رواية قلوب مقيدة بالعشق للكاتبة زينب محمد الفصل الحادي عشر
تحركت بتوتر في ارجاء غرفتها، لم يهدأ ذهنها عن التفكير، وخاصة بعدما أمرها عمار بالصعود لشقتها، لم يغيب عنها نظرات والدها لها، ولم تستطيع تفسير الكم الهائل من المشاعر التي انبعثت من عنياه، قضمت شفتيها من فرط قلقها، تقدمت من نافذتها ثم فتحتها ببطء ونظرت للاسفل وجدتهم مازالو يتحدثوا، تمنت في هذه اللحظة ان تستمع الى حديثهم..تمسكت بحافة الشرفة بقوة وكانها تضغط بقوة على قلبها وذلك العقل الذي حتما سيقتلها يوما من كثرة التفكير...
اما بالاسفل فكان يظهر للمارة من امامهم، شخصان يتحدثون بهدوء، اما في الحقيقة فكانت تنبعث النيران من عينيهم وطريقه حديثهم اللاذع لبعضهم حتى كادت تصل الى تلك المسكينة التي تقف فوقهم في شرفتها، وهي تراقبهم بخوف شديد...
عمار: زي ما سمعت وبكررها مالكش دعوة بمراتي.
ضغط على حروف كلمته الأخيرة بقوة متلذذًا بنطقها امام خصمه، اما علي فعقد ذراعيه امامه ببرود قائًلا: هو انت فاكر ان ممكن اخاف من شوية الملاليم اللي كونتها في سفريتك في الامارات دي..
التوى فم عمار بسخرية قائلًا: وانت كمان فاكر ان ممكن اخاف من انك حتة امين شرطة..
رفع والد خديجة " علي " احد حاجبيه قائلًا: طب ما انت خفت زمان يا عمار، وهربت وسبتها فاكر ولا لأ.
اشار عمار بيده نافيًا ثم قال باستفزاز: لا تعال كده نتفكر ونرجع للماضي شوية، ولا يمكن الماضي انت غيرته زي ما بتغير حقايق كتير باوهامك...
( فلاش باك )..
صعد الدرج بسرعة كبيرة وهو يلهث بقوة، متمنيًا بداخله ان يراها ويمعن نظره وقلبه برؤيتها... دق الجرس بعنف كبير كعنفوان قلبه الثائر.. وبعد دقائق فتحت له ليلى الصغيرة..
ليلى بطفولة: ابيه عمار!..
دلف الى الشقة سريعًا وهو يتخطى ليلى مناديًا بصوت مرتفع: خديجة
هتفت ليلى من خلفه: بتجيب فستان الفرح!.
رغم بساطة حديثها العفوي الا انه هزه بقوة، وجعلت من عنفوان قلبه ثورة كبيرة تندلع منها ألسنة اللهيب التي لو كان زوج خالته امامه لاحرقته كاملًا..
جلس مكانه ينتظرها، فلاخر لحظة يعطي نفسه املًا في تغير قراره اللعين، وها هو اتى من سفره وامياله البعيدة املًا بان يتزوج بمن دق قلبه لها لاول مرة في حياته..
مرت ساعة ثم اثنين حتى وجد باب الشقة يفتح، فانتفض من جلسته ينتظر دخولها، رأها تدلف منكسرة ومنكسة الوجه ارضًا، فهمس باسمها بلوعة وعشق: خديجة.
رفعت وجهها الحزين بعدما سمعت همسه باسمها، رأته امامها، فهتفت غير مصدقة: عمار انت جيت ؟
تقدم نحوها وهو يهز رأسه بقوة: اه جيت، جيتلك يا خديجة .
هتفت منى والده خديجة: ايه اللي جابك يا عمار..
حول بصره نحو خالته ليقول: ده الي ربنا قدرك عليه يا خالتي !.
قالت منى بقلة حيلة ورجاء: ارجوك امشي يا عمار، بلاش مشاكل مع علي .
