رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والثلاثون
قلب في هاتفها بغضب وهو لا يزال مسود الوجه حاقد العينين بعد أن تم رميه خارجا...
حين وجد هاتفها موضوعا على الطاولة في غرفة زوجته، لم يفكر طويلا قبل سحبه ووضعه في جيب بنطاله دون أن يلاحظ احد...
كان يعلم أنه سيحتاجه، لكن للأسف لم يجد به شيء...
علي الأرجح انها مسحت جميع الرسائل الخاصة بينها و بين الرجل الآخر، لقد تأكد الآن أنه ليس فريد من كانت على علاقة به بعد تغير معاملته لها...
لكن ما الفائدة بعد أن مسحت كل شيء؟
رفع عادل وجهه وهو يهمس بغيظ
(الحقيرة)
ظل جالسا مكانه في الطريق بضعة دقائق وهو يتلاعب بهاتفها ناظرا اليك بتفكير طويل، ثم فجأة طلب رقما منه، و ما أن رد صاحبه أجابه عادل قائلا
(مرحبا يا رجل، إنه أنا عادل، نعم أتصل بك من رقم غريب، اسمع، بما أنك خبير في الهواتف و برامجها، ترى هل يمكن استعادة رسائل و محادثات من على الهاتف بعد مسحها؟).
ظل يستمع للحظة قبل أن تبرق عيناه بتألق شرس، ثم قال أخيرا بنبرة تشفي
(رائع، سأمر عليك خلال ساعة في محلك كي تستعيد لي ما تم حذفه).
خرج قاصي من السيارة الصغيرة، و نادى قائلا
(افتح الباب و اخرج، لكن قف على الرصيف)
خرج عمرو من السيارة ثم أغلق الباب ووقف على الرصيف ممتثلا لأوامر والده، بينما أخرج قاصي بضعة أكياس و ثمرة بطيخ ضخمة، حملها تحت ذراعه...
ثم قال مؤكدا على غلق السيارة
(هيا بنا يا بطل)
لحق عمرو به متأرجحا، لكن و قبل أن يدخلا الى البناية، سمعا صوتا من خلفهما ينادي بلهفة
(سيد قاصي، سيد قاصي).
توقف قاصي مكانه مغمضا عينيه وهو يزم شفتيه بغضب و نفاذ صبر، بينما همس له عمر
(هل نتظاهر بأننا لم نسمعه؟)
رمقه قاصي بطرف عينيه ثم سأله بإقتضاب أجش
(هل سيكون هذا تصرفا وقحا؟)
أومأ عمرو برأسه موافقا، ثم قال بخفوت
(تيماء قالت الا نعيد مثل هذا التصرف)
رفع قاصي حاجبيه وهو يسأله عاقدا حاجبيه
(هل قالت هذا؟)
أومأ عمرو برأسه مجددا و قال بسرية
(و نحن لا نريد اغضاب تيماء).
ازداد انعقاد حاجبي قاصي وهو يقول مفكرا بنفاذ صبر
(لا نريد ذلك، فهي قادرة على افقاد المرء عقله بإستمرار طنينها فوق أذنه طوال الليل في تعليمات لا تنتهي، تبا)
وصل الرجل اليهما لاهثا مهرولا وهو يحاول التعامل مع مشاكل الركبتين و المفاصل...
(سيد قاصي، مرحبا يا رجل، عاش من رآك)
استدار قاصي ببطىء ينظر الى الرجل بملامح جامدة قاتمة، ثم قال أخيرا بإختصار
(رأيتني بالأمس)
ضحك الرجل وهو يسعل قليلا، ثم قال بلهفة.
(يا سيدي نحاول اكرامك فترفق بنا)
ضيق قاصي عينيه و قال بجفاء
(يا سيد ابراهيم منذ أن انتقلنا الى هنا من شهر و أنت تحاول اكرامنا كل يوم دون توقف، بالمأكولات و المحشوات و أطباق الحلوى، الا ترى أنك تبالغ قليلا!)
