رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والخمسون
(أمين، أنت لا تبدو بخير منذ بضعة أيام)
رفع أمين وجهه ينظر الى بدور الواقفة بجوار السرير تنظر اليه وهو نصف مستلقي، مستندا الى ظهره و ذراعيه خلف رأسه...
حين يئست من أن يرد عليها، قالت بنبرة أكثر كآبة.
(أنت لا تتناول الطعام معنا، و تكتفي بالبقاء في الغرفة، و خالتي شديدة القلق عليك و أرسلتني كي أعرف ما أصابك، إن كان وجودي هو ما يمنعك من الأكل مع والدتك و أختك فأنا سألتزم الغرفة و لن تلمح لي طرفا، لكن هما لا ذنب لهما كي تقلقهما عليك بهذه الدرجة)
ظل أمين ينظر اليها دون رد و دون أن يتحرك من مكانه، فتنهدت بدور بأسى و هي تخفض وجهها تتلاعب بأصابعها بتوتر و حزن...
الا أنها رفعت وجهها فجأة و قالت بصوت أكثر حسما و أعلى نبرة
(يا أمين أنت من أعدتني الى هنا بالقوة، فما الذي حدث لك كي تتجنب الآخرين؟، ومع ذلك أنا على استعداد على العودة للبلد منذ الصباح الباكر و دون عودة، حتى و إن كان هذا بموتي).
عقد أمين حاجبيه بشدة وهو ينظر اليها، قبل أن يقفز من مكانه فجأة و بسرعة لم تتداركها أمسك بكتفيها يهزها بقوة جعلت أسنانها تصطك، ووجهها يشحب بشدة بينما هو يهتف بصوت خفيض من بين أسنانه
(توقفي عن التصرف من تلقاء نفسك دون الرجوع لأحد، والله يا بدور لو تجرأت على الإقدام على أي تهور جديد دون أخذ الإذن مني فسوف).
صمت قليلا وهو يرى الرعب الذي ارتسم على ملامحها الباهتة، فأخفض وجهه قليلا حتى كادت جبهته أن تلامس جبهتها، بينما استحوذ فمها اللاهث المرتجف على انتباهه للمرة الأولى...
ابتلع أمين ريقه وهو يرفع عينيه الى عينيها مصدوما من تلك اللحظة الخاطفة التي تملكته و قد أثاره خوفها كشيء غريب عليه تماما...
لم يكن خوفا بشعا كذلك الذي يظهر حين تواجه والدها، بل خوفا يجعلها أشبه بعصفور صغير هش و مصاب، يحتاج الى رعاية...
تركها أمين على الفور وهو يويلها ظهره، بينما كتفت هي ذراعيها ناظرة اليه بعدم فهم مما انتابه منذ يومين أكثر مما حدث في البلدة نفسها...
ساد الصمت بينهما لفترة، فاقتربت منه ببطىء و توقفت على بعد خطوتين منه ثم قالت بخفوت متردد
(أرجوك أخبرني كيف أصحح خطأي تجاهك و سأفعل أي شيء تأمرني به)
أغمض أمين عينيه، ثم قال بجفاء
(أخرجي من الغرفة يا بدور).
أطرقت بوجهها و هي تشعر بنفسها تود البكاء بقوة، لكنها منعت نفسها كي لا تحول البيت الى كتلة من الكآبة أكثر مما أصبح عليه منذ وصولها الى هنا، لذا همست بخفوت مستديرة عنه
(حاضر، كما تشاء)
لكن قبل أن تتحرك سمعا طرقة على الباب، تبعها صوت أمه يقول بهدوء
(يا أمين، جاء فريد لزيارتك)
انعقد حاجبي أمين وهو ينظر الى الباب المغلق بصدمة، ثم لم يلبث أن تحرك بقلب غير مرتاح اليه ليخرج فوجد أمه تنظر اليه قائلة بهمس قلق.
(فريد شكله غير طبيعي أبدا، اذهب اليه، إنه يجلس في غرفة الصالون كي تتمكنا من اغلاق الباب، لعله يريد الكلام معك في شيء خاص)
ازداد انعقاد حاجبي أمين، الا أنه تحرك في اتجاه غرفة الصالون دون تأخير بينما نظرت أمه الى بدور الواقفة في الغرفة تبادلها النظر بيأس...
دخل أمين الى الغرفة حيث وجد فريد يوليه ظهره، فقال بقلق
(مرحبا يا فريد، زيارة سارة، الا أن الحاجة تخبرني أن شكلك على غير ما يرام).
رد فريد عليه قائلا بصوت بارد خافت
(أغلق الباب، هناك حديث خاص بيننا لا أريد لأحد أن يسمعه)
لم يطل تسمر أمين مكانه، بل تحرك و أغلق الباب بهدوء، ووقف خلف فريد قائلا بهدوء
(ها قد أغلقت الباب، انا أسمعك يا ابن عمي)
ضحك فريد ضحكة ساخرة قصيرة خافتة، ثم قال أخيرا بصوت باهت النبرة
(أخبرني يا ابن عمي، ما الذي كنت تشعر به حين أتيت الى حفل خطبتي، لتهنئني، بينما كنت مرتبطا بالعروس قبلي؟).
