رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع عشر
طرقت الباب بأصابع مرتجفة، و انتظرت حتى سمعت صوته الهادىء يدعوها، فدخلت و أغلقت الباب...
الا أنه قال دون أن يرفع عينيه عن أوراقه
(لا تغلقي الباب من فضلك)
تشنجت أصابعها قليلا، الا أنها عادت و فتحت الباب، ثم اقتربت من مكتبه بخطى مهتزة، بينما هو لم يتنازل حتى الآن للنظر اليها...
تاهت ابتسامة حزينة على شفتيها و هي تنظر الى رأسه المنخفض...
تلك الخفقات المتسارعة، لم ينجح غيره في اسراعها بهذا الشكل قبله، أو بعده...
فتحت فمها و قالت بنبرة خافتة رقيقة، كان يتغزل بها قديما
(صباح الخير يا أمجد)
كان يسجل شيئا ما و بدا مشغولا و كأنه لم يسمعها، الا أنه رد عليها بتهذيب
(صباح الخير يا غدير).
كانت تعلم أنه يتجنب النظر اليها عن عمد، تعلم أنها لا تزال تحمل بعض التأثير عليه، بل هي متأكدة من هذا، و كان هذا الشعور، هو الوحيد الذي يجعلها تتنفس كل يوم، ترتدي و تتأنق، و تزيد من قوة ما كان يحبه بها من قبل...
لا تنتظر منه شيئا، لكن نظرة منه بشوق اليها تكفيها...
هل هي مجرمة إن تمتعت بهذا الإحساس؟
المشاعر لا يملكها البشر، و من المؤكد هناك حكمة من القدر في بث حبه بقلبها رغم عنها...
مهما زاد ألمها و تلك العضة بقلبها كلما رأته، لكن احساس أنه قد ينظر اليها بإعجاب مجددا، يشعرها أنها لا تزال على قيد الحياة...
قالت غدير بصوتها الهامس
(طلبت رؤيتي؟)
رد أمجد وهو منهمك فيما يسجله بسرعة
(نعم)
ابتسمت و هي تقول برقة
(هل أجلس اذن؟)
رد أمجد وهو يجري بالقلم بسرعة...
(لا حاجة لهذا، ها، أنا، انتهيت)
أنهى ما بيده ثم رفع وجهه اليها فإبتسمت و هي تتأمله قائلة.
(لم تكن قلة التهذيب من طبعك اطلاقا، حتى العاملات تسمح لهن بالجلوس معك)
لم يبتسم أمجد استجابة لنبرتها المداعبة، بل قال بجدية
(لن آخذ من وقتك طويلا، لاحظت أنك لم تقدمي اعتذارا عن سفرك حتى هذه اللحظة على الرغم من طلبي)
اختفت الإبتسامة عن ملامح غدير و ظلت واقفة أمامه تنظر اليه بملامح قاسية، تتناقض مع رقة زوايا وجهها...
ثم سألته بنبرة جادة هادئة
(ربما لأنني لم أفهم حتى الآن، هل طلبك يعد أمرا أم، تهديدا؟).
تراجع أمجد في مقعده وهو ينظر اليها قائلا بهدوء و اتزان
(لا هذا أو ذاك، ببساطة أردت معرفة ردك لأنك لو أصريت على الذهاب فسأعتذر أنا، على الرغم من ضرورة ذهابي و أنت تعلمين ذلك)
قالت غدير بنبرة أظهرت بعضا من حدة روحها الخفية، ذات العقد الغير قابلة للشفاء
(و أنت أيضا تعلم امتيازات هذا التدريب بالنسبة لي، و ليس من العدل أن تمنعني عنه لمجرد)
صمتت عن قصد و هي تنظر اليه نظرة ذات مغزى، بدت أكثر وقاحة...
الا أنه رفع حاجبيه منتظرا، ثم سألها ببساطة
(لمجرد ماذا؟، تابعي)
كتفت غدير ذراعيها و قالت بنبرة ممطوطة
(أخبرني أنت أولا، لماذا تريد مني الإعتذار عن التدريب؟)
رد أمجد بنفس البساطة و دون تردد
(لأنني لا أريد لأمر كهذا أن يجرح مسك بأي طريقة)
أظلمت عينا غدير بشدة و للحظات تعالى صوت تنفسها و كأنها نمرة منهكة، الا أنها تمالكت نفسها سريعا و قالت بنبرة ساخرة.
