا وزعق بأمه دون أن يدري: - أنا اللي أعلنت الحرب ولا هيا اللي . .
قاطعته أمه: - رقم واحد ماتعليش صوتك أنا لسه ماموتش . . فهدأت خلجات جاسر واستكانت وتمتم قائلا:
- آسف فأردفت سوسن بهدوء:
- رقم اتنين، أنت اللي طلقت هم بإعتراض ولكنها رفعت يدها لتوقف تسرسل الكلمات من
بين شفتيه: - أيوا أنت، الست تطلب الطلاق مرة وعشرة وعشرين إنما ربنا خلى الراجل اللي بأيده الطلاق ومراتك طلبتها مرة وأنت ماتنتهاش
فهتف جاسر غاضبا:
- قدام الناس . . .
فقالت أمه مستنكرة:
- ما أنت اتجوزت عليها قدام الناس
رد جاسر هازئا:
- رقم واحد بعد ماقولتلها وهيا مارفضتش ولا اعترضت، رقم اتنين حقي
أغمضت سوسن عيناها فابنها لازال غارقا بوحل الكبرياء الأعمى لازال لايستطيع رؤية بأي هوة استقر جراء عناده ثم فتحتها وقالت:
- نفذ اللي بقولك عليه ياجاسر ولو مت قبل ماترجع أنت ومراتك لبعض اعتبرها وصيتي ليك، عشان خاطر سلیم، حرمته من أمه اللي ولدته مرة مش هيسامحك لو حرمته من التانية اللي ربته ابتعد جاسر بأنظاره عنها ومشهد تلك الليلة العصيبة التي مر بها منذ ثلاث سنوات عاد ليحيا من جديد
مشهد لسهيلة تحت الأمطار وهي تصرخ بجنون لكي ترى وليدها الوحيد الذي كان يراقبها وجلا من خلف النافذة العريضة بغرفته فخرج لها جاسر ليراها مترنحة ببقايا خمر ومخدر فسبته بأقذع الشتائم فنهرها وأمرها أن تبتعد بعنف وألا تعود مجددا وبالفعل لم تعد مرة أخرى إذ صدمتها سيارة مسرعة في تلك الليلة وفارقت و الحياة وأتاهم ذاك الخبر التعيس بعد منتصف الليل فهاتفها كان يحمل.
رقم هاتفه وفي اليوم التالي، تكفل بإجراءات الجنازة وحمل لولده خبر رحيل أمه بعد أسبوعان وطلب الصغير زيارة قبرها رغم
سنوات عمره الخمس وقتها بإصرار عجيب اصطحبه وظن أن سينهار باكيا كأي طفل في عمره على الأقل خوفا وهلعا من المشهد المهيب للقبور المتراصة ولكنه بقي صامدا وتلي بصوته
الطفولي الآيات الأولى من " سورة يس " أمام القبر ونظرات العجب كانت تطل من عين أبيه فأخبره صغيره أنه سالي من قامت بتلقينها له عاد جاسر لواقعه والتفت لأمه التي كانت تراقب إنفعالات
وجهه في إشفاق تام فقال مذعنا:
- الخميس بالليل هاخدهم أنا يباتوا معاها وأرجع أخدهم السبت
آخر النهار، کویس کده هزت له أمه رأسها راضية وراقبت انصرافه بأنفاس لاهثة بعض الشيء فرفعت البخاخة التي تستعملها من حين لآخر عندما تعجز
عن التنفس لتستنشق ذرات العقار بتعب
حياه موظف الأمن بالبناية الضخمة بحرارة واتجه بعدها للمصعد وصعد للطابق الذي يحوي شقته أو ماكانت يوما
دفع الباب ودلف وهو يتمتم ساخرا: - والله كتر خيرك يا آشري إنك ماغيرتيش الكالون فتح النوافذ ومضى نحو غرفة النوم ومضى يقذف أمتعه بإهمال
في الحقيبة التي كان يحملها وبطفولية تجري في عروقه اتجه نحو خزانتها يعبث بمحتوياتها
مستمتعا، فهو يعلم أنها تشتاط غضبا من تلك الأفعال الصبيانية خاصته
وأثناء عبثه اصطدمت يده بصندوق مخبأ بين أمتعتها فعبس ومد يده ليقحمها كليا حتى استخرج صندوقا من ورق مقوى فتحه وأخذ ينشر محتوياته على الفراش حتى عثر على مظروف أبيض
خط على رأسه اسم أحد المعامل الشهيرة بالبلد وتحتها اسمه کاملا فاستخرج الأوراق الطبية منه ليطالعه بأعين يائسة ولم يفقه
شيئا منه، فحمله ووضعه في جيب سترته الداخلي وعاد لينظم أمتعتها من جديد وأعاد كل شيء لمكانه حتى الصندوق وضعه تماما حيث كان فهو برغم كل مساوئه إلا إنه يتمتع بذاكرة فولاذية