ساد صمت مريع بينهما، و أمين ينظر اليه دون ان تتغير ملامحه، فقد توقع شيء كهذا منذ اللحظة التي عرف فيها بزيارته المتأخرة...
ثم قال أخيرا بخفوت.
(لم أكن مرتبطا بخطيبتك يا فريد، كان الأمر مرتبكا و في لحظة ظننا أنه بإمكاننا الإرتباط، لكن الموضوع انتهى قبل أن يبدأ، ولو كان يعيب خطيبتك شيئا، لكنت حاولت جهدي أن أبعدك عنها بأي طريقة غير مباشرة، ياسمين جارتي منذ عام تقريبا و لم أرى منها أي شيء يسيء الى أخلاقها، أما أنا، فلن أعرفك على نفسي، نحن أصدقاء قبل أن نكون أولاد عم...
أنا الآن لا أفكر في ياسمين ولو للحظة، سوى كأخت لي بصفة ما ستكونه، زوجة لك)
استدار فريد ينظر اليه، فهال أمين ملامح وجهه الشاحبة المجهدة...
الا أن فريد قال بصوت جامد وهو ينظر الى عيني أمين...
(لن تكون زوجة لي، لقد قمت بفسخ الخطبة)
اتسعت عينا أمين بدهشة، تحولت الى غضب بسرعة ثم هتف بعنف.
(فسخت الخطبة؟، لماذا يا فريد؟، لماذا لم تأتي إلى أولا قبل أن تتسرع؟، ياسمين انسانة ممتازة، لا تصلح الا لك، و أنت تريدها، كيف لك أن تفسد شيئا كهذا؟)
مد فريد ذقنه يسأله بجمود دون مقدمات
(هل كنت لتقبل بإكمال الخطبة لو كنت مكاني، و عرفت أنها كانت مرتبطة بابن عمك؟)
شعر أمين و كأن سؤال فريد المباشر قد ضربه في مقتل، كمن نثر الملح على جرح لا يزال حيا...
فأخفض عينيه لفترة. ثم قال بصوت غريب.
(لو كنت سألتني هذا السؤال منذ أشهر لكنت أجبتك بالرفض القاطع، لكن الآن و بعد زواجي، اكتشفت أن أي امرأة ليست مجرد آلة تقوم بإختيار واحدة منها تحمل افضل المواصفات، و ربما بأرخص الأسعار، من حقك بالطبع أن تطمح في انسانة لا تشوبها شائبة، لكن حين تتزوج أو تخطب، تجد نفسك مسؤولا عن انسانة من لحم و دم و روح و كيان، ربما لن تكون راضيا كل الرضا عن كل تفصيلة تخصها، فتفكر للحظة، هل تتخلى عنها و تبحث عن الأفضل؟).
صمت للحظة وهو يشرد بعينيه بعيدا ثم قال و كأنما يحدث نفسه
(لن يلومك أحد وقتها، لكن ماذا لو كانت الحياة قد أرسلتك الى هذه الإنسانة عن قصد، و لا أمل لها الا بك، كيف تتصرف حينها؟، هل تبحث عن الافضل أم تبقى معها وربما لن ترتاح أبدا، لكن على الأقل ستظل تحترم قرارك و تحترم نفسك)
ابتسم فريد ابتسامة ساخرة مريرة، ثم قال
(تفكير مثالي أكثر من اللازم، من شخص لم يعش الموقف الذي أقف فيه حاليا بسببك).
ابتسم أمين ابتسامة أكثر مرارة، و قال بصوت خفيض
(أنا آسف يا فريد، لم أكن أعلم أن ياسمين ستكون من نصيبك حين فكرت في الإرتباط بها، و حين عرفت، لم أجد سببا يجعلني أفسد زيجتك بها، و يؤسفني أنك لا تشاركني الرأي)
رفع فريد رأسه وهو يقول بغضب مكبوت موجع
(فكرت طوال الطريق في شكل اللكمة التي سأضربك بها)
فتح أمين ذراعيه وهو يقول دون اهتمام
(تفضل، افعل لو كان هذا سيشفي غليلك، و أنا لن أمنعك).
ساد صمت طويل بينهما، ثم قال فريد في النهاية بصوت مجهد
(أنا لا أتعامل بتلك الطريقة و لا أريد البدء بها الآن، يكفيني أن أخبرك بأنك خذلتني بشدة يا أمين و اعتبر منذ الآن أن علاقتنا قد قطعت للأبد)
و دون أي كلام آخر تحرك من مكانه ليتجاوز أمين و يفتح الباب ليخرج مسرعا، أما أمين فقد أغمض عينيه بألم أكبر ألف مرة مما لو كان لكمه بالفعل...
حين فتح أمين باب غرفة نومه كانت بدور قد خلعت ثوبها البيتي و ظلت بملابسها الداخلية فشهقت بصوت عال و هي تختبىء خلف باب الدولاب المفتوح، بينما اتسعت عينا أمين للحظات بملامح باهتة...
ثم استدار عنها عاقدا حاجبيه بشدة...