جذب يد خديجة قائلًا بتحدِ وقوة: لا، يا يوافق بجوازي منها زي ماحنا مخطوبين، ياما هاخدها واتجوزها غصب عنه!.
همست خديجة بضعف: امشي يا عمار علشان مستقبلك..
قاطعها عمار بقوة: انا اتخليت عن شغلي ومستقبلي علشان خاطرك يا خديجة، تعالي معايا انا خسرت كل حاجة عشانك انتي..
همست بحزن وخوف: بابا مش هايسبك في حالك.
ابتسم بسخرية ليقول مستنكرًا: ليه ان شاء الله بيشتغل وزير، ده حيالله امين شرطة !.
وقبل ان تتحدث، سبقها والدها بصوته الغليظ: امين شرطة اه بس نابه ازرق يا عمار وده اخر تحذير ليك!.
وقف امامه عمار ورمقه بتحدِ قائلًا بصوت مرتفع: انا مش هاخاف منك مبقاش عندي حاجة اخسرها!..
جذب علي سلاحه الناري قائلًا بتهديد لاذع: والله لو منزلتش حالًا وبعدت عن بيتي وعن بنتي، لافرغه فيك ومش هاخد فيك يوم سجن!.
ارتعشت يديها وهي تضعها لاول مرة على صدره تمنعه عن حديثه وهي تقول: لو سمحت امشي يا عمار، خلاص انا موافقة، روح لشغلك ومستقبلك..
حول بصره نحوها بصدمة قائلًا بتوبيخ: بطلي ضعفك ده وقولي لا باعلى صوتك، وانا معاكي، عيشتي حياتك في قرف، انتي تستاهلي تعيشي حياة احسن وانضف، انتي انضف من انك تكوني بنت راجل زي ده!.
زمجر والدها وخرج من فمه سُباب لاذع وتوبيخ لما قاله ذلك الوقح من وجهة نظره ولم يعرف انه الوقاحة بحد ذاتها...فسارعت وهي تقول: لو سمحت اطلع بره وارجع سافر، وان شاء الله ربنا يعوضك باللي احسن مني.
قالت كلماتها الأخيرة ودلفت لغرفتها تدفن وجهها في اقرب وسادة، وهي تجهش بالبكاء وصدرها يعلو ويهبط بقوة، منعت صوتها من الصراخ لكن سمحت لذلك القلب الضعيف بالصراخ، فخرجت رغما عنها عدة آهات حزينة وهي تقول ببكاء ينفطر له نياط القلوب: ليه يارب، ليه حظي كده، ليييه، حكمتك يارب، حكمتك..
( باااك ).
عاد من ذكرياته وهو يقول: افتكرت، هي اللي بعدتني عنها، بعد ما حاولت مرة واتنين، انا مخفتش منك، ولا عمري هاخاف منك، واه خاف من فلوسي لانها هاتأذيك وفي شغلك، واعتبره تهديد ميهمنيش!.
اسودت ملامح وجه علي من شدة غضبه فقال وهو يقترب منه: مش هاسيبك تاخد بنتي مني، هاطلقها منك يا عمار.
صدرت من عمار ضحكة ساخرة قائلًا: والله انت بقيت مجنون، الماضي أثر عليك جامد، انت متخيل انك بتكلمني عن بنتك اللي من لحمك وصلبك، اللي عاوز ترميها لواحد متجوز غيرها ومخلف كمان وده كله علشان تنتقم من امها، فوق بقى من الوهم اللي انت عايش فيه، اقولك روح لدكتور نفسي وانا هادفعلك حساب الكشف متقلقش..
اغلق علي عيناه محاولًا السيطرة على انفاسه الغاضبة فقال: ماشي يا عمار، انا وانت والزمن طويل، وهاطلقها يعني هاطلقها، من غير سلام..
