رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والعشرون
رفعت وجهها المبلل اليه تنظر بإستعطاف و توسل، ثم صرخت بجنون
(أنا، أنا لست بكر)
ساد صمت ثقيل بينهما بعد صرختها العنيفة نافذة الصبر و القدرة على تحمل الذنب أكثر...
صمت غريب لم يقطعه سوى صوت نحيبها الذي يسمع بالكاد و هي تبادله النظر مستجدية الرحمة...
أما أمين فقد كان ينظر اليها بطريقة غريبة و ملامح ثابتة، قاتمة قليلا، الى أن قال أخيرا بصوت متقزز.
(هذه مزحة غاية في الوقاحة، و أنا لا أعلم من نصحك بها في هذه الليلة تحديدا! هل هي إحدى صديقاتك ظنا منها أن مزحة خارجة كهذه قد تزيد من حماسي مثلا؟، إن كان الأمر كذلك فأنا لا أجد بها أي نوع من المرح، بل اجده انعدام حياء منك)
أغمضت بدور عينيها بقوة فإزدادت الدموع انسيابا من عينيها ببطىء بينما قلبها يختض بإرتجافات مؤذية...
ثم همست بصوت ميت من بين نحيبها الخافت
(و هل يمكن لدموعي أن تكون جزءا من المزحة؟).
القت بسؤالها الخافت المتهاوي و صمتت منتظرة، غير قادرة حتى على فتح عينيها، تنتظر قدرها بذعر...
الا أن الصمت السائد كان مرعبا أكثر، و حين طال فتحت عينيها فجأة و هي تشعر بأنه قد يخنقها فجأة بكفيه و هي لا تزال مغمضة عينيها...
و ليتها ما فتحت عينيها، لقد صدمها التغيير الذي بدأ يطرأ على ملامحه بالتدريج...
من القتامة الى شيء ما أشبه بالذعر...
لو كانت تمتلك القدرة على الضحك في تلك اللحظة لكانت ضحكت...
لم تتخيل أن يكون الذعر شعور يمكن أن ينتاب شخص مثل أمين، ظنت أن الرعب من نصيبها وحدها...
هذا التغيير المذعور على ملامح وجهه أبلغهها بوضوح كم يمكن لها أن تكون كوباء مقزز منفر يمكن له أن يخيف زوجها في لحظة كهذه، أكثر اللحظات خصوصية بين الرجل و زوجته في بداية علاقتهما...
تلك اللحظة التي يكتشف فيها أن هناك ثالث بينهما...
ثالث قد سبق و نال ما هو من حقه هو وحده...
نعم، هي من حق أمين وحده، لم تكن يوما تخص راجح...
أمين هو من أخرجها من بيت والدها مرفوعة الرأس الى بيته، متعهدا أن تكون زوجته أمام الجميع...
لذا، هي زوجة أمين فقط و لم تكن قط زوجة راجح، الذي استباح جسدها متحججا بالشرع ثم رماها بعيدا مع أول منعطف كقماشة مهترئة...
الآن بدأت نظرة الذعر في عينيه تتحول الى شيء مخيف، مرعب، و كأنها نيران تهدد بإحراق كل شيء...
ثم قال ببطىء و بصوت ليس كصوته في شيء
(ما الذي تحاولين قوله بالضبط؟)
شهقت بدور بنفس متهدج و هي تراه يقترب منها دون ارادة منه تقريبا و علا ملامحه تعبيرات كفيلة بأن تبث الرعب في أوصالها...
تراجعت للخلف و فستانها الضخم يصدر صوت حفيف مزعج، لكنها قالت من بين شهقات بكائها متوسلة.
(ارجوك يا أمين سامحني، أتوسل اليك الا تفضحني)
توقف مكانه للحظة و عيناه تتسعان و قد استوعب الحقيقة أخيرا بما لا يقبل الشك...
حتى أنه فغر فمه كذلك قبل أن يصرخ عاليا وهو يغرز أصابعه في خصلات شعره بجنون
(ياللهي! أنت لست جادة! مستحيل أن تكوني صادقة فيما تدعين!).
و دون انتظار ردا منها، هجم عليها في خطوتين واسعتين ثم اطبق على كتفيها النحيلين بعنف و نظر إلى وجهها الشاحب المبلل و المرتفع اليه بذعر، فصرخ فيها وهو يهزها بقوة كادت أن تفصل عظام كتفيها عن جسدها...
(تكلمي، قولي أنها مجرد كذبة قذرة منك، تكلمي و قد أرحمك على هذا الجنون الذي تهذين به).
كانت بالفعل تهز رأسها نفيا وهو يصرخ، بينما جسدها ينتفض أكثر و أكثر، و الدموع تنهمر من عينيها كفيضانات لا تنضب، و ما أن انتهى من اخر حروف صراخه المفجع، حتى همست بصوت مرتجف
(لا، ليست كذبة، أرجوك سا).
لكنها لم تستطع انهاء باقي رجائها، فقد ضربتها صفعة على وجهها جعلت العالم يدور من حولها فترنحت وودت لو كان أبقى كفيه على كتفيها يمنعها من الوقوع، لكنه كان قد تركها كحية لسعته، ثم صفعها لتدور حول نفسها و تسقط ارضا بجوار الجدار...
