رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والخمسون
دخلت بدور غرفتها في شقتهم صافقة الباب بعنف، قبل أن تخلع وشاح رأسها بعصبية و تلقيه على الفراش، و لم تكد تمر بضعة لحظات حتى اقتحم أمين الغرفة غاضبا وهو يهتف
(هل يمكنك أن تفهميني معنى تصرفك؟)
استدارت بدور اليه منفعلة تقول بجنون
(تصرفي أنا هو الغير مفهوم؟)
تسمر أمين مكانه غير مصدقا أن صوتها يعلو فوق صوته و تتصرف معه بهذه الحدة! فقال بصوت خافت مذهول منذرا بالشر
(كيف تتجرأين و الكلام معي بهذا الأسلوب؟).
خلعت بدور عبائتها المفتوحة و ألقتها على السرير هي أيضا لتهتف بحدة ناظرة اليه بغضب في عمق عينيه
(و لماذا لا أتجرأ؟، ألست بشرا من لحم و دم، أشعر و أتألم! هل تستنكر درجة واحدة أعلى في صوتي حين أتألم؟)
عقد أمين حاجبيه و سألها بحنق بالغ
(و هل آلمتك؟، كل ما أعرفه أنني ناديتك ما أن خرجنا من السيارة، الا أنك تابعت طريقك و كأنك لم تسمعيني، هل تستطيعين تفسير معنى تصرفك الوقح هذا أمام أمي و أختي؟).
هتفت بدور بألم غاضب محتد
(إن كنت تهتم ذرة بمشاعر أمك لما تصرفت على هذا النحو و أوجعتها و قمت بإذلالي أمامها)
ارتفع حاجباه الآن و بدا مندهشا فعلا وهو يسألها
(متى قمت بإذلالك أنا؟)
أشارت بدور بذراعها في حركة عشوائية غاضبة و هي تقول
(حين قمت مشكورا بعرضك الغريب أمامها، و اعترفت بمنتهى الصراحة أنه لن تكون بيننا علاقة زوجية، و أننا منفصلان فعليا إن لم يكن رسميا).
للحظات ظل صامتا وهو ينظر اليها بطريقة غريبة، ثم سألها ببرود جاف و قاسي
(أوليس هذا حقيقيا؟)
سؤاله القاسي آلمها بشدة، و كأنه ضربها بقسوة، الا أنها لم تبكي، بل أخذت نفسا مرتجفا ثم هتفت فجأة بصوت حاد الا أنه مهتز قليلا
(لا، ليس حقيقيا يا أمين، لأنني زوجتك قولا و فعلا الى أن تطلقني، و إن كنت قد اخترت أن تنسى مجرد ليلة لا تعني لك شيئا، الا أنني متمسكة بها و أرفض نسيانها خلال المتبقي من عمري).
هذه المرة كان تجمد أمين حقيقيا مجفلا، فضيق عينيه وهو يسألها بصوت مرتبك
(ماذا تقولين؟)
فتحت بدور شفتيها تنوي قول شيئا ما. الا أنها عادت و أغلقتهما عاجزة تهز رأسها يأسا، ثم انتابتها فجأة نوبة شجاعة و هتفت و هي لا تزال مطبقة جفنيها.
(أقول أنه لم يكن يحق لك أن تشعرني بكل تلك المشاعر التي أشعرتني بها، إن كنت تنوي الإنفصال عني في اليوم التالي، بل و تتعمد اخبار والدتك و الجميع بذلك، مهما كان خطأي، لكنك تعاقبني بأقسى الطرق)
كان أمين ينظر اليها متعجبا، مصدوما، ثم قال ببطىء خافت
(هل مثلت لك تلك الليلة كل ذلك؟).
استدارت بدور عنه و هي لا تصدق ما باحت به للتو، ربما من فرط المشاعر التي تراكمت بداخلها منذ تلك الليلة و هي تتمنى كل ليلة لو يضعف تجاه رغباته كرجل و يقربها و يعيدها الى تلك المشاعر مرة أخرى، ولو حتى مرة أخيرة...
رفعت بدور كفيها الى وجنتيها اللاهبتين تنتفض من مدى جرأتها التي أذهلتها، ثم قالت بصوت مختنق
(أنا لا أعرف كيف قلت هذا، أرجوك، هلا تظاهرنا أن هذا الحوار لم يحدث).
اقترب منها أمين خطوة، الا أنه توقف على بعد منها، ثم قال بنبرة مترددة
(عليك اخباري بكل ما تشعرين، خاصة إن كنت تشعرين ب، برغبة في)
صرخت بدور عاليا بحلق متورم من هول خزيها و احراجها
(لااااااا، ياللهي، لم أقصد أن أبدو بمثل هذا الرخص مطلقا)
فغر أمين فمه قليلا ثم اقترب منها خطوة أخرى و قال بصوت أجش خفيض
(أنا زوجك، و حين تطلبين حقوقك، لا يكون هذا رخصا).
فتحت بدور عينيها دون أن تستدير اليه، وودت لو تهتف أنها تريد، نعم تريد، تريد أن يحتضنها بين ذراعيه مجددا بمثل هذه الرقة على الرغم من غضبه منها، تتمنى أن تشعر بشفتيه على وجنتيها قبل شفتيها من شدة حلاوتهما، لكنها عجزت عن الإعتراف أمامه و اذلال نفسها أكثر، خاصة بعد ما قاله أمام والدته في البيت الجديد...
لذا قالت بصوت متحشرج خشن
(ليس لي حقوق عليك يا أمين)
أجابها أمين غير متنازلا (لكنك قلت).
قاطعته يائسة بعذاب (انسى ما قلته أرجوك، أنا، أنا كنت تحت تأثير الإذلال الذي تعرضت له أمام عمتي، فهذيت بكلام لا معنى له)
رد عليها أمين بهدوء
(مرة أخرى تكررينها، أنني تعمدت اذلالك!)
حمدت الله أنه غير الموضوع، فاستدارت اليه منخفضة الرأس و قالت بصوت جامد و ملامح باهتة
(كنت أفضل الا تعرف والدتك عن انفصالنا الا إن حدث طلاق، سيكون هذا أقل ألما لها و خزيا لي)
رفع أمين أحد حاجبيه متعجبا، ثم قال ببساطة.