هتفت بدور بنبرة يائسة مرتبكة تتمنى الموت معها
(أنا، لم أظن أن تدخل الآن، كنت أبدل ملابسي كي أقدم لكما ما تشربانه)
رد أمين بصوت أجش أكثر من اللازم
(لقد انصرف فريد).
قالت بصوت متوسل أن يصدقها
(بهذه السرعة؟، لم أسمع صوت الباب أقسم لك و خالتي هي من طلبت مني أن أبدل ملابسي كي)
قاطعها أمين قائلا بخشونة وهو يلوح بذراعه دون أن يستدير اليها
(لا بأس، هذه ليست المرة الأولى، تابعي ارتداء ملابسك)
ارتدت بدور قميص نومها بسرعة قياسية ثم قالت بصوت مختنق ووجه محمر
(انتهيت)
استدار أمين ينظر اليها نظرة خاطفة، و هي ترتدي قميص نومها الأبيض الفضفاض ذو الأكمام القصيرة...
ماذا دهاه اليوم؟، يجذبه منها بعض التفاصيل الصغيرة في وقت غير مناسب إطلاقا...
تحركت بدور الى السرير و هي تقول بخفوت
(إن لم تكن تريد مني شيئا اذن فسوف أنام)
رد عليها أمين قائلا بعصبية
(لا أريد شيئا، يمكنك النوم)
بدت بدور مترددة قليلا، ثم سألته السؤال المعتاد و إن كانت يائسة تماما
(هل تتفضل و تنام أنت على السرير بينما أنام أنا على الأرض الليلة؟)
التفت أمين ينظر الى السرير بنظرة خاطفة، ثم قال أخيرا بجفاء.
(يمكننا مشاركة السرير)
تسمرت مكانها و هي تنظر اليها بذهول، ثم همست تسأله بغباء
(ماذا؟)
تقدم أمين من السرير و ألقى بنفسه عليه ليضع ذراعيه تحت رأسه ناظرا الى السقف بنفس مهمومة...
و حين طال بها الصمت قال بصوت جامد
(تعالي و نامي)
اقتربت بدور منه ببطىء حتى جلست على السرير ثم استلقت بهدوء و دون صوت تقريبا، و ساد بينهما الصمت و كلا منهما ينظر الى سقف دون كلام...
ثم قال أمين أخيرا بشكل مفاجىء.
(سأفكر في بيع الشقة الأخرى، و شراء بيت أكبر لنا)
تفاجئت بدور والتفتت تنظر اليه بدهشة، لكن ملامحه كانت هادئة تماما، فسألته بتردد
(لماذا؟)
رد أمين عليها دون أن ينظر اليها
(البيت هنا ضيق جدا بالنسبة للظروف التي نعيشها، أما لو انتقلنا الى بيت أكبر يمكنك حينها الحصول على غرفة وحدك، و حينها سيكون كلا منا أفضل حالا).
شعرت بدور بخواء داخلها و هي تتخيل نفسها تختبىء في غرفة بمفردها، رهينة الوحدة و التفكير فيما أقدمت عليه الف مرة في اليوم، لقد اعتادت وجوده و حتى جفاءه في الأيام السابقة...
الا أنها سألته بعدم فهم
(هل سننتقل الى بيت جديد لمجرد ان أحصل على غرفة خاصة لي؟، لماذا لا تتخلص مني أسهل؟)
لم يرد أمين لفترة طويلة، و ظنت أنه سيتجاهلها، لكنه قال في النهاية بصوت جاف
(لن أتخلص منك).
اتسعت عيناها و هي تعود لتلتفت اليه كالرصاصة، ثم هتفت تسأله بصدمة
(لن تفعل! لكن لماذا؟)
رد أمين قائلا بجفاء
(أكتشفت أنك ابنة عمي، و لا أستطيع تركك لمصيرك)
ارتجفت شفتي بدور قليلا، و هي تنظر اليه بعدم تصديق، ثم سألته بضعف
(لكن، لا اتصور كيف سيتم هذا؟، هل ستبقيني على ذمتك؟، و ماذا لو رغبت في الزواج يوما ما؟)
أجابها أمين بفتور
(ستبقين على ذمتي، الى أن أفكر في الزواج يوما ما).
شعرت بصفعة كبيرة على وجهها، فسألته بخفوت ميت
(و ماذا سيحدث حين تفكر في الزواج؟)
قال أمين بعد فترة
(لا أعلم، ربما وجدت شخصية فذة، تستطيع تقبلك على ذمتي)
أظلمت عينا بدور و هي تشعر بصفعة أخرى، فأدارت وجهها و هي تهمس بإختناق
(تصبح على خير)
ثم استدارت على جانبها كالجنين توليه ظهرها دون أن تنتظر منه ردا، و دون مقدمات انفجرت في بكاء عالي الصوت...
ظل أمين مكانه يستمع الى بكائها العنيف دون أن يقدم لها يد العون أو حتى يربت عليها من باب الشفقة...