رفعت بدور يدها لتضعها على وجنتها الساخنة و هي تشهق بصوت أعلى و أعلى...
لكنه لم يتركها، بل قبض على ذراعها يجذبها لتقف مجددا، ثم صفعها مرة أخرى و كأن شيطان قد تلبسه و جعل منه رجلا معتوها في غضبه...
شعرت بدور و كأن رأسها ستقع من فوق عنقها من قوة صفعته، بينما صدمها صوته وهو يصرخ في وجهها
(فاجرة، فاجرة، كيف لك أن تخدعينا بتلك القدرة الجبارة؟، كيف لك أن تكوني بمثل هذا الفجر و تتخبي خلف هذا الستار من البراءة و الطاعة للجميع؟، كيف!).
مع سؤاله المجنون ضربتها صفعة اخرى كانت أقوى من سابقتيها مما جعل العالم يدور من حولها اكثر فسقطت عند قدميه زائغة الحدقتين...
ابتعد عنها أمين وهو يدور حول نفسه بجنون، يهذي بصوت مخيف
(كيف، كيف، كيف)
لكنه توقف فجأة مكانه، ثم عاد اليها و جثا على عقبيه أمامها، بينما هي تجلس راكعة و كفيها على الأرض...
فقبض على شعرها بقوة مما جعلها ترجع رأسها للخلف صارخة، لكنه لم يهتم بدموعها أو صرخة ألمها، بل سألها بصوت صادم عنيف
(من هو؟)
السؤال اخترق وعيها الهش و كان له وقع أكثر ايلاما من صفعاته، فنست ألمها على الفور و هي تنظر اليه بعينين واسعتين ذاهلتين، و قد تجمدت الدموع بهما...
و ساد صمت غريب بينهما الى أن همست بصوت مذعور مستنكر
(كيف لك أن تسألني سؤال كهذا؟، من تظن؟).
عقد أمين حاجبيه للحظة وقبضته لا تزال مشتدة على شعرها، لكنه لم يرد و كأنه يشعرها بأنها رخيصة في كل الأحوال، مما جعلها تصرخ عاليا بتوسل
(كيف لك أن تشك بأنني قد أفرط بعرضي و شرفي في الحرام! لقد فعلت ذلك مع زو)
صمتت و هي غير قادرة حتى على اتمام الكلمة و كأنها كلمة مدنسة، حتى و هي تنطقها لم تكن مقتنعة بأن راجح كان زوجها بالفعل...
همس أمين بصوت موجوع بائس و كأنه يحدث نفسه
(راجح!).
لم يكن سؤالا، بل اقرار واقع مرير، و لم تشعر بأن الأمر قد شكل عنده أي فارق، مما جعلها تهمس مستجدية من بين شهقات نحيبها العالي...
ألقى بها فجأة بعيدا حتى ارتطم ظهرها بالجدار وهو يقوم منتفضا من مكانه صارخا بنفسه
(كيف كنت بمثل هذا الغباء؟، كيف تم خداعي بتلك الطريقة من بين الجميع!).
صرخت بدور باكية من خلفه و قد تحول وجهها الى لوحة ملطخة بالسواد بفعل زينتها التي سالت على وجنتيها كرماد حريق مستعر، خلفته مياه الأمطار فأطفئته لكن بقى آثاره في سواد لا يزول...
(أمين أنا لم أخالف شرع أو ديني، لقد سألت شيخا و قال)
استدار أمين حول نفسه بعنف وهو ينظر اليها بجنون، فصمتت مبتلعة المتبقي من كلامها، و هي تنظر الى الأرض بصدر خافق منتفض.
أما أمين فقد ظل يدور حول نفسه صارخا وهو يركل الكرسي الموجود بالغرفة ليوقعه أرضا، ثم ركل طاولة الزينة فوقعت بعض زجاجات العطر محدثة صوتا مزعجا عاليا...
بينما بدور جاثية و كفيها على الأرض كمن يتم عقابه وهو ذليل لا يعترض و لا يقاوم
الا أنها صرخت فجأة مجددا حين شعرت بقبضة أمين تطبق على شعرها من جديد وهو يرفع وجهها اليه، ثم سألها بصوت بدا كصوت المجرمين.
(هل ارغمك؟، هل أرغمك أو اغتصبك بحجة أنك زوجته؟، هل فعل؟، تكلمي. )
ظلت بدور تنظر اليه بعينيها الملطختين المبللتين و الميتتين، شاردة...
هل أرغمها؟
نعم، المرة الأولى أرغمها، لم تشعر بأي نشوة وهو يأخذها عمدا، و كانت موجعة بشكل مفزع...
لكن ماذا عما تلى؟، ظلت تسلمه نفسها كلما أمر كي لا يملها و ينفر منها و يلجأ الى غيرها من نساء أكثر خبرة...
هل تدعي الإغتصاب؟..
ظلت بدور صامتة لا تنطق، مما جعل ملامح أمين تشحب أكثر وهو يتلقى الجواب الصادم الصامت، ثم سألها هامسا بذهول
(كم مرة حدث هذا بالضبط؟)
أغمضت بدور عينيها بألم و همست بعد فترة طويلة
(كان يعاشرني كزوجته طوال فترة عقد قراننا تقريبا، عشنا كزوجين)
القى أمين برأسها مجددا وهو ينهض من مكانه ناظرا اليها بذهول، محركا رأسه بعدم تصديق، صارخا بصدمة.