هتف الرجل بحرارة و جدية
(والله قليل عليكم، نتمنى أن نخدم أكثر)
ابتسم قاصي ببرود و قال مختصرا
(كفيت ووفيت، الآن بعد اذنك)
هتف الرجل يمنعه من الصعود
(ابني يا قاصي، انتظر لحظة، لم نطمئن على الأحباب).
تشنج قاصي تلقائيا وهو يضغط على أسنانه حتى أصدرت صريرا مكتوما، الا أنه سأل بصوت خفيض ينذر بالشر
(من هم الأحباب بالضبط؟)
بدا الرجل مرتبكا قليلا الا أنه قال ببشاشة
(تيماء الجميلة ذات أجمل عيون، كيف حالها الحلوة اليوم؟ هل أعجبها محشو الفلفل بالأمس؟، إنه معد بالمرق الدسم و السمن البلدي و)
قاطعه قاصي يقول بحدة.
(شرائح اللحم الضأن في قاع الصينية، مع حلقات البصل و الطماطم، شرحت لي الطريقة بالتفصيل بالأمس و أنت تسلمني الصينية)
بدا الرجل أكثر ارتباكا الا أنه قال بحرج وهو يضحك
(حسنا، في الإعادة استفادة، من المؤكد تحتاجان الى المزيد من النصائح و)
قاطعه قاصي مجددا ماطا شفتيه في ابتسامة ثقيلة
(لا نحتاج، نحن ندبر أمورنا، شكرا)
حاول الانصراف، الا أن الرجل قال مجددا بمرح.
(من يصدق أن تلك الدمية الجميلة كبرت و استوت و أصبحت زوجة تفتح بيتا و ترعى زوجا و ابنه!)
تصلبت ملامح قاصي و برقت عيناه بشر قبل أن يستدير الى الرجل يسأله ببطىء
(من تلك التي كبرت و استوت؟، هل تتكلم عن زوجتي؟)
ضحك الرجل وهو يقول
(زوجتك كانت تجلس على ركبتي و تبلل ملابسي في طفولتها)
ازداد بريق الشر في عيني قاصي ثم قال بتشنج، مقطعا أحرف كلماته من بين أسنانه
(زوجتي، تبلل، ملابسك).
رد الرجل وهو يتظاهر بالتسليم رافعا كفيه ضاحكا
(لكن من يستطيع الكلام الآن عن السيدة الأستاذة و هي على وشك الحصول على الدكتوراة؟)
أجابه قاصي ببرود
(أمامها سنوات كي تحصل عليها)
هتف الرجل بجدية و إخلاص
(ان شاء الله ستحصل عليها، تيماء فتاة ذكية و متفوقة، و تستطيع المتابعة مع البيت و المزيد من الأطفال أيضا، بالمناسبة، اليس هناك شيئا قادما في الطريق تسعدانا به؟).
ظل قاصي على وقفته و ثمرة البطيخ تحت ذراعه يعتصرها حتى أوشكت على أن تتحطم لشظايا، ثم قال ببرود
(نعم، مرحاض، قمنا بتكسير الحمام و سيتم تركيب المرحاض الجديد اليوم)
ضحك الرجل عاليا وهو يقول
(يا رجل قصدت طفلا، اليس هناك طفلا في الطريق؟)
أجابه قاصي دون تجاوب
(الطريق مزدحم، ربما علق في المرور).
ضحك الرجل وهو يرفع يده ليقرص وجنة قاصي إلى تسمر وهو ينظر الى كف الرجل بتوجس مستعدا لضربه بثمرة البطيخ، الا أن الرجل أخفض يده و ضرب على الثمرة قائلا بمرح
(ستكون حلوة و حمراء كتيماء الصغيرة، أقصد الأستاذة تيماء)
اتسعت عينا قاصي وهو يهمس بذهول
(حلوة و حمراء! هل تتحدث عن زوجتي؟)
بدا الرجل غافلا عن نية قاصي في شنقه على باب البناية، ثم سأل مبتسما بإرتباك خجول
(و كيف حال سيدة الكل)
قال قاصي بفظاظة.
(من سيدة الكل هذه أيضا!)
تنحنح الرجل قائلا بمزيد من الحرج
(السيدة حماتك، السيدة ثريا حبيبة الكل)
عقد قاصي حاجبيه وهو يرمق الرجل بتوجس...