(لا أصدق مدى وقاحتك في املاء شروطك!)
امتقع وجهها قليلا، الا أنها قالت بشجاعة و هي ترفع عينيها اليه أخيرا
(ليست وقاحة يا أمين، سبق ووعدتني الا تتعمد اذلالي عقابا لي على ما فعلته، و إن كنت صادقا في وعدك، فأنا متمسكة به، أنت اليوم أذللتني و أهدرت كرامتي أمام والدتك)
ضحك أمين بسخرية وهو يهز رأسه غير مصدقا، و حين تكلم قال بهدوء.
(حسنا، إن حاولت التغاضي عن هذا الجبروت الذي تتكلم به فتاة في مثل وضعك، فسأنظر للموضوع من وجهة نظرك، هل تتوقعين حقا أن نتمكن من خداع أمي فترة أطول؟، لماذا اذن قمت بإخيار بيت أكبر؟، أليس من أجل أن يحصل كلا منا على غرفة مستقلة!)
اذن الأمر منتهي بالنسبة له، لم ترد بدور عليه فورا، بل ظلت صامتة قليلا تعتصر كآبتها، ثم قالت أخيرا بصوت خاو.
(عامة حدث ما حدث و انتهى الموقف المحرج، ربما كان معك حق و هذا أفضل للجميع، عوضا عن أن تتعشم عمتي المسكينة في كثير من الأماني من أجلنا، سامحني إن تماديت أو تطاولت، كانت لحظة حرج غبية لا أكثر، أعتذر عنها)
رفع أمين حاجبيه راضيا و قال ببرود
(جيد اذن، بما أننا سوينا الأمر، يمكنك اذن الخروج لتطمئني أمي عليك، فهي قلقة على مشاعرك و تخجل من الدخول اليك بنفسها).
لا مبالاته بمشاعرها آلمتها بشدة، الا أنها تماسكت، فلا حق لها في الإعتراض، و أومأت برأسها قائلة
(سأفعل حالا)
أمال رأسه اليها موافقا ثم خرج، الا أنها قالت بصوت خافت لا تعلم إن كان سيسمعه أم لا...
(هل تصدقني إن أخبرتك أنها لم تكن شهوة، خطأي الأول، لم يكن شهوة أو رغبة أو أي شيء من هذا القبيل، كان مجرد خوفا من أن أكون أقل من المستوى المطلوب في ارضاءه فيملني و حينها لن أحصل على رجل مثله، هذا حين كنت أظنه رجلا)
توقف أمين مكانه يوليها ظهره يستمع اليها، ثم قال أخيرا بصوت غريب
(هل يشكل هذا فارقا بالنسبة لخداعك؟)
ابتلعت بدور ريقها ثم همست بصعوبة
(لا، لكن شعرت بالحاجة لإخبارك هذا).
رد أمين بجفاء وهو يخرج من باب الغرفة
(أشكرك، لكنني لا أرغب في الكلام عن أسباب زلتك مجددا)
جلست بدور على حافة سريرها تتنهد بتعب و هي ترفع يديها الى وجهها هامسة بصدمة
ما كان هذا؟، ما الذي قلته و فعلته منذ دخوله الى الغرفة؟، ماذا دهاني!
تحرك أمين بعصبية من الشرفة الى غرفة الجلوس، و منها الى الشرفة مجددا...
إنها الدورة العاشرة أو أكثر وهو يدور بإنفعال في إنتظراها و كأن النتيجة نتيجته هو، لم يشعر بمثل هذا القلق منذ خروجه لرؤية نتيجة السنة النهائية. سنة تخرجه...
أما والدته فقد كانت تراقبه بصمت و بنظرات ثاقبة، تحيك وشاحا تشغل به نفسها عن توتر أمين الذي وتر أعصابها شخصيا منذ الصباح...
لكن ما أن خرج الى الشرفة في دورة حادية عشر، تركت ما بيدها و قالت متنهدة.
(يا ولدي طالما أنك تشعر بكل هذا القلق، لماذا لم تذهب معها الى كليتها لتحصلان على النتيجة و أنت بجوارها؟)
توقف أمين ناظرا الى والدته عاقدا حاجبيه بتوتر، ثم وضع يديه في جيبي بنطاله وهو يقول بعصبية
(لا أعلم، طلبت أن تكون مع صديقاتها على أن تتصل بي ما أن تعرف بنجاحها، ثم تخرج معهن احتفالا، فظننت أنها تخجل أن أراها في حال رسبت مجددا لا قدر الله، حتى الآن لا يزال رسوبها العام الماضي قبل زواجنا يؤرقها).
ظلت نظرات أمه اليه بنفس الدرجة من الإهتمام فسألته بهدوء
(ألهذه الدرجة تهتم لنجاحها؟)
نظر أمين الى والدته و أجابها متعجبا
(بالطبع يا أمي، هل هذا سؤال بالله عليك؟ تعبنا جدا خلال الشهرين الماضيين واصلنا بهما الليل و النهار كي تعوض كل ما فاتها من وقت بسبب الزواج)
ظهر شبح ابتسامة على شفتي والدته و قالت ببراءة.
(الاحظ أنك تتكلم بصيغة المثنى حين تتكلم عنها، و الحق يقال انك بالفعل تعبت معها خلال الفترة التي سبقت اختباراتها، لم أكن أتخيل حين كنت أستيقظ لأصلي الفجر و أراك خلسة في المطبخ تعد القهوة لها خصيصا!)
ظهر الحرج على أمين الا أنه قال بجفاف متظاهرا بالامبالاة
(مرة أو مرتين)
ردت أمه بخبث أكبر.
(و بقائك مستيقظا ليال طويلة، حتى أنه في أيام كثيرة ذهبت الى عملك دون لحظة نوم! حتى هذا البيت، لم ننتقل اليه الا بعد انتهاء اختباراتها بأمر منك كي لا يعطلها النقل)
زاد ارتباكه و عصبيته في حركة ساقه مما جعل والدته تترفق به و قالت بحنان.