تركه وغادر متوعدًا لابنته وقبلها ذلك الفظ عمار، اما عمار فكان شعوره مختلف شعور بالانتصار حقا جميل، انتبه لتلك الراحة التي احتلت صدره عندما استطاع اخيرًا تحقيق ولو جزء بسيط من خطته، لمس صدره وهو يقول: ولسسه، ده كله ولسه مكملتش...
رفع بصره لاعلى وجدها تقف تنظر اليه، رسم قناع الجمود فوق وجهه، ثم دلف الى البناية مقررًا اكمال ما بدأ فيه..
اما بشقة مالك...
وقفت امام المرآة للمرة العشرون تقريبا تنظر لتلك المنامة وتدقق النظر بها، زفرت بقوة قائلة: خلاص يا ندى، دي حلوة ومحترمة وبكم ومؤدبة، وبعدين ده جوزك متتكسفيش...
فتح الباب فجأة فصرخت بقوة قبل ان تكمل حوارها مع نفسها بالمرآة، انتفضت برعب عندما وجدته يهتف باسمها:
_ ندى.
وضعت يديها على قلبها وحاولت اخراج الكلمات من ثغرها: ايه، انا... يعني.
همس مالك بكلمات صادقة تعبر عن ذلك الشعاع الذر أنار قلبه فجأة عندما رأها بشعرها الجميل وخصلاته البنية المتمردة بعنفوان على وجهها وجسدها: انتي قمر..
عضت على شفتيها السفلى خجلًا منه، وحاولت لملمة شعرها جنبًا وفي الحقيقة كانت تلك الحركة غير مقصودة وكانت تلقائية، فاقترب هو منها بسرعة مختصرًا تلك المسافة بينهم ومد يديه وفرد خصلات شعرها على وجهها مرة اخرى فعادت كما كانت، اما هي فتشنج وجهها ولم تعد تعرف تضحك ام تبكي من توترها وخجلها منه، شعر بها فقال بنبرة حانية هادئة: تيجي نطلع بره نتكلم شوية ..
هزت رأسها بموافقة، فذهبت خلفه وابتسامة على وجهها، جلست بجانبه عندما أشار اليها على المكان، فقال مستغربًا: هو انتى مبتسمة ليه كده..
ندى بخجل: اصلك اول مرة تقولي نتكلم، انت على طول ساكت يا مالك.
ابتسم قائلًا: لدرجاتي انا رخم معاكي.
هزت رأسها بنفي لتقول: لا مش رخم، بس غامض شوية.
مالك: طيب ايه رايك لو قولتلك ان انا حاسس بيكي وعارف اننا اتجوزنا على طول خبط لزق كده من غير ما نتعرف على بعض كويس، فانا بقول يعني ناخد فترة نتعرف على بعض حلو وانتي تاخدي عليا فيها.
شعرت بالراحة عندما اخبرها بذلك، ابتسمت بسعادة قائلة: يبقى كتر خيرك والله.
ضحك بخفة هاتفًا: بتحبي الضحك انتي يا ندى ملاحظ كده.
هزت رأسها بقوة ثم قالت: جدًا انا شخصية فرفوشة من جوايا، بكره النكد، ها بكره النكد، ها..
أشار على نفسه متعجبًا: ده على أساس ان انا نكدي.
تجاهلت حديثه عن قصد وهي تنظر لسقف الغرفه بتمثيل، فتحدث مالك مستنكرًا: والله!، ماشي انا ممكن اوريك ان انا كمان فرفوش..
مد أصابعه يدغدغ قوامها في مرح، فاتسعت عيناها بصدمة لفعلته ونهضت بسرعة وهي تقول: ايه ده في ايه..
زدات ابتسامته قائلًا بوقاحة: بهزر معاكي، تعالي اوريكي انا نكدي ولا لأ.
ابتعدت عنه بسرعة، تحاول كتم ضحكتها فقالت بجدية زائفة: بس يا مالك عيب.