سيدة الكل، حبيبة الكل، حلوة و حمراء، ما خطب هذا الرجل؟
ضيق قاصي عينيه وهو ينظر الى الرجل الذي بدا على وشك قول شيئا، و بالفعل قال بحرج.
(والله خير لها التخلص من تلك الزيجة التي وقعت بها، الإنسان يكون متزنا طوال عمره ثم تضربه عاصفة من التخلف تجعله يتصرف بطريقة مخالفة لما اعتاد، لكن المهم أن يخرج من تلك الكبوة، و السيدة ثريا سيدة العقل كله، الا أنها فقط أسائت الإختيار)
ظل قاصي واقفا مكانه يستمع اليه بصمت، و ما أن انتهى من كلامه المتلعثم حتى سأله قاصي بجفاء
(ثم؟)
رفع الرجل وجهه الى قاصي و قد انتابته نوبة شجاعة فقال بسرعة.
(الحقيقة يا قاصي يا ولدي)
قاطعه قاصي قائلا بفظاظة
(لست ولدك، ادخل في الموضوع)
تلعثم الرجل الا أنه قال متشجعا
(بإختصار، كنت أود أن أطلب منك، يد السيدة حماتك، سيدة الكل)
ضيق قاصي عينيه أكثر، ثم لم يلبث أن أدرك ما يقول الرجل ففغر فمه و قال بلهفة
(أتريد الزواج من ثريا؟، أحقا هذا ما تريده؟)
أومأ الرجل برأسه مترددا وهو ينظر الى ملامح قاصي التي تغيرت مئة و ثمانين درجة...
فأسرع قاصي الى ابعاد ثمرة البطيخ الى ذراعه اليسرى و أمسك الأكياس بكفه الأيسر وهو يمد كفه الأيمن الى الرجل هاتفا بترحيب
(أهلا أهلا، يا مرحبا، من اليوم الأول منذ عودتنا الى هنا و أنا أقول لتيماء أن العم ابراهيم رجل فاضل صالح، و سيكون وجه الخير علينا جميعا)
ابتسم الرجل بسعادة وهو يهتف بحرارة
(هل هذا يعني أن طلبي مقبول؟)
هتف قاصي بقوة و دون تردد.
(بالطبع مقبول، و هل سنجد من هو أفضل منك زوجا؟، يكفي أنني سأكون مطنئنا عليها و هي معك، أهلا أهلا، يا فرج الله)
رد ابراهيم عليه قائلا بدهشة
(لكن ألن تسأل سيدة الكل أولا؟)
أجابه قاصي ملوحا بذراعه هاتفا
(دون سؤال، أنا رجل البيت كلمتي نافذة على الجميع، طلبك مجاب باذن الله، يا فرج الله، الآن اسمح لي، يجب أن أصعد لأزف اليهم الخبر، بعد اذنك، بعد اذنك، تفضل، تفضل).
صعد قاصي على السلالم كل درجتين معا و عمرو يلحق به سعيدا، بينما مال اليه قاصي و همس سرا بحماس
(سنتخلص من جدتك، اهتف هاي)
رفع عمرو قبضته و هتف
(هاي)
همس قاصي مجددا
(سنتخلص من جدتك، اهتف هاي)
رفع عمرو قبضته هاتفا
(هاي)
فرد قاصي كفه وهو يقول سعيدا بنشوة
(كف خماسي)
ضرب عمرو كفه بكف قاصي ثم صعدا الى الشقة، فجرى عمرو الى الداخل وهو يهتف بقوة عاليا...
(تيماء، تيماء، سنتخلص من الجدة ثريا، هاي).
أغمض قاصي عينيه وهو يشتم من بين أسنانه دون صوت، بينما يضع الأغراض من يديه في المطبخ...
ثم ارهف السمع بتوجس رافعا حاجبيه، فسمع تيماء من الداخل تقول بهدوء خطير
(حقا! هل هذا ما قاله أبوك؟، رائع)
أغمض قاصي عينيه وهو يهمس
(كلمة رائع هذه فيها وصلة نكد ليومين متتاليين)
زفر وهو يخرج من المطبخ فوجد عمرو خارجا من غرفة تيماء رافعا قبضته وهو يهتف
(سنتخلص من الجدة ثريا، هاي).