(لما المكابرة يا ولدي؟، أنت تميل للفتاة و هذا ما أراه بنفسي و قلب الأم لا يخدعها مطلقا، فلماذا تمنع عنك الحلال و تحرم زوجتك على نفسك؟، ما الذي يعيبها كي تقيم بينكما هذا الحاجز الغامض؟، كلمني يا ولدي و احك لي، أنا أمك و لن يتمنى مخلوق في الدنيا راحتك مثلي)
نظر أمين من الشرفة المفتوحة على مصرعيها، لا أحد يعلم ما يكابده...
لا أحد يستطيع تخيل سخرية الحياة منه و هي تجعل قلبه يتعلق ببدور أكثر كل يوم بعد أن كان سبب ابقائها الوحيد على ذمته هو الحفاظ عليها و ايجاد مكان لها بعد أن لفظتها أسرتها...
و على الرغم من ذلك لا يستطيع لمسها كما يحب و يتمنى، لا يقدر على نسيان بدىء زواجكهما بتدليس كبير...
أمه مخطئة حين ظنت أنه هو من يقيم بينهما الحواجز، بل الحواجز موجودة منذ البداية و أصعب من أن يتم تجاوزها...
تكلمت أمه مرة أخرى بقلق.
(تكلم يا حبيبي، ليس عدلا أن تتركني بهذا الحال، أتمنى رؤية حفيد لي من ابني الوحيد و أعرف أن هذا مستحيلا)
أغمض أمين عينيه وهو يشعر بصراع أكبر و ضغط أصبح لا يطاق، فخرج الى الشرفة لعل بعض الهواء قد ينفعه، و سرعان ما رأى سيارة أجرة تقف أمام البوابة و تخرج منها بدور...
حاول أمين أن يستشف النتيجة من ملامحها لكنها كانت مسرعة، مطرقة الوجه فلم يتبين شيئا...
شعر فجأة بقنوط كبير و هبط قلبه بين أضلاعه، طالما أنها لم تخرج مع صديقاتها إحتفالا و لم تتصل به حت، فما الذي يعينه ذلك سوى رسوبها!
زفر نفسا بطئيا ثم خرج من الشرفة قائلا لأمه بنبرة محبطة
(لقد وصلت بدور)
استقامت والدته قائلة بقلق حقيقي
(و ما شكل ملامحها؟)
هز أمين رأسه جاهلا و أسرع الى الباب يفتحه قبل أن تصل و انتظر حتى صعدت ووقفت أمامه فسألها بسرعة و توجس
(ما الأخبار؟).
اجتازته بدور ناظرة الى حماتها بسعادة، ثم التفتت اليه قائلة
(لماذا تقف عند الباب بهذا الشكل؟)
عقد أمين حاجبيه بشدة قائلا
(ما الأخبار؟، هل نجحت أم رسبت؟)
برقت عيناها بشدة و هي تقول بسعادة
(ياللثقة المعدومة منك! كان عليك أن تكون واثقا من نجاحي فقد وعدتك)
بريق عينيها و ابتسامة شفتيها أخبراه بنجاحها، الا أن القلق لم يغادره تماما فقال بحنق و ترقب
(تكلمي يا بدور، أريد سماعها منك بتأكيد).
كتفت ذراعيها متنهدة و هي تقول مبتسمة بتنازل
(نجحت بالطبع)
انطلقت زغرودة عالية من بين شفتي والدة أمين، بينما ابتسم هو ابتسامة غزت قلبها بدفء، ابتسامة لم تراها من قبل تحوي بعض الفخر بها، حتى ولو كان قليلا الا أنه يكفيها و يفيض كي تحيا سعيدة المتبقي من عمرها...
قال أمين عاقدا حاجبيه بصرامة
(لماذا لم تتصلي بي اذن؟)
ردت عليه بدور برقة و جمال.
(أردت أن أرى تعبير وجهك حين أبلغك بنفسي، و لهذا اعتذرت لصديقاتي عن الخروج، فضلت الإحتفال معكم، لا مكان آخر سيكون أكثر احتواءا لي في نجاحي أكثر من هذا البيت)
ذاب شيء على ملامح أمين وهو ينظر اليها للحظات دافئة مسروقة من الزمن...
فقالت والدته بسعادة و هي تنظر اليهما
(مبارك يا حبيبتي، لماذا تقف بهذا الشكل يا ولد، خذها بين أحضانك و هنئها كما يجب).
احمرت وجنتا بدور و هي تختلس النظر الى امين، بينما ظهر الارتباك و الرفض التلقائي على ملامحه فغار قلبها للحظات، لكن لذهولها، لانت ملامحه في اللحظة التالية و رأته يفتح ذراعيه قليلا لها...
و بينما هي فاغرة الفم متسعة العينين وجدته يسحبها الى صدره و يضمها اليه برفق تحول الى عاطفة أقوى تدريجيا، فشعرت بساقيها تذوبان بينما همس لها مبتسما بإتزان
(مبارك يا بدورة).
ثم أخفض شفتيه الى وجنتها يطبعهما هناك بطريقة جعلتها تغمض عينيها بشدة تتذوق تلك العذوبة و هذا الحنان، قبلته على وجنتها لم تعرف طعمها سوى في الليلة الوحيدة التي قضياها معا، و كانت بالنسبة لها أجمل و أروع من قبلاته على شفتيها، ربما لأن فيها من الحنان ما يشل أطرافها...
اضطر أمين الى ابعادها عنه أخيرا على مضض حين شعر بجسده يتجاوب مع جسدها الصغير المستكين بدفىء، ملتصقا به...
ثم تنحنح قائلا بصوت أجش وهو يرى نظرتها المتحسرة التي يعرف معناها جيدا
(تعالي معي، لدي شيء لك)
ثم أمسك بكفها برقة يجرها خلفه...
نظرت بدور الى حماتها بتساؤل، فأومأت لها والدة أمين أن تتبع زوجها مشجعة بإبتسامة عريضة...
تبعته بدور بطاعة و هي تنظر الى ظهره و جانب وجهه، مستعدة أن تتبعه حتى نهاية العالم...
لا تصدق ما حدث في يوم واحد، عناق و قبلة و يمسك كفها، لو كانت تعلم ذلك لكانت سعت لتنجح في اليوم عشرات المرات...
تسارعت نبضاتها و هي تراه يسحبها الى غرفته، فدخل و أدخلها معه قبل أن يغلق الباب خلفهما...