(سفرنا معا في تدريب واحد قد يجرح مسك؟، لقد ضعفت كثيرا عما مضى)
قاطعها أمجد بنبرة أكثر جدية تحمل بعض الصرامة
(دون تجاوز يا غدير، لا أريد منك سوى رد واحد، هل ستعتذرين أم لا؟)
لم ترد غدير على الفور، بل ظلت تنظر اليه، ثم بدأت في التحرك الى أن وصلت الى مكتبه...
فانحنت لتستند بكفيها على سطحه و بات وجهها أكثر قربا منه و هي تنظر الى عينيه مباشرة دون خجل، أو حياء، ثم قالت بخفوت
(مما أنت خائف مني، أم من نفسك؟).
لم تهتز عضلة في وجه أمجد وهو ينظر اليها، ثم قال ببساطة
(قفي معتدلة و تراجعي عن المكتب من فضلك)
رفعت غدير احدى حاجبيها ثم قالت ببرود و تحدي
(لماذا؟، هل يوترك قربي الى هذه الدرجة؟)
أخذ أمجد نفسا قويا ثم قال مجددا بهدوء
(ابتعدي عن المكتب يا غدير، فأنت تسيئين لنفسك بما تفعلين)
رمشت بعينيها فجأة و أدركت ما تفعله، فاستقامت بسرعة و هي تضغط وجنتها بأصابع مرتجفة...
و بالفعل تراجعت خطوة و هي تنظر اليه بخوف...
ما الذي دهاها؟
إنها تخاطر بفقدان كل ما تملك، لأجل، لأجل حب لم تنجح في التخلص منه حتى الآن...
لعقت غدير شفتها و قالت بخفوت
(أنت لا زلت تشعر بشيء ما تجاهي يا أمجد، و قد بدأ يؤثر على عملك)
لا تعلم ما الذي كانت تأمله من قولها هذا، أن يؤكد لها ظنها؟، أن يخبرها بأنه لا يزال يحمل لها بعض المشاعر؟، و ماذا بعد؟، ما الذي ستسفيده بإستثناء المزيد من الوجع؟
لكن سيكون هناك رضا، الكثير من الرضا و النشوة...
لقد جائت اليوم مصممة على تقديم اعتذار عن السفر، ليس بناء على طلبه، و إنما خوفا من ترك الساحة خالية لمسك، تتلاعب بمشاعر أشرف أكثر، عليها أن تكون متيقظة في تلك الأيام أكثر من أي وقت مضى...
لكن ما أن طلبها في مكتبه، و طلب منها أن تعتذر عن السفر مجددا، حتى راودها الشعور بالرضا...
رفعت جفنيها تنظر اليه بأمل، الا أن ملامحه كانت جامدة تماما، و عيناه تنظران اليها دون تعبير...
ثم قال أخيرا بخفوت.
(لو كنت أملك حق فصلك من العمل، لفعلت، أنت و زوجك أكثر علاقة مريضة رأيتها بحياتي، )
ارتجفت غدير للحظة الا أنها تماسكت و نظرت اليه بعينين جليديتين ثم قالت بنبرة مشتدة
(هل تظن أنه بإهانتي تستطيع خداع نفسك؟)
هز رأسه قليلا، ثم قال بصوت مزدري
(أنت من تخدعين نفسك)
فتحت فمها تنوي الكلام، الا أن صوت أنثوي هادىء و انيق على نحو مألوف جاء من عند الباب المفتوح ليمنعها من الكلام
(ياللها من صدفة! غدير مجددا!).
تسمرت غدير مكانها ما أن وصل هذا الصوت الى أذنيها، بينما نظرة منها الى ملامح أمجد المندهشة جعلتها تتأكد بأنها لا تتوهم، خاصة بعد أن نهض من مكانه وهو يقول بقلق
(مسك، ما الذي أتى بك الى هنا؟، هل حدث شيء؟)
استدارت غدير ببطىء تنظر الى مسك...
حيث كانت واقفة في اطار الباب تنظر اليهما بإبتسامة باردة، و كأنها قد تأنقت خصيصا من أجل تلك الزيارة...
ابتلعت غدير ريقها أمام بهاء صورة مسك، و التي اختارتها بكل دقة، بدئا من فستانها البسيط ذي القطعتين بلون أبيض و أسود، و شعرها الذي استطال مؤخرا تجاوز حدود كتفيها بتموجات أنثوية بسيطة، لا أكثر، الا أنها كانت غاية في البهاء و كأنها قد استعادة كل ذرة رونق سبق و فقدتها...
لم تستطع غدير النطق، و هي تنظر الى مسك بوجه شاحب، بينما اتسعت ابتسامتها الساخرة، ثم أغلقت باب المكتب خلفها عن عمد، قبل أن تستدير اليهما مجددا منتصبة الظهر...