(كيف؟، كيف لفتاة في مثل عمرك أن تكون بمثل هذا التبجح و قوة العين! من أين لك بمثل هذه الجرأة و القذارة؟، كيف لفتاة في مثل عمرك أن يدخل بها رجل في الخفاء، دون أن تحتاج الى مساعدة أمها، تسألها، تطلب عونها في التخلي عن خجلها، دون أن)
صمت وهو يغرز اصابعه في شعره مجددا وهو يدور حول نفسه صارخا بهيستيريا
(تبا لك، تبا لك، كيف استطعت خداعي بتلك الطريقة، كيف؟).
كانت بدور تنظر اليه باكية بعنف و عذاب، و على الرغم من رعبها من القادم، الا أن الشعور المسيطر عليها حاليا كان الشقفة عليه، كانت تتمزق مع منظره وهو يدور حول نفسه ليهذي كالمجانين...
تستطيع أن تتخيل الى أي حد أهدرت كرامته و حطت كبريائه و رجولته أرضا...
أطرقت برأسها و هي تشهق مجددا بنحيب بدا كالعويل...
الا أن جسدها تسمر بعد فترة و هي تشعر به يقترب منها الى أن جثا أرضا بجوارها من جديد، فأبقت على رأسها مطرقة و كفيها أرضا تنتظر الموجة القادمة من غضبه، الا أنه اقترب بفمه أذنها و همس من بين أسنانه بشراسة
(ما حدث كان تدليسا، تدليس منك و من عائلتك و أنا سأفضحكم جميعا)
ثم نهض، و ذراعها في قبضته، ليجرها أرضا معه، فصرخت فيه بدور بجنون و ذعر و هي تحاول التشبث بالأرض.
(الى أين، الى أين تأخذني؟، أرجوك تمهل، أرجوك يا أمين، أتوسل اليك)
لكن أمين لم يتوقف بل ظل يجرها أرضا بذراعيها وهو يصرخ بعنف
(سأذهب بك الى والدك و ألقيك عند قدميه، فأنا لا أقبل بمخلفات رجل غيري، لينظر في عيني و ليمتلك بعض الشجاعة في مواجهتي بما ارتكبه من تدليس في حقي)
صرخت بدور بذعر و هي تحاول التشبث بساقه.
(والدي لا يعرف، أقسم لك ان والدي لا يعرف حتى هذه اللحظة، هل نسيت اصراره على أن تتم ليلة الدخلة بالطريقة القديمة! ارجوك، أتوسل اليك، عاقبني أنا، افعل بي ما شئت لكن لا تخبر والدي، لن تنجو منه والدتي، و لن يستطيع رفع رأسه بين الناس مجددا)
لم يبدو و كأنه قد سمعها من الأساس وهو يجرها لتخرج من غرفة النوم فتشبثت بإطار الباب و هي تصرخ مجددا بكل توسل
(أقسم بالله أنه لا يعرف، كان مصرا على الطريقة القديمة).
ظنت أنه سيتابع جرها أرضا، الا أنه توقف للحظة وهو يلهث ناظرا اليها بهياج مختل، ثم صرخ ساخرا.
(طبعا كان هذا جزء من الخطة، ترى لماذا يصر على شيء قديم و متخلف الى هذه الدرجة؟، حتى أنها انتابتني بعض الشكوك من شدة اصراره على الرغم من أن أشقائه لم يقوموا بالمثل مع بناتهم، الآن بدأ مخططكم يتضح لي، لقد قمت بعملية لإعادة عذريتك و طبعا أنا الشخص المغفل الذي اخترتموه ليتحمل ما ألقاه غيره، و احكاما للخطة، يصر والدك على التظاهر بالفخر و التمسك بإظهار شرفك)
صرخت بدور بجنون و هي لا تزال تبكي.
(والدي لا يعرف، و أنا لم أقم باجراء أي عملية، كنت لتكتشف ذلك إن)
صمتت و هي تغمض عينيها بخجل بدا مثيرا للسخرية في تلك اللحظة...
ظل أمين واقفا أمامها ينظر اليها وهو يتنفس نفسا سريعا مهتزا غاضبا بحد يجعل أي كلام في تلك اللحظة غير مجدي...
ثم قال أخيرا بصوت بطيء مرتج
(كيف استطعت خداع الجميع؟، كنت تقابلين عريسا تلو الآخر بثقة، ثم وافقت على الزواج مني بهذه البساطة؟، كيف تخيلت أن تنجين من اكتشافي لخدعتك؟).
كانت بدور في حالة مريعة من البكاء الهيستيري، مغمضة عينيها بشدة و غير قادرة على النظر اليه، ثم قالت أخيرا بصوت مختنق عالي النبرة
(وثقت بك، وثقت أنك الوحيد الذي لن يفضحني)
ساد صمت طويل بينهما وهو ينظر اليها بتقزز، لكن في عينيه نظرة ألم رجولي مجروح و بشدة، ثم قال أخيرا ساخرا
(طبعا، لأنني المغفل الوحيد الذي قد يقبل بخداعك! أنت حتى لم تتحلي ببعض الشرف في اخباري بالحقيقة قبل زواجنا).