ثم قال بعد فترة طويلة
(ظننتك ستكونين ممتنة، لا أن تقدمي هذا العرض الدرامي العنيف)
استمرت بدور تشهق باكية بصوت عال، الا أنها تمكنت من القول من بين شهقات بكائها بصعوبة و على كلمات متفرقة
(أنا، ممتنة، شكرا لك، جدا)
رد عليها أمين قائلا بجفاء.
(انت على الرحب، و الآن هلا توقفت عن البكاء كي أحاول الحصول على بعض النوم)
كتمت بدور فمها بكفها بكل قوتها، الا أنه استطاع الشعور بالسرير يهتز بفعل اهتزازات جسدها العنيفة...
جمعت ياسمين أغراضها الخاصة عن سطح المكتب ببطىء بينما وقفت زميلاتها ينظرن اليها بحزن...
ثم قالت احداهن بنبرة خافتة
(سنشتاق اليك ياسمين)
رفعت ياسمين وجهها تنظر اليها ثم ابتسمت دون مرح و هي تقول بلطف
(و أنا أيضا سأشتاق اليكم جميعا، صحيح أن معظم أيام العمل لم تكن سعيدة أبدا، لكن أنتم أصبحتم عشرة عمر بالنسبة لي)
لم تستطع أي منهن الرد عليها، بينما بقى الموظفون صامتون، فتابعت تجميع حاجياتها بصمت...
الى أن قالت احداهن و هي تدخل الى المكتب بصوت متخاذل
(يريد السيد جمال أن تخرجي من المكان قبل أن يخرج من مكتبه)
صمتت و قد بدا كلامها غاية في السوء في تلك اللحظة، الا أن ياسمين لم ترد، و تابعت ما تفعل دون كلام...
ثم أصدر هاتفها صوت وصول رسالة، فنظرت اليه لتفتح الرسالة دون حتى أن ترفعه و كأنها لم تعد مهتمة بأي شيء، لكن ما أن قرأت الرسالة حتى توقفت أصابعها عما تفعل على الفور...
صباح الخير ياسمين، اهتممت اليوم بسؤال عنك بعد ما حدث مني تجاه الحقير مديرك فعلمت أنك ستقدمين استقالتك، أنا لا أملك أن اثنيك عن قرارك، لكن و بما أني أتحمل السبب فيما حدث بشكل غير مباشر، لذا اسمحي لي أن أقدم لك المساعدة و لا تترفعي عن قبولها الى أن تجدي عملا مناسبا...
بطاقة الإئتمان لا تزال معك، اسحبي منها كلما شعرت بالحاجة، لا ترفضي، فأنا أستطيع تخيل ملامحك الآن، لكن لو رغبت في أن ننفصل بشكل أكثر تحضرا اقبلي عرضي الى أن تجدي عملا مناسبا...
و إن احتجت أي شيء آخر لا تترددي في طلبه...
أتمنى لك التوفيق، فريد
قرأت ياسمين الرسالة عدة مرات قبل أن تجلس على كرسيها شاردة تنظر الى طلب استقالتها الذي يعلو مكتبها...
و استمر صمتها الى أن همست إحدى زميلاتها بقلق.
(ياسمين، اخرجي قبل أن يخرج و يراك، لا أريده أن يسبب لك المزيد من الأذى حتى لو كان معنويا)
نظرت ياسمين اليها بصمت، ثم قالت فجأة بصوت حازم قوي
(أنا لن أستقيل)
اتسعت أعينهم جميعا، بينما سألتها زميلة أخرى
(ماذا تقولين يا ياسمين؟)
ردت عليها ياسمين و هي تلتقط طلب الإستقالة ثم شقته نصفين قبل أن تلقيه في سلة المهملات أمام أعينهم المتعجبة، ثم تنهض واقفة بقوة.
(غيرت رأيي، أنا لن أستقيل. ، أنا في أشد الحاجة لراتبي فلماذا أستقيل؟، و إن كان سيتوقف في كل الأحوال اذن فليتوقف بشرف، أنا لن أستقيل بل سأقدم الشكوى التي سأتهمه فيها بالتحرش) اتسعت أعينهم اكثر و أكثر. فاقتربت منها احدى زميلاتها و هي تقول بقلق
(لا تتهوري يا ياسمين، لن تجني سوى فضيحة لسمعتك لن تنفعك شيئا، و لن تستطيعي العمل في مكان آخر حيث سيظنك الجميع تتبلين بالتحرش على زملائك و مدرائك، فكري جيدا).
رفعت ياسمين وجهها تنظر اليها ثم أجابتها بحزم
(فكرت جيدا، لو استقلت الآن فسأؤكد الإتهام ضدي، لكني سأحارب حتى النهاية، حتى لو خسرت فلن أندم، أنا اعلم أن أي منكم لن تساندني و تشهد معي، على الرغم من أننا جميعا متأكدون أنه كل واحدة منا قد نالها الكثير من تحرشاته اللفظية المقرفة)
ساد صمت متوتر بين الجميع فتابعت تقول.