ثم قالت موجهة كلامها الى أمجد بهدوء
(شعرت بالشوق لك ففكرت في زيارتك، و زيارة العمل القديم، و من حسن حظي أن أول من قابلت، هي صديقتي، القديمة)
كان أمجد قد وصل اليها، و بعد أن سمع كلامها هدأ قلقه قليلا، لكنه لم يخفي تماما...
انحنى اليها ليقبل وجنتها، فنظرت مسك الى غدير بعينين ثاقبتين مشعتين، و هي تستقبل قبلته بترحيب...
أما غدير فقد ازداد شحوب وجهها أمام منظرهما معا و كأنها محتجزة بين اثنين من العمالقة...
تود لو هربت من هذا المكان بأسرع ما تستطيعه...
لكنها أجبرت نفسها على التماسك الى أن تحين فرصة الهرب...
لكن مسك لم تبدو على عجلة من أمرها في التخلص من غدير، فما أن ابتعد أمجد عنها حتى واجهت غدير و قالت ببساطة.
(لكنه كان شيئا متوقعا، ففي الآونة الاخيرة، لا آتي الى هنا، الا و أجدك لدى أمجد في مكتبه)
امتقع وجه غدير بشدة، بينما نظرت مسك الى أمجد و ضحكت متابعة
(ربما عليك أن تجهز لغدير مكتبا صغير في احدى الزوايا هنا كي توفر عليها عناء الذهاب و العودة أكثر من مرة خلال اليوم، و في نهاية النهار، تقوم بتوصيلها الى بيتها، كي لا يخطفها أحد، فغدير، يمكنها أن تكون، مرغوبة للغاية)
قالت غدير بحدة قبل أن تستطيع منع نفسها.
(لا داعي لمثل هذا الكلام يا مسك، لا يصح و لا يليق بك)
استدارت مسك الى غدير بكامل جسدها فجأة و هي تنظر اليها بقوة قائلة بدهشة و بنبرة عالية
(ماذا؟)
شحبت غدير من نبرة مسك القوية و نظرتها الأقوى، و التي انطلقت بطريقة تخيف من قد يفكر في مواجهتها...
سألتها مسك مجددا بنفس النبرة و هي تقترب منها ببطىء
(ماذا قلت للتو؟)
تراجعت غدير خطوة أخرى و هي تتنفس بسرعة، بينما سألتها مسك تكرر.
(هل أخبرتيني للتو عما لا يصح و ما لا يليق بي؟)
ابتلعت غدير ريقها بصعوبة أكبر فتعقد حلقها و هي تنظر الى عيني مسك المتسلطتين، و حينها تذكرت كل كلمة حمقاء رمتها بها في الهاتف، فسقط قلبها بين قدميها يكاد أن يتوقف من شدة الرعب...
لم تتخيل أن تظهر مسك أمامها اليوم بكامل أناقتها، بعد تهديدها لها، لكنها فعلت، و ها هي تقف أمامها بثبات. بل بجبروت...
لكنها لن تقول شيئا، ستخشى أن تتكلم فيما يخص أشرف أمام زوجها، بالطبع لن تفعل...
هذا حديث نسائي من زوجة لأخرى، تحدي، لن تجرؤ على النطق به أمام زوجها...
لم تكد تطمئن نفسها حتى قالت مسك بنبرة واثقة قوية عالية...
(كم أنت متبجحة في ارشادي الى ما يصح، بعد اتصالك بي ليلة أمس و قولك لي بالحرف.
أنني إن لم أبتعد عن زوجك، فستلاحقين زوجي، سبق و حصلتي قلبه مرة و لن يكون مستحيلا عليك الحصول عليه مجددا، سرقتي مني رجلا مرة و لن يكون مستحيلا أن تكررين فعلتك!)
اتسعت عينا غدير بشكل بشع، في أقصى درجات الهلع، و تراجعت أكثر، حتى ارتطمت بحافة المكتب من خلفها فتشبثت بها بينما مسك تقترب منها أكثر...
عقد أمجد حاجبيه بشدة وهو يهتف بذهول و صدمة
(ماذا؟)
أفاقت غدير على صيحته، فتداركت نفسها و صرخت بقوة.
(كذب، كذب، لم يحدث هذا، لم أقل شيء من هذا، انت تكذبين)
الا ان صرخة مسك الجهورية أوقفتها
(اخرسي)
خرست غدير و هي تنظر اليها، بينما تابعت مسك بنبرة أكثر هدوءا و تسلطا
(حين أتكلم أنا، تخرسين أنت)
و دون كلمة اضافية، رفعت كفها و صفعتها بمنتهى القوة. ، صفعة أكبر من تلك التي صفعها بها أشرف بالأمس...