رفعت بدور ملامحها الملطخة بالسواد تنظر اليه بطريقة تدمي القلب، الا ان قلبه كان حجريا لا يرحم...
ثم همست بصوت متهدج
(لو كنت أخبرتك لما كنت وافقت على الزواج مني، و حينها ستتركني لآخر، لمصير أسوأ، أنا وثقت بك أنت، استرني ارجوك و لا تفضحني أمام والدي)
كان أمين يهز رأسه غير مصدقا لما يسمع، عيناه حمراوان و نفسه متهدج مثل أنفاسها، الا أنه تهدج الغضب و الشعور بالخديعة و الغدر، و ياله من ألم لا يرحم...
ثم قال بصوت ميت المشاعر
(الآن تفكرين بفضيحتك أمام والدك؟)
هتفت بدور هامسة و هي تبكي مستجدية
(لم أفعل شيء مخالف للشرع يا أمين، ليس ذنبي أنه كان حقيرا و تخلى عني، أي فتاة أخرى كان يمكن أن تزل تلك الزلة)
صرخ فيها بعنف
(لا، ليست أي فتاة هي من تزل تلك الزلة، فقط عديمة التربية و القادرة على خيانة ثقة والدها بها، لم تحسبي حسابا واحدا لكرامة الرجل الذي رباك، و كرامة المغفل الذي سيتزوجك و الذي هو انا طبعا).
سقط رأسها و كأن عنقها باتت غير قادرة على حمله أكثر و انخطرت في بكاء مضني...
أما أمين فنظر اليها طويلا قبل أن يهمس بصوت مرتجف
(منظرك يثير النفور و التقزز، لا أريد سوى أن أبعد عيناي عنك في تلك اللحظة)
و دون انتظار كلمة منها، كان قد خرج من الغرفة وهو يركل موجات فستان زفافها بعنف، دون أن تبدي أي حركة...
فقط ظلت تبكي و ترتجف و هي لا تزال تتشبث بإطار الباب و كأنه خشبة الخلاص...
بينما شفتيها تهمسان بتوسل للفراغ المحدق بها
أرجوك لا تتركني، أرجوك، لكنه لم يسمعها، فقد خرج الى ابعد زاوية من الشقة عنها، فارتمى على مقعد كبير وهو يكاد أن يقتلع جذور شعره الذي فقد أكثر من نصفه خلال الدقائق التي مضت...
أطرق برأسه يستند به الى كفيه محدقا في الأرض بذهول، وهو لا يزال يحدث نفسه و كأنه قد فقد عقله أيضا...
كيف، كيف استطاعت خداعي! كيف وقعت في هذا الفخ بأعين مفتوحة و ذراعين مرحبتين! كيف خدعت في برائتها و خجلها! كيف، فقط كيف حدث هذا؟، رفع رأسه أخيرا و ارتمى بظهره للخلف، يهز رأسه بصدمة وهو ينظر الى أنحاء الشقة الخاوية و كأنه يطلب المساعدة...
كان بداخله نيران مستعرة كالجحيم و الألم لا يرحم صدره...
و كأنها قد صفعته على الملأ و سخرت منه...
مجرد التنفس في تلك اللحظة كان شديد الصعوبة عليه، فكل نفس يخرج مع شهيق مؤلم متحشرج...
مرت الساعة الأولى، ثم الثانية، و بعدها فقد القدرة على تحديد الوقت...
كان على نفس جلسته ينظر للبعيد، بملامح شديدة القتامة و كأنه يعاني من خزي أفقده القدرة على التحرك...
و على الرغم من هذا الجحيم من الغضب الأسود المحيط به، بزغ وجه واحد أمام عينيه...
وجه ياسمين و ملامحها الضاحكة...
لا يعلم كيف له أن يفكر فيها في تلك اللحظات بالذات! أولى به أن يفكر في مصيبته هو...
لكن وجهها و عينيها لم يغادرا تفكيره منذ ساعة على الأقل...
تذكر الأيام الأخيرة التي قاربت بينهما، تذكر ابتسامتها الخجولة كلما نظر اليها، على الرغم من السعادة الجامحة بوضوح و التي تطل من عينيها...
كانت تنظر اليه و كأنه الرجل الوحيد في هذه الدنيا...
تذكر كل كلمة دارت بينهما، حتى الرسالة الأخيرة التي بعث بها اليها و التي لم ترد عليها أبدا...
ما أن عادت كلمات الرسالة الى ذهنه حتى عقد حاجبيه بألم، و كأنه هو من تألم بها...
كم كانت رسالة مؤلمة كي تصل الى امرأة من الرجل الذي تشرق عينيها و ملامحها لمجرد رؤيته!
صدر تأوه مختنق من بين شفتيه، وهو يتخيل كم بكت بعد قرائتها!
أغمض عينيه وهو يرجع رأسه للخلف هامسا بصوت متحشرج.
هذا ذنب ياسمين، والله هذا ذنب ياسمين، كسر القلوب ليس بالهين، وهو كسر قلبها، أو على الأقل كسر جزء من نفسها...
فتح عينيه مجددا وهو يتذكر مشاعره في الآونة الأخيرة...