تجولت بدور بعينيها في أنحاء غرفته المنيعة، كانت قد زارتها بضعة مرات بعد انتقالهم الى البيت.
حين تضع ملابسه النظيفة، أو أحذيته التي قامت بمسحها...
و خلال تلك المرات كانت تشعر بأنها دخلت حصنا منيعا، كل ما فيه يلائم أمين بشخصه الرزين و روحه الجذابة...
كان شخصا مرتبا، لم تحتاج أبدا الى الترتيب بعد خروجه، رائحته العطرة تظل في الغرفة بعد خروجه لوقت طويل تشعرها بأنه لا يزال موجودا بقربها...
ابتلعت بدور ريقها و هي تنظر الى الفراش الواسع، فأبعدت عينيها عنه بسرعة و نظرت الى أمين تتسائل عن السبب الذي جعله يحضرها الى غرفته...
ترك أمين كفها و اتجه الى أحد أدراج طاولة الزينة ففتحه و أخرج منه علبة مخملية، ناولها لها وهو يقول
(لقد اشتريت هذه لك، كي أهديك اياها عند نجاحك)
نظرت بدور بذهول الى العلبة المخملية في يده، و همست بعدم تصديق
(هدية! هدية لي أنا!)
حرك أمين يده قائلا
(بالطبع لك، الا ينتابك الفضول لتفتحيها حتى؟).
رفعت بدور يدها و بأصابع مرتجفة أخذت العلبة المربعة العريضة و فتحها، ثم كتمت أنفاسها و هي ترى سوارا ذهبيا مستديرا و مزخرفا بأحجار بنية صغير أشبه بالأماس بني اللون...
كان رائعا، الا أنه ضخم و ثقيل الوزن على ما يبدو...
ظلت بدور تنظر اليه فاغرة فمها غير قادرة على النطق فقال أمين بهدوء
(إن أردت تبديله فلك الحرية طبعا)
رفعت بدور عينيها اليه و همست بغباء.
(أبدله! قد أبدل أسناني كلها و لا أبدل هذا السوار مطلقا)
ضحك أمين ضحكة جميلة أدفئت قلبها و غمرت روحها بسعادة هاجعة، ثم مد يديه و سحب السوار من العلبة التي تحملها، ففتحه و لفه حول رسغها و أغلقه فبدا و كأنه يضوي بشدة...
أخذت بدور تحركه يمينا و يسارا مأخوذة ببريقه الذي يخطف الأنظار و همست
(رائع!).
تعمقت ابتسامته وهو يتأمل انبهارها بعطف، تلك الفتاة لديها من الذهب الكثير بحكم حب العائلات في البلدة بشراء الذهب لبناتهن ليعززن شكلهن أمام الناس...
و مع ذلك أسرها هذا السوار كطفلة، لأنه هدية، و كأنها لم تتلقى هدية من قبل...
تكلم أمين قائلا بصوت بدا خشنا من الطعم المر في حلقه قائلا بحزم
(لكن عليك الا تضعيه و أنت وحدك خارجا مطلقا، فهو يبدو مطمعا ببريقه الشديد).
رفعت بدور عينيها اليه بنظره امتنان عميقة و ضمت السوار الى صدرها هامسة
(لن أرتديه خارج البيت أصلا، أخاف أن أفقده فأفقد روحي)
بهتت الإبتسامة عن شفتي أمين مع قولها الهائم، فسارعت بخفض وجهها تشتم لسانها المتسرع الذي جعلها تبدو و كأنها تستجدي المشاعر منه بشكل مثير للشفقة...
ثم قالت بنبرة مختنقة حاولت أن تجعلها متزنة و ثابتة قدر الإمكان، الا أنها خرجت من بين شفتيها خشنة أكثر من اللازم.
(اشكرك جدا، كلفت نفسك جدا)
ظنت أنها سمعت منه ضحكة قصيرة، الا أنها حين نظرت اليه كانت ملامحه هادئة طيبة وهو يجيبها بخفوت بسيط
(أنت على الرحب)
ثم ظلا واقفين مكانهما صامتين فشعرت بضرورة أن تستئذن للخروج من غرفته، قبل أن يطلب منها، لكنها شعرت بخسارة كبيرة، ودت لو تبقى هنا لفترة قصيرة، أو ربما العمر كله...
تكلم أمين وهو يراها واقفة لا تنوي الخروج
(ألن تتصلي بوالدتك تبلغيها بنجاحك؟).
علي الفور و ما أن نطق بسؤاله حتى رأى ملامحها تتشنج و تتعقد بشكل ميؤوس منه، حتى أنها تراجعت عنه خطوتين رافضة دون أن تنطق، فقال أمين بحذر
(أنت لم تتكلمي معها منذ كنت في البلدة، و لم تسمع صوتك حتى، والدتك امرأة طيبة و لا ذنب لها)
رفعت وجها غريبا اليه، وجها ذكره بملامحها السودادوية حين اعترفت أمام والدها بشراسة كي توجعه و تتشفى في ألمه، و كأنها تتحول الى شخص آخر تماما، لا يبالي بوجع من حوله...
ثم قالت أخيرا بصوت رافض قاتم
(هي لم تحاول الكلام معي منذ ذلك اليوم، لم تحاول حتى الإطمئنان على وصولي حية أم مت خلال الطريق من ضرب والدي لي، فهل تظن أنها قد تحفل الآن بنجاحي!)
كتف امين ذراعيه فوق صدره وهو يتأملها مليا، ثم قال بجفاء و جدية
(أنت المخطئة يا بدور، فلا يحق لك معاقبتها على خطىء أنت اقترفته، و لا يحق لك أيضا معاقبتها على عقاب والدك لك).
استدارت بدور عنه و هي تشعر بنار تندلع في صدرها تكتم أنفاسها بشدة، حتى أنها حاولت التقاط أنفاسها أكثر من مرة بصعوبة، و لم ترد عليه، فسألها أمين من خلفها
(الم تشتاقي اليها؟)
أيضا ظلت صامتة لا تريد الجواب فقال أمين أخيرا بهدوء
(عامة هذا أمر يخصك، فكري فيه و لاحظي أن الحياة قصيرة جدا و الندم مؤلم)
أغمضت بدور عينيها ألما، الا أنه قال ببساطة.