صفعة حقيقية تركت أثرها على وجنتها، صفعة زوجة...
هتف أمجد بصدمة أكبر أمام هول ما يحدث
(مسك!).
و اندفع اليها يمنعها، الا أنه ما أن لامسها حتى استدارت اليه بملامح شرسة و حاجبين منعقدين و هي تقول من بين اسنانها
(ابتعد)
ارتفع حاجبي أمجد أمام شراستها التي لم يرها من قبل، لكنها لم تمهله، بل عادت و التفتت الى غدير المذعورة التي كانت قد رفعت يدها تلامس بها وجنتها...
ثم قالت بنبرة هادئة صقيعية.
(اخترتي الشخص الخطأ لتعبثي معه مرتين، و مكالمة ليلة أمس لا تخرج من شفتي امرأة محترمة، فقط من الحثالة، و لم أكن أعلم أن مستواكي قد تدنى الى هذه المرحلة...
الآن اسمعيني جيدا، منذ اليوم، سترين زوجي في بداية الرواق، تستديرين لتعودي من حيث أتيت أو قسما بالله، أنا من ستكلم زوجك المحترم الذي تسعين الى محاصرته، بينما عينيك على غيره، و سأخبره بمكالمتك حرفا حرف، هل فهمت؟).
لا تعلم غدير كيف تمكنت من النطق بصوت مذعور
(لن يصدقك، لن يصدق حرفا مما تقولين)
ساد صمت طويل بينهما، قبل أن تتحول الشراسة على ملامح مسك بالتدريج الى بساطة ثم هدوء، الى سخرية، حتى صارت السخرية ضحكة عالية متهكمة، أمام عيني غدير المبللتين الواسعتين...
الى أن هدأت ضحكاتها تدريجيا و هي تهز رأسها بعدم تصديق قبل أن تقول أخيرا بصوت متشدق
(غدير، غدير، ترى من سيصدق زوجك؟، مسك الرافعي؟، أم، انت؟).
نطقت الكلمة الأخيرة و هي تقلب شفتيها بقرف، و كأنما قد وضعت الحقيقة كاملة أمام عيني غدير و بمنتهى الوضوح
من سيصدق أشرف؟، هي زوجته أم مسك الرافعي؟
و لم تكن في حاجة لأن تخدع نفسها، فعلى الرغم من كل شيء، و حتى لو أوقعت به عشرات المرات...
تظل مسك الرافعي هي صاحبة الكلمة الصادقة، ذات الوعد الذي تفي به، ذات العهد الذي لا يخيب...
لطالما أعطاها احساس خفي أنها خانت صديقتها ذات مرة، و من السهل أن تخون أي كان...
نعم، لم تكن في حاجة لأن تخدع نفسها أكثر من هذا...
و أمام عيني مسك المزدريتين استطاعت أن تهرب منها و من أمجد و لو استطاعت من العالم بأكمله، فخرجت من المكتب و هي تشهق باكية بعنف، ينظر اليها كل من تمر به بذهول، لكنها لم تأبه و هي تجري كالمجنونة...
و بينما هي تجري دون هدى حتى أنها أخطأت مكان دورة مياه السيدات، اصطدمت بشخص كان آتيا من الجهة الأخرى، فتوقفت و هي ترفع وجهها اليه، ففوجئت به سالم الرافعي يقف أمامها و ينظر اليها عاقدا حاجبيه بشدة...
رفعت غدير كفها تمسح بها دموعها بحركات خرقاء و هي تقول بصوت متعثر
(عمي)
الا أنه قبض على ذراعها بقسوة مفاجئة وهو يقول من بين أسنانه.
(عمى الدبب، سيد سالم، و بالنسبة لك سأظل سيدك سالم، اسمعي أيتها النكرة، لا أعلم ماذا فعلت بإبنتي مجددا بعد أن كنا قد تنازلنا و قبلنا بك في العائلة مرغمين، لكن أقسم بالله إن تسببت في أي أذى لها فأنا من سيقف لك، و لن يهمني زوجك أو من هو أكبر منه)
كانت غدير تبكي بشكل مبالغ فيه، مثير للشفقة، الا أنه لم يشفق عليها وهو يلقي بذراعها بعيدا، ثم استدار عنها ليبتعد...
أمها فلم تعد قادرة على الجري أكثر، فسقطت أرضا و هي تبكي مستندة بظهرها الى الجدار من خلفها...