لقد وجد قلبه يميل الى بدور رغم عنه...
أفلتت منه ضحكة قصيرة خشنة، شديدة السخرية...
لقد اقتربت بدور من قلبه، بينما ياسمين كانت دائما تتحدى عقله، لهذا أعجب بها...
علي الرغم من كل رفضه لتصرفاتها المتهورة، لكن كانت تمتلك شجاعة و قوة مواجهة لم يرها في امرأة من قبل...
نعم لقد أعجب بشخصيتها الغريبة...
لكن منذ أن بدأ ينظر الى بدور بنظرة مختلفة عن تلك الصغيرة ذات الضفيرتين، وجد قلبه يميل اليها بسرعة الصاروخ، بخلاف أن طباعها الأقرب مما يحتاجه و يتناسب مع حياته و تفكيره...
لذا قرار الإرتباط بها كان منطقيا من كل الجهات...
منذ أن تقدم لخطبتها وهو يشعر بكل يوم يمر، يجعله متشوقا، فارغ الصبر لتكون زوجته، طفلة مدللة، هكذا كان يراها، بطريقة تدغدغ مشاعره...
همس مجددا بصوت أكثر اختناقا...
هذا ذنب ياسمين، كسر القلوب ليس بالهين، والله ليس بالهين،
علي نفس حالها منذ ساعات قليلة، كانت ممددة أرضا بفستان زفافها، وجهها متورم و مغطى بالظلال السوداء التي جفت على وجنتيها، مستندة الى الجدار بظهرها، و في عينيها نظرة ميتة المشاعر تماما بعد أن جفت آخر قطرة من دموعها...
علي الأقل لم يغادر الشقة، مجرد وجوده في نفس المكان معها يشعرها بأنها آمنة...
ربما كان احساس كاذب بأمان تتمناه و تحتاج اليه، لكنها لا تدري كيف كانت لتتصرف ان خرج صافقا الباب خلفه...
علي الأقل ليست وحيدة في أرجاء البيت الغريب عليها...
كانت أشعة الشمس قد بدأت تخترق غرفة النوم عبر الستائر المغلقة، لكنها لم تستطع تحديد الساعة تماما...
انتفضت فجأة على اقتحامه للغرفة...
رفعت وجهها و استقامت عن الجدار تنظر اليه بخوف و حذر، لكنه لم يلقي عليها نظرة حتى...
كان وجهه مخيف، شحوب هائل مع عينين عنيفتين لا تبصران الا الغضب القاتل...
ابتلعت بدور ريقها و هي تتوقع منه أن يسقيها المزيد من الذل و الهوان، لكنه اتجه الى الدولاب ففتحه ليخرج منه احدى، مناماته!
ثم صفقه بعنف حتى ارتج من هول الضربة، قبل أن يخرج من الغرفة دون أن ينظر اليها و كأنها حشرة أو نكرة لا تساوي شيئا...
ارتجفت بدور بعنف و هي تنظر الى الباب حيث خرج، لا تعلم ما ينويه بالضبط!
ترى هل أخطأت الحكم عليه؟ هل سيفضحها أمام والديها؟
لقد قررت التسليم للمحتم مهما كانت النتائج، لقد دربت نفسها طويلا على مواجهة كل الإحتمالات...
و من بينها احتمال ان يفضحها و يحكم عليها بالموت النفسي للمتبقي من حياتها...
سرت في جسدها رعدة باردة و هي تتخيل عودتها الى بيت والدها مطلقة بعد أن يكتشف ما أجرمت...
أغمضت عينيها و هي تحاول التماسك، لكن الرعب أقوى منها...
هي ميتة في كل الأحوال، لكن الموت بعد عذاب شيء مخيف، مخيف جدا...
دلكت ذراعيها المكتفتين ببطىء و هي لا تعلم ما ينبغي عليها فعله...
هل تحاول الخروج للكلام معه بتعقل، أو تستعطفه، أم تبقى على نفس جلستها الى أن تتعفن و تدفن مكانها...
لكن قبل أن تتخذ قرارها بالخروج، سمعت صوت جرس الباب!
عقدت حاجبيها تتسائل عن هوية الزائر في مثل هذه الساعة المبكرة! لكن تساؤلها لم يستغرق سوى جزء من الثانية، لتتذكر بصدمة أنها صباحية زواجها...
و كما أخبرتها أمها بأنهم سيقومون بزيارتها منذ الصباح الباكر...
ضربت بدور على صدرها شاهقة و عينيها تتسعان بأقصى درجات الذعر...
ثم انبعث الأدرينالين بداخلها فجأة، مما جعلها تطرد الوهن عن اطرافها لتقفز واقفة، ثم جرت الى الباب و أحكمت غلقه، و لحسن حظها كان المفتاح لا يزال موجودا به...
وضعت كفيها على الباب و ألصقت أذنها به تحاول أن تسمع، و بالفعل، تحقق أبشع كوابيسها...
و سمعت صوت زغاريد امها تسبق دخولها الى الشقة...
و زغاريد أخرى، ثم تداخلت أصوات التهنئات الصاخبة...
صوت أمها، و صوت أم أمين! و همهمات مهنئة خشنة من بين شفتي والدها!