(هيا لنخرج الى أمي فهي على الأرجح قد بدأت في الإعداد لمأدبة نجاحك، رأيتها تحضر الطعام منذ الصباح)
لكن بدور استدارت اليه و قالت بخفوت
(أمين، هناك أمر أريد الكلام معك فيه)
توقف أمين و نظر اليها بإهتمام قائلا
(ما هو؟)
بدت بدور مترددة و خائفة و متوسلة، الا أنها قالت أخيرا بترجي.
(أتذكر حين كنت تحثني على النجاح؟، ذكرت أكثر من مرة أن الشهادة و العمل هما الوتد الذي سأعتمد عليه في حياتي، صحيح؟، هل كنت صادقا في موضوع العمل؟)
ضاقت عينا أمين وهو ينظر اليها متفحصا، ثم قال بإيجاز بالغ
(بالطبع)
انتشر الأمل في صدرها فجأة و برقت عينيها بشدة و هتفت بعدم تصديق
(هل تعني أنك ستسمح لي بالعمل؟)
هز أمين كتفه وهو يقول بدهشة
(بالطبع، ما الغريب في الموضوع؟)
هزت بدور رأسها غير مصدقة و هي تقول.
(الأمر فقط أن، في بداية زواجنا منعتني من اتمام الدراسة فظننت أن)
قاطعها أمين قائلا.
(كنت غاضبا، بل في الحقيقة كنت أرغب في انهاء حياتك و ليس دراستك فقط، ثم بدأت أهدأ حتى و إن كان غضبي بنفس القدر الا أنني لن أسمح له بالتحكم في ضميري و الا لكنت تركتك تواجهين مصيرك مع أهلك بعد اعترافك لهم، السبب الأساسي في احضارك معي الى هنا هو الا تكوني مجرد خادمة مهانة في دار والدك تعيشين الذل يوميا عقابا لك حتى آخر يوم في حياتك، ستحتاجين لشهادتك يوما ما لأنها ستكون عائلتك الحقيقية).
كان يفترض بكلامه أن يجعلها تطير فرحا، و تصرخ ابتهاجا...
لكن على العكس كلامه أوجعها كصفعات متتالية على وجهها واحدة تلو الأخرى...
أولا لأنه ما أبقاها معه سوى شفقة لا غير
و ثانيا أنه يؤكد على أنه سيتركها يوما ما، و يفضل على أن يتركها بشهادة و عمل ينقذانها لأنه رجل شهم بطبعه...
لكنها همست بخفوت
(أنت أفضل مني بشكل مريع).
ابتسم أمين وهو يطرق برأسه هازا كتفيه بأسى و كأنه لا يملك تصرفا آخر تجاهها، فابتلعت الغصة في حلقها و قالت بشجاعة
(حسنا، هذا يشجعني لأناقش معك ما فكرنا به أنا و رضوى منذ أسابيع، في الحقيقة نحن مجموعة صغيرة، لكن نحن مؤسيسها، لقد فكرنا في اختصار وقت البحث عن وظيفة و بدء مشروع صغير خاص بنا، فما رأيك؟)
ظهر على أمين الإهتمام و الدهشة وهو ينظر اليها، بدورة الصغيرة تحضر لمشروع خاص!
فسألها قائلا.
(أدهشتني، هل درستماه؟)
ردت بدور و هي تفرك أصابعها بتوتر
(دراسة مبدئية، لكن فضلت أن أحصل على الإذن منك أولا، و حينها سنبدأ بدراسة أدق تفصيلة به و جمع كل ما نحتاج من معلومات و أيضا رأس المال)
ارتفع حاجبي أمين بدهشة أكبر و عدم تصديق أعظم، الا أنه أجابها بإهتمام بالغ
(متى فعلت كل هذا؟)
ردت بدور متشجعة.
(خلال المرات التي سمحت لي بها بالخروج مع صديقاتي، تناقشنا مطولا و بينها كنا نتحدث هاتفيا و نرسل ما نجمعه من معلومات فيما بيننا)
مط أمين شفتيه وهو ينظر اليها مفكرا و لا زال العجب ظاهرا على ملامحه، ثم قال بشك
(تبدين و كأنك لا تحتاجين الى الإذن مني في الأساس!)
ذهلت بدور و سارعت بهز رأسها نفيا بسرعة و هي تهتف.
(أبدا والله، لقد أبلغتهن بصراحة أن رأيك هو الأساس و سأعرض الأمر عليك بعد النجاح و من الممكن جدا الا توافق و حينها لن استطيع مشاركتهن، لكنني استمتعت و استفدت في كل الأحوال من مناقشة المشروع، موضوع هام قضينا فيه الفترة السابقة أفضل من الكلام التافه)
كان أمين يستمع اليها بفضول و كأنه يرى فيها ما لم يره من قبل، ثم سألها أخيرا بتركيز
(كم تحتاجين من المال؟).
للمرة الثانية ظهرت على ملامحها الدهشة أكثر من الأولى، فتراجعت خطوة و هي تقول بتردد
(أحتاج! أنا لا أحتاج أي مال!)
ارتفع حاجبي أمين وهو يسألها
(الا تعرضين على الأمر طلبا للمال بالإضافة الى أخذ الإذن؟)
فغرت فمها أوسع، الا أنها لم تلبث أن أغلقته و هي تهز رأسها نفيا قائلة
(بالطبع لا، لدي مالي الخاص، أنا لا أطلب منك سوى الموافقة)
كتف أمين ذراعيه وهو يسألها عاقدا حاجبيه.
(من أين لك بمال خاص! أعتقد أن أي مدخرات خصها لك والدك لابد وأن يكون قد سحبها الآن، يجب عليك توقع هذا يا بدور)
اغمضت عينيها للحظة ثم قالت بخفوت
(بالتأكيد، لست حمقاء الى هذا الحد، لكني لازلت أمتلك مشغولاتي الذهبية، و هي تساوي قيمة كبيرة تكفي نصيبي و تفيض)
ظهر الغضب واضحا على ملامحه للمرة الأولى منذ أن بدآ كلامهما و هتف بقوة
(لن تبيعي ذهبك مطلقا، أتريدين أن أفضح بين الناس و أنا أترك زوجتي تبيع ذهبها!).