لا شك انها اعجبته اللعبة، ذلك الشد والجذب بينهم سيختصر عليه مسافات كثيرة في التعرف على تلك الجميلة، ومن أول ليلة اجتمع فيها معها، نسى وعده لرأفت وتلك الخطط التي وضعها قبل زواجه منها ليقع الطلاق في أسرع وقت، نسى كل ذلك في لمح البصر، وتبقى بداخله فقط ان يستمتع معاها بتلك اللحظة العابرة بينهم...
دلفت لغرفتهم واغلقت الباب خلفها هربًا منه هامسة: ده طلع مجنون .
اندفعت للامام واصدمت بحافة السرير بسبب اندفاع الباب فقالت بألم بسيط: اي، حاسب..
اقترب منها بسرعة يتحسس وجهها قائلًا بخوف: ايه اتعورتي .
رفعت وجهها، فقابلت عيناه ذو اللون العسل الصافي، وكانها شعاع شمس فأحرقت مشاعرها الغافية، جعلتها تثور كالبركان فترتفع درجة حرارتها، وتتورد وجنتيها، لاحظ مالك ذلك اللون الوردي الذي احتل وجنتيها، فتحسسهما برقة هامسًا: مالك ؟
لم تجد كلمات مناسبة لرد عليه، او بمعنى أصح لم يقدر ثغرها على التفوه بما تشعر به، فسكتت ولم تستطيع ان تبعد عيناها عن خاصته، اما هو فغرق هائمًا في تفاصيل وجهها المحبب لقلبه، وجذبته ارتعاشة شفتيها، اقترب بوجهه منها وبالاخص من شفتيها مقررًا بداخله ان يتذوقهما ولو لمرة واحدة، ولكن كان للقدر رأي أخر حينما رن هاتفهه، فانتفضت ندى بعيدًا عنه قائلة: التليفون بتاعك فين، فين..
التفت حولها تبحث عنه بتوتر، فقال وهو يشير على الجهة الاخرى: اهو هناك..
فتحت الباب قائلة بتوتر: ماشي رد على اللي بيتصل، تشرب شاي معايا..
قطب ما بين حاجبيه متعجبًا من توترها،وسأل نفسه ماذا سيحدث ان قبلها فكانت اجابته بسيطة حتما ستنهار وتنهار معاها انت ايضًا، تنهد ليقول ويهز رأسه نافيًا: مبحبوش.
ابتسمت قائلة ببراءة: ولا انا، هاعمل عصير..
خرجت من الغرفة، ابتسم على توترها وبرائتها في الهروب منه، تنهد براحة ثم قرر ان يجيب على المتصل وما كان الا والدته..اتجه للباب يغلقه جيدًا ثم اجاب..
_ ايوه يا أمي.
ماجي بضيق: ازاي تمشي من غير ما اودعك، انت عمرك ما عملتها..
مالك: أسف بس كنت مستعجل، وبعدين انتي اتخرتي في مشوارك، الا انتي كنتي فين؟!.
ماجى بتوتر: كنت في شوية مشواير مش واحد وبس، المهم هاترجع امتى.
مالك: يعني معرفش لسه، خلى بالك من نفسك يا ماما، ومن يارا وليله وعمرو كمان ولا هو مش فاضي الا للست مريم .
ماجى بضيق: والله يابني شكله ما يجيبها لبر، والله لو ابوها عرف ليكون وقعتهم سودة ومهببة هما الاتنين، يعني دي اخرة انه يأمنه عليها وكأنه اخوها، يقوم اخوك يحبها، اخرة الكذب وحشة وانا مبحبوش.
وكأنها كانت توجه حديثها الاخير له وتذكره بما يفعله وسيفعله، فشعر بالغضب من نفسه ليقول بجمود: هو حر، عن اذنك بقى يا ماما .
ماجى بحنو: سلام يا حبيبي، وخلي بالك من نفسك .
مالك بتنهيده: سلام يا امي.