ضربت بدور وجنتها مرارا، و مرارا، بينما تحولت ساقيها الى هلام رخو...
و على الرغم من ذلك، دفعتها غريزة البقاء الى الحركة فأسرعت تجري الى الدولاب، لتخرج منه قميص النوم الذي حضرتها له والدتها و الخاص بليلة الدخلة...
القميص الأبيض و المبذل الخاص به من الدانتيل و الحرير المشغول، القت بهما على السرير.
ثم بدأت تتصارع مع الفستان و هي تحاول الخروج منه، خاصة مع سماع صوت أمها يقول من الخارج بوضوح
(ألم تستيقظ العروس بعد؟، اعذرنا يا ابني، ضايقناكما في صباح ليلتكما، جعلها الله بداية ليالي الهناء و السعادة بينكما)
لم تسمع بدور أي رد من أمين، لا تعلم إن كان قد تجاهل الرد على أمها بالفعل أم أنه همهم بشيء ما و قد غطت همهماته صوت تهنئات أمه و ضحكاتها...
استطاعت بدور أن تخرج من الفستان بالفعل و خلال ثوان كانت قد ارتدت قميص النوم الأبيض و المبذل بعشوائية، و نفضت شعرها بينما سمعت أمها تسأل بخجل
(هل يمكنني الدخول اليها؟)
جرت بدور الى طاولة الزينة و لحسن حظها كان مزيل مساحيق التجميل موجودا، فوضعت بعضا منه على قطعة قطن كبيرة و أخذت تمسح بها وجهها بقوة و عنف حتى التهب وجهها...
لتسمع صوت حماتها تقول
(خذيني معك يا أم زاهر، فالولد محرج منا على ما يبدو).
توقفت بدور عن الحركة قليلا و هي تحاول تنظيم أنفاسها المختنقة، الا أنها قفزت في مكانها و هي ترى مقبض الباب يتحرك مع صوت والدتها ينادي
(افتحي يا بدور، أنا أمك يا حبيبة أمك، افتحي لي أنا و حماتك)
صوت ضحكات نسائية صاخبة و المقبض يتحرك مع طرقات هادئة...
أخذت بدور نفسا عميقا رغم ارتجافه و هي تحاول أن تجلي حلقها، ثم قالت بصوت عال متحشرج
(لحظة، لحظة واحدة فقط).
صوت ضحكات أكثر صخبا و ميوعة! فزادت أكثر من مسح وجهها الى أن أصبح نظيفا نوعا ما...
لكن آثار صفعاته لا تزال واضحة!
تأوهت بدور بصدمة، لم تحسب حسابا لهذا! وقفت أمام المرآة مشدوهة، لا تعلم كيف تخفيها...
نظرت الى علبة المسحوق الأبيض، لكن طرقا لحوحا من أمها جعلها تدرك أنه لا وقت لديها كي تخفي آثار صفعاته...
اتجهت بدور مستسلمة الى الباب، فوقفت أمامه ترتجف قبل أن تفتح الباب ببطىء...
طالعها وجه أمها التي بدأت في موجة جديدة من الزغاريد و هي تقتحم الغرفة، تتبعها حماتها مبتسمة و عيناها دامعتان...
لكن ما أن توقفت أمها عن الزغاريد و هي تهتف بسعادة
(مبارك يا حبيبتي، مبارك يا عروس)
حتى صمتت فجأة و هي تمعن النظر في وجه بدور، ثم ضربت صدرها فجأة و هي تقول بصوت خافت
(ما هذا الذي يعلو وجهك يا بدور؟).
ضاعت الإبتسامة عن وجه حماتها و شحب وجهها و هي ترى الكدمة الواضحة على احدى وجنتيها و تورم نفس الزاوية من شفتيها...
ظلت بدور واقفة مكانها و هي ترتجف بعنف، تنظر الى الباب متوقعة دخول والدها في أي لحظة و حينها ستكشف كل الأمور...
اقتربت أمها منها و على ملامحها معالم القلق بل و الخوف و هي تلامس اصابة ابنتها، ثم سألتها همسا معيدة
(ما الذي حدث لوجهك يا بدور؟).
ابتلعت بدور ريقها و هي تهمس بصوت لا يكاد أن يكون مسموعا
(و، وقعت)
بدت كذبة غاية في السخافة، مما جعل والدتها و حماتها تنظران الى بعضهما بصدمة، فتقدمت حماتها هذه المرة و سألتها بصوت حازم لكنه حنون
(ما الذي حدث يا بدور؟، كلمينا يا ابنتي، لا أحد غريب)
رفعت بدور وجهها الشاحب تنظر الى حماتها و قالت بصوت مختنق
(وقعت يا خالتي، أنا أسقط كثيرا و ليلة أمس لم أنتبه، فزلت قدمي و سقطت في المطبخ).
ظلت حماتها تنظر اليها و نفس معالم الصدمة على وجهها لم تهدأ، فقالت تسألها دون مقدمات
(هل، هل ضربك ابني؟، هل فعل؟)
سارعت بدور تصرخ
(لا، بالتأكيد لا، لم يفعل)
قالت أم أمين بقوة
(عيناك بلون الدم، لقد بكيت ليلة كاملة على الأقل، كما أن الصفعات واضحة على وجهك!)