عبث قاصي بشعره الناعم ثم استدار و ركله فترنح عمرو قليلا الا أنه تابع جريه غير عابئا...
وقف قاصي بإطار باب الغرفة ينظر الى تيماء، كانت توليه ظهرها و هي ترتب بعض الملابس المغسولة، تطويها بعناية و تضعها في الدولاب...
كانت قصيرة بالنسبة لطول الدولاب، تستطيل على اطراف اصابعها و هي تحاول ان تصل للرف الأخير...
و بينما هي ترتب دفعة أخرى من الملابس المطويلة، أخرجت شيئا صغيرا من بين الملابس...
كان عبارة عن قطعة ملابس صغيرة خاصة بطفل حديث الولادة بلون السماء...
أمسكتها تيماء و نظرت اليها مبتسمة بحنان، تتأملها برفق و هي تتحسس نعومتها القطنية بأصابعها...
شعر قاصي بغصة في حلقه، شديدة العنف...
تلك القطعة تخص ابنهما سليم، لا تزال تحتفظ بها حتى الآن بين ملابسها، تذهب معها أينما ذهبت...
لا يزال يتذكر بعد عدولها عن قرار السفر للخارج بأيام...
دخل الى غرفتهما في شقته، و كانت على نفس الحال، الا أنها كانت ترتب الملابس التي تخرجها من الدولاب و تضعها في حقيبة سفرها التي لم تخرج ملابسها منها بعد، فقط بدلت الملابس الثقيلة بأخرى خفيفة...
ووقفت يومها ممسكة بنفس القطعة، تتأملها بنفس النظرة، و نفس الإبتسامة...
يومها صرخ قاصي بجزع و غضب أفزعها.
ماذا تفعلين؟، ماذا تفعلين بتلك الحقيبة مجددا؟، و شعر بقلبه يهوى بين أضلاعه انتظارا لإجابتها، فنظرت اليه مبتسمة و قالت ببساطة
لدي عمل و جامعة يجب على العودة اليهما، هل نسيت؟، رد عليها قاصي وقتها بصوت أجش
هذا، هذا يعني، عودتك الى مدينتك و بيتك القديم! أومات بنفس البساطة و هي تنظر اليه مبتسمة بإشراق، ثم طوت القطعة الصغيرة و دستها في حقيبة سفرها...
و سافرت معها الى هنا...
في الحقيقة ليس وحدها من سافرت مع تيماء...
بالطبع الجدة ثريا، و عمرو، ووالد عمرو...
وقف قاصي في اطار الباب ينظر اليها و قد عاد من تلك الذكريات، ثم قال بصوت أجش
(هل ستريني النجوم في منتصف الظهيرة؟، فقط اسأل كي أسارع بالهرب قبل أن تبدأ وصلة النكد الأولى)
لم تفقد تيماء هدوء ملامحها و لم تستدر اليه، بل أنها حتى لم تتخلى عن دبلوماسية عينيها...
تابعت ترتيب الملابس برفق بعد أن دست قطعتها الصغيرة الأغلى على قلبها بينها، ثم قالت اخيرا بهدوء
(سؤال واحد، هل يتجنى عليك عمرو بخصوص هذا الهتاف الذي سمعته للتو؟)
اقترب قاصي منها متظاهرا بالبراءة وهو يقول بحماس مفتعل
(انتظري أولا حتى تعرفي السبب، إنه خبر مفرح جدا، أطار عقلي فإختل توازن الكلمات بداخل رأسي و هي تطوف في فراغ بلا مخ).
استدارت تيماء تنظر اليه مكتفة ذراعيها، تمط شفتيها بعدم اقتناع، لكن على الرغم من مظهر الأستاذة البادي عليها، و شخصية الاستاذة المسيطرة عليها...
الا أنها لم تستطع منع نفسها من توقف أنفاسها للحظة خاطفة و هي تتأمله...
إنه يحاول الظهور بمظهر لائق، زوج جذاب وسيم الشكل منمق الملابس...