هتفت بدور بسرعة محاولة أن تمتص غضبه قبل أن يتفاقم
(أولا لن يعرف أحد أنني بعت ذهبي، ثانيا أنا لا لأبيعه كي أعطيك ثمنه، ولو أنه تحت أمرك طبعا في أي وقت، أنا أريد بيعه لأبدأ عمل شيء لنفسي، يفيدني أكثر من بقاء الذهب مخزنا في صندوق خشبي و أنا حتى لا أرتديه، أنا أريد فعل ذلك، بل أتمنى)
قال أمين رافضا بشدة.
(لن تبيعي ذهبك يا بدور، أخبريني بالمبلغ الذي تحتاجين و سأقرضه لك، يمكنك اعادته في حال نجاح مشروعك إن أردت)
ظهر التعب على وجهها الرقيق و تنهدت قائلة
(اذن سأنسحب، لو رفضت الفكرة سأنسحب، لكنني لن آخذ منك قرشا واحدا)
ضاقت عيناه وهو يسألها مندهشا
(لماذا؟، لماذا ترفضين اخذ المال مني؟ أتعتبرينه وسيلة جديدة لأذلك بها؟)
عضت على شفتها للحظات ثم قالت بخفوت.
(لا، بالطبع لا، أنا ندمت على كلامي السابق و اعتذرت لك عنه مئات المرات)
صمتت و هي تحاول ايجاد الرد المناسب لتتابع به كلامها فسألها أمين بغضب
(اذن لماذا ترفضين بمثل هذا الإصرار؟)
أخذت نفسا عميقا ثم نظرت اليه قائلة.
(هذه المرة الأولى التي أقوم بها بشيء ما لنفسي، شيء حقيقي لنفسي و ليس لأي مخلوق آخر، و أحتاج أن يكون من بدايته حتى و حتى نهايته إن كتب له النجاح بدون مساعدة من أحد، و لو أنني طبعا أشكرك من صميم قلبي)
ثم عضت على باطن خدها بتوتر و هي تنتظر رده آملة أن تكون قد أقنعته و أحسنت الكلام، لكن ملامحه لم تشجعها، فقد كانت متعقدة، و كأنها أهانته وهو ينظر اليها مقطبا، ثم قال أخيرا بجفاء.
(لكن هذا الذهب لم تحصلي عليه من مجهودك الشخصي، هو من والدك في حقيقة الأمر، الا يعتبر هذا مساعدة!)
التوت شفتاها قليلا لكنها تماسكت و قالت بتحد
(معظمه، لكن الكثير منه هدايا أيضا)
ضحك أمين قائلا بسخرية
(هدايا ردا على هدايا أخرى منحها والدك لهم لذا فالنتيجة واحدة)
زفرت بدور بعمق و بدت زفرتها نافذة الصبر محتدة و كأنها بدأت تغضب أخيرا، ثم قالت بنبرة متشنجة.
(الهدايا هدايا، سواء من والدي أو غيره، أصبحت ملكي و لا يحق المطالبة بها، حتى إن أردت ارجاعها الى والدي فسيرميها بوجهي و يقطعني اربا و يحشرني في الصندوق معها، و أيضا ستظل ملكي)
ساد صمت ثقيل بينهما وهو ينظر اليها عابسا، ثم لم تلبث شفتاه أن مالتا في ابتسامة قصيرة وهو يقول بهدوء متطلعا اليها
(سيكون شكلك ظريفا حينها).
الا أنها لم تتجاوب مع روح الدعابة في عبارته البسيطة، بل على العكس، زادتها غضبا دون سبب مفهوم و ردت بحدة
(شكرا جزيلا، أعرف أنك تتمنى لو رأيتني بهذا الشكل و يؤسفني الا أحقق لك أمنيتك)
لم يستاء أمين من غضبها، بل ظل يتأملها مبتسما و هي لا تعرف سبب ابتسامته المستفزة. الى أن قال في النهاية
(اذن ما هو المطلوب مني؟)
فغرت بدور فمها بغباء قليلا، ثم لم تلبث أن رفعت كفيها و هي تهتف.
(يا رب العالمين! بعد كل هذا الكلام لازلت تتسائل! يا أمين أنا أطلب الإذن بالموافقة منك)
لم تهتز عضلة في ملامح أمين البسيطة الشبه مبتسمة، ثم قال ببساطة أكبر
(أنا موافق)
ضربتها الكلمة الهادئة و كأنها لم تتوقعها أبدا، فسألته بشك غير مصدقة.
(موافق على كل شيء حقا؟، ألن تعترض على شيء أو تغير رأيك في أي يوم من الأيام؟ لأن الفتيات سيدفعن مالا و لن يكون من العدل أن أنسحب بعد أن نكون قد بدأنا، هذه مصالح بشر فهل أنت واثق؟)
لسبب ما وجدت ابتسامته تتسع أكثر، لكنه حين تكلم قال بهدوء و رزانة دون أن يفقد تلك الإبتسامة الجميلة
(نعم واثق، فنحن لا نريد الإضرار بمصالح البشر اليس كذلك).
أومأت بدور برأسها ببطىء و هي لا تزال تنظر اليه غير مصدقة، لكن لماذا لا تصدق؟
فأمين منذ اليوم الأول من زواجهما و هو يثبت لها كل يوم أنه مثال الشهامة و النخوة، لكن ألدرجة أن يعرض عليها المال كي يساعدها في عملها أيضا! و هي التي تمثل له مجرد زوجة صورية مدلسة و سيتخلص منها يوما ما! ترى أيمنحها هذا بعض الامل أم تكون شديدة الغباء!
قاطع أمين أفكارها قائلا بحسرة
(للأسف لم تجدي الوقت كي تستمتعي بهذا السوار).
كلامه أصابها بالجزع فرفعت معصمها الى صدرها و هي تطبق على السوار بكفها الاخرى هاتفة بدهشة
(لماذا؟)
أشار أمين اليه يجيبها ببساطة و عفوية
(لأنك ستبيعنه خلال فترة وجيزة، مع باقي ذهبك)
هتفت بدور بإستنكار و هي لا تزال مطبقة على السوار
(والله لن يحدث! هل تمزح؟، لن أفرط به عمري)
ارتفع حاجبا أمين ببطىء وهو يتأمل هلعها، الا أنها تابعت بإصرار و قوة.