تتمنى الموت بكل صدق، فأيا كانت مكاسبها في هذه الحياة، لم تكن لتساوي ذرة من الإهانة التي تعرضت اليها على يد، مسك الرافعي...
أما في مكتبه، فكانت مسك تعدل من فستانها و شعرها بأصابع هادئة ثابتة...
ثم أحكمت امساك حقيبتها و هي تستعد للخروج من المكتب، الا أن أمجد اعترض طريقها...
فرفعت وجهها اليه، بنظرة جمدته مكانه، نظرة متفحصة دقيقة، لم ترف للحظة...
ثم لم تلبث أن بدأت تعدل من ياقة قميصه و رابطة عنقه و هي تقول بصلف
(كم مرة طلبت منك أن تهتم بمظهرك، رابطة عنق متزحزحة لليمين درجة واحدة يمكنها أن تجعل من رجل محترم، صعلوك).
لم يرد أمجد عليها، بل كان ينظر اليها بطريقة غريبة غامضة، بينما نظرت الى عينيه مجددا ثم قالت بنبرة جليدية
(يؤسفني أن أفسد لك مشروع الليلة التعويضية المسبقة، فأنا الليلة سأبيتها عند والدي و غدا بعد سفرك سأعود للبيت)
و دون انتظار كلمة منه، رفعت رأسها و هي تتجاوزه متجهة للباب، الا أنها و قبل أن تخرج...
سمعت صوته يقول من خلفها بصدمة
(لم تهجريني! لم تتركي خاتمك على سطح مكتبي! بل قمتي بسحق منافستك!).
استدارت مسك اليه بسرعة و هي تقول بنبرة هادئة ذات تهديد متسائل
(منافستي!)
ظل أمجد واقفا مكانه وهو ينظر اليها و الصدمة تعقد لسانه، الا أن سؤالها الأخير جعل شفتيه ترتفعان في شبه ابتسامة مذهولة، ثم قال بخفوت متنهدا بأجمل ابتسامة رأتها في حياتها
(لا عاش و لا كان)
استدارت مسك عنه، و على الرغم من غضبها المجنون منه، الا أنها لم تصدق تلك الإبتسامة الخائنة التي ارتسمت على شفتيها...
ناداها أمجد قبل أن تخرج...
(ألمظ)
فتوقفت دون أن تلتفت اليه، الا أنه قال ببساطة
(يمكنك الهرب الليلة مدعية الغضب، و سأسمح لك بالتظاهر بأن هذا هو سبب رغبتك في المبيت لدى والدك، لكن حين عودتي ان شاء الله، سيكون لنا كلام آخر)
حاولت الخروج لا مبالية من باب مكتبه، الا أنه تابع بنبرة أكثر خبثا
(و هذه الليلة التي أضعتها مني، ستدفعين ثمنها غاليا، يا ابنة سالم الرافعي، كلي جيدا حتى حينها)
عضت على شفتها كي تمنع نفسها من الضحك...
كيف له أن يغضبها الى هذه الدرجة، و في نفس الوقت يثير فيها رغبة مجنونة للضحك!
هذه المرة لم يكن هو من منع خروجها، بل والدها الذي دخل فجأة وهو ينقل عينيه بينهما، ثم قال بصرامة موجها كلامه الى أمجد
(ما الذي يحدث هنا بالضبط؟، أريد جوابا واضحا)
وضعت مسك كفها على صدر والدها و هي تقول ببرود ناظرة الى أمجد بطرف عينيها
(لا شيء هام يا أبي، مجرد تسوية ملكيات، و انتهى الأمر).
ارتفع حاجبي أمجد وهو يدس كفيه في جيبي بنطاله ناظرا اليها بتلك الإبتسامة الأقرب الى الحماقة، بينما بدا سالم الرافعي متشككا، لكن مسك قالت بجدية
(خذني من هنا رجاءا يا أبي، فأنا سأبيت ليلتي معك)
و كان أمجد هو من تكلم قائلا بهدوء
(غذيها جيدا في غيابي يا عمي)
نظر اليه سالم بإمتعاض وهو يقول هامسا لنفسه
عمى الدبب، ما تلك البلايا التي تلقى علينا!
(أمين حبيبي، هل يمكنني الإثقال عليك و طلب خدمة منك).