رفعت أم بدور يدها الى وجنتها و همست مرعوبة.
(ما الذي حدث؟، فليفهمني أحد ما يحدث؟، لماذا يضربك زوجك في ليلة زفافكما؟، لو علم والدك بهذا فسيلومك أنت قبل أن يسأل حتى، ماذا فعلت يا ابنتي أريحي قلبي و تكلمي قبل أن تخرجي لوالدك و يستجوبك بنفسه)
هتفت بدور بذعر و يأس
(لم يضربني، لم يفعل، لم يحدث شيئا)
ساد صمت متوتر بين ثلاثتهم، ثم قالت أم أمين بقلق.
(سأدعكما وحديكما يا أم زاهر، لعلها تريد الكلام معك لكنها محرجة مني أما أنا فلي كلام آخر مع ابني، ما فعله لن يمر على خير ابدا)
هتفت بدور بجزع و هي لا تريد أن تبقى مع أمها بمفردها كي لا تستجوبها
(أرجوك ابقي يا خالتي، لما لا تصدقاني، لم يضربني)
قطعت كلامها فجأة و هي تشهق حيث رأت أمين واقفا في اطار الباب ينظر اليها بتجهم، نظرة قاتلة و كأنه يود لو يلقي بها من النافذة...
نظرت كلا من والدتها ووالدته اليه، قبل ان تبادر امه لتسأله بصرامة
(لماذا ضربت ابنة عمك يا امين؟)
لم يرد امين على امه بل ظل ينظر إلى بدور بنظرة جعلتها تمتقع و تنظر ارضا بقلب يخفق بعنف من شدة الخوف...
كررت والدته بنبرة اشدة حدة، حريصة الا ترفع صوتها كي لا يسمع والد بدور بما يحدث...
(أمين، سألتك سؤال فأجبني، كيف لابني الذي ربيته بنفسي ان يضرب زوجته في اول ليلة لهما معا و بهذه القسوة!).
لم يرد أمين مجددا، فاقتربت منه أم بدور ببطىء، و ملامحها تضج بالقلق
(كلمني أنا يا ابني و لا تخجل مني، ماذا فعلت بدور؟، هل أسائت التصرف معك في شيء؟، أي شيء يمكن أن نحله فيما بيننا، استعذ فقط من الشيطان و لا تدعه يوسوس لك، أخبرني بما أغضبك من بدور)
أفلت نفس مرتجف من بين شفتي بدور، فأطبقت جفنيها بشدة و هي تتوقع أن هذا الضغط على أمين لن يسفر الا عن فضحه لها بعد أن يضيق ذرعا بهذه الإتهامات...
تناوبت كلا منهما في السؤال، فتابعت أمه تقول من بين أسنانها غاضبة
(سؤال و أريد الجواب عليه، هل ضربتها فعلا.!، لأنني حتى الآن لا أكاد أن أصدق ما أراه بنفسي، قد أكذب عيني قبل أن يصدق قلبي أن تكون بمثل هذه القسوة!)
أبعد امين عينيه عن بدور و نظر الى وجه أمه الغاضب، ثم قال بعد صمت طويل و بنبرة جافة خالية من المشاعر
(نعم ضربتها)
رفعت بدور يدها الى وجنتها مرتعبة، لقد اعترف، الآن سيتابع، سيفضحها!
سيفضحها!
سيفضحها!
اقتربت أم بدور منه أكثر و سألته بخوف
(ماذا فعلت بدور؟، أخبرني يا ابني و أنا من ستقف لها، لكن لا تسمح لشيء أن يفسد بينكما، أرجوك يا ابني)
أمها تكاد أن تتوسل خوفا من أن تتسبب عصبية أمين في أن يطلقها مثلا لأي سبب كان...
حين ظل صامتا، ترجته أكثر، و قد تضاعف الخوف و تحول الى كوابيس.
(أنا أعرفك جيدا يا أمين، أنت لا تفعلها الا اذا أخطأت خطأ كبيرا، أشعر بالدوار، أجبني يا ولدي بالله عليك).
بدا و كأن الغرفة ستنفجر من هول الحوار الخافت الدائر بينهم...
الى أن قال أمين اخيرا بصوت بارد قاسي...
(تمنعت عني، فلم أجد سبيلا سوى ضربها)
فتحت بدور عينيها تنظر اليه مصدومة، فاصطدمت عيناها بعينيه الجليديتين القاسيتين...
أما والدته فكانت تنظر اليه بصدمة أكبر، و عينين واسعتين غير مصدقتين...
ارتبكت أم بدور مما نطق به أمين بوقاحة، و احمرت وجنتاها، لكنها تماسكت و قالت بصوت مرتاح قليلا.
(هل هذا هو السبب حقا يا بني؟)
نظر اليها أمين و أجابها بفظاظة
(و هل هذا سبب بسيط؟، لم أملك سوى ضربها كي تتوقف عن المعارضة، ليس معنى أنني عارضت عمي فيما يريد، أن تظنني متهاون في أمر كهذا)
كانت بدور تنظر اليه مشدوهة، فقد كان يتقن الدور ببراعة...
أما أمه فقالت و هي تهز رأسها ببطىء
(و كأنني أنظر الى شخص غريب ليس ابني)
لكن أم بدور همست بصوت متخاذل متداعي.