اغلق الهاتف مع والدته ثم القاه على الفراش والقى جسده بجانبه هامسًا بضيق: ربنا هايسترها، ان شاء الله.
في شقه خديجة...
وقفت تتحدث بعصبية: انا قولتلك يا عمار اقوله انا، انت اكيد عصبته علشان عاوز تنتقم منه .
التوى فمه ساخرًا: والله انا شايف انك شاطرة في العصبية دي عليا انا بس.
زفرت بحنق قائلة: يوووه يا عمار ده ابويا، ابويا..
وقف امامها وتحدث بنبرة قوية وغليظة: وانا جوزك فاهمة احترميني، جوزك.
ارتدت للخلف بخوف من نبرته وملامح وجهه الغاضبة، هاجمت الدموع عيناها فقالت بنبرة اشبه للبكاء: طيب انا هادخل انام.
فجلس هو مرة ثانية مكانه قائلًا بحدة: وانا مضطر اقعد يا خديجة وابات هنا، وقبل ما تتكلمي وتعارضي، انا اصلا مش حابب لحظة اكون فيها في الشقة دي، واتخيل حاجات انا مش عاوز اوصلها علشان مقمش واقتلك واقتل نفسي بعدها، انا هنا علشان ابوكي اللي لسه تحت وممشيش ومستني لحظة ان انا امشي ويطلع يجيبك من شعرك.
بلعت اعتراضها، فقالت وهي تزيل دموعها بيديها: كنت هاقولك في اوضة ايلين لو عاوز تنام فيها..
هتف باقتضاب: شكرًا، انا مش هاتحرك من مكاني، تصبحي على خير.
هتفت بحزن: وانت من اهله..
دلفت للغرفتها واغلقت الباب خلفها ثم تقدمت صوب النافذة تزيح الستائر بهدوء جانبًا وجدت والدها يقف بعيدًا ينظر للبناية، نظرت للباب مرة اخرى وهمست بصدق وكأنه امامها وتوجه له حديثها: شكرًا انك بقيت في حياتي...
رقدت بجانب ايلين وحاولت النوم، ولكن شعور ما يجذبها للتفكير بعمار وخاصة بوجده معها في مكانًا واحد وبالاخص بعدما أصبحت زوجته، اغلقت عيناها وصدرت عنها آه خافتة، كم تتمنى ان تمسح ما حدث في الماضي بممحاة، كم كانت تتمنى ان تسير حياتها بهدوء دون كره وحقد، كم كانت تتمنى ان تصبح زوجته ويتوج عشقهم بحياة سعيدة يسودها الحب، آه على تلك الامنيات التي تهاجم عقلها كل ليلة بلا رحمة وتدور بها في دوامة لا تنتهى ابدًا..لم تشعر بالوقت حولها وهي شاردة في بحر من الامنيات الا على أذان الفجر، نهضت ببطء وتسللت على اطراف اصابعها ثم وضعت اذنها عند الباب تحاول ان تسترق السمع لاي شئ يدل على استيقاظه، عضت على شفتيها بتوتر عندما فشلت في السمع، قررت ان تخرج وتعلل استيقاظها بحاجتها للماء، خرجت بالفعل لم تجده قطبت جبينها، ثم جابت بعيناها تبحث عنه في ارجاء الشقة، لمحت إضاءة المطبخ اقتربت منه فوجدته يتجرع الماء وظهره لها، همست باسمه ولم تعرف لما همست بتلك الطريقة فخرجت منها ناعمة دافئة وكانها تشتاق لاسمه: عمار..
التفت اليها قائلًا: نعم..
خجلت عندما رأته قد حل أزرار قميصه فظهرت عضلات جسده، تحدث بمكر عندما وجدها تتأمله: في حاجة ياخديجة .
قالت بتلعثم: كنت عاوزه أشرب..
واشارت للكوب الذي بيده، فتقدم منها وتلك الابتسامة الماكرة تحتل ثغره، مد الكوب اليها فالتقطته هي وتجرعته مرة واحدة لعله يهدأ من توترها، اقترب برأسه منها وهمس باذنها: ايه احساسك لما شربتي مكاني .