انتهى أمين من تمشيط شعره، ثم نظر الى أمه الواقفة في باب غرفته صباحا، فابتسم لها وهو يقول بمداعبة
(خدمة واحدة فقط يا أم أمين؟، أقل من ثلاث خدمات لن أقبل)
ابتسمت والدته ابتسامة عريضة و هي تقول ببشاشة
(سلم لي الغالي طيب القلب، حسنا و بما أنك تعرض خدماتك السخية، هل يمكنك أخذ بعد الأطعمة التي أعددتها الى عمتك أم زاهر قبل ذهابك للعمل؟).
لم يرد أمين على الفور، بل أخذ وقته في وضع عطره المفضل ناظرا الى صورته بإبتسامة خبيثة، ثم سألها ساخرا
(عمتي أم زاهر! أمممممم، لماذا أشعر بأنني سأجد بدور هناك بالصدفة قبل ذهابها الى كليتها؟)
عقدت أمه حاجبيها و اضطربت ملامحها الشفافة، لكنها قالت بتذمر.
(ماذا تقصد؟، أنني أرسلك خصيصا الى بدور؟، و هل هي غريبة تحتاج الى ان تتعرف عليها يا ولدي؟، إنها ابنة عمك منذ، منذ زمن بعيد، و أنت تعرفها كما تعرف أختك نورا)
صمتت فجأة و هي تزم شفتيها هامسة لنفسها
ما هذا الذي تقوليه يا امرأة؟، تشبهينها بأخته؟، و كأنك تقنعينه بالعكس! ابتسم أمين ابتسامة عريضة أكثر اتساعا وهو ينظر الى صورة أمه في المرآة، ثم قال مدعيا الجدية
(هل تقولين شيئا يا أمي؟).
رفعت أمه وجهها تنظر اليه ثم قالت بنبرة محببة
(أقول، أقول أن عمتك أم زاهر قد التوى كاحلها، فأعددت و لبدور طعام الغذاء ليومين
تعلم أنهما هنا بمفردهما لحين انتهاء عام بدور الدراسي و من واجبنا مساعدتهما بما أنهما وحيدتين)
سألها أمين ببساطة
(الا تستطيع بدور الطبخ و مساعدة أمها؟)
هتفت أمه قائلة تنفي بسرعة و حدة
(و هل هناك من تملك مهارة في الطبخ كمهارة بدور و جمال بدور).
ارتفع حاجبي أمين وهو يستدير الى أمه قائلا بابتسامة خبيثة
(اذن!)
عقدت أمه حاجبيها و هي تقول بإرتباك...
(حسنا، الفتاة مشغولة هذه الأيام، لديها اختبارات دورية، و من واجبنا أن)
تأففت فجأة و هي تقول بحدة ملوحة بكفها
(ما هذا تحقيق يا ولد؟، إن كنت لا تريد الذهاب فقل، لقد تعبت قدماي من الوقوف أمامك انتظارا لإنتهاء استجوابك)
ضحك أمين وهو يقترب منها ثم التقط يدها ليقبل ظهرها قائلا بمودة.
(سلامة قدميك يا غالية، أعدي ما تريدين ايصاله و سأفعل عن طيب خاطر)
ابتسمت أمه برضا و أمل، الا أنه غمزها ليقول متابعا
(مهما كانت نواياك، و نوايا عمتي أم زاهر)
قالت أمه و هي تضرب كتفه بقبضتها
(تأدب يا ولد، هل كبرت على أمك و ظننت نفسك معجب الفتيات بما أننا بدأنا نبحث لك عن عروس
!)
ضحك أمين وهو يضمها اليه وهو يقول
(لا أريد سوى أن أكون معجب امرأة واحدة فقط، هي تلك التي بين ذراعي حاليا).
ضمته اليها و هي تقول بإبتسامة جميلة حنونة
(حبيبي و نور عيني، متى يحين اليوم الذي أراك فيه بجوار عروسك، سعيدا و راضيا)
بدا أمين شاردا الا انه كان مبتسما، ينظر اليها بتفكير، ثم قال أخيرا بعفوية
(هيا الآن يا أم أمين، لقد تأخرت على عملي، هاتي مأدبتك الغالية، و الا ذهبت بدونها)
سارعت أمه تخرج من غرفته مهرولة و هي تهتف
(لحظات، و سيكون كل شيء جاهز).
خرج أمين خلفها من غرفته فوجد نورا و هي تخرج من غرفتها كذلك، ترتب حقيبتها العريضة...
فقال لها بطريقة مسلم بها
(انتظري لحظة و سأقلك في طريقي الى كليتك)
رفعت نورا وجهها اليه و قالت بقلة تهذيب
(لا تتعب نفسك، سأذهب بمفردي)
رد عليها أمين وهو يأخذ نفسا عميقا متذرعا بالصبر قدر استطاعته
(بل ستذهبين معي طالما أنا و أنت خارجان في نفس الموعد، لا داعي للمواصلات)
رفعت نورا وجهها اليه و هتفت بحدة.