بنطال رمادي و قميص أبيض نظيف، شعره الطويل متناقض مع ملابسه، الا أن النظارة الطبية الحديثة بعد كشف النظر الذي قام به مؤخرا، أكملت الطلة الآسرة...
و تراهن أن كل من تراه تتوقف أنفاسها للحظة أو لحظتين...
كان يمر عليها أمام الكلية بعد انتهاء عملها كل يوم، يخرج من السيارة الصغيرة المتواضعة و يستند اليها وهو يقف في انتظارها...
مرة بعد مرة أدركت أن منظره ملفتا جدا، و الفتيات ينتظرنه كي ينظرون اليه عن بعد...
فشعرت بنوبة الجنون القديمة على وشك الإطاحة بعقلها، كانت تستقل معه السيارة ثم تخرج وجهها من النافذة لترمقهن شزرا...
و حين وجدت نفسها غير قادرة على التحمل، طلبت منه التوقف عن الحضور الى الكلية، فامتثل دون رد...
لكن ها هي تدفع الثمن، كل يوم يغيب منذ الصباح حتى المساء، دون أن تعرف الى أين يذهب...
اقترب قاصي منها أكثر فتقلصت أصابع قدميها و عضت على شفتها تمنع تأثرها بشكله الجذاب...
الا أنه لاحظ حركتها البسيطة فابتسم بخبث، وهو يدرك أن الصغيرة المهلكة تحب شكله، تحب نظراته، تتأوه حين يلامس قلبها برفق...
زمت تيماء شفتيها وهو يصل اليها ليضع كفيه على خصرها و ينحني مقبلا عنقها، ثم سألته بجمود
(أين كنت؟)
رد عليها قاصي وهو يتابع قبلاته على وجنتيها و أنفها وواحدة أخيرة على شفتيها
(كنت أشتري بعض الأغراض للبيت، و ثمرة بطيخ)
ارتفع حاجبي تيماء و هي تسأله ببرود.
(تشتري ثمرة بطيخ منذ الصباح و حتى المساء؟)
رد قاصي بصوت أجش مشاغب
(انتقائها كان صعبا، كنت أريدها حلوة و حمراء مثلك يا مهلكة)
رفع كفيه ليحيط بهما عنقها، الا أنها أمسكت بهما ثم قلبتهما تنظر الى راحتيه...
رفعت تيماء وجهها اليه و قالت بخفوت
(يداك متجرحتان، خشنتان و متشققتان للغاية، لولا أننا في المدينة لظننت أنك تروض كل نهار فرسا جامحا)
أبعد كفيه عن يديها ثم قال بنعومة وهو يضم خصرها اليه.
(دعك من يدي الآن و اسمعي الخبر الأفضل لهذا العام، هناك رجل مجنون طلب يد أمك للزواج)
اتسعت عينا تيماء و هي تهتف بذهول
(حقا! من؟)
رد قاصي قائلا بسعادة أب على وشك التخلص من أكثر بناته ازعاجا...
(العم ابراهيم، و أنا أخبرته أن طلبه مقبول)
هتفت تيماء بدهشة
(دون أن تسألها؟)
رد قاصي قاطعا وهو يمسك كفيها بين يديه قائلا بحرارة
(تيماء، بعض الفرص لا يفكر بها المرء مرتين، سنتخلص من أمك حتى إن أجبرناها على الزواج).
قالت تيماء بحدة مهددة
(قاصي، احترم نفسك و لا تنسى أنها أمي)
رفع قاصي كفيه وهو يقول مبررا بحرارة أكبر
(أمك لا تطاق يا تيماء، صدقا أحدثك، بكل أمانة)
فتحت فمها لتجيبه بحدة، الا أن صوت ثريا علا فجأة من المطبخ
(من الغبي الذي اشترى ثمرة البطيخ البيضاء تلك؟، طعمها كالخيار!)
أغمض قاصي عينيه وهو يحاول تمالك نفسه، بينما همست تيماء قائلة.