(أنا لن اضغط على أي منكم، لكنني سأقول لكم بمنتهى الوقاحة و الجرأة حتى لو لم يعجبكن كلامي، هذا الرجل يجد لذة جنسية في اسماع الموظفات لديه من كلامه الفاحش، لذا هو لا يختلف كثيرا عن المتحرش الجسدي، فإن كنتن راضيات عن هذا، أنا لن أقبل أكثر، لقد أخطأت في السكوت كل هذه الفترة، حتى تحول المزاح الى آخر أكثر جرأة، ثم أكثر بذاءة، ثم أكثر فحشا، و لن أتعجب إن طالت يداه في مرة من المرات لأنها المرحلة المقبلة دون شك).
نظرت اليهن و قد بدت ملامحهن تتغير ما بين الصدمة و الإرتباك مع همهمات متوترة، فقالت أخيرا بهدوء
(أنا سأبدأ طريقي من هذه اللحظة و أخرج بشكواي الى الإدارة، من تريد أن توقع الشكوى معي، فلتفكر خلال لحظات).
وضعت بدور أطباق الفطور أمام أمين الذي كان يجلس صامتا، و قبل أن تنصرف لتجلب المزيد، سمعته يقول بخفوت جاف
(شكرا)
فتوقفت و هي تنظر اليه متفاجئة، الا أنه كان يوليها ظهره ناظرا الى الأطباق بتفكير عميق...
علي ما يبدو أنه كان شاردا حين شكرها و على الرغم من ذلك اجتاحتها سعادة غريبة فتابعت طريقها الى المطبخ بإبتسامة عريضة...
و حين عادت تحمل صينية الشاي بحرص كي لا يقع من بين يديها مع عرجها، وجدت نورا و قد اسيقظت و جلست على الكرسي بجوار أمين تهمس له بشيء لكن ما أن رأت بدور حتى امتنعت عن متابعة كلامها...
وضعت بدور الصينية على الطاولة ببطىء، ثم جلست على الكرسي الآخر المجاور لأمين، فنظر اليها بتلقائية، ليجدها اليوم قد صففت شعرها رافعة جانبيه بمشابك بسيطة، بينما تركته منسدلا على فستانها البسيط الناعم، و للحظات فكر أنها بالفعل جميلة بطريقة خاصة...
أخفض أمين عينيه ما أن التقت عيناها بعينيه...
تكلم أمين يسألها بهدوء
(ألم تستيقظ أمي بعد؟)
ردت عليه بدور و هي تضع له السكر و تقلبه في كوبه.
(استيقظت لصلاة الفجر، ثم نامت فقررت الا أوقظها لترتاح قليلا)
تكلمت نورا فجأة قائلة بصوت حاد
(أمين، أريد الكلام معك في موضوع)
نظر اليها أمين ثم سألها باهتمام
(تكلمي، ما الأمر)
كانت بدور على وشك وضع قطعة خبز في فمها، حتى قالت نورا بصوت أكثر حدة و هي تنظر اليها عن قصد
(موضوع خاص، لا أريد لاحد غريب أن يسمعه).
تجهمت ملامح أمين بشدة، بينما ارتبكت بدور و احمر وجهها فوضعت قطعة الخبز من يدها و قامت من مكانها و هي تقول بخفوت
(نسيت العسل، سأذهب لأحضره)
نظر اليها أمين و هي تبتعد بمجهود، ثم أعاد عينيه الى نورا ليسألها بخشونة وقد وجد نفسه يشعر بالإستياء منها على نحو مفاجىء...
(ما هو الموضوع الذي تريدين الكلام به؟)
ردت عليه نورا بحدة مماثلة
(أريد مبلغا من المال لشراء بعض الأغراض)
ارتفع حاجبي أمين وهو يسألها بإستنكار.
(هل هذا هو الموضوع الخاص؟)
أجابته نورا قائلة دون شعور بالندم
(نعم بالطبع، لماذا يتوجب على مناقشة أموري المادية و ما أحتاج أمام انسانة غريبة لمجرد أنها زوجتك)
رد امين عليها بجفاء
(بدور ليست غريبة، هي ابنة عمك قبل كل شيء)
هتفت نورا و هي تنهض من مكانها
(لكنني لست مرتاحة في وجودها، لم أعد أشعر بالخصوصية في بيتي مطلقا و كأنني مراقبة دائما. )
أمرها أمين قائلا بخشونة
(أخفضي صوتك يا نورا).
نظرت اليه مستاءة، ثم لم تلبث أن استدارت لتغادر منفعلة الا أنه نادها قائلا
(سأترك لك ما تحتاجين، هل تريدين شيئا آخر؟)
أجابته نورا دون شكر
(لا)
ثم غادرت بسرعة و هي تضرب الأرض بقدميها، فزفر أمين وهو ينظر الى الطعام دون شهية حقيقية و ما كاد أن يرفع كوب الشاي الى فمه حتى انتفض فجأة على صوت نورا تصرخ بعصبية
(بدور، بدووووور).
خرجت بدور من المطبخ تعرج متعثرة، و ملامحها بيضاء من شدة القلق، بينما خرجت نورا في ذات الوقت ممسكة بإحدى أطقم الكلية معلقا و قد تم كيه بإحكام
و ما أن تقابلا حتى هتفت نورا فيها غضب
(هل أنت من وضع هذا الطقم في غرفتي؟)
ردت بدور بإرتباك
(نعم، كان مغسولا فقمت بكيه صباحا و أدخلته للغرفة أثناء نومك)
اتسعت عينا نورا بلمعان غاضب و هي تهتف.