همست ببلاهه: هاا!.
مد اصابعه وداعب وجنيتها قائلًا: متوترة ليه، ده انا حتى بقيت جوزك.
خديجة بتلعثم: عمار، انا، انا..
امعن النظر بعيناها قائلًا: انتي ايه قوليها..قولي بحبك.
كادت ان تنطقها كالمغيبة خلفه، لولا يده التي وضعها على فمها وتلك النبرة القاسية التي ظهرت فجأة بصوته وهو يقول: متنطقيهاش لانها مبقتش تهمني وانا مش هاصدقها زي زمان.
القى بحديثه الجامد والحاد بوجهها ثم غادر المطبخ بل انتفضت عندما سمعت اغلاقه لباب الشقة بقوة خلفه، اطلقت العنان اخيرًا لعيناها ولصوتها ودخلت في نوبة بكاء حادة تشنج جسدها بسببها لفترة ليست بهينة ...
اما عند يارا...
فكانت تجلس على احد كراسي في الشرفه وتتصفح جوالها وبالتحديد صورها مع فارس بهدوء وابتسامة جميلة ترتسم على ثغرها، مدت أناملها تحركها ببطء على ملامح وجهه وعبراتها تسقط على شاشة جوالها، شهقة قوية صدرت عنها القت بسببها الهاتف جانبًا عندما مرت صورة له هو وياسمينا ومالك.. حركت رأسها برفض بقوة وكأنها تمنع نفسها من العوده للماضى واستعادة ذكريات حاولت جاهدة نسيانها ولكن ليس على العقل سلطان، فغرقت بسرعة في بحر من الذكريات الأليمة..
( فلاش باك ).
دلفت الى محل الصاغة مع والدتها، مستمعة الى حديث والدتها بدون روح، وتلك هي حالتها عندما علمت بزواجه من ياسمينا صديقته..
ماجي بنفاذ صبر: بصي بقى احنا ننقي سلسلة لليله و خلاص، انا تعبت من اللف... انتي يابنتي بكلمك، يارا.
لم تكن تستمع لاي شئ قط، بل حواسها كانت تنصب عليه، عندما وجدت فارس بجانب ياسمينا ويختارون معًا خواتم الزواج، آه على ذلك الاحساس المرير الذي داهم قلبها وأحدث شرخًا أخر..
ماجى بضيق: ايه ده،ده فارس وياسمينا، تعالي نسلم عليهم..
جذبتها والدتها بقوة رغما عنها، ارادت الهروب بعيدًا وان تنزوي بركن بعيدًا عن الاناس لتطلق العنان لعيناها، فتبكي فقط، فقط لا غير، ولكن لوالدتها رأي أخر.
ماجى: الف مبروك يا ولاد.
وقفت تلك الشابة الجميلة ذات الشعر الكستنائي الطويل قائلة بسعادة: الله يبارك فيكي يا ماما ماجي، كلمت حضرتك كتير علشان تيجي تساعديني وانا بنقي الشبكة بس انتي مردتيش.
ماجى بأسف: بجد، والله يابنتي مشوفتش، معلش تتعوض في فستان الفرح.
وضعت ياسمينا يديها بيد فارس قائلة بغنج: مش هاتقوليلي مبروك يا يارا..
لم تتفوه بأي حديث بل كانت تتعاتب مع ذلك الحبيب بلغة العيون، تلك اللغة فقط وحدها كفيلة للبوح بما بجوفهم، أستقبلت تلك النظرات منه التي تنم عن أسفه وحزنه وخجله منها، وأرسلت هي له نظرات الخذلان والحزن .. استفاقت على هزات والدتها وعلى حديث ياسمينا فهتفت بنبرة ضعيفة: الف مبروك..