(ربما آن الأوان كي تخفف من أحكامك العرفية بشأن القيادة اذن و تشتري لي سيارة صغيرة)
أغمض أمين عينيه بنفاذ صبر ثم قال بحدة
(أخبرتك ألف مرة، سأسمح لك بالقيادة حين أرى أنك أهل للموضوع، لكنك حتى هذه اللحظة، غير قادرة على قيادة دراجة أطفال دون إحداث مشاكل)
هتفت نورا به بغضب
(ليس من حقك التعامل معي بتلك الطريقة، أنا أريد سيارة من مال أبي رحمه الله، و أنت لا يحق لك أن تمنع عني ما تحصل عليه لنفسك).
صرخت أمها فجأة بغضب و هي تحمل حقيبة مطبخ جلدية كبيرة بين ذراعيها
(نورا!)
أجفلت نورا و صمتت و هي تستدير لتواجه ملامح أمها الغاضبة المصدومة، بينما هتفت أمها متابعة
(ياللك من عديمة الأدب، كيف تتجرأين على مكالمة أخيك بهذه الطريقة؟)
قالت نورا بتردد و استياء
(لكن يا أمي أنا)
قاطعتها أمها صارخة.
(و لا كلمة أخرى زائدة، اسمعيني الآن لأنني لن أعيد كلامي، أمين ليس فقط أخاك الكبير، بل هو رجل البيت وهو المسؤول عن كل كبيرة و صغيرة، و عن كل قرش تركه الحاج رحمه الله، و ليس مسموحا لك التطرق الى أي مواضيع مادية اطلاقا، حين أموت يمكنكما أن تتحاسبا حينها)
تدخل أمين قائلا
(أطال الله عمرك يا أمي، لا تقولي هذا)
الا أن أمه هتفت به بصرامة.
(بلى سأقول يا أمين، طالما أنها لا تستطيع حتى الآن التفرقة بين خوفنا عليها و بين مواضيع مادية زائلة، اذن لا داعي للشرح، فقط تستمع الى الأوامر و تنفذها)
صمتت و هي تستدير الى نورا هاتفة بصرامة أكبر
(هل كلامي واضح؟)
نقلت نورا عينيها بينهما بغضب و قهر، الا أنها قالت في النهاية صاغرة
(واضح، سأخرج)
لكن صوت أمين قصف من خلفها بقوة
(قلت سأقلك معي، و هذه هي نهاية الحوار).
ظلت نورا واقفة مكانها تعض على أسنانها بقسوة و غضب بينما كان أمين يأخذ الحقيبة الجلدية من بين يدي أمه، ثم تجاوز نورا متجها الى باب الشقة ليقول آمرا
(تعالي افتحي الباب و اسبقيني الى المصعد)
و بينما هما في المصعد، كانت نورا تتعمد تجنب النظر اليه عن قصد، أما هو فكان ينظر اليها مفكرا...
ثم قال فجأة بصوت هادىء صادم
(من أين برزت فجأة قصة مال والدك رحمه الله، و أنني أستأثر به؟).
ارتبكت نورا قليلا و اضطربت ملامح وجهها، الا أنها أبقت عينيها على أرقام المصعد بإصرار ثم قالت بخفوت
(لم أقل أنك تستأثر به)
الا أن أمين رد عليها بجدية
(بلى، هذا ما قصدتيه)
قالت نورا بخفوت و اضطراب أكبر
(لا، لم أقصد ما فهمته)
رد عليها أمين قائلا
(تعلمين أنه بإستثناء موضوع السيارة، فأنت تنفقين أضعاف ما أنفقه أنا، و أن مالك محفوظ لك دون أن ينقص قرشا واحدا، اليس كذلك أم أنك تشكين بي؟).
تهاوى التحدي عن ملامحها و أخفضت وجهها و هي تنظر الى أصابعها المتشابكة، ثم قالت بصوت مختنق
(لم أقصد ما فهمته يا أمين، حقا)
ابتسم أمين قليلا وهو ينظر الى وجهها...
كم تبدو لطيفة حين تعود الى شخصيتها القديمة، قبل أن تصبح شابة صعبة المراس، شديدة التمرد...
لقد اشتاق الى تدليلها كما كان يفعل قديما...
الا أن نورا كبرت، و أصبح التدليل بالنسبة لها منحصرا في تحقيق رغباتها فقط لا غير...