(ألم يسبق أن طلبت منك الا تدخلي غرفتي، ألم أخبرك أنني لا أريد لأحد لأن يقتحم مكاني الخاص مطلقا؟)
شحب وجه بدور بشدة، فتلعثمت قائلة
(نعم، لكن انا حين قمت بكي الطقم لم أستطع تركه هنا، فتصرفت بتلقائية، لم أفكر أبدا في اقتحام خصوصيتك)
هتفت نورا بصرامة و انفعال.
(أنا لم أطلب منك القيام بكي ملابسي، و ليس لانك تريدين الظهور بمظهر سندريلا أمام زوجك أن يمنحك هذا الحق في الدخول الى غرفتي دون اذن و رؤيتي و انا نائمة)
هتفت بدور بحدة و قد زاد ارتباكها بشكل جعلها تشحب و تتعرق
(أنا لا أريد الظهور بأي مظهر، انا أتصرف كما أتصرف في بيتي، كما أنني حين دخلت غرفتك كان الظلام لا يزال مغرقا الغرفة، فلم أراك أثناء نومك و لم ألمح أي شيء من الغرفة)
صرخت نورا بحنق و استياء...
(فقط ابتعدي عن غرفتي و أشيائي و عني أنا شخصيا، مفهوم؟)
نهض أمين من مكانه قائلا بصرامة
(كفى يا نورا، بدور ليست خادمة هنا كي تعامليها بتلك الطريقة)
نظرت اليه نورا بذهول و هي تهتف قائلة
(هل يرضيك ان تدخل غرفتي دون اذن و أنا نائمة؟)
أجابها أمين قاطعا
(لن تدخل بعد الآن، و لن تقوم بأي اعمال اضافية نيابة عنك، انتهى الموضوع، الان اذهبي لترتدي ملابسك كي أصحبك معي للكلية).
زمت نورا شفتيها و هي ترمق بدور شذرا، بينما قال أمين بجفاء
(و أنت يا بدور، اذهبي و ارتدي ملابسك بسرعة)
نظرت اليه بدور مجفلة شاعرة بالرعب، ثم سألته بصوت لا يكاد يسمع
(ل، لماذا؟)
أجابها أمين بهدوء
(سأقلك الى كليتك)
اتسعت عينا بدور و هي غير مستوعبة لما نطق به للتو، فهتفت بذهول
(ماذا؟، كليتي؟، هل تقصد أنني سأتابع عامي الدراسي؟).
أومأ أمين برأسه مبعدا عينيه عن اللهفة السعيدة التي ظهرت على ملامحها بشكل يدعو للأسف، ثم قال بخشونة
(و سأعيدك الى البيت أيضا)
كانت بدور لا تزال في طور الصدمة، الا أنها سألت بصوت مرتبك
(لكن أنا لا أعرف موعد عودتي تحديدا)
أجابها أمين قائلا بجفاء
(فقط اتصلي بي قبل خروجك بفترة و أنا سآتي اليك)
قاطعتهما نورا قائلة بحدة
(و لماذا لا تقلني في العودة أنا أيضا؟)
نظر اليها أمين ثم تنهد مجهدا وهو يقول بنفاذ صبر...
(ما أقوله ينفذ دون نقاش، هيا أسرعا)
جرت نورا الى غرفتها و هي تهتف غاضبة منفعلة بينما كانت بدور لا تزال تقف مكانها ناظرة اليه بعدم تصديق حتى التفت اليها فهمست بصوت مرتجف
(لا أعرف كيف يمكنني شكرك، لا أصدق أنني سأكمل عامي الدراسي)
أجابها أمين بخشونة
(المهم أن تنجحي، و لا يضيع تنازلي هباءا)
قالت بدور قاطعة بكل حرارة
(أعدك أن انجح، سأبذل قصارى جهدي كي أعوض ما فاتني).
ثم استدارت لتبتعد بسرعة، الا أن أمين ناداها فالتفتت اليه متسائلة، حينها قال بصوت أجش
(لا تدعي كلام نورا يؤلمك)
ارتسمت ابتسامة ناعمة بطيئة على شفتيها ثم همست برقة و هي غير مستوعبة أنها تتبادل الحديث معه بأريحية
(إنها تغار، و أنا لو كنت مكانها لشعرت بالغيرة على أخي)
سألها أمين دون تفكير
(ألم تشعري بالغيرة حين تزوج زاهر؟)
ردت بدور متفاجئة من سؤاله.
(زاهر؟، والله لو تزوج زاهر أربعة نساء فلن أمانع أبدا، كان الله في عونهن هن)
وجد أمين نفسه يضحك قبل أن يستطيع منع نفسه و ما أن نظرت بدهشة الى ضحكته حتى زم شفتيه و أمرها قائلا بخشونة
(هيا أسرعي، سأتأخر عن عملي).
جالسا في سيارته يراقبها من بعيد، كانت قد اعطته الموعد و المكان فجلست تنتظره أمام أبواب كليتها على أحد الأسوار...