(شيئان لن أفرط بهما مطلقا، هذا السوار و الشبكة التي اشتريتها لي، هل تمزح!)
تعمقت النظرة في عينيه، و تحولت ابتسامته الى شيء أقوى و قال بخفوت
(ربما كنت أمزح فعلا)
ردت عليه بدور بتوتر و هي عابسة حانقة
(مزاح ثقيل، لم يصل بي التفاني في سبيل المشروع الى هذه الدرجة).
تقابلت نظراتهما فابتلعت المتبقي من كلامها و هي تأخذ نفسا متحشرجا، متمنية لو ضمها الى صدره مرة أخرى ليخبرها أن كل شيء سيكون على ما يرام، الا أنه قال بهدوء
(سأتركك هنا و أخرج الى أمي)
رمشت بدور بعينيها بضعة مرات و قالت مكررة بعدم فهم
(تتركني، هنا؟، لماذا؟)
أجابها أمين بإيجاز و لطف
(لتهاتفي والدتك و تخبريها بنجاحك قبل أن تتراجعي).
فتحت بدور فمها بدهشة تنوي الرفض بقوة، الا أنه اتجه الى الباب قبل أن تتمكن من الكلام ففتحه و نظر اليها متابعا بخفوت
(لا تتأخري).
ثم خرج و أغلق الباب خلفه دون صوت، أما هي فقد ظلت واقفة تنظر الى الباب المغلق مصدومة. قبل أن تنظر حولها تتأكد بأنه قد تركها في غرفته فعلا، و للحظات أخذت تتجول في أنحائها ببطىء، تتطلع الى كل جزء حبيب منها، تمر بجوار طاولة الزينة و أصابع كفها تلامس السطح الرخامي الأسود لها، تداعب زجاجات العطر و فرشاة شعره، ثم استدارت لتتجه الى خزنة ملابسه ففتحتها بجرأة مسروقة، تلامس ملابسه، أقمصته و حلله البسيطة و الأنيقة في ذات الوقت، باتت تعرف ذوقه و تعرف أنه لا يحب البهرجة و مع ذلك لم تعد ترى من هو أكثر منه أناقة و جاذبية...
اقتربت بدور بوجهها تدفنه بين ملابسه المعطرة و هي تغمض عينيها و كأنها تنال منه العناق الذي تتمناه كي يطمئنها و يشجعها، و ظلت على هذا الوضع للحظات قبل أن تبعد نفسها بالقوة و هي تفتح عينيها و كلها عزم، ففتحت حقيبة يدها الصغيرة و أخرجت منها هاتفها لتطلب رقم أمها بأصابع مرتجفة ووضعته على أذنها متسارعة الانفاس، تنتظر، تنتظر، الى ان فتح الخط و سمعت صوت أمها منهكا...
(السلام عليكم، من معي؟).
حاولت بدور الكلام مرة و عجزت، ثم تمالكت نفسها و قالت ببطىء
(هذه أنا يا أمي، بدور)
ساد صمت طويل بعد أن سمعت شهقة والدتها في الهاتف بوضوح، فسألتها بدور بقلق
(أمي، هل تسمعينني؟ هل أنت بخير؟، أمي)
ظنت أن أمها ستغلق الخط، لكنها قالت في النهاية بصوت متحشرج من البكاء و صارم صرامة زائفة
(ماذا تريدين؟، الا يكفيكي ما فعلت بنا؟ أخاك كان سيرتكب جريمة بسببك)
ابتلعت بدور غصة مؤلمة في حلقها و قالت بإختناق.
(أنا، اشتقت اليك جدا يا أمي، كيف حال والدي، اشتقت اليه أيضا رغم كل ما حدث)
هتفت أمها من بين شهقات بكائها المكتومة
(ألديك الجرأة تسألين عنه بعد أن حططت من هامته أمام أبناء أشقائه! إنه يشعر بالخزي بسبب كل من عرف فضيحتك من أبناء أعمامك)
تسللت الدموع الباردة الى وجنتي بدور الا انها قالت بألم محتدة.
(، لقد أخطأت خطأ كبيرا و سأظل نادمة عليه طوال عمري، الا أنني لست زانية يا أمي و أرفض أن تعاملوني على هذا الأساس)
قالت أمها بصوت متحشرج غاضب و منهار
(يالجرأتك يا فتاة، يالوقاحتك ووجهك المكشوف دون حمرة حياء، من أين لك بكل هذه الجرأة عوضا عن أن تكوني مختفية تتمنين الموت و لا يسمع أحد عنك شيئا مجددا)
هتفت بدور بحدة باكية.
(لا يا أمي أنا ما عدت أتمنى الموت، انتهت هذه الأيام، أنا أريد الحياة، أريد أن أسعى لبناء نفسي كي لا أحتاج الى أي مخلوق يسير حياتي كما يشاء، لقد أخطأت لأنني بشر و كل من عرفوا بفضيحتي كما تقولين من أبناء أعمامي لهم أخطائهم، حتى والدي له أخطائه، حتى أنت لك أخطائك، الا أنني لست فاقدة الشرف كي تتمنون موتي)
صرخت أمها بعويل.
(يجدر بي الا أتفاجىء من وقاحتك، فمن سلمت نفسها لرجل قبل زفافها دون خجل أو خوف متسترة كالعاهرات من الطبيعي أن تتحدث عن الأمر فيما بعد بهذه البساطة التي تتكلمين عنها)
أغمضت بدور عينيها و هي تبكي بعنف دون أن تسمح لنفسها بإصدار صوت، و ظلت صامتة الى أن سألتها أمها باكية
(لماذا تتصلين؟، ماذا تريدين؟)
فتحت بدور عينيها الحمراوين الصلبتين بقساوة، ثم قالت بصوت باهت.
(أتصلت كي أخبرك أنني نجحت، ظننت أنك قد تودين معرفة ذلك)
هتفت أمها بإختناق.
(نجاح! أي نجاح تتكلمين عنه يا فاشلة؟ هل سيجدي أي نجاح معك؟، ما تعليم الفتاة الا تتزوج في النهاية و تصبح نعم الزوجة و نعم الأم، أما أنت فقد انهيت كل نجاح لك بيديك، أتظنين أن شفقة أمين عليك ستستمر طويلا؟، سرعان ما سيرميك ما أن يجد الزوجة المحترمة التي تشرفه، و دون أن أسمع منك أراهن أنه لا يوجد زواج حقيقي بينكما فلا رجل كرامته ستقبل بهذا).