القت بحديثها بسرعة ثم غادرت المحل وهي تضع يديها على عيناها تمنع رؤية المارة لبكائها وضعفها، جذبتها يد والدتها: اقفي يا يارا، اقفي يا حبيبتي.
التفت لوالدتها ثم عانقتها وانهارت بالبكاء: شفتي يا ماما، الوقح بيعمل ايه؟!.
رمقتها والدتها بعتاب: لا يا حبيبتي عيب، ده مهما كان ابني بردوا...
ابتعدت عنها ثم حدجت النظر بوالدتها بغضب، فأسرعت ماجي بالحديث: اه صاحب اخوكي الوحيد، وعنيا شافته وهو بيكبر مع اخوكي، معزته في قلبي زي غلاوة مالك، اي نعم فرحت لما عرفت انه عاوز يخطبك، وكنت طايرة من الفرح علشان خلاص كنت هاطمن عليكي، و وزعلت واتكسرت لما عرفت انه رجع في كلامه وهايتجوز ياسمينا، بس مهما يعمل هو زي ابني، اللي عاوزه اقولهولك، فارس مش هايبعد عننا وهايفضل معانا وجنبنا، انتي في ايدك تتخطي المرحله دي قوي قلبك ده علشان تتعودي على وجوده في حياتنا يابنتي.
( باااك )
استفاقت من ذكرياتها على يد ماجى: يارا حبيبتي بتعيطي ليه.
نهضت فجأة وهي تقول: مفيش، مخنوقة شوية، هادخل اوضتي.
تركت والدتها ودلفت غرفتها كعادتها منذ تلك الواقعة، استمعت والدتها لبكائها وانفطر قلبها على ابنتها، فبرغم تلك الاعوام لم تستطيع النسيان ولا التخلي عن بكائها كل ليلة، وكأن بكاء الأحبة ليس له نهاية ...
صباحًا بشقة مالك...
اعتدل في نومته، بعدما شعر بالالام قوية تغزو جسده بسبب ذلك الوضع الذي اتخذه بنومته، تذكر ليلة أمس، وابتسم حينما رأها تدخل عليه باكواب العصير وتلك الابتسامة الرائعة لم تفارق وجهها، نظر للتلفاز وتذكر قرارها لمشاهدة فيلم معًا، وكان من سوء حظه اختيارها لفيلم حزين، فقضت الليلة كلها تبكي على مشاهد فراق البطلة للبطل، وكان كل مهمته بالامس اعطائها المناديل الورقية واحدًا تلو الاخر، وتفوه بجملة واحدة فقط: معلش يا ندى، ده فيلم يعني .
لم يعرف متى غفى بجانبها، او متى هي غفت أساسًا، زفر بقوة عندما وجد الالام قوية تداهم رقبته، حاول تحركيها بهدوء ففشل، صدر عنه آه، ادت الى استيقاظها وهذه عادة اساسية بها سريعة الاستيقاظ وسريعة النعاس..
ندى بنعاس: في ايه مالك؟!.
مالك بألم: مفيش، اظاهر نمت نومة غلط رقبتي واجعني ..
اعتدلت بنومتها وحاولت تذكر اسم الكريم التي دوما تستخدمته لتلك الالام، نهضت من جلستها وهي تقول: ثواني بس اجيبلك كريم بستخدمه هايريحك، انا فاكرة ان جبته معايا..
بحثت في حقائبها حتى وجدته، فهتفت بفرحة: لقيته اهو.
تقدمت منه وهي تضع جزء بسيط على يديها، فقال هو سريعًا: ثواني بس يا ندى انا بقرف من الحاجات دي.
ابتسمت بهدوء قائلة: انا هاحطهولك.
مالك باستنكار: ده على اساس ان كده مش هاقرف يعني.
ندى: هشش، غمض عينيك، وانا هاحطهولك، هو هايحرقك شوية، بس انت عادي ظابط وهاتتحمل .
ابتسم وهو مغلق عيناه امتثالًا لاوامرها: طريقتك في الاقناع بتهبرني..