مرتدية عبائتها السوداء التي لا تظهر منها شيئا، تبدو وحيدة و منعزلة عن الجميع تراقب الطرقات في انتظاره، بعيدة عن صخب و مزاح زملائها في الجامعة...
و على الرغم من ذلك الا أنه وقف يراقبها لفترة تجاوزت النصف ساعة...
و هي ترفض الإتصال به كي لا تشكل عبئا عليه...
أما هو فكان و كأنه ينتظر أن يرى منها شيئا مشينا، و حين طال انتظاره و لم يرى سوى صورة واحدة لجلوسها وحيدة تراقب الطريق، تحرك بالسيارة ليظهر لها...
و ما أن رأته بدور حتى تهللت ملامحها و نزلت عن السور لتقترب منه مبتسمة بوجه وردي متحمس لشيء و لأول مرة منذ زواجهما...
فتحت باب السيارة و جلست بجواره فبادرها سائلا بهدوء
(هل تأخرت عليك؟)
أجابته بدور بسرعة و لهفة دون أن تفقد ابتسامتها...
(لا أبدا، في موعدك تماما)
لم يرد أمين، بينما شعر بداخله بشيء موجع، كئيب...
كان يختلس النظر اليها بين الحين و الآخر، و هي مستلقية بجواره في سريرهما حريصة كل الحرص الا تلمسه كي لا ينفر منها...
تبدو مشغولة الفكر و هي تنظر الى هاتفها بإهتمام بالغ في الظلام...
للحظات كان يشعر بالإهتمام و الفضول لمعرفة ما يشغل اهتمامها الى هذا الحد، ثم تحول الفضول الى شك، خاصة و أنه يستطيع أن يلمح شاشة موقع التواصل على هاتفها...
ترى أتظنه نائما لذلك تتصرف بحرية؟
اختلس النظر اليها مجددا، فرآى حاجبيها منعقدين بينما عيناها تبرقان و شفتاها تبتسمان مما جعل الشك في داخله يتضاعف أكثر، و يتحول الى نار تحرق صدره دون رحمة...
تكلم فجأة بخشونة جعلتها تنتفض مكانها مفزوعة
(الازلت مستيقظة؟)
راقب أمين ردة فعلها و حركات أصابعها جيدا، فعلى الرغم من أنها انتفضت الا أنها لم تسارع بغلق الشاشة بل تركتها كما هي
وضعت بدور يدها على صدرها اللاهث و هي تنظر اليه بذعر، ثم همست بأسف.
(هل أيقظتك من النوم؟، أنا آسفة جدا، أنا فقط لم أستطع النوم فسرقني الوقت)
استقام أمين قليلا ليستند برأسه الى ظهره السرير وهو ينظر اليها عن قرب ثم سألها بصوت أجش
(تبدين مشغولة بشيء ما)
رفعت بدور هاتفها تنظر اليه، ثم برقت عيناها على ضوئه قبل أن تقول بصوت متردد...
(مجرد شيء سخيف لا معنى له)
ظل أمين صامتا قليلا ثم وجد نفسه يقول دون تفكير
(أريد معرفة هذا الشيء السخيف اذا لم يكن لديك مانع).
نظرت اليه بدور متفاجئة، لكن ملامحه لم تكن ظاهرة تماما في الظلام، لذا مدت الهاتف أمامه و هي تقول بحرج طفولي...
(كنت أنظر الى هذا الجهاز، انظر كم هو رائع)
نظر أمين الى التسجيل الذي قامت بتشغيله، فوجد شابة ترقص بمنتهى الرشاقة...
لكن ما كان يميزها لم يكن مهارة رقصها أو رشاقتها، بل كان جهاز تعويضي عن ساقها اليمنى المبتورة...
للحظات ظل أمين يتابع التسجيل عله يفهم ما تقصده، الى أن انتهت الرقصة و توقف التسجيل فلم يحدث شيئا، حينها رفع عينيه ينظر اليها ثم قال أخيرا بحيرة
(لم أفهم شيئا، ما الذي أثار انتباهك في هذا التسجيل؟)
ردت بدورهمسا بلهفة مبهورة...
(تلك الساق الصناعية المرنة، تتحرك كالساق الطبيعية تماما، حتى أنها ترقص أفضل ممن يتمتعون بساق عادية)
استند أمين الى مرفقه ينظر اليها عاقدا حاجبيه ثم أجابها بخفوت.
(و ما الذي يهمك في شيء كهذا؟)
ردت بدور بخجل و هي تعض اصبعها
(فكرت كم ستكون حياتي رائعة لو حصلت على ساق مثلها، تجعلني أتحرك بصورة طبيعية تماما، بل وأجري و أرقص أيضا)
اتسعت عينا أمين في الظلام قليلا، ثم قال بصوت غريب
(لكن هذه الساق المرنة لمن فقد ساقه)
ردت عليه بدور بحماس
(أعرف لكنها في النهاية جعلت منه شخصا طبيعيا تماما)
لم يفهم أمين الى ماذا ترمي بالضبط لكنه قال في النهاية.