(حقك، حقك طبعا يا ولدي، لن يلومك أحد، هل، هل أتممتما ال، أقصد هل، أم أنني في حاجة لتأنيب بدور، والله سأكون شديدة معها يا ولدي)
رد أمين بجفاء مقاطعا...
(لقد دخلت بها و انتهى الأمر)
ذابت عينا بدور غير مصدقة لما سمعته، بنظرة امتنان مشدوهة انتهت فضيحتها من الأساس، حتى إن طلقها فيما بعد...
لقد انهى أمين مأساتها بكلمة وقحة منه، فأغمضت عينيها غير قادرة على مواجهته أكثر من هذا...
أما أم أمين الصامتة بوجه شاحب، فقد تحركت فجأة و سحبت أمين من ذراعه و هي تقول بصرامة
(ابقي انت مع بدور، أما أنا فلي كلمتين مع ابني على انفراد)
بقت بدور مع أمها تنظر اليها بتعاطف بعد خروج أمين و أمه من الغرفة، ثم لم تلبث أن اقتربت منها و أخذتها بين ذراعيها و هي تهمس.
(لا بأس، لا بأس يا صغيرتي، لا تحزني، أعرف أنها كانت تجربة قاسية، لكن ما كان عليك الممانعة، الأمر كان ليصبح أكثر يسرا لو طاوعت زوجك، هذه الليلة تحديدا يحب الرجل أن يفرض سيطرته، و أي ممانعة من زوجته تعوق اتمام دخوله بها يعتبرها أمر جارح لرجولته، عامة انتهى كل شيء، لا تحزني)
ظلت بدور ساكنة تماما، و هي تريح وجنتها المكدومة فوق كتف أمها، تغمض عينيها بتعب...
و كأن حمل كبير قد انزاح عن كتفيها...
جرت أم أمين ابنها خلفها بقوة الى غرفتها الخاصة، ثم دخلت و أدخلته خلفها لتغلق الباب خلفهما قبل أن تستدير اليه بنظرات غاضبة ثم قالت هامسة.
(لولا أنني أنظر اليك بعيني، و أمسك بذراعك بين أصابعي، لقلت أنك شاب غريب لا أعرفه، كيف لك يا أمين أن تكون بمثل هذه القسوة، و الأدهى كيف لرجل متعلم مثقف مثلك الا يستطيع استيعاب خجل و تشنج زوجته في ليلة كهذه فيأخذها على مهل الى أن تتجاوب معه؟، لم يسبق لي أن تكلمت معك في أمور كهذه ظنا مني أنك شاب واعي لا يحتاج الى نصيحة أمه، لكنك صدمتني بكل معنى الكلمة بتصرفك الهمجي).
كانت ملامح أمين مظلمة، غير متعاونة أو نادمة حتى، كتمثال لا يشعر أو يسمع...
لكنه ضحك فجأة ضحكة قاسية قصيرة خشنة...
فقالت أمه متابعة بغضب أشد
(أنا أخاطبك يا ولد، رد على أمك)
نظر اليها أمين و قال أخيرا بصوت مجهد ثقيل
(ما الذي تريدين معرفته يا أمي، لا تفاصيل أكثر، لقد انتهى كل شيء و لا حاجة للكلام أكثر)
ردت عليه أمه بصوت كئيب.
(هل تظن حقا أن كل شيء قد انتهى؟، لقد احدثت شرخا بينك و بين زوجتك لن يلتئم بسهولة، ما فعلته لن يمحا من ذاكرتها بسهولة، لقد جعلت من علاقتكما شيء بغيض على قلبها، أول مرة لكما معا هي أساس للقادم بكامله، كان عليك أن تكون اكثر وعيا يا أمين، سامحك الله، عشت مع والدك دهرا و لم يمد يده على مطلقا لأي سبب كان، كيف استطعت؟).
استدار أمين عن والدته بوجه أسود شديد الإحتقان، غير قادر على مواجهة اتهاماتها أكثر من ذلك، ثم قال أخيرا بجمود
(كفى بالله عليك يا أمي، لا تجبريني على قول ما لا أريد)
تنهدت أمه و هي تنظر اليه بحزن، ثم قالت أخيرا.
(أنا لن أزيد في الأمر الآن لأن والد بدور في الخارج بمفرده، و أنت تعرف طباعه، فإن شعر بأي شيء مما يحدث لن يلوم الا بدور المسكينة، لذا سأعمل أنا ووالدتها على افهامه أنها أكثر اعياءا كي لا تخرج اليه، لكن لنا كلام آخر بيننا فيما بعد، تذكر فقط أن هذه الفتاة الآن أمانة لدينا، و علينا أن نتقي الله فيها).
أغمض أمين عينيه بشدة، بينما انقبضت كفاه، و الألم في صدره أكثر عنفا، الصفعات التي تلقاها أكبر وجعا من تلك التي ضرب بها بدور...
لكن كيف له أن يتكلم؟
الى من يستطيع أن يشكو همه، لا أمه و لا صديق له، و لا أي مخلوق يستطيع أن يفضي بالأمر له...
لقد دخل الى الفخ بمنتهى السذاجة، و ليس عليه الا أن يلوم نفسه...