ضحكت بخفة ووضعت الكريم على عنقه وبدأت تدليكه باصابعها بلطف، لم يعرف سر تلك الرجفة التي تملكت من جسده بسبب الكريم او من اصابعها الرقيقة التي تحركت بحرية على جلده، فكان ملمسهم رائع للغاية، شعور جميل تمنى الغوص اكثر بداخله، مرت دقائق وابتسامة بلهاء ترتسم على ثغره فقالت هي: بس خلاص خلصت، هاغسل ايدي واجيلك.
وقبل ان تتحرك امسك يديها قائلًا: ليه يا ندى، ليه خلصتي .
ضحكت بقوة: في ايه يا مالك؟!..
مالك: لسه وجعاني، كملي ياالا اللي بتعمليه.
ندى بتعجب: ماهو الالم مبيروحش من مرة واحدة، انا عملتلك مرة هاعملك مرة كمان بليل.
مالك بحنق: وانا هافضل متعذب كده لغاية بليل، لا هانزل لفارس يطقطقها.
اتسعت عيناها بفزع: ايه، يعمل ايه..
مالك مبتسمًا: خايفة عليا..
هتفت سريعًا وبصدق: طبعا، ممكن يجرالك حاجة.
جذب يديها وقبل أصابعها برقة قائلًا: سلمت أناملك، بس هانزل لفارس بردوا يطقطقها...
التقط هاتفهه وتوجه للجهة الاخرى يجري اتصالًا بفارس، وتابع بعيناه صورتها المنعكسة بالمرآة وهي تنظر لاصابعها بخجل، دلفت للمرحاض، فقال: احسن حاجة انزل لفارس احسن ما استحمل موضوع الكريم ده واحبه في الاخر.
انتظر ثواني حتى اتاه صوت فارس: خير يا عريس..
مالك ياقتضاب: انا نازلك، متروحش في حته..
ابدل ثيابه بسرعة مع صدوره آهات بين الفينة والاخرى منه بسبب وجع رقبته، غادر شقته فقابل شخصًا امامه يخرج من المصعد...
مالك: جاي لحد هنا؟!.
هز علي رأسه قائلًا وهو يشير على شقة ابنته: اه جاي لخديجة بنتي.
افسح مالك له المجال قائلًا: اتفضل...
ثم دلف للمصعد قاصدًا شقة صديقه بالاسفل.. وعندما وصل وجد باب شقة فارس مفتوحًا دلف وهو يقول: فارس تعال بسرعة طقطق رقبتي هاموت من الالم...
ظهر فارس امامه مازحًا: ليه مالها، طمني عليها.
عقد مالك جبينه قائلًا بتحذير: وله لم نفسك، انا مش ناقصك، أصل والله ...
قطب فارس ما بين حاجبيه قائلًا: بس اسمع كده في صوت صريخ فوق..
انقبض قلب مالك وهو يقول: صريخ!..
صمت لبرهة ووظهر الصراخ بوضوح، فانتفض ناحية الباب هامسًا برعب: ندى.
ذهب فارس خلف مالك يصعد الدرج بسرعة رهيبة قائلًا: استنى يا مالك.
دلفت للبناية ثم رفعت نظارتها الشمسية وتحدثت للحارس: استاذ فارس موجود فوق.
هتف الحارس: اه يا هانم، مين حضرتك؟!.
ماجى: انا والدة صديقه، باين عليك جديد.
الحارس: اه متعين من تلات شهور،نورتي ياهانم، هاطلب لحضرتك الاسانسير...
دلفت للاسانسير وشكرته، وصلت الطابق الذي يسكن به فارس لاحظت باب شقته مفتوحًا على مصرعيه، دلفت ببطء وهي تناديه: فارس، فارس، سايب باب شقتك مفتوح ليه كده.
جعدت جبينها وهي تبحث بعيناها عليه في ارجاء الشقة: فارس...