بعضها يمكن تحقيقه و البعض الآخر يشعره أنه يحارب مجتمعا غير الذي نشأ به، و عادات غير التي تربى عليها...
أحيانا يتخيل أن أحدهم يقوم بسحرها بكلامه المعسول و يجرها الى ما لا يعلمه الا الله، فيجن جنونه...
بل و يشعر بالرعب كذلك، ويود لو بإمكانه مراقبتها لحظة بلحظة...
الا أنه يعود و يهدىء نفسه و يطمئنها بأنه يعرف نورا جيدا، وهو من أكمل تربيتها بعد وفاة والدهما...
عليه أن يثق بها...
المشكلة أنه لا يثق فيمن حولها...
قال أمين أخيرا بصوت جاد على الرغم من نبرة اللطف الخادعة فيه
(و مع ذلك لم تجيبيني حتى الآن، كيف برز هذا الحوار في رأسك فجأة؟)
عقدت حاجبيها بشدة و قالت بإرتباك
(لا أعلم ماذا تقصد)
ظل أمين ينظر اليها بتفحص، ثم قال أخيرا
(أنت تتصلين بياسمين كل يوم، ربما أثرت عليك بعض من حوارات حياتها، فقمت بإقتباس أحدها علك ترهبيني مثلا، فأخاف و أحقق لك ما تريدين).
اتسعت عينا نورا بذهول و هي تهتف متراجعة للخلف...
(ماذا؟، إنه أكثر استنتاج سخيف سمعته في حياتي)
رد أمين ببساطة أكبر وهو يدقق النظر بها...
(حقا؟، الا يعقل أن تكون قد صرخت مثلا فيما يخص مال والدها ذات يوم؟)
شعرت نورا بالذهول أمام عينيه المتحفحصتين لها بمنتهى الهدوء، كيف أمكنه كشفها بتلك الطريقة؟
لقد أعجبها طريقة تصرف ياسمين مع زوج أختها بالفعل، و أعجبتها جرأتها في أخذ حقوقها...
صحيح أنها لم تتخيل أبدا أن يكون أمين قد ظلمها في أي شيء، الا أنها فكرت لو أخافته ببعض الكلمات الصادمة فسيصحو ضميره و يشتري لها السيارة التي تتمناها منذ التحاقها بالجامعة...
ابتسم أمين بضيق وهو يرى الحقيقة كاملة مرتسمة على ملامحها الجزعة...
ثم نظر بدوره الى أرقام المصعد وهو يقول بهدوء.
(عامة، سأنصحك نصيحة، لا تقلدين كل ما ترين حرفيا دون تفكير، فبعض الأمور تخفي أكثر مما تظهر، و حياة كل انسان لها أسرارها و خفاياها، حياتك على النقيض من حياة ياسمين، و لا يمكنك التشبه بها لمجرد أن الرغبة في الحصول على ما تتمنين، كوني قوية في طلبك على الأقل دون التذرع بحجج ليست من الصحة في شيء)
ظلت نورا تنظر اليه بوجه شاحب، ثم قالت أخيرا بخفوت
(أمين، أنا لم أقصد ما فهمته، هل يمكنك نسيان الأمر؟، أرجوك؟).
ظل أمين صامتا لبضعة لحظات، ثم نظر اليها مبتسما وهو يقول بصرامة
(هل يمكنك نسيان أمر السيارة؟)
ضحكت نورا في لمحة نادرة و هي تقول بإصرار
(مستحيل)
فتح المصعد أبوابه في تلك اللحظة فخرج أمين وهو يحمل الحقيبة بحرص بينما لحقته نورا و هي تقول بحيرة
(لكن، من أين لك استنتاج ظروف ياسمين بمثل هذه الدقة؟)
توقف امين مكانه للحظة دون أن يستدير اليها، بينما توترت ملامحه بشدة، ثم قال بإقتضاب.
(لقد تأخرنا جدا، أسرعي قليلا و كفى كلاما)
و ما أن جلسا في السيارة حتى وصلته رسالة على هاتفه، ففتحها عاقدا حاجبيه...
ثم اتسعت عيناه بصدمة وهو يقرأ رسالة من ياسمين مكتوب بها
صباح الخير، ابتسامة
ارتفع حاجبي أمين متعجبا وهو يفكر
انها تقول صباح الخير! ماذا؟، هل أجيبها ام أشتمها؟
أما نورا فكانت تنظر اليه بدقة، ثم قالت بإهتمام
(ممن الرسالة؟)
نظر أمين اليها مجفلا، ثم قال أخيرا بإختصار وهو يحرك السيارة.
(من شركة الإتصالات).