(استيقظت من قيلولة المساء استعداد لسهرة أمام التلفاز حتى الفجر، احمد ربك أنها لم تسمع نشيد التخلص من الجدة ثريا)
زم قاصي شفتيه بغضب، بينما ربتت تيماء على صدره متابعة
(بدل ملابسك الى أن أحضر الطعام، لم آكل شيئا و أنا أنتظرك)
رد قاصي قائلا ببساطة
(سآخذ حماما أولا)
التفتت تيماء تنظر اليه ثم سألته قائلة
(الا يمكن للحمام أن ينتظر؟، تبدو نظيفا لي!)
رفع قاصي حاجبيه و قال ببساطة.
(كل انسان أدرى بشؤونه الداخلية، هل فرضوا ضريبة على الحمام؟)
همست تيماء بفتور
(كما تشاء)
ثم ابتعدت تجاه الباب، لكن حانت منها التفاتة اليه وهو يخلع قميصه بحرص، فرأت ظهره مغبرا و مليء بالخدوش، بينما أخذ يحركه وهو يتأوه بصوت مختنق...
أطرقت تيماء بوجهها ثم خرجت من الغرفة صامتة تماما...
لم تستطع الإنتظار أكثر لتعرف الى أين يذهب كل نهار...
القلق كان يعصف بها، لا ترضى بأن يهدد حياتها أي خطر مجهول مجددا، ستحارب لأجل سعادتهما حتى لو حاربته هو شخصيا...
لذا أخبرته أنها ستأخذ السيارة صباحا، و خرجت لتقف بها عن بعد تنتظر نزوله...
و ما أن رأته حتى تحركت تتبعه...
استقل عدة مواصلات حتى كادت أن تفقد اثره، الا أنها نجحت في تعقبه بمهارة الى أن خرج أخيرا من وسيلة المواصلات الأخيرة...
عقدت تيماء حاجبيها و هي توقف السيارة ناظرة الى المكان الذي قصده قاصي...
كان بناء تحت الإشاء و حوله أرض واسعه، اتجه قاصي الى احد الفجوات المخفية، ثم خرج أمام عينيها الذاهلتين و قد بدل ملابسه الى ملابس قديمة مهترئة شبيهة بملابس البنائين و حاملي أثقال البناء العنيفة...
فغرت تيماء شفتيها المرتعشتين و هي تراه يبدأ العمل معهم!
هل هذا مقلب أم الكاميرا الخفية؟، حتى عمله في المطبعة كان أفضل من هذا!
راقبته تيماء وهو يتحرك تحت اشعة الشمس دون كلل، ملامحه مخيفة قليلا و عروقه بارزة جدا...
و كأنه غاضب و شديد العنف، لكنه لم يتوقف، بل يسرع و يسرع، و هي تهز رأسها بعدم تصديق...
بعد حوالي ساعة استغرقتها كي تصدق ما تراه، تحركت من مخبئها و سارت ببطىء غير آبهة بالاتربة التي غطت حذائها الأنيق، بل كان كل اهتمامها منصبا عليه...
و ما أن وقفت خلفه مباشرة حتى همست بألم و اختناق.
(لماذا؟، لماذا تتصرف بغرابة و توجع قلبي أكثر؟)
تسمر قاصي مكانه و تشنجت جميع عضلات جسده، ثم استدار اليها ببطىء، وقف كلا منهما ينظر الى الآخر في صمت طويل موجع، الى أن نادى رئيس العمال بصرامة
(قاصي، أنتما تعيقان حركة الباقين)
زم قاصي شفتيه ثم أمسك بمرفقها و جذبها خلفه بقوة وهو يبتعد بها عن المكان فقالت بإختناق
(سيارتي هناك).
اتجه بها الى السيارة و ما أن وصلا اليها حتى فتحت باب المقعد خلف المقود و جلست عليه بإعياء...
أما قاصي فقد استند الى السيارة بملامح صامتة تماما ينظر الى البعيد فسألته تيماء أخيرا بخفوت عبر بابها المفتوح
(ألن تتكلم؟)
ساد صمت قصير ثم قال قاصي أخيرا دون أن ينظر اليها
(ما الذي تريدين سماعه؟)
ردت تيماء بقوة هاتفة
(بداية لماذا تفعل هذا، و لماذا أخفيت عني حقيقة عملك؟).