(عامة أعتقد أن مثل هذه الأجهزة شديدة التطور لم تصل الى البلد بعد)
ردت عليه بدور دون يأس...
(لكن يمكن طلبها من الخارج)
ضحك أمين قليلا وهو يقول
(أهي وجبة أطفال كي يتم طلبها؟، مثل هذه الأجهزة يجب أن تكون متطابقة مع الساق تماما، كما أنها ستكون باهظة الثمن)
أجابته بدور بلهفة حارة
(لو اقتضى الأمر أن أبيع ذهبي بأكمله فسأفعل)
نظر اليها أمين متفاجئا، ثم سألها بقوة
(هل تتحدثين عن نفسك؟)
ردت عليه بدور بقوة.
(عمن أتحدث اذن لو لم أكن أتحدث عن نفسي)
نظر اليها كمن ينظر الى طفل مخبول، ثم قال ببطىء
(بدور، أخبرتك أن هذه الساق لمن بترت ساقه، أما أنت فلديك ساقين)
ردت عليه بدور بصوت حزين
(لكن لدي ساقا أقصر من الأخرى، أما هذه الساق فتماثل الاخرى تماما لذلك يتحرك الإنسان بصورة طبيعية)
رمش أمين بعينيه وهو يقول مصدوما
(لحظة، لحظة، هل حقا فهمت ما تقصدين؟، هل تلمحين الى بتر ساقك؟)
همست بدور بأنين يائس.
(بماذا تفيدني ساقا أقصر من الأخرى سوى أنها تسبب لي العرج و المشي المشوه)
استقام أمين ليجلس بجوارها وهو ينظر لوجهها في الظلام ثم قال بعدم تصديق
(بدور، هل تقدمين على بتر ساقك؟)
ردت عليه بدور مؤكدة
(لما لا، طالما سيتحقق لي السير الطبيعي و الحركة و الرقص)
كان أمين ينظر اليها مشدوها، ثم أجابها ببطىء
(لكنك في نهاية اليوم ستخلعين تلك الساق و تنامين مع ساقك التي قمت ببترها بنفسك)
قالت بدور بعدم اهتمام...
(من سيعلم! الناس ستراني طبيعية، أما نهاية اليوم فهي ملك لي و لا أظن أنني سأحزن عليها كثيرا)
شعر أمين بشعور غريب تماما تجاهها وهو يسمع منها هذا الهذيان، ثم قال أخيرا
(لن يقدم الأطباء على بتر ساقك دون حاجة طبية لذلك، أنت تتوهمين وضعا ليس بحقيقي)
عند هذه النقطة بدأ اليأس يتسلل اليها و هي تهمس بقنوط
(أحقا لن يقبل الأطباء بإجراء مثل تلك الجراحة؟، كنت أظن أن الأمر حرية شخصية للمريض، فهو جسده في النهاية).
أجابها أمين قائلا بحدة
(هذا لو كان المريض يتمتع ببعض العقل، لا أصدق حتى أنك فكرت في أمر كهذا)
ثم لم يلبث أن ضحك رغما عنه قبل أن يقول
(أنت غبية جدا يا بدورة)
خرجت من بين شفتيها تنهيدة أسف و يأس، و هي تستلقي في السرير ناظرة الى السقف، ثم قالت بإختناق
(على ما يبدو كذلك، فهذه كلمة أبي دائما)
اختفت الضحكة من على شفتي أمين وهو ينظر اليها في الظلام بشعور جديد غامض، ثم سألها بخفوت أجش.
(ألم تفكري في زوجك و أنت تقترحين بتر ساقك؟، ربما كان يفضل ساقك القصيرة على التخلص منها و استبدالها بجزء اصطناعي)
ادارت بدور رأسها تنظر اليه في الظلام و هي تهمس بعدم فهم
(زوجي! انا لن أتزوج أبدا)
ساد صمت ثقيل متوتر بينهما، ثم قال أمين أخيرا بصوت ثقيل و قد انتابته مشاعر غريبة في ظلام تلك الغرفة
(أظن أنك متزوجة بالفعل).
فغرت بدور فمها بذهول و هي تحاول تبين ملامحه في الظلام دون جدوى، و لم تستطع سوى أن تهمس قائلة
(ماذا؟)
لكن الكلمة ماتت في حلقها ما أن شعرت بكفه تلامس بطنها برقة في الظلام فإنتفضت بقوة و كأن تيار كهربي مسها، هتفت بدور
(أمين، ماذا؟).
لكنها مجددا لم تستطع الكلام حين أخفض راسه ببطىء و شعرت بشفتيه تمسان شفتيها برفق، حاولت الإعتراض و قد انتابتها حالة تبلد مفاجئة، الا أنه لم يكن ليتركها و قد اشتعلت به مشاعر غير مرغوب بها أطاحت بتصميمه السابق...
كان شيئا يسلم شيئا، بدئا من طفوليتها، الى صوتها الحزين، ثم اقتراحها المجنون...
و تطرقهما الى رأي زوجها في فقد جزء هام من جسدها، حتى طالت أصابعه نعومة هذا الجسد...
فابتلع ريقه بصعوبة و علم أنه لن يستطيع منع نفسه عنها في تلك اللحظة...