كانت تظن في وقت أبكر من هذا بأنها لو سمعت مثل هذا الكلام قد تنهار و تموت في نفس اللحظة...
الا أنها على العكس كانت هادئة تماما، متصلبة العينين، حتى دموعها جفت على الفور...
كلام والدتها حقيقي فيما يخص أمين على الأقل، فخبرتها في الحياة لا يستهان بها و هي تعرف ما قد يرضي الرجل و ما قد يراه بخسا لا يساوي...
لكنها لن تستسلم، لن تستسلم لباقي نظرتها في الحياة، لن تدفن نفسها لأنها ارتكبت خطأ و لن تتزوج مجددا، لن تكون مجرد جثة تنتظر الدفن و هي حية تتنفس...
ستمحو خطأها بنفسها، و تقسم على ذلك، ستمحو خطأها من سجل حياتها...
لعقت بدور شفتها و قالت بصوت هادىء و هي تمسح وجهها المبلل...
(اتركي لي أمر زواجي يا أمي، لأنه بناء على أحكامك في الحياة، كان يفترض بي حاليا أن أكون ملقاة عندكم في البيت مطلقة وأعامل معاملة دونية، لكن القدر كان رحيما بي و ها أنا لا أزال متزوجة، أنا في هذه اللحظة التي أتحدث فيها اليك متزوجة وحاصلة على شهادتي، سأترك الطلاق ليومه و أعدك أنني لن أعود اليكم حين يحدث، لأنني سأكون قادرة على متابعة حياتي و مكملة في طريق محو خطأي بنفسي).
صمتت والدتها تماما و هي تسمع من بدور هذه النبرة الغير متنازلة فقد كانت تظن حين سمعت صوتها أنها تتصل كي تتوسل طلبا في العودة، لأن أمين طلقها على الأغلب، و الحقيقة أنها كانت مرتعبة من احتمالية حدوث هذا فوالدها أقسم الا تطأ قدمها الدار مجددا، لكن الآن ارتاح قلبها قليلا...
فقالت بصوت خافت
(والدك أقسم على بالطلاق الا أتصل بك أبدا)
ابتلعت بدور الألم الحارق الطعم في حلقها و قالت بعفوية.
(لكنني أنا من اتصلت بك، فهلا تسمحين لي بالإتصال بك من آن لآخر؟، أرجوك يا أمي).
ظلت أمها صامتة لا تجيب، الا أن بدور استطاعت سماع شهقات بكائها الخافت المكتوم، فشعرت في لحظة واحدة بزوال غضبها على الفور و الإحساس بشفقة عنيفة حلت محله تجاه تلك المرأة المغلوبة على أمرها و لا تستطيع اتخاذ أي قرار مخالف لقرار رجل الدار ببطشه و جبروته، بأي حق تحاكم والدتها، من باب أولى فلتحاكم نفسها هي أولا، لذا ابتسمت برقة حزينة و هي تعاود مسح دموعها هامسة.
(لا أريد سوى سماع صوتك من آن لآخر يا أمي و الإطمئنان عليك و أظنك أيضا تودين سماع أنني بخير كل فترة، فأنا ابنتك الوحيدة رغم كل شيء)
همست أمها بصوت مختنق خشن
(لن أستطيع الإتصال بك)
ردت بدور بتفهم
(أنا سأتصل بك يا أمي، و سأهاتفك من أرقام مختلفة كي تجيبين و أنت لا تعرفين أنني أنا المتصلة كي لا يقع قسم والدي)
قالت أمها باكية.
(اعتني بنفسك، و حاولي استمالة قلب زوجك بأي طريقة، فقد تحدث معجزة و يبقيكي على ذمته، ولو تطلب الأمر أن تكوني خادمة تحت قدميه، إن طلقك أمين فستكون حياتك جحيما يا بدور، حاولي، اسمعي، حاولي أن تحملي منه طفلا بأي طريقة، قيديه بطفل حينها قد يبقيكي على ذمته حتى و إن تزوج من أخرى، المهم أن تظلي على ذمته، هل تفهمين يا بدور؟، لست في حاجة للشرح، تصرفي الى أن تحملي طفلا).
أغمضت بدور عينيها بأسى و هي تسمع من أمها الخيارات المتدنية المتبقية لها في الحياة، و رغما عنها أفلتت ضحكة مريرة من بين شفتيها و همست بلطف
(في أمان الله يا أمي، في أمان الله حبيبتي)
ثم أغلقت الخط و جلست على حافة سرير أمين تحدق في البساط شاردة، باردة، و الهاتف في حجرها، لا تعلم كم من الوقت مر عليها و هي جالسة على هذا النحو في غرفته و كأنها مأوى لها، الى أن فتح الباب بهدوء و دخل أمين سائلا بخفوت حذر.
(بدور، هل انتهيت؟)
توقف وهو يراها في جلستها الشاردة، الا أنها التفتت اليه و نهضت من مكانها مبتسمة تجيبه
(نعم، انتهيت)
جالت عينا أمين فوق عينيها الحمراوين المنتفختين و ابتسامة شفتيها التي تناقضهما، فاستطاع دون ذكاء استنتاج ما حدث و ما يمكن أن تكون قد سمعته من والدتها، و هو كان يتوقع هذا، فأمها لن تلين من مجرد اتصال واحد...
شعر أمين بشيء موجع بداخل صدره، و كأنه واقع في دوامة جليديه تصيبه بالدوار لا يجد السبيل للخروج منها...
حتى الآن لم يستطع غفران خداعها له و يشك أن يستطيع يوما...
لكنه يشعر بالألم كلما تعرضت لذل أو اهانة أو انكسار.
بطريقة ما يرى أنها قد نالت نصيبها من الذل و الهوان خلال حياتها الصغيرة و يكفيها هذا، لا يوجد بشر يستطيع الحياة على الإهانة المستمرة بهذا الشكل...
الرحمة عنده أبت أن يزيد من عقابها و تغلبت على غضبه، لكن الغفران! متى يأتي!