التفت اليها، ينظر لها عبر الزجاج الفاصل بينهما، ثم قال بهدوء
(أخفيت الأمر عنك كي لا أرى تلك النظرة التي أراها في عينيك الآن، و كان الأمر يستحق بالفعل)
اندفعت تيماء خارجة من السيارة و هي غير قادرة على الصبر أكثر، ثم وقفت أمامه تظلل عينيها بكفها كي تواجهه و ترى عينيه بوضوح ثم قالت بشدة.
(لماذا تفعل ما تفعل يا قاصي، لديك المال الذي أعطاه لك جدي، حتى و إن لم يكن، يمكنك العمل بأي شيء يناسب مؤهلك الدراسي أكثر مما تقدم عليه)
ظل قاصي ينظر اليها دون تعبير طويلا، ثم قال أخيرا ببطىء
(أنا لا أعمل لكسب العيش)
لوحت تيماء بكفيها هاتفة
(اذن ماذا تفعل؟، افتح قلبك و روحك لي مرة واحدة و أخبرني)
رد قاصي عليها بعد فترة طويلة
(أحتاج للعنف يا تيماء، أنا غير قادر على التخلي عنه).
رمشت تيماء بعينيها و ارتجفت قليلا و هي تنظر اليه ثم همست بخوف
(العنف!)
أومأ برأسه ببطىء ثم قال وهو يشير بقبضته الى صدره متابعا بصوت أجش
(بداخلي ميل جائع للعنف، احيانا أسيطر عليه و كثير من الأحيان تخرج الأمور من سيطرتي و لقد جربت هذا بنفسك في كثير من الاحيان، لا أريد أن تكوني عرضة لعنفي مجددا يا تيماء، بل لن أسمح بهذا أبدا)
هتفت بقوة و صدق و هي تقترب منه.
(أنا أقبل يا قاصي، أنا أقبل، عنفك ليس رغبة سادية منك في ايذاء من حولك، بل هو مرض علينا أن نتجاوزه سويا، أنا لست خائفة منك و لن أفعل يوما، فأنت لم تؤذني مطلقا و لم تؤذي عمرو)
قال قاصي وهو يمسك بكتفيها مشددا على كل حرف
(لأنني أسير على حبل رفيع كي أحقق هذا، الأمر أصعب مما تظنين)
هتفت بيأس
(تستطيع الإلتحاق بنادي رياضي، يمكنك التدرب على رياضة حمل الأثقال)
ابتسم قاصي بتعاطف، ثم قال بصوت اجش.
(جربت، و فشلت، ربما لاحقا، لكن الآن)
صمت غير قادرا على الكلام أكثر، فهمست تيماء و هي تضع كفيها على صدره بألم
(أنت تؤلم نفسك قبل جسدك، تتحداها بشكل أقسى مما أستطيع تخيله، ألهذا كنت تروض الخيول؟)
نظر قاصي لعينيها الفيروزيتين طويلا، ثم مد كفه يمسك بيدها وهو يقول بخفوت
(تعالي معي، اريد أن أريك شيئا، كنت أريدك أن تريه بعد أن يكتمل الا أنني غير قادرا على الإنتظار اكثر).
سحبها حتى أجلسها على الكرسي المجاور لمقعد القيادة، بينما قاد هو السيارة بملابس العمل المهترئة...
ظلت تيماء تنظر الى جانب وجهه بحزن، غير مهتمة بوجهتهما، لا تهتم سوى لوجودها بجواره...
عضت على شفتيها و هي تنظر امامها محاولة منع دموعها كي لا تجرحه، وبقت على صمتها الى أن وصل الى منطقة ذات مبان مترفقة، فأوقف السيارة و قال بخفوت آمرا
(اخرجي من السيارة).
خرجت تيماء تتبعه صامتة و هي تنظر حولها، حتى وصلا إلى بيت من طابقين، له سور حجري
وقفا أمامه ممسكا بكفي بعضهما، ثم التفت اليها و قال مبتسما
(بيتك يا مهلكة، الدية التي دفعها جدي